بقلم المهندس/ طارق بدراوي
موسوعة" كنوز أم الدنيا"
الدكتور حسين فوزى طبيب وعالم بحار وأديب وكاتب ومؤرخ وموسيقي مصري برز في مجال أدب الرحلات ولذا فقد لقب بالسندباد المصرى وقد وصفه معاصروه بأنه كان شخصية موسوعية تكاد تمثل دائرة معارف عميقة وغزيرة بكل ما تعنى العبارة وأنه لا يمكن أبدا كتابة تاريخ دقيق للفكر والثقافة المصرية فى القرن العشرين بدون الوقوف عند هذا الرجل المثقف واسع النظرة المتعدد المواهب والذى كان يجمع بين العلم والأدب والموسيقى ويعتنق رؤية حضارية مستنيرة أخلص لها فى كل مراحل حياته وحتى وفاته وتكشف مجمل أعماله رفيعة المستوى عن مفهوم مثالى للتنوير حيث كان يرى صورته المثلى فى حركة الرينسانس أو النهضة وبذلك فقد كان يمثل صورة نموذجية للمثقف الذى لا ينعزل فى برجه العاجى ويكتفى بالنظريات المغلقة والقراءات لذاتها فقد كان يحاول أن يؤثر ويغير ويخلق حالة من الرينسانس فى مصر وعلى مثال النموذج الأوروبى الذى أخلص له غاية الإخلاص وكان سبيله إلى ذلك فن الموسيقى بنوع خاص والذى سعى إلى غرسه فى البيئة المصرية على مثال الموسيقى الكلاسيكية الغربية وكانت له جهوده التأسيسية التى لا تنكر فى هذا المجال وعن إغرائه للدكتور طه حسين لكى يؤسس لهذا الفن فى عهده وتوالت جهوده بعد ذلك من خلال مؤلفاته وأحاديثه الإذاعية وشرحه للأصول الأولى لهذا الفن وتقديمه للأعمال الكلاسيكية الجليلة حتى إستطاع هذا الفن بفضل مجهوداته أن يصبح حقيقة ملموسة فى مصر ومن خلال مؤسسات تنافس المؤسسات العالمية وكان مولد الدكتور حسين فوزى في يوم 29 يناير عام 1900م بمدينة الإسكندرية ولما بلغ عمره خمس سنوات ألحقه والده بكتاب الشيخ سليمان جاويش بحي باب الشعرية بالقاهرة وإستمر به حتي عام 1907م حيث حفظ ثلث القرآن الكريم ويقول حسين فوزي عن هذا أذكر أني بكيت كثيرا ووقعت على أقدام والدي ملحا بأنني لا أريد أن أذهب إلى الكتاب بينما هو يواصل ربط الكرافتة دون أن يرد على توسلاتي أو يأبه لبكائي وإقتادني إلى كتاب الشيخ سليمان جاويش وسلمني إليه .
وبعد أن أنهي حسين فوزى مرحلتي الدراسة الإبتدائية والثانوية درس الطب وحصل علي البكالوريوس وتخصص في طب العيون وفي هذه المرحلة من حياته إندلعت ثورة عام 1919م والتي شارك في مظاهراتها وإعتصم مع الكثير من شبابها سواء المسلمين أو الأقباط لأيام وليال في الجامع الأزهر الشريف ويقول عن ذلك أدركت من شئون بلادي وبعض أمور العالم ما يدركه غلام عند إعلان الحرب العالمية الأولى والتي إستمرت 4 سنوات من عام 1914م وحتي عام 1918م وعِشت بعدها في خِضمِ أحداث ثورة الشعب بقيادة الزعيم سعد زغلول باشا عام 1919م طالبا وتابعت في أعقابها ما تلاها من أحداث بعقل شباب المدارس العليا ومن جانب آخر فقد قام حسين فوزى بنشر أول قصة له في مجلة السفور عندما كان يتولى إصدارها محمد ومحمود تيمور وقد نشرت له أكثر من 25 قصة بين عام 1919م وعام 1924م وكاد أن يستمر في هذا الطريق لولا سفره في عام 1925م لدراسة العلوم بجامعة السوربون بالعاصمة الفرنسية باريس والتي حصل منها علي بكالوريوس العلوم ثم حصل أيضا علي دبلوم الدراسات العليا للأحياء المائيه من جامعة تولوز بفرنسا ويقول حسين فوزى عن ذلك غبت عن مصر 5 سنوات عشت أثناءَها مع أهل الغرب بعقلية أوروبية وقلب مصري وعودتني حياتي العلمية في مصر والخارج ألا أُصدِر حكما