بقلم المهندس/ طارق بدراوي
موسوعة" كنوز أم الدنيا"
شارع عبد الله بن رواحة هو أحد شوارع ضاحية مصر الجديدة التي تعد أحد أرقي ضواحي القاهرة وهو يمتد من شارع علي عبد الرازق حتي ينتهي بنقطة تقاطعه مع شارع خليل بن قلدون وينسب هذا الشارع إلي الصحابي الجليل الأنصارى الخزرجي عبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن إمرئ القيس بن عمرو بن إمرئ القيس بن مالك الأغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج إلى بني الحارث أحد بطون قبيلة الخزرج الأزدية وكانت أمه أيضا من بني الحارث وكان إبن رواحة يكنى بأبي عمرو وقيل أبي محمد وقيل أبي رواحة وهو خال الصحابي النعمان بن بشير الأنصارى الخزرجي وأيضا أخو الصحابي الأنصارى الخزرجي والفقيه والقاضي وقارئ القرآن الكريم وراوى الحديث النبوى الشريف أبو الدرداء لأمه وكان إبن رواحة أحد السابقين إلي الإسلام وأحد نقباء الأنصار الإثني عشر الذين حضروا بيعة العقبة الأولي والثانية وكان أيضا أحد شعراء الرسول ﷺ الثلاثة هو وحسان بن ثابت وكعب بن مالك الذين كانوا يدافعون عن النبي ﷺ ويشيد بالإسلام ومبادئه السامية ويرد على شعراء المشركين وكان يدعو إلى الله تعالى بكل ما أوتي من قوة وبعد الهجرة آخى الرسول ﷺ بينه وبين الصحابي الجليل وأحد فرسان الإسلام الكبار المقداد بن عمرو وخاض إبن رواحة مع النبي محمد ﷺ غزوة بدر وعقب الغزوة بعثه النبي محمد ﷺ بعد المعركة ليبشر بني عمرو بن عوف وخطمة ووائل من الأنصار بالنصر الذى تحقق بفضل الله كما شارك في غزوات أحد في السنة الثالثة للهجرة والخندق في السنة الخامسة للهجرة وخيبر في شهر المحرم في السنة السابعة للهجرة وبيعة الرضوان وصلح الحديبية في شهر ذي القعدة في السنة السادسة للهجرة وكما جاهد بسيفه جاهد بلسانه فكان شعره سيفا مصلتا على رقاب المشركين ولا يقل أهمية عن السيف في المعركة وكان يحمل سيفه وشعره في كل ما ذكرناه من الغزوات وقد شهد أيضا مع النبي محمد ﷺ عمرة القضاء في شهر ذي القعدة في العام السابع للهجرة وأمره النبي محمد ﷺ يومها بأن ينزل من علي راحلته وأن يحرك بالمسلمين الركاب فنزل وأمسك بخطام ناقة النبي ﷺ وأنشد :-
خلوا بني الكفار عن سبيله خلوا فكل الخير مع رسوله نحن ضربناكم علـى تأويله كما ضربناكم عـلى تنزيلـه ضربا يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليـل عـن خليلـه يـا رب لـولا أنـت ما إهـتـدينـا ولا تـصدقنـا ولا صـلينـا فأنـزلـن ســكينـة عـلـيـنـا وثــبــت الأقــدام إن لاقـيـنــا إن الـكفـار قد بـغــوا عــليـنـا وإن أرادوا فـتـنـة أبـيـنـا
