بقلم المهندس/ طارق بدراوي
موسوعة" كنوز أم الدنيا"
شارع قايتباى هو أحد شوارع منطقة بحرى بمدينة الإسكندرية العاصمة الثانية لمصر وهو يمتد من ميدان قايتباى الذى ينتهي عنده طريق الجيش المعروف بإسم الكورنيش من الناحية الغربية ويمتد إلي شبه جزيرة فاروس وينتهي عند نادى الصيد البحرى داخلها ومن وراءه قلعة قايتباى وعندما تأسست مدينة الإسكندرية عام 331 ق.م بأمر من الإسكندر الأكبر لمهندسه الإغريقي دينوقراطيس كانت شبه جزيرة فاروس جزيرة يحيط بها الماء من كل إتجاه فقام بمد جسر يربط بين هذه الجزيرة واليابسة وكان طول هذا الجسر 1300 متر وكان الغرض من إنشائه توسيع رقعة المدينة قرب البحر والحد من التيارات البحرية وتكوين مرفئين بحريين علي جانبيه ونتيجة لإنشاء هذا الجسر أصبح هناك ميناءان أحدهما شرقي يسمى بالميناء الكبير والأخر غربي ويسمى ميناء العود الحميد والباقيان الي اليوم وكان لكل من المينائين مدخل صخري ضيق يغلق بسلاسل ضخمة وفيما بعد تم ردم مكان هذا الجسر وأصبحت جزيرة فاروس شبه جزيرة وما بين عام 280 ق.م وعام 270 ق.م أقام بطليموس الثاني المعروف بإسم فيلادلفيوس منارة الإسكندرية الشهيرة أحد عجائب الدنيا السبع القديمة وشيد حولها سور ضخم لحمايتها من طغيان البحر علي يد مهندسه الإغريقي سوستراتوس والتي تهدمت في القرن الرابع عشر الميلادى علي أثر زلزال مدمر أصاب المدينة وفيما بعد بنيت مكانها في أواخر القرن الخامس عشر الميلادى قلعة قايتباى وعلاوة علي ذلك يوجد شارع آخر بنفس الإسم قايتباى في ضاحية مصر الجديدة التي تعد من أرقي ضواحي القاهرة والذى يمتد من شارع صلاح الدين ويتقاطع مع شارع رشيد وشارع مراد بك وشارع الإمام علي حتي ينتهي بنقطة تقاطعه مع شارع عمر بن الخطاب .
وينسب هذان الشارعان إلي السلطان المملوكى الأشرف قايتباى أحد أعظم سلاطين دولة المماليك الجراكسة وكان مولده عام 815 هجرية الموافق عام 1412م وكان مملوكا إشتراه السلطان الأشرف سيف الدين برسباي صغيرا من عام 838 هجرية الموافق عام 1435م بمبلغ خمسة وعشرين دينار ثم إنتقلت ملكيته إلي السلطان الظاهر جقمق الذى حكم مصر من عام 842 هجرية الموافق عام 1438م حتي عام 857 هجرية الموافق عام 1853م والذى أعتقه وإستخدمه في جيشه حيث ترقي في عدة مناصب إلى أن أصبح في عام 872 هجرية الموافق عام 1468م أتابك العسكر للسلطان الظاهر تمربغا الرومي الذي حكم مصر لمدة شهرين تقريبا ثم خلعه المماليك وبايعوا قايتباي بالسلطنة فتلقب بالملك الأشرف وجدير بالذكر أنه كان من الغريب وغير المألوف بمقاييس عصر المماليك أن قايتباي منذ تأميره إلى سلطنته لم يتعرض لأية محَن من إعتقال أو نفي أو مصادرات على غير عادة ما كان يجري مع غيره من الأمراء والسلاطين ورغم بطء ترقيه في