قبل أن أتبين الأمور بكل ملابساتها وعرفت أن الحقيقة في مسائل الرأي بعيدة المنال على عكس بعض المسائل العلمية التي تقوم على قوانين الطبيعة كالبديهيات الرياضية أو المؤسسة على الفحص المباشر وتسجيل الملاحظات وبعد عودته من فرنسا في عام 1931م عين رئيسا لمعهد علوم البحار بالإسكندرية وظل يشغل هذا المنصب حتي عام 1941م . وخلال شغل الدكتور حسين فوزى لمنصبه في معهد علوم البحار وفي يوم 3 سبتمبر عام 1933م كان أحد المشاركين في رحلة السفينة المصرية مباحث بالإضافة إلي الأستاذ الدكتور عبد الفتاح محمد المتخصص في علوم البحار الطبيعية وذلك فى أولى رحلاتها العلمية متجهة إلى المحيط الهندى حيث كانت مصر مهتمة ببحوث مصايد الأسماك ومجال علوم البحار حديث النشأة حينذاك وكان لا بد من إنشاء سفينة بحوث متطورة تساعدها على الإستكشاف فأوكلت المهمة إلى شركة إنجليزية والتي قامت بتشييد السفينة مباحث وكانت ذات محرك بخاري للصيد بشباك الجر بطول قدره 138 قدما وعرض قدره 23 قدمًا ونصف قدم وغاطس قدره 12 قدما ونصف قدم وحمولة صافية قدرها 200 طن مما كان يتيح لها أن تحمل قدرا من الفحم يكفي لسيرها مدة 15 يوما بأقصى سرعة وزودت السفينة بمختبر صغير وسط السطح وكان بها من التسهيلات ما يكفي لإيواء عدد صغير من العلماء بالإضافة إلى طاقمها البحري الذي يبلغ 34 ضابطا وعندما وصلت هذه السفينة بعد بنائها إلى مصر لم يكن لدى الحكومة المصرية العدد الكافي من العلماء كي تبدأ بحوث المصايد فقامت السفينة بسلسلة من الجولات القصيرة في البحر المتوسط وإستخدمها سلاح خفر السواحل لحراسة السواحل ومكافحة التهريب أي أنها إستعملت في غرض غير ما خصصت له وهذا أمر شائع الحدوث في كثير من الدول النامية التي قد تنسى أن الموارد البشرية أكثر أهمية وأن تنميتها تحتاج إلى فترة زمنية أطول من الفترة اللازمة لشراء سفن البحوث أو المعدات والأجهزة العلمية وفي هذه الفترة كان القائمون على وصية السير جون مري قد قرروا إنفاق مبلغ قدره 20 ألف جنيه إسترليني لإستكشاف الجزء الشمالي الغربي من المحيط الهندي أي بحر العرب وإمتداداته خليج عدن وخليج عمان وكان هذا الأخير عالما نابها مهتما بإكتشاف المحيطات وكان أحد العلماء الذين ابحروا علي متن سفينة الأبحاث تشالينجر عام 1872م وقام بتحرير تقارير هذه الرحلة التي بلغت 50 مجلدا وتمكن من إكتشاف الفوسفات في جزر الكريسماس بالمحيط الهندى الأمر الذي هيأ له جمع ثروة كبيرة من حق إستغلال هذا الكشف العلمي ولشغفه بعلوم البحار أوصى بجزء من ثروته للإنفاق على البحوث والإستكشافات المتعلقة بها ومن ثم تم إختيار بعثة علمية للقيام بالكشف المشار إليه في السطور السابقة بقيادة الكولونيل سيمور سيويل وكان أول إجراء يجب إتخاذه هو الحصول على سفينة مناسبة وكان هذا متعذرا في ذلك الوقت لقلة سفن البحوث التي كانت تعد على الأصابع وأيضا لإنشغال معظم هذه السفن في مهمات علمية فإتجه التفكير إلى الإستعانة بسفينة البحوث المصرية مباحث وإتصل ستانلي جاردينر الأستاذ بجامعة كامبريدج بالدكتور حافظ عفيفي باشا وزير مصر المفوض بلندن في تلك الفترة وإقترح عليه فكرة التعاون العلمي بين العلماء الإنجليز والمصريين حيث تستعير البعثة الإنجليزية سفينة البحوث المصرية لتعمل عليها في المحيط الهندي على أن تقوم البعثة المصرية بالعمل في البحر الأحمر فيما بعد .