ولما سمعه سيدنا عمر بن الخطاب يقول ذلك قال له يا إبن رواحة أتقول ما قلت وأنت في حضرة النبي ﷺ وأنت تدخل البيت الحرام فقال له الرسول ﷺ دعه ياعمر ووالله إن وقع شعر إبن رواحة علي الكفار لهو أشد من السهام وقد ولاه النبي محمد ﷺ عدة مهام فإستخلفه على المدينة عندما خرج في غزوة بدر الموعد في شهر شعبان في العام الرابع للهجرة وهي تسمي أيضا بدر الصغرى وبدر الثانية وبدر الآخرة وتعود قصة هذه الغزوة والتي لم يحدث بها قتال إلي أنه لما إنصرف أبو سفيان بن حرب ومن معه يوم أحد نادى إن موعدكم بدر فقال رسول الله ﷺ لرجل من أصحابه قل نعم هو بيننا وبينك موعد ولما جاء الموعد تجهز النبي ﷺ ومعه ألف وخمسمائة مقاتل وكانت الخيل عشرة أفراس وحمل اللواء علي بن أبي طالب وخرج أبو سفيان من مكة المكرمة على رأس قوة قوامها ثلاثة آلاف مقاتل وفي نفسه رغبة ألا يحدث هذا اللقاء الذي ينتظر نتيجته كثير من رجال القبائل والأعراب وأهل المدن إذ قضت المدينة المنورة ومكة المكرمة عاما في الإستعداد له وكان في خروج أبي سفيان محاولة لإخافة المسلمين وإرهابهم كي لا يخرجوا فيكونوا هم الذين تقاعسوا عن الخروج وبعث أبو سفيان نعيم بن مسعود ليخيف المسلمين في المدينة المنورة من كثرة أعداد قريش وقوتها وجعل له عشرين بعيرا إن أدى هذه المهمة ولم يخرج محمد ﷺ وقال له إنه بدا لي أن لا أخرج وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج أنا فيزداد المسلمون جرأة فلأن يكون الخلف من قبلهم أحب إلي من أن يكون من قبلي فألحق بالمدينة وأعلمهم أننا في جمع كثير ولا طاقة لهم بنا ولك عندي من الإبل عشرون أدفعها لك على يد سهيل بن عمرو ووصل نعيم إلى المدينة وبدأ يبث إشاعاته وساعده في ذلك المنافقون واليهود وقالوا لا يفلت محمد من هذا الجمع ولعبت هذه الإشاعات دورها وقال أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب للرسول ﷺ يا رسول الله إن الله مظهر نبيه ومعز دينه وقد وعدنا القوم موعدا لا نحب أن نتخلف عنه فيرون أن هذا جبن فسر لموعدهم فوالله إن في ذلك لخيرا فسر النبي ﷺ مما قاله صاحباه وأعلن أنه في طريقه إلى بدر وقال والذي نفسي بيده لأخرجن وإن لم يخرج معي أحد ونادى رسول الله ﷺ في الناس للخروج وسار بهم إلى بدر ووصلها وعسكر هناك وبقي ثمان ليال ينتظر قريشا ولكنها لم تأت إذ عادت جموعها من عسفان خوفا من اللقاء حقيقة وحجتها في ذلك أن الظروف غير ملائمة للحرب إذ كانت سنوات جدب وقال أبو سفيان يا معشر قريش إنه لا يصلحكم إلا عام خصيب ترعون فيه الشجر وتشربون اللبن وإن عامكم هذا عام جدب وإني راجع فإرجعوا فرجع الناس فسماهم أهل مكة جيش السويق حيث قالوا عنهم إنما خرجتم تشربون السويق وكانت نتيجة هذه الغزوة أن فر المشركون يجرون أذيال الخيبة والهزيمة وعاد المسلمون يحملون راية الظفر وهكذا دانت قريش عدو المسلمين الأول وكانت أقوى قوة في الجزيرة وكان جيشها أكبر الجيوش تنظيما وعتادا حينذاك وكانت هي المتحدية وهي الفارة من اللقاء وأدى ذلك إلى خوف القبائل وإجلاء جزء من اليهود وهم بني قينقاع من المدينة المنورة وثبت للجميع أن غزوة أحد لم تكن ضربة أليمة يخنع المسلمون بعدها وكان من نتائجها أيضا أن رجالا من الأعراب حول المدينة المنورة لما رأت ذلك دانت كلها لرسول الله ﷺ .