الرتب والمناصب في بدايات حياته إلا أنه فجأة صار سريع الحركة صعودا منذ حصوله على رتبة أمير عشرة في عهد السلطان الأشرف إينال الذى حكم مصر ما بين عام 1453م وعام 1460م لدرجة أنه صار في السلطنة خلال تسع سنوات فقط وكانت مصر قد دبت فيها حالة من الفوضى بداية من وفاة السلطان الظاهر خشقدم عام 1467م وإنتهت بتولي قايتباي السلطنة في العام التالي 1468م بعد أن كان قد تسلط الأمير خير بك الدوادار على الحكم ولكنه فضل في بداية الأمر أن يضع سلطانا ألعوبة فوقع الإختيار علي الظاهر سيف الدين بلباى بينما كان يحكم هو من وراء الستار ثم بعد أن إنتهى الغرض من بلباي خلعه ووضع محله الظاهر تمربغا ثم طرأ له أن يخلع هذا الأخير ويتسلطن هو فرفع نفسه على كرسي الحكم وتلقب بالسلطان الظاهر ولكنه فوجئ في اليوم التالي بقايتباي والأمراء والجند يخلعونه ليحمل إلى السجن ثم إلى المنفى وليوصَم أبدا بلقب سلطان ليلة ويتم إختيار قايتباى بموافقة الأمراء والجند ليتولي السلطنة .
ويقول مؤرخ العصر المملوكي إبن إياس الحنفي في كتابه بدائع الزهور في وقائع الدهور إن قايتباي حين أعلمه الأمراء بإتفاقهم على سلطنته أعرض وتشدد في الإعراض حتى إنه بكي وهم يلبسونه خلعة السلطنة أي الزي والعمامة الأسودان كشعار للخلافة العباسية التي كانت قد إنتقلت قبل قرنين تقريبا إلي القاهرة وإشترط من البداية ألا يوزع على الجند نفقة البيعة وهي مبلغ من المال كان يوزعه عليهم كل سلطان فور توليه الحكم ثم تم إعداد الصورة الشرعية لخلع الظاهر تمربغا من السلطنة بشكل رسمي إذ كانوا لم يعترفوا بخلع خاير بك له ولا بسلطنته نفسه وأحضر قايتباي تمربغا بين يديه وكانت بينهما زمالة قديمة فبكى الصديقان تأثرا بالموقف وترفق السلطان بسلفه المخلوع وإعتذر له عن خلعه بأن الظروف ألجأته إليه وأبدى تمربغا التفهم ثم إنتقل إلى دمياط معززا مكرما وجلس قايتباي على العرش وكان قد بلغ من العمر 55 عاما وقد عرف السلطان قايتباي بنزعة دينية تصوفية وإعتقاد بالأولياء والزاهدين والصالحين وكان يجل ويحترم ويقدر الفقهاء خاصة مع إهتمامه بالعلم وميله الشخصي للمعرفة والإطلاع في أمور الدين كما عرفَ بإجلاله للمشايخ الكبار أمثال أمين الأقصرائي وجلال الدين السيوطي حتى أن خطيب مسجد القلعة كان قد بالغ في نقده في خطبته وتخويفه من حساب الله فإرتعد السلطان رهبة وربما أغشى عليه بل وسارع لتقبيل يد الخطيب وشكره على وعظه وإن كان قاسيا وعلاوة علي ذلك فقد كان قايتباى متواضعا للناس حتى أنه مر يوما بإمرأة غريبة ماتت ولا يوجد لها أقارب فأوقف ركبه ونزل عن جواده وصلى عليها كما كان متشددا في إلتزامه الديني حتى أنه كان قد توجه للصلاة على مملوك له سقط عن مبنى فمات فلما عرف أنه كان مخمورا فرفض الصلاة عليه .