وقد وجدت الحكومة المصرية في هذا الإقتراح فرصة سانحة لتدريب شبابها من العلماء والضباط والبحارة على أعمال البحث العلمي في المحيط الهندي ولذا فقد إشترطت الحكومة المصرية أن يكون على السفينة ضابطان بحريان مصريان ومهندسان مصريان وعالمان مصريان وطاقم بحارة من الموانئ المصرية حتى إذا عادوا أمكن الإستفادة من السفينة إستفادة كاملة عندما تستخدمها البعثة المصرية في البحر الأحمر والتي كانت مصر تطمح في إيفادها في تنشيط أبحاث مصايد الأسماك في البحرين المتوسط والأحمر بعد أن ظلت بدون عمل جاد منذ تشييدها وكان العالمان المصريان اللذان شاركا في هذه الرحلة هما العالمان المذكوران في السطور السابقة وقامت الحكومة المصرية بتقديم التسهيلات اللازمة لنجاح هذه الرحلة ووضعت إمكانياتها فى يد أعضاء البعثة التي ستشارك فيها والذين بدأوا يتوافدون على الإسكندرية بمعداتهم وأجهزتهم العلمية وتعهدت الحكومة المصرية أن تكون السفينة مباحث تحت تصرف البعثة إعتبارا من يوم 1 يوليو عام 1933م حتى يوم 1 من شهر مايو عام 1934م وأن تتم تهيئتها للإبحار قبل يوم 1 من شهر سبتمبر عام 1933م وعلي أن ترفع السفينة على صاريها العلم المصري مع العلم البريطاني وأيضا علي أن تتولى الحكومة المصرية من خلال قنواتها الدبلوماسية إخطار البلاد التي ستعمل فيها السفينة مباحث بأغراض جولاتها وعلاوة علي ذلك فقد تعهدت الحكومة المصرية أن تسلم البعثة السفينة مباحث في حالة صالحة للملاحة علي أن تعيدها البعثة في نفس الحالة دون أي مطالبات بسبب الإستهلاك المترتب على الإستعمال وعلي أن تقوم البعثة بتسليم كل الأجهزة والمعدات العلمية التي زودت بها السفينة لتصبح ملكًا للحكومة المصرية وقبل أن تبحر سفينة البحوث مباحث إستقبل الملك فؤاد الأول ملك مصر حينذاك بعض أعضاء البعثة وتمنى لهم كل النجاح والتوفيق حيث كان له عناية خاصة بعلوم البحار وبحسب موسوعة المعرفة أنه في يوم 3 سبتمبر عام 1933م أبحرت السفينة المصرية مباحث فى رحلة بحرية فى عدة مناطق تشمل الطرف الجنوبى للبحر الأحمر وخليج عدن والساحل الجنوبى الشرقى لشبه الجزيرة العربية وخليج عمان ومدخل الخليج العربى والساحل الشرقى لقارة أفريقيا فيما يجاور زنجبار والمنحدرات الغربية لأرخبيل المالديف وقد تجاوزت هذه الرحلة دوائر علماء المحيطات إلى غيرهم من عامة المثقفين حيث حملت السفينة فى رحلتها الأولى بعثة جون مرى إلى المحيط الهندى خلال الفترة من شهر سبتمبر عام 1933م وحتي شهر مايو عام 1934م وذلك بالتعاون ما بين مصر وبريطانيا وقامت بعد ذلك السفينة مباحث برحلة أخرى إلى البحر الأحمر لمدة 3 أشهر بداية من شهر ديسمبر عام 934م وحتي شهر فبراير عام 1935م حاملة بعثة علمية مصرية وكانت هذه البعثة ثمرة التعاون والتنسيق بين جامعة فؤاد الأول وهي جامعة القاهرة حاليا ومحطة الأحياء البحرية بالغردقة التابعة لها وكانت قد أنشئت في عام 1929م ومعهد الأحياء المائية الذى كان قد أنشئ بالإسكندرية عام 1924م وكان من ثمار هذه البعثة إنشاء أول قسم لعلوم البحار بالجامعات العربية بجامعة الإسكندرية عام 1948م على يدى نفس العالمين المصريين اللذين عملا على ظهر السفينة مباحث فى المحيط الهندى أي الدكتور حسين فوزى والدكتور عبد الفتاح محمد وقد جاء هذا الجهد بعد سنوات من الإعداد والنضج العلمي وكان لإنشاء هذا القسم أثر بالغ في نهضة علوم البحار في كثير من دول المنطقة التي تعلم بعض أبنائها في هذا القسم كما قام أساتذته وخريجوه بالعمل والتدريس في معاهد وأقسام علوم البحار التي أنشئت في هذه الدول .