وكان أيضا من المهام التي كلف بها النبي محمد ﷺ عبد الله بن رواحة أنه بعثه قائدا لسرية من ثلاثين رجلا لقتال أسير بن رزام اليهودي في خيبر فقتله كما بعثه النبي محمد ﷺ مندوبا لتقدير زكاة نخل وزروع خيبر وكان في أدائه لهذه المهمة عادلا ورعا ذا أمانة يخاف الله ويتقه فعن سليمان بن يسار أن لما بعثه رسول الله ﷺ إلي خيبر في هذه المهمة فجمع له يهود خيبر حليا من حلي نسائهم فقالوا له هذا لك وخفف عنا فقال عبد الله بن رواحة يا معشر اليهود والله إنكم لمن أبغض خلق الله إليَ وما ذاك بحاملي على أن أحيف عليكم فأَما ما عرضتم من الرشوة فإنها سحت وإنا لا نأكلها فقالوا بهذا قامت السموات والأرض وكان عبد الله بن رواحة صواما قواما ويقول أبو الدرداء عن ذلك خرجنا مع رسول الله ﷺ في بعض غزواته في حر شديد حتى إن أحدنا ليضع يده على رأسه أو كفه على رأسه من شدة الحر ما فينا صائم إلا رسول الله ﷺ وعبد الله بن رواحة ويقول أبو الدرداء أيضا أعوذ بالله أن يأتي علي يوم لا أذكر فيه عبد الله بن رواحة كان إذا لقيني مقبلا ضرب بين ثديي وإذا لقيني مدبرا ضربَ بين كتفي ثم يقول يا عويمر إجلس فلنؤمن ساعة فنجلس فنذكر الله ما شاء ثم يقول يا عويمر هذه مجالس الإيمان ومما يذكر أن عبد الله بن رواحة كان له الأثر الواضح في إسلام الصحابي أبي الدرداء فكما ذكرنا في صدر هذا المقال إنه كان أخا له من أمه وكان أبو الدرداء متعلقا بصنم له كعادة بعض كبار رجال القبائل آنذاك وكان عبد الله بن رواحة يدعوه إلى الإسلام فيأبى فجاءه عبد الله بن رواحة ذات يوم ولم يكن أبو الدرداء بالبيت فأخذ قَدوما فجعل يضرب صنم أبي الدرداء وهو يرتجز ألا كل ما يدعى مع الله باطل ولما جاء أبو الدرداء أخبرته إمرأته بما صنع عبد الله بن رواحة ففكر في نفسه وقال لو كان عند هذا خير لدفع عن نفسه فإنطلق حتى أتى رسول الله ﷺ وأعلن إسلامه .
وبلا شك فلقد كان لتربية الرسول ﷺ أثر واضح وملموس في حياة إبن رواحة فكان إذا أمره سارع ونفذ وإذا نهاه عن أمر إجتنبه وتركه ولذا فقد أثنى عليه النبي ﷺ قائلا نعم الرجل عبد الله بن رواحة وقال عنه أيضا رحم الله عبد الله بن رواحة إنه يحب المجالس التي تتباهى بها الملائكة وقد روي أن عبد الله بن رواحة أتى النبي ﷺ وهو يخطب فسمعه يقول إجلسوا فجلس مكانه خارج المسجد حتى فرغ النبي ﷺ من خطبته فبلغ ذلك النبي ﷺ فقال له زادك الله حرصا على طواعية الله وطواعية رسوله وكان لعبد الله بن رواحة مواقف جمة وعظيمة مع النبي ﷺ ففي ليلة العقبة قال عبد الله بن رواحة لرسول الله ﷺ إشترط لربك ولنفسك ما شئت فقال أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأولادكم ونساءكم وأموالكم فقالوا فما لنا إذا فعلنا ذلك قال الجنة فقالوا جميعا وعلي رأسهم إبن رواحة ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل فنزلت آية سورة التوبة إِن اللَّه إشترى مِنَ المؤمنين أَنفسهم بأن لهم الجنة وفضلا عن ذلك كان من مآثر عبد الله بن رواحة أنه كان دائما أول خارج إلى الغزو وآخر قافل وذكر إبن سعد بسنده عن هشام عن أبيه قال لما نزلت آية سورة الشعراء وَالشعراء يتبعهم الغاوون قال عبد الله بن رواحة قد علم الله أني منهم فأنزل الله قوله في السورة نفسها إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ وذكروا اللَّه كثيرا وَإنتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون وعن مدرك بن عمارة قال قال عبد الله بن رواحة مررت في مسجد الرسول ورسول الله ﷺ جالس وعنده أناس من الصحابة في ناحية منه فلما رأوني قالوا يا عبد الله بن رواحة فجئت فقال لي النبي ﷺ إجلس هاهنا فجلست بين يديه فقال كيف تقول الشعر قلت أنظر في ذلك ثم أقول قال فعليك بالمشركين ولم أكن هيأت شيئا فنظرت ثم أنشدته عدة ابيات كان منها فثبت الله ما آتاك من حســن تثبيت موسى ونصرا كالذى نصروا فأقبل الرسول ﷺ بوجهه متبسما وقال وإياك فثبتك الله .