ولما تولي السلطان قايتباى الحكم سعى لتأليف قلوب مختلف الفئات وخالف بذلك سنة سلاطين المماليك السابقين في قمع التكتلات الموالية لأسلافهم حيث كانوا ينهالون عليهم قتلا ونفيا حتى يصفو الجو للموالين لهم فقط أما السلطان الأشرف قايتباى فعلى العكس من ذلك وكان أشد هذه التكتلات مماليك السلطان إينال وعبثا حاول السلطان قايتباى جذبهم لصفه وتقريبهم إليه بل وكان يحرص على إشغالهم بالمشاركة في حملاته العسكرية والتي بلغت نحو ستة عشر حملة وتوليتهم المهام والوظائف لكنهم بقوا يدبرون المؤامرات عليه سرا فكانوا ينشرون الشائعات ويحاولون الوقيعة بينه وبين أمرائه المقربين مثل الأمير يشبك الدوادار بل وحاولوا إغتيال السلطان نفسه وبعض أمرائه وأدين في هذه الجريمة أحد كبارهم وهو الأمير أزدمر الطويل والذي تجاوز عنه السلطان وإكتفى بحبسه في أسيوط لولا أن ألح الأمير يشبك عليه في الحكم عليه بالإعدام فكان ذلك ومن ناحية أخرى واجهت السلطان قايتباى مشكلة المماليك الجلبان والمقصود بهم المجلوبون كبارا من الخارج حيث كثر شغبهم وإعتداؤهم على العامة وسلبهم إياهم أشياءهم بالقوة بل وتطاولهم على الأمراء والسلطان نفسه بحجة تأخر النفقة عنهم ومن خارج الوسط المملوكي كان شغب الأعراب الذين كانوا يتمردون على السلطة المركزية ويمارسون قطع الطرق ويشنون الغارات على القرى والبلدات المجاورة بل وعلى ضواحي القاهرة نفسها أحيانا لممارسة السلب والنهب وقد إتسم تعامل قايتباي مع تلك الأزمات الأمنية بالسرعة والحزم فإعتمد على يده الباطشة وخشداشه رفيقه في التدريب تحت يد نفس الأمير المالك لهما قبل العتق يشبك الدوادار فسلطه على عربان الصعيد والشرقية والبحيرة حيث دوخهم قتلا وأسرا لقمع فسادهم وبلغ به الأمر أن عينه السلطان أميرا لقبيلة الهوارة بدلا من أميرها الذي خلع الطاعة وهرب وفي نفس الوقت كان يتعامل مع الجلبان باللين تارة وبالشدة تارة حتى بلغ الأمر أن خرج عليهم بغتة في إحدى نوبات شغبهم وصاح بهم هأنذا أمامكم إن كنتم تريدون قتلي فأخافتهم الصدمة وإرتدوا إلى ثكناتهم إلى حين ثم في واقعة شغب تالية أظهر لهم العين الحمراء فنادى في الجند بالتجهز للقتال وحمل السلاح وأعلن أنه قائم بنفسه في محاربة الجلبان ومعاقبتهم بالقوة فخافوا وإرتدعوا مؤقتا وخف ضررهم ولكنهم بقوا على مشاغباتهم من حين لآخر تلك إلى نهاية الدولة أما المماليك الإينالية فقد طال صبر السلطان عليهم حتى إستهلك كل الحيل في تأليف قلوبهم وإجتذابهم فأصبح يتخلص منهم بالنفي وإرسالهم ضمن جيش مصر في حملات بعيدة ليخرجهم من البلاد دون أن يضطر لقتالهم وإراقة الدماء .