ولما تم تأسيس كلية العلوم بجامعة فاروق الأول وهي جامعة الإسكندرية حاليا عين أول عميد لكلية العلوم بها في عام 1942م ثم اصبح مديرا للجامعة في عام 1945م وطالب حسين فوزي بإنشاء المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الإجتماعية وفي عام 1957م تم تأسيسه بالفعل وهو هيئة مستقلة ملحقة بمجلس الوزراء مهمتها تنسيق جهود الهيئات الحكومية العاملة في ميادين الفنون والآداب وربط هذه الجهود بعضها ببعض وفي عام 1980م صدر قرار جمهورى بتأسيس المجلس الأعلى للثقافة بديلا عنه والذى تتمثل أهدافه في تيسير سبل الثقافة للشعب وربطها بالقيم الروحية وذلك بتعميق ديموقراطية الثقافة والوصول بها إلى أوسع قطاعات الجماهير مع تنمية المواهب في شتى مجالات الثقافة والفنون والآداب وإحياء التراث القديم وإطلاع الجماهير على ثمرات المعرفة الإنسانية وتأكيد قيم المجتمع الدينية والروحية والخلقية وفي نفس العام 1957م وفي يوم الخامس من شهر مايو كان للدكتور حسين فوزى دور كبير في إنشاء إذاعة البرنامج الثاني لتكون قناة تعنى بالشأن الثقافي وقد بدأت هذه الإذاعة إرسالها بثلاث ساعات من البث مساء كل يوم من التاسعة إلى الحادية عشرة زيدت إلى أربع ساعات يوميا من الثامنة مساءا إلى منتصف الليل ثم زيدت على مراحل حتى وصلت الآن إلى إثني عشر ساعة يوميا من الثالثة مساءا إلى الثالثة من صباح اليوم التالي ويتم تقديم العديد من البرامج من خلال هذه الإذاعة والتي تميزت بتناول مختلف جوانب الحياة الثقافية والأدبية وذلك من خلال برامجها الدرامية التي بلغت ما يزيد على 900 عمل من كلاسيكيات المسرح العربي والعالمي وكلاسيكيات الموسيقي العربية والعالمية والأعمال الدرامية المبنية على أعمال أدبية عالمية وعربية قام بإخراجها والتمثيل فيها كبار المسرحيين والممثلين وتمثيليات إذاعية مسلسلة وقد تنوعت هذه البرامج ما بين برامج شعر وقصة قصيرة ونقد وتحليل وفترات مفتوحة وبرامج موسيقية وبرامج يومية مقروءة مدتها 5 دقائق وجدير بالذكر أنه قد تم فيما بعد تغيير إسم إذاعة البرنامج الثاني لتصبح إذاعة البرنامج الثقافي .