وفي العام السابع للهجرة بدأ الرسول ﷺ يبعث برسائل إلي ملوك الفرس والروم يدعوهم فيها إلي الإسلام وفي العام التالي الثامن للهجرة بعث النبي ﷺ برسالة إلى ملك بصرى من أرض الشام يدعوه إلى الإسلام وحملها الصحابي الحارث بن عمير الأزدي فما كان من ملك بصرى شرحبيل بن عمرو الغساني إلا أن قتل رسول النبي ﷺ فإشتد ذلك عليه ﷺ إذ كانت هذه هي المرة الأولي التي يقتل فيها رسول دولة إلي دولة أخرى على خلاف ما جرت العادة من إكرام الرسل وعدم التعرض لهم ولم تكن هذه هي المرة الأولي التي يتعرض فيها المسلمون للأذى من الغساسنة حلفاء الدولة البيزنطية والذين كانوا يسكنون شمال شبه الجزيرة العربية جنوبي الشام في الأردن حاليا فقد سبق لهم مضايقة المسلمين والتحرش بهم وإستفزازهم بكل الطرق وكان من أظهرها المحاولات المتكررة للتعرض لتجارة المسلمين القادمة من الشام والقيام بالسلب والنهب للقوافل التي تمر بطريقهم ناهيك عما مارسوه من ضغوطات ومضايقات طالت كل مسلم وقع تحت أيديهم ولذلك فعندما تم قتل رسول النبي ﷺ دعا الناس للخروج ومقاتلة الغساسنة والروم وتأديبهم حتى يضع حدا لهذه الإستفزازات والتصرفات الهمجية ولأجل تأديبهم وسرعان ما إجتمع بين يدى النبي ﷺ ثلاثة آلاف مقاتل ويقول إبن عباس في ذلك كان اليوم يوم جمعة وأمر النبي ﷺ أن يتجمع الجيش في مكان علي أطراف المدينة فغدا أصحاب إبن رواحة وقال أتخلف فأصلي مع رسول الله ﷺ ثم ألحقهم فلما صلى مع النبي ﷺ ثم توجه إلي مكان تجمع الجيش كان النبي ﷺ قد وصل قبله وسأل عنه فلما رآه قال ما منعك أن تغدو مع أصحابك قال أردت أن أصلي معك ثم ألحقهم فقال لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما أدركت فضل غدوتهم فحزن إبن رواحة حزنا شديدا وقال لا يكفر ذنبي هذا إلا أن أموت شهيدا وعقد النبي ﷺ الراية لثلاثة قادة وجعل إمرتهم بالتناوب حيث قال ﷺ قائد الجيش زيد بن حارثة فإن أصيب فجعفر بن أبي طالب فإن أصيب فعبد الله بن رواحة فإن أصيب فإختاروا من شئتم ولم يسم أحدا وتجهز الناس وخرجوا وكان ذلك في شهر جمادى الأولي من السنة الثامنة للهجرة النبوية فلما ودع الناس أمراء رسول الله ﷺ وسلموا عليهم بكى عبد الله بن رواحة فقالوا ما يبكيك يا إبن رواحة فقال أما والله ما بي حب الدنيا ولا صببة بكم ولكني سمعت رسول الله ﷺ يقرأ آية من كتاب الله في سورة مريم يذكر فيها النار وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود فقال المسلمون صحبكم الله ودفع عنكم وردكم إلينا صالحين فأجابهم عبد الله بن رواحة منشدا :-
لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرغ تقذف الزبـدا أو طعنة بيدي حران مجهزة بحربة تنفذ الأحشـاء والكبــدا حتى يقال إذا مروا على جدثي أرشده الله من غاز وقد رشدا