ولم تقتصر التحديات الداخلية التي واجهها السلطان قايتباى على الجانب الأمني فحسب فمن الناحية الإقتصادية كانت تواجه السلطنة ضوائق مالية متتالية خاصة مع تصعيد قايتباي لحملاته العسكرية الخارجية مما كان يضطره وهي سمة مرتبطة بعهده ومحسوبة عند البعض من أبرز سلبياته لفرض المصادرات على بعض أموال كبار التجار لتمويل تلك الحملات وإن كان أحيانا يعيد تلك المبالغ لهم حال سماح خزينة الدولة بذلك وفضلا عن ذلك فقد كان يعقد المجالس الشرعية بقضاة المذاهب الأربعة ليطلب منهم قرارا رسميا بضم فوائض الأوقاف للخزانة السلطانية ولكنه كان عادة ما يواجَه بمعارضة أقوياء الشخصية منهم ولأنه كان متدينا ذا إعتقاد تصوفي فقد كان يقدر هيبة الفقهاء ومن ثم كان لا يستطيع تجاوز من يعارضه ويتصدى له منهم وبالذات الشيخ أمين الأقصرائي الذي يذكر عنه أنه حضر مجلسا بهذا الشأن وافق فيه الجميع علي قرار السلطان فوقف له الشيخ وعطل قراره بل وربما أغلظ عليه القول فإنفض المجلس كذلك فقد إتخذ إجراء رآه المعاصرون له قاسيا وجائرا ولا يمكن تقبله بمقاييس عصرنا الحالي وهو قطع نفقة طبقة أولاد الناس والمقصود بهم الأبناء المولودون في مصر لمماليك جاءوا صغارا من الخارج فكانت في بداية الدولة من الفئات المكونة للجند في الجيش ثم تراخى أمر مشاركتها في ذلك ولكن بقي أبناؤها يحصلون على نفقة رسمية من الخزانة فأبطل قايتباي ذلك وجمع أولاد الناس وألزم كلا منهم أن يظهر مهارته في الرماية فمن نجح منهم أبقى على نفقته وعلى إسمه في ديوان الجند ومن أخفق رفعه من الديوان وألغى نفقته بل وكلفه أن يقدم مبلغا من المال ليتوفر بديل عنه بين الجنود ويبرر البعض ذلك بكثرة الحملات الحربية وجدية التهديدات من الإمارات التركمانية في شمال الشام وجنوب الأناضول وكذلك تهديدات الدولة العثمانية لحدود السلطنة بينما يدين البعض الآخر تلك السياسة المالية ويعزونها لجشع السلطان لجمع المال ولكن المطالع لكتب مؤرخي تلك الفترة الذين دونوا المبالغ التي تكلفتها كل الحملات يدرك أن هذا المال تم توجيهه بالفعل للمجهود الحربي حيث إستهلكت حملات السلطان قايتباي نحو 7 ملايين دينار وهو مبلغ مخيف بمعايير هذا العصر وهي حملات لم تكن بالعبثية وكان مضطرا لأغلبها لأنها كانت بحق من عوامل ردع المعتدين عن العبث بأمن حدود البلاد .
وعلاوة علي ماسبق كان هناك تحدي إقتصادي آخر تمثل في موجات الغلاء التي كانت تظهر في البلاد من حين لآخر بالذات فيما يتعلق بسعر القمح ولكن السلطان كان يواجهها بأن يفتح شونه الخاصة ويبيع منها القمح بسعر رخيص مدعم كذلك كان يوجه المحتسب لمداهمة محتكري القمح ومعاقبتهم على الملأ لينخفض سعره وبخلاف ذلك كان هناك تحدي داخلي آخر فاق التحديين السابق الحديث عنهما خطورة ومأسوية وتمثل هذا التخدى في إنتشار وباء الطاعون فخلال فترة حكم السلطان قايتباي والتي إستمرت ثلاثين عاما داهم الطاعون البلاد ثلاث مرات المرة الأولى كانت عام 1469م في بدايات حكمه وإختطف ممن أصابهم إبن السلطان وكان عمره 4 سنوات وإبنته وكان عمرها 6 سنوات كما أسقط أعدادا ضخمة من الضحايا إلى حد إضطرار الأمير يشبك الدوادار للقيام بعمل مَغسل للموتى شارك فيه في تغسيلهم ودفنهم بنفسه وكانت المداهمة الثانية عام 1477م وفقد فيه السلطان أخته وكان