وفضلا عن ذلك فقد كان الدكتور حسين فوزى أيضا هو أول من نادى بإنشاء أكاديمية الفنون في مصر وبالفعل قامت وزارة الثقافة المصرية بإنشائها عام 1959م وصارت إحدى مؤسسات التعليم العالى المتخصصة في تدريس الفنون التعبيرية وكان نواتها المعهد العالي للفنون المسرحية ثم إتسعت معاهد الأكاديمية بظهور معهد السينما ومعهد الباليه ومعهد الكونسيرفتوار ومعهد التذوق الفني وصار أول رئيس لهذه الأكاديمية خلال الفترة من عام 1965م وحتي عام 1968م وكان الهدف منها هو النهوض بمستوى الفن والإتجاه بالفنون إتجاها قوميا للمحافظة على التراث العربى وتوثيق الروابط الثقافية محليا وعالميا ومما يذكر في هذا الصدد أن الدكتور حسين فوزى كان توجهه دائما على الطريقة الأوروبية التي كان من الصعب تماشيها مع الذهنية المحلية حينذاك ولعل هذا ما جعل الصدام يقوم بينه وبين الدكتور ثروت عكاشة الذى كان يشغل منصب وزير الثقافة والذي لا يقل عنه عصريةً وتقدميةً بالطبع لكنه كان على الدوام أكثر منه عقلانيةً وواقعيةً ولقد أدى ذلك الصدام إلى ترك الدكتور حسين فوزي العمل في وزارة الثقافة بعد أن كان وكيلها وهو أمر أسِفَ له الدكتور ثروت عكاشة كثيرا وكتب عن ذلك في مذكراته الرائعة حيث أفرد فيها حديثا عن الدكتور حسين فوزي إمتلأ بالإعجاب به على الرغم من الخلاف السياسي والأيديولوجي الذي قام بين الإثنين وفي عام 1968م إنتخب الدكتور حسين فوزى رئيسا للمجمع العلمي المصري والذى كان قد تم تأسيسه في القاهرة يوم 20 أغسطس عام 1798م بقرار من نابليون بونابرت قائد الحملة الفرنسية علي مصر وذلك علي غرار المجمع العلمي الفرنسي الذى تم إنشاؤه بالعاصمة الفرنسية باريس عام 1795م وبعد تأسيسه تم عقد اول جلسة له والتي شهدت إنتخاب عالم الرياضيات الفرنسي الشهير جاسبار مونج رائد علم الهندسة الوصفية ومبتكر أسس الرسم الهندسي والميكانيكي التي مازال المهندسون في جميع أنحاء العالم يتبعونها حتي وقتنا هذا رئيسا له ونابليون بونابرت قائد الحملة نائبا للرئيس والمسيو فورجييه سكرتيرا عاما للمجمع وكان مقره في دار أحد بكوات المماليك في القاهرة ثم نقل إلى مدينة الإسكندرية عام 1859م في عهد محمد سعيد باشا وأطلق عليه من يومها إسم المجمع العلمي المصري ثم تم نقله مرة أخرى إلي مدينة القاهرة عام 1880م في عهد الخديوى توفيق وكانت أهداف المجمع العمل على التقدم العلمي في مصر ونشر العلم والمعرفة في ربوع القطر المصرى وبحث ودراسة الأحداث التاريخية ومرافقها الصناعية ومواردها وعواملها الطبيعية فضلا عن معاونة قادة الحملة الفرنسية بإبداء الرأى في بعض الأمور وكان هذا هو الهدف الظاهرى لنابليون بونابرت من إنشاء المجمع العلمي ولكن كان الهدف الحقيقي هو عمل دراسة تفصيلية مستفيضة لمصر وبحث كيفية إستغلالها لصالح المحتل الفرنسي ونتج عن هذا الهدف تأليف كتاب شهير وهام جدا وهو كتاب وصف مصر وعموما فبعد خروج الحملة الفرنسية من مصر واصل المجمع العلمي المصرى أداء رسالته وتحقيق أهدافه التي أنشئ من أجلها ومايزال يقوم بهذه المهمة حتي وقتنا الحاضر .