وأوصى النبي ﷺ صحابته قائلا إغزوا بإسم الله وفي سبيل الله وقاتلوا من كفر بالله إغزوا ولا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا ولا أصحاب الصوامع وسار المسلمون حتى نزلوا معان وهي قرية في الأردن جنوب أرض الشام فبلغهم أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم وإنضم إليه مائة ألف أخرى من القبائل العربية الموالية له كلخم وجذام وبلقين وبهراء فإجتمع لهرقل مائتي ألف مقاتل فعقد المسلمون مجلسا للتشاور فقال بعضهم لقائدهم زيد بن حارثة نكتب للنبي ﷺ نخبره بعدد عدونا فإما أن يمدنا بالرجال وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له وقال آخرون قد وطئتَ البلاد وأخفتَ أهلها فإنصرف فإنه لا يعدل العافية شئ وأثناء هذا الحوار كان عبد الله بن رواحة رضي الله عنه ساكت فسأله زيد عن رأيه فقال يا قوم والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم له تطلبون الشهادة ما نقاتل الناس بعدد ولا عدة ولا كثرة ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به فإنطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين إما ظهور وإما شهادة فقال الناس صدق والله إبن رواحة فمضوا حتى إذا قاربوا البلقاء وهي منطقة بالشام لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية يقال لها مشارف فدنا العدو وإنحاز المسلمون إلى قرية تقع بالأردن حاليا يقال لها مؤتة وتسمى اليوم بالكرك وهي قرية كانت كثيرة النخل وبها بعض الموانع الطبيعية وليس من السهل إقتحامها أو القتال داخلها تحصن بها المسلمون وكان الهدف من ذلك هو أن يواجه الروم المسلمين بنفس عددهم ثم إلتحم الجيشان عندها بعد أن تجهز المسلمون وجعلوا على ميمنة الجيش قطبة بن قتادة وهو رجل من بني عذرة وعلى الميسرة أنصاري يقال له عبادة بن مالك وحمي الوطيس وإقتتل الجيشان قتالا شديدا إستمر خمسة أيام وفي اليوم السادس كان الروم قد أدركوا أنه لكي يحققوا النصر فلابد من قتل حامل راية المسلمين ومن ثم تكاثر الروم علي قائد المسلمين زيد بن حارثة حتي قتلوه مقبلا غير مدبر فأخذ الراية القائد الثاني الذى أشار به الرسول ﷺ جعفر بن أبي طالب بيمينه فتكاثر عليه الروم وقطعت يمينه رضي الله عنه فأخذ الراية بشماله فقطعت فإحتضنها بعضديه حتى قتل رضي الله عنه فأخذ الراية القائد الثالث الذى عينه الرسول ﷺ عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وتقدم بها على فرسه فجعل يشجع نفسه ويقول منشدا :-
أقــســمـت يا نـفــس لـتـنـزلـن لـتـنـزلـن أو لـتـكـرهـنـه إن أجلب الناس وشدوا الرنة ما لي أراك تكرهين الجنة قد طال ما قد كنت مطمئنـة هل أنـت إلا نـطفة فـي شنـة يا نفس إلا تقتلي تموتي هذا حـمـام الموت قـد صــليـت وما تـمـنـيـت فـقـد أعـطيـت إن تـفـعـلي فـعلهمـا هـديـت