وباءا فتاكا سريع القتل حيث كان المصاب لا يمر عليه يوم واحد ويقضي نحبه ثم كانت المرة الأخيرة عام 1492م وكانت الأشد وطأة إذ خلفت مائتي ألف قتيل من أهل مصر ومع ذلك ورغم مصابه الشخصي في طاعونين من الثلاثة فقد إستطاعت الدولة التماسك وإستطاع المجتمع أن يرجع للحياة الطبيعية من بيع وشراء ومعاملات ونحو ذلك رغم أن هذه الطواعين كانت تفتك فيمن تفتك بهم بكثير من الأمراء ورجال الدولة ومن جانب آخر فقد عرف السلطان قايتباى بالنشاط الواضح والحركة المستمرة سواء بجلوسه للمظالم يومين أسبوعيا أو بجولاته المتعددة بين المدن المصرية والشامية والحجازية للوقوف بنفسه على أوضاعها وإصلاح ما ينبغي إصلاحه بها بل وإشتهر بأنه كان كثيرا ما يتنكر ويهبط من قلعة الجبل ليجوب الأماكن العامة ويستمع لأحاديث الناس ليقف على مدى إلتزام موظفي الدولة بأداء مهامهم بشكل متقن وعادل ونزيه وكان كثيرا ما يستمع إلى شكوى أو مظلمة من هذا أو ذاك فيستدعيه في الصباح التالي ويحاسبه بل وربما إحتد عليه وعاقبه بنفسه ومن المثير للدهشة أنه استمر في ذلك طوال عهده حتى بعد أن تجاوز الثمانين من عمره وكان في جولاته يميل للتخلي عن الرسميات من مواكب وتشاريف بينما كان يحرص عليها في حضور السفراء الأجانب لإظهار هيبة الدولة وكان يميل للتخفف من الحراسة الثقيلة وهو أمر كان غير مالوف في تلك الفترة المتوترة التي إتسمت بالتآمر والتآمر المضاد والدسائس وتعرض العديد من الحكام للإغتيال والقتل .
وبخلاف التحديات الداخلية التي واجهها السلطان قايتباى كانت هناك العديد من التحديات الخارجية حيث كان في شمال السلطنة علي حدود الشام مع الأناضول والتي كانت هي حدود دولة المماليك مع الدولة العثمانية وكانت توجد إمارات تركمانية موالية للقاهرة في هذه المنطقة الحدودية كانت تمثل حاجزا بين العملاقين المملوكي والعثماني وكانت تعد مخلب قط لسلاطين المماليك ضد أية تهديدات شمالية محتملة وحدثت حركة عصيان من جانب شاه سوارأمير إمارة دلغادر المعروفة أيضا بإمارة ذي القدر وكان قد شق عصا الطاعة مستغلًا التصارع السياسي المملوكي الداخلي بعد وفاة السلطان خشقدم فلما تولي قايتباى الحكم إضطر حينها لإرسال ثلاث حملات ضد هذا المتمرد الذي إستطاع هزيمة إثنتين منها قبل أن تكسره الثالثة وتضطره للإستسلام عام 1472م لينقل للقاهرة ويعدم مع إخوته وكانت هناك إمارة أخرى تسمي القطيع الأبيض أظهر أميرها حسن الطويل الطاعة أولا ثم شق عصا الطاعة حيث بلغت السلطان أنباء عن إستعداده لمهاجمة الديار الحلبية وقام بمراسلة القوى الأوروبية لتحريضها على مهاجمة مصر والشام بحرا وقد وقعت هذه الرسالة في يد العثمانيين فأرسلوها للقاهرة ليتخذ السلطان أهبته للتصدي لهذا المخطط الماكر وبالفعل وقعت بين سلطنة المماليك وإمارة القطيع الأبيض صدامات عسكرية ضارية تخللتها مراسلات ومفاوضات في محاولة من السلطان لإعادته للطاعة ثم إضطر السلطان قايتباي أخيرا لإرسال حملة ضخمة بقيادة الأمير يشبك الدوادار عام 1480م لإنهاء تمرد هذه الإمارة إلا أنها تعرضت للهزيمة على يد إبن حسن الطويل الذي كان قد خلف والده بعد وفاته ولقي يشبك مصرعه فسارع السلطان قايتباى لإعداد حملة أكبر إلا أن الإمارة قد لجأت للتفاوض ووصل الجانبان للتهدئة بينهما وإفشاء السلام بينهما .