ومن جانب آخر كان الدكتور حسين فوزى إنسانا محبا للفنون وتذوقها وبخاصة الموسيقي وكان عازفا قديرا علي آلة الكمان يقرأ علي أوتارها نوتة الموسيقي الغربية وكان وعيه الموسيقي قد بدأ منذ اللحظة التي دخل فيها قاعة للسينما في القاهرة وهو طالب في عام 1918م ليجد خمسين عازفا منهمكين في عزف السيمفونية السابعة لبيتهوفن ومنذ تلك اللحظة طغى حبه للموسيقى على حبه لأي شئ آخر على الرغم من ممارسته الرسم والكتابة وقدم في برنامج الإذاعة الثاني منذ أواخر الخمسينيات من القرن العشرين الماضي ما أطلق عليه شرح وتحليل لأهم الأعمال الموسيقية العالمية التي نعرف نحن العامة منها بالكاد كلمة سيمفونية وأحيانا كونشيرتو وفي أحيان قليلة كلمة سوناتا وكان يشرح لمستمعيه القطعة التي يعرضها فيقدم مؤلفها وموضع المعزوفة من مؤلفاته ودرجات اللحن ومقامه ثم يسمعك جرعة بسيطة ويواصل الشرح آخذا بيدك خطوة خطوة حتي يصل بك إلي نهاية المعزوفة التي يقدمها فعلي سبيل المثال إذا كان يشرح لبيتهوفن سيمفونيته الخامسة فإنه كان يقوم بشرح الإسم وظروف كتابة بيتهوفن اللحن وطبيعته ولا شك أن حسين فوزي في هذا المجال قد ترك أثره في جيل عاصره وفي أجيال جاءت بعده وأسعدها حسن حظها بالتعرف علي أعماله الباقية في برامج الإذاعة الثقافية وقنواتها وكان أيضا للدكتور حسين فوزى عدة كتابات كان أولها كتاب سندباد عصري جولات في المحيط الهندي والذى كتبه بعد رحلته علي متن السفينة مباحث التي تحدثنا عنها قي السطور السابقة وقد إختار لمؤلفاته أن تكون تحت عنوان ثابت هو سندباد وربما يكون فعل ذلك ليعطي أعماله عراقة تاريخية كما في سندباد مصري الذي غاص فيه في تاريخ مصر البعيد وغرق في شتى الفنون والآداب وكان ثاني كتبه سندباد عصري الذي عبر فيه عن نزعة قومية مصرية متطرفة ظلت ترافقه طوال حياته وجعلته على الدوام هدفا لهجمات العروبيين وشتى أنواع التقدميين أما ثالث كتبه فكان سندباد في عصر الرينسانس والذى تناول فيه عصر الرينسانس أو ما يعرف بعصر النهضة أو عصر الإحياء وهي الحضارة التي نشأت في الدويلات الإيطالية خاصة في القرن السادس عشر الميلادى ولم يكتف الدكتور حسين فوزى بالمراجع الموثوق بها التي تناولت هذا العصر لكنه جمع إلى جانب هذا تأمله الخاص خلال مشاهداته ومعايشته لهذه الحضارة وتنقل بين فنونها وآدابها وآثارها ويشعر القارئ أن مثل هذا الكتاب ينقله إلى مناطق التاريخ والأدب والفن ويقرب حضارة العالم البعيد ليجعلها بين يديه دون أن يبذل جهدا غير الرغبة في القراءة والإستمتاع والمعرفة وكان من كتب الدكتور حسين فوزى أيضا سندباد إلي الغرب وسندباد في سيارة وسندباد في رحلة الحياة وهذا الكتاب الأخير عبارة عن سيرة ذاتية للدكتور حسين فوزى أحد أبناء ثورة عام 1919م بل واحد من أهم من أنجبتهم هذه الثورة ويكشف عن كيف قامت بهدم المجتمع القديم وأحلت مكانه مجتمعا جديدا على الرغم من فشلها في تحقيق هدفها الرئيسي وهو تحقيق الجلاء وطرد الإستعمار البريطاني والمتعة في هذا الكتاب هي لغة الكاتب المتحررة من تقاليد ذلك الزمان والقريبة من لغة حواري القاهرة وأيضا كانت المتعة هي حكاياته عن كلية الطب التي إلتحق بها وعن ثورة عام 1919م وتستمر السيرة الذاتية لما بعد تخرجه وإشتراكه مع مجموعة من شباب الأدباء في تأسيس المدرسة الأدبية الحديثة والتي ضمت يحيي حقي وأحمد خيري سعيد وطاهر لاشين وكانت إنفجارا أدبيا أطاح بمن سبقها وتكشف السيرة الذاتية أيضا عن إنتقاله في بعثته إلى فرنسا من دراسة الطب إلى العلوم ثم تأسيسه لكلية العلوم بجامعة الإسكندرية وقسم علوم البحار الذي تحول إلى معهد الأحياء المائية كما يتحدث عن الرحلة البحرية العلمية التي جابت البحرين الأحمر والأبيض على متن السفينة مباحث التي تحدثنا عنها في السطور السابقة ويتحدث أيضا عن دراسته للموسيقى وعزفه على الفيولينة وأخيرا نذكر أنه قد قدم حتى عام 1966م نحو ألف حديث إذاعي يشرح فيه السيمفونيات العالمية ولا يصح أن نفهم من إختيار كلمة سندباد أن حسين فوزي كتب أدب رحلات سياحية أو أدبا وصفيً لمشاهداته فالحقيقة أن رحلاته كانت معرفية إكتشافية سواء لخفايا المكان أو لأسرار الزمن وتاريخه وما جري فيه وما كتب عنه وما قيل عن غرائبه وكانت بحق كتب معرفية عميقة مزج فيها معرفته بروحه المصرية الصميمة .