ولما حمل الراية عبد الله بن رواحة أتاه إبن عم له بقطعة لحم وقال له إشدد بها صلبك فإنك قد لقيت أيامك هذه ما لقيت فأخذها من يده فنهش منها نهشة ثم سمع تدافع الناس للقتال قال أما زلت في الدنيا يا إبن رواحة ثم ألقي باللحم وأخذ سيفه وتقدم فقاتل حتى قُتل ثم أخذ الراية ثابت بن الأقرم الأنصاري ونادى في المسلمين يا معشر المسلمين إصطلحوا على رجل منكم فقالوا أنت فقال ما أنا بفاعل فإصطلح الناس على خالد بن الوليد الذى قال لثابت في البداية إنها لك أنت رجل حضرت بدرا وكنت أنا عاصيا لرسول الله ﷺ فقال له ثابت والله ما أخذتها إلا لك أنت أعلم بالقتال مني فأخذ خالد الراية ولم يكن قد مر علي إسلامه سوى 3 شهور وفي هذا الوقت كان الرسول ﷺ يصف المعركة علي الهواء مباشرة قائلا أخذ الراية زيد بن حارثة قتلوه أراه الآن في الجنة فأخذ الراية جعفر بن أبي طالب قتلوه أراه الآن يطير بجناحين من ياقوت في الجنة فأخذ الراية عبد الله بن رواحة قتلوه أراه الآن في الجنة ثم صمت لبرهة ثم اردف قائلا فأخذ الراية سيف من سيوف الله يفتح الله علي يديه وفي ذلك يقول النبي ﷺ إن الله رفع لي الأرض فرأيت معتركهم وبعد أن إستلم الإمرة خالد أكمل القتال في اليوم السادس وبعد أن توقف القتال بحلول الظلام فكر خالد مع باقي قادة الجيش في كيفية إنقاذ الجيش الإسلامي بطريقة تحفظ له كيانه وتبقي هيبته وقدر أن الحل يكمن في الإنسحاب المنظم بعد إرهاب العدو وإيهامه بوصول إمدادات جديدة من المدينة المنورة حتي لا يتبعوا جيش المسلمين أثناء الانسحاب وفي أثناء الليل إستغل الظلام ليغير مراكز المقاتلين وحول الميسرة ميمنة والميمنة ميسرة والمؤخرة مقدمة والعكس وطلب من كل فرد أن يغير ما بيده من رايات والكتابات التي عليها وإختار عدد 300 فارس من خيالة
المسلمين وقسمهم إلي 6 مجموعات كل مجموعة نضم 50 فارسا وطلب منهم أن يعودوا خلف الجيش وأن يصطنعوا غبار وجلبة قوية حتي يظن الروم أن المسلمين قد جاءهم مدد فتخور عزائمهم وأمر مجموعات الفرسان ألا تلتحم بالجيش في وقت واحد بل تدخل الجماعة الأولي مهللة ومكبرة ويرد عليها الجيش بالتهليل والتكبير ثم تدخل المجموعة الثانية مهللة ومكبرة أيضا ويرد عليها الجيش وهكذا فإذا إلتحمت المجموعة السادسة والأخيرة صاح قائلا يا عباد الله توكلوا علي الله وهي إشارة بدء القتال مع الروم في هجمة شرسة يشتد من خلالها المسلمون علي الروم وقال خالد عن ذلك لقد تكسرت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية دليلا وفي إشارة علي شراسة القتال وحقا فقد كان خالد مبارزا من الطراز الأول الرفيع وبكلتا يديه اليمني واليسرى وفي الوقت المناسب صاح خالد يا عباد الله عودوا وهي إشارة بدء الانسحاب فيبدأ القلب في الإنسحاب في حماية الميمنة والميسرة ثم تبدأ الميمنة والميسرة في الانسحاب في حماية القلب وتعجب الروم كيف لجيش منتصر في ذلك اليوم أن ينسحب وحاول بعض الجند أن يتعقبوا المسلمين في إنسحابهم إلا أن قادتهم صاحوا فيهم لا تتبعوهم كمين كمين وهكذا نجح خالد بن الوليد رضي الله عنه في العودة بالجيش إلى المدينة بأقل خسارة ممكنة وقتل من الروم خلق كثير لا يعرف عددهم بالتحديد وإن ذكرت بعض التقديرات إن العدد قد تجاوز الثلاثة آلاف ولم يقتل من المسلمين سوى 12 فقط بما فيهم القادة الثلاثة وكان في ذلك نصر كبير للإسلام والمسلمين .