وكان التحدى الخارجي الثاني الذى واحهه السلطان قايتباى أنه بعد وفاة السلطان العثماني محمد الفاتح وتولي إبنه بايزيد الثاني في عام 1581م وبعد أن كانت العلاقات بين الدولتين المملوكية والعثمانية ودية ويسودها التفاهم والتوافق بدأ السلطان الجديد يطمع في الإستيلاء بشراهة إلى الممتلكات المصرية في الأناضول والشام وبدأ العداء بين الدولتين بأن هرب إلى مصر الأمير جم إبن السلطان محمد الفاتح فرارا من رغبة أخيه السلطان في قتله تنفيذا لقانون نامة الذي كان يقضي بالسماح للسلطان بقتل إخوته الذكور خشية خروجهم عن طاعته وتعريض البلاد للفتنة والتناحر والصراع علي الحكم ولأن قايتباي كان معروفا عنه أنه لا يرد مستجيرا به فقد إستضاف جم ومن ثم تذرع بايزيد الثاني بلجوء أخيه جم إلي مصر وقام بتجهيز حملة لمهاجمة الديار الحلبية وجهز قايتباي حملة مضادة وتواجهت الحملتان لتحل بالجيش العثماني هزيمة قاسية وبعد تلك الهزيمة مد المماليك يد السلام للعثمانيين إلا أنهم رفضوها وأغاروا على بعض القلاع المملوكية الحدودية فأرسل قايتباي حملة تالية بقيادة أتابكه القدير أزبك إنتصرت كسابقتها على الجيش العثماني ثم ارسل حملة ثالثة حققت نجاحا كسابقاتها ورابعة تالية توغلت داخل الأراضي العثمانية ولم تلق مقاومة من العثمانيين ثم أخيرا حل السلام عام 1494م م بين العملاقين بعد أن أثبت المماليك قدرتهم على ردع أية محاولات للعدوان على دولتهم وكان التحدى الثالث الذى واجهه السلطان قايتباى تعرض المدن الساحلية وعلى رأسها دمياط والإسكندرية لهجمات القراصنة الأوروبيين الذين كانوا يتخذون من ميناء برشلونة بدولة كاتالونيا وهي أسبانيا الحالية قاعدة لهم فهب قايتباي لتأمين تلك الجبهة وسارع بإنشاء قلعة بمدينة رشيد وقلعة هي الأشهر بالإسكندرية والمعروفتين بإسمه ومد سلسلة عملاقة لحماية الساحل أمامها كما قام بالقبض على التجار الأوروبيين بالسواحل وأجبرهم على مراسلة حكومات دولهم لإستعادة أسرى القرصنة من أهالي المدن المصرية وتجارها وأرسل مبعوثا دبلوماسيا لملك كاتالونيا لمطالبته بالعمل على إيقاف القراصنة عن مهاجمة السواحل المملوكية وبهذا إستطاع قايتباي أن يؤمن الثغور البحرية أسوة بنظيراتها البرية .