وإذا ما نظرنا للروح المصرية للدكتور حسين فوزى فسنجد أنها تجرد شخصياته من بريق سلطانها وزخرفها ليبقي منها مادتها الطبيعية التي يتعامل معها بلا أقنعة أو زيف أو بريق بروح العالم في معمله وحدس الفنان وإلهامه ولنأخذ مثلا ثلاثة أسماء وردت في سياق رحلاته في تاريخ مصر وهي بنت الزمار وأم خليل والصعيدية ولأن حسين فوزي لا يكتب تاريخا وإنما يبحث في الماضي عن أحداث وشخصيات ملهمة دون مراعاة لتواتر الأحداث وتاريخها فكان مما كتبه عن تلك الشخصيات المؤثرة في تاريخ مصر وأولها بنت الزمار وهكذا وصف كليوباترا وقد جاءت هذه التسمية من أن أباها بطليموس الثالث عشر كان محبا للعزف بالناي فلقب بعازف الناي لكن حسين فوزي وضع للصفة عبقها المصري فأطلق عليه الزمار وهكذا كانت كليوباترا هي بنت الزمار ويقول حسين فوزي كانت كليوباترا كاعبا لا تقاوم وقد رآها قيصر في زهرة العمر تخرج رقيقة صغيرة من لفافة ملابس فأعجب بتلك الغادة الساحرة وما أظنه إلا وقد إفتر ثغره عن إبتسامة وهو يري أمامه ملكة مصر وريثة عرش البطالمة والفراعنة تخرج من بقجة وتدور الأيام دورتها ويعلو نجم كليوباترا في الخافقين وتصير إمبراطورة علي أكبر إمبراطورية في عصرها وتدخل روما وشعبها منحنٍ لها وقد أمر القيصر إرادة قيصرية أن تكون كليوباترا ملكة الملوك وهو لقب لم تسبقها إليه إمرأة ثم تدور دورة أخري فتدخل أسيرة ولكنها غير كسيرة لأنها فضلت الموت علي الذل ويروي المؤرخ الروماني بلوتارك إحدي دعابات كليوباترا ذات النكهة السياسية حيث أراد أنطونيوس أن يظهر لها براعته في صيد السمك فأوعز إلي بعض الغواصين أن يشبكوا السمك في سنارته كلما ألقي بخيطه في الماء ولم تخف الحيلة علي الملكة ودبرت له أمرا وإذا به يسحب سنارته فتصيد فسيخا فيضحك ويقهقه الصحاب وتقول الملكة خل عنك يا سيدي القائد وإترك لنا الخيط والسنارة أما أنت فليبق صيدك الملوك والمدائن والأقطار ويعلق حسين فوزي علي مقولتها بأنها تقول له ذلك وهي تعلم أنه س لم يعد أكثر من فرخ سمك في شِقها أو عجل بحر وقع في شراكها .