ولما وصل خالد إلى المدينة المنورة أخذ بعض المسلمين في عتابه وعتاب جيشه وإستقبلوهم بقذف الطوب والحجارة والرمال عليهم ووصفوهم بالفرارين وقال البعض لخالد أكرار في الجاهلية فرار في الإسلام يا خالد لكن الرسول ﷺ قال لهم لا بل هم الكرارون أنا فئتهم وأنا فئة المسلمين جميعا وليس خالد بالفرار بل هو من الكرار بإذن الله وقد ظل خالد طوال عمره لا ينسي هذا الموقف وبعد كانت هذه هي غزوة مؤتة والمملوءة بالعظات والعبر وما أن يقرأ القارئ هذه الأحداث إلا ويجد الإعجاب قد عقد لسانه فأي بشر هؤلاء الذين يقفون بجيش قوامه ثلاثة آلاف مقاتل أمام جيش هائل قوامه مائتي ألف مقاتل إن تصورا سريعا للقوتين ليعطي نتائج حاسمة بإنتصار الجيش الكبير على الجيش المقابل ومع ذلك يتقدم المسلمون على قلة عددهم وضعف عددهم ليضربوا أعظم صور التضحية والفداء بل ولينتصروا على ذلك العدو وإن غزوة مؤتة بكل المقاييس العسكرية تعد معجزة من المعجزات وكرامة من الكرامات ولقد وضعت معركة مؤتة القاعدة العسكرية الإسلامية في مواجهة العدو فنحن لا نقاتل بعدد ولا عدة ولكن نقاتل بهذا الدين فإذا كان هدف قتالنا نصرة لدين الله وقمنا ما إستطعنا بما أوجبه الله علينا من الأخذ بالأسباب الظاهرة كان النصر حليفنا بإذن الله كما أنه من دروس هذه الغزوة أيضا إن ما يتمتع به المسلم من حب البذل والتضحية بالنفس والمال في سبيل هذا الدين نابع من إيمانه بالله ويقينه بما عنده فهل تحيا في الأمة هذه البسالة وهل نستخلص من غزوة مؤتة خاصة وتاريخ المسلمين الجهادي عامة دروسا تزرع التضحية والفداء في قلوب فتيانه حتى يعود للأمة سابق مجدها وغابر عزها ولا يفوتنا في هذا المقال أن نذكر إن هذه الغزوة والتي آلت فيها القيادة لخالد بن الوليد بعد مقتل القادة الثلاثة الذين عينهم الرسول ﷺ وفي ظل ظروف في غاية الصعوبة وهو لم يمر علي إسلامه سوى 3 شهور فقط لدليل علي أن القيادة في الإسلام لأصحاب الكفاءات وكان أداؤه المتميز الفذ في تلك المعركة بمثابة شهادة مبكرة له ببدء ظهور وتميز عبقريته العسكرية وبداية لنبوغه وتفوقه العسكرى مما أهله لكي يكون قائدا عاما لجيوش المسلمين في كل من العراق والشام وأصبح مجرد ذكر إسمه في بلاط كسرى الفرس أو هرقل الروم كفيل بإثارة الخوف والرعب في النفوس وما تزال خطته العبقرية في الإنسحاب من ميدان المعركة دون خسائر تذكر تدرس حتي اليوم في الأكاديميات والكليات العسكرية حول العالم ولا ننسي مقولة القائد الألماني الفذ الملقب بثعلب الصحراء الفيلد مارشال إرفين روميل إن أستاذه ةمعلمه في حروب الصحراء هو القائد العربي المسلم خالد بن الوليد وهي تقريبا الخطة التي إتبعها في الإنسحاب من منطقة العلمين في مصر في إتجاه حدود مصر الغربية ثم من ليبيا إلي تونس بعد أن حرم من وصول الإمدادات له وإضطراره إلي الإنسحاب وكانت خسائره أقل من خسائر الجيش الثامن الإنجليزى الذى كان يواجهه والذى كان يقوده الفيلد مارشال برنارد مونتجمرى .
|