وكان التحدى الرابع للسلطان قايتباى هو المسألة الأندلسية فعلي إعتبار أن سلطان المماليك كان دوما يعتبر نفسه سلطانًا للمسلمين خاصة مع وجود مقر الخلافة بالقاهرة فقد كان لابد لقايتباي من موقف من الحصار الأسباني على غرناطة عام 1487م والتي كانت آخر معاقل المسلمين في بلاد الأندلس حينما راسل ملك غرناطة المسلم دولة المماليك مستنجدا بها ولم يكن الحل العسكري متاحا نظرا لبعد المسافة ووقوع المناطق المتوسطة بين الدولتين في أيدي قوى معادية لذا لجأ السلطان قايتباي للضغط السياسي فمن ناحية أمر قايتباي قسس كنيسة القيامة بالقدس الشريف بمراسلة ملك نابولي لمطالبته بالتدخل عند الحكام الأسبان المسيحيين لوقف الحملة على غرناطة وكان ملك نابولي مرتبطا بمصالح لدى دولة المماليك مما يجعله مضطرا للقيام بهذا الدور كما أمر السلطان رئيس دير صهيون بالقدس وكان أسبانيا بالسفر لحث ملك نابولي على سرعة أداء المطلوب منه ثم السفر لبابا روما وإنذاره أن الحكومة المملوكية سوف تتخذ إجراءات قاسية ضد الرهبان الفرانسيسكان التابعين للبابا كما هدد بإغلاق كنيسة القيامة والأديرة الكاثوليكية ومع إنتشار الأنباء عن توافق قايتباي مع السلطان العثماني بايزيد الثاني على إرسال حملة مشتركة لنجدة الأندلسيين سارع كل من ملك نابولي والبابا بمطالبة فرديناند وإيزابيللا ملكا مملكة قشتالة بأسبانيا المسيحيين برفع الحصار عن غرناطة إلا أن الملكين ماطلا وأصرا على موقفهما خاصة بعد أن قام الأمير محمد الثاني عشر أبو عبد الله الصغير أمير غرناطة بتسليم الإمارة والمدينة وقصر الحمراء الذى كان يعد قصر الحكم والذى مايزال يعد من أهم المعالم في أسبانيا إلى الأسبان في يوم 2 يناير عام 1492م وهكذا فشلت جهود ومساعي السلطان قايتباي ولكنها كانت أقصى ما يمكنه فعله وللأسف فبسقوط غرناطة تم إلحاقها بمملكة قشتالة المسيحية وبذلك إنتهت القاعدة الإسلاميةً في بلاد الأندلس التي أقيمت على شبه الجزيرة الآيبيرية والتي إستمرت سبعة قرون وبذلك إنتهت ما تم تسميته بحروب الإسترداد من جانب حكام أسبانيا .
وفي النهاية لابد وأن نذكر أن السلطان قايتباى كان يوصف شكلا بأنه طويل القامة شاحب اللون ذو بنية نحيلة قوية ولحية شائبة يعلوه وقار وسكينة وكان لم يتزوج سوى إمرأة واحدة هي خوندا فاطمة الخاصكية وكان مشتغلا بالعلم والقراءة إلى جانب السلطنة كما كان معتدلا في طباعه متقشفا بحكم تأثره بالصوفية كما ترك بعد وفاته أورادا يتلوها الناس في المساجد كما كان لدي السلطان قايتباى ولع بالبناء والتشييد ولذا فهو يعد من أشهر سلاطين المماليك البنائين فكان يشيد القلاع والحصون دعما لحماية الحدود المصرية البرية والساحلية من أي إعتداء خارجي محتمل وأشهرها قلعته بالإسكندرية بشبه جزيرة فاروس وقلعته برشيد كما شيد العديد من الأسبلة للسقيا وأشهرها سبيله بالمسجد الأقصى بالقدس فضلا عن عدد من المساجد وأشهرها مسجد قايتباي الذي يحمل الجنيه المصري الورقي صورته وكان ضمن مجموعة السلطان قايتباي بصحراء المماليك وهي مجموعة معمارية أثرية شهيرة بالقاهرة مبنية على الطراز الإسلامي تضم عدة منشآت تتمثل في المسجد بالإضافة إلي مدرسة وملحقاتها وقبة وسبيل وكتاب ومقعد للسلطان وحوض لسقاية الدواب وربع لإقامة الصوفية والتي تم إنشاؤها خلال الفترة من عام 877 هجرية الموافق عام 1472م إلي عام 879 هجرية الموافق عام 1474م كما أنشأ المدارس والمقابر وجدد عمارة المسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة حيث إحتاج المسجد النبوي الشريف في بداية عهد السلطان قايتباي إلى كثير من أعمال الصيانة والتجديد فأسند أمرها إلى الأمير المملوكي شمس الدين بن الزمزمي فجدد في عام 879 هجرية الموافق عام 1474م سقف الظلة المحيطة بصحن المسجد من الشرق لوجود خلل في بعض أعمدتها وعقودها وجعلها بسقف واحد في مستوى السقف الأسفل لمقدم المسجد كما جدد في السنة نفسها الجزء الأمامي من جدار المسجد الشرقي مما يلي المنارة الواقعة في الركن الشمالي الشرقي والمعروفة بالنجارية ورمم ما بها من شقوق وفي عام 881 هجرية الموافق عام 1476م تم تجديد سقف الروضة المطهرة تحت إشراف الزمزمي أيضا وذلك نظرا لوجود خلل فى أخشابه بسبب الأمطار وتقرر بناء عقود من الآجر يحمل عليها سقف المسجد الأعلى عوضا عن الأخشاب التى كانت توضع من قبل بشكل أفقي فوق تيجان الأعمدة .
وكان السلطان قايتباى يتمتع بصحة جيدة وقوة بدنية واضحة ساعدته على القيام بمهامه بنشاط شديد لكنه دوهم بوعكة صحية قاسية عام 1495م وكابر في مواجهتها وحاول مواجهتها إلا أنها مع الوقت وكأثر عكسي لعدم إلتزامه الراحة المطلوبة تدهورت صحته في العام التالي وأصيب بتجمعات من القيح في بطنه كما أصيب بالدوسنتاريا حتى عجز عن تناول الطعام وبدا واضحا أنه يحتضر فأحضر الأمراء إبنه محمد الذى أنجبه من سريته أصلباي البالغ من العمر 14 عاما والذى كان هو الوحيد من أبنائه الباقين علي قيد الحياة وإستدعوا الخليفة والقضاة وأعلنوا خلع السلطان بحكم إحتضاره وعدم مقدرته علي القيام بأعباء الحكم ومبايعة إبنه سلطانًا من بعده هذا رغم رفض قايتباي تولية إبنه ولاية العهد لعدم رضاه عن سلوكه وما إشتهر به هذا الإبن من إنحلال وسوء للأدب إلى حد بغض أبيه له وفي اليوم التالي فاضت روح السلطان الملك الأشرف قايتباي وقد بلغ الخامسة والثمانين من عمره وبموت قايتباي عام 1496م يكون قد مات واحدا من أعظم السلاطين العظماء في دولة المماليك حيث لم يكن الأربعة سلاطين الذين جاءوا بعده في عدله إلى حد أنهم كانوا إذا جلسوا للمظالم لم يجلسوا على كرسيه حفظا لمكانته وتأدبا في ذكراه وقد تتابع على العرش من بعده ستة سلاطين كان منهم أربعة ضعاف متهافتون كما ذكرنا ولم يكن منهم من هو كفؤا للسلطنة إلي أن تولي من بعدهم السلطان الأشرف قنصوة الغورى السلطان المملوكى قبل الأخير والذى إستشهد عام 1516م في معركة مرج دابق بالشام أمام السلطان العثماني سليم الأول وخليفته السلطان طومان باي الذي لم يمهله العمر حيث أعدمه العثمانيون وعلقوا جثته علي باب زويلة بعد هزيمته أيضا أمام السلطان سليم الأول في معركة الريدانية عام 1517م ودخولهم مصر وتحويلها إلي ولاية عثمانية وهو الأمر الذى دام طيلة قرابة 4 قرون ميلادية .
|