ولنترك كليوباترا لأمجادها وما تلاها من حوادث لنذهب إلي سيدة أخري يذكرها حسين فوزي فيما يشبه الغزل لقدرها ودورها السياسي والعسكري ورجاحة عقلها وهي أم خليل ملكة المسلمين عصمة الدنيا والدين ذات الحجاب الجميل والستر الجليل والدة المرحوم خليل زوجة الملك الصالح نجم الدين أيوب والتي كانت مصرية بحياتها وسيرتها ولكنها أصلا مملوكة تركية أو أرمينية أهداها الخليفة المستعصم بالله آخر خلفاء بني العباس في بغداد إلي الملك الصالح نجم الدين أيوب الذي أحبها وتزوجها هذه هي شجرة الدر المرأة التي حكمت مصر في فترة من أدق وأخطر ما مر عليها في تاريخها ولكن هل كانت شجرة الدر تستحق كل الصفات التي أسبغها عليها الراحل حسين فوزي يظن الكثيرون ذلك حيث كانت تشارك زوجها الملك الصالح وتقف بجانبه في القصر وفي ساحة القتال ثم إنفردت وحدها بالقرار والحكم والمعارك تدور علي أبواب القصر وقد فارق الملك الصالح الحياة فقد أخفت خبر موته عن رجال الدولة وقادة الجيش وكانت تستقبل رجال الدولة من وراء حجاب معللة أن السلطان به وعكة صحية وأما ثالثة الثلاثة ممن تربعن علي عرش مصر فكانت الصعيدية حتشبسوت والتي كانت في معظم النقوش تبدو فيها بزي الرجال إحساسا منها بحجم المسئولية التي تحملتها في ريعان شبابها ويعبر عنها نقش مكتوب عليه وساست حتشبسوت إبنة الرب أمور الدولة حسب ما رسمت وأحنت مصر رأسها تعمل من أجلها تلك النطفة من صلب الرب لقد كانت حتشبسوت الحبل الذي تعتصم به مصر السفلي والعماد الذي تعتمد عليه مصر العليا وكانت الدفة المستقيمة للدلتا والسيدة التي تدبر الخطط وتصدر الأوامر فينزل السلام علي وجه الأرض ويقول عنها الدكتور حسين فوزي أحببت تلك الملكة المقدامة منذ زياراتي لها لأول مرة في بطن الجبل بطيبة المقدسة ودراستي المتمهلة لتصاوير البعثة البحرية إلي بلاد بونت تزين جدران رائعة الروائع وذلك أيام كنت أعني بالبحر وأحيائه فوجدت في تلك الصور المثل الفريد في كل الآثار المصرية بقدر ما وصل إليه علمي بصور أحياء البحر لا أحياء النيل ولا أحياء بطائح الدلتا لقد أعجبت بتلك السيدة المسترجلة تمثل نفسها علي آثارها رجلا بلحية مستعارة ولحي الفراعنة كانت كلها مستعارة وصدر منبسط مفلطح وعرفتها أيام سلكت المرأة في أوروبا طريقها الوعر نحو مزاحمة الرجل فجزت شعرها ألاجارسون وفلطحت صدرها وكشفت عن ركبتيها ودخنت السجائر في المحال العامة ولعلها تدخن يوما الغليون والسيجار وختم حديثه بتوجيه نقد هادئ لنساء اليوم قائلا وإني لأستغرب أن لا تعني سيداتنا المتحررات بأمر أول سيدة في العالم زاحمت الرجل وغلبته وذلك منذ نحو ثلاثة آلاف عام تلك كانت سيدة الدير البحري وصاحبة أعظم مسلات الكرنك وأجمل حجراته الملكة حتشبسوت .
وتكريما للدكتور حسين فوزى فقد حصل على جائزة الدولة التقديرية في الفنون عام 1966م وجاء في تقرير المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الإجتماعية الذى صار فيما بعد المجلس الأعلى للثقافة إن الدكتور حسين فوزي من الشخصيات النادرة التي تؤكد المعنى الكامل للإنسان المثقف في العصر الحديث وقد جمع إلى عقليته ودراسته العلمية المتخصصة ثقافة أديب وفنان تعمق في الآداب إلى ما هو أرفع من مستوى الإحتراف وأعمق من مستوى الهواية وفي سنوات حياته الأخيرة وضمن إطار منطقه الليبرالي العصري وقف الدكتور حسين فوزي إلى جانب إختيارات الرئيس المصري الراحل الأسبق أنور السادات مما جر عليه من جديد لعنات وهجمات التقدميين وكانت وفاته في أغسطس عام 1988م عن عمر يناهز 88 عاما وبوفاته وضع حدا لهذا كله فبرزت قيمته الثقافية والتجديدية وصار يشار إليه دون تردد كواحد من الذين أسهموا في إنشاء نهضة فنية حقيقية في مصر وكلمة أخيرة لابد أن نقولها في نهاية مقالنا وهي أنه لعل المأساة الأساسية للدكتور حسين فوزى كمنت في أنه إنما أراد لإختياراته الفنية النخبوية في نهاية الأمر أن تصبح ذات شعبية في بلده وأن تعم مثله في هذا مثل المهندس المعماري الكبير الدكتور حسن فتحي الذي دافع طوال حياته عن البناء في سبيل الشعب فإذا بدفاعه يقوم ضد إختيارات الشعب نفسه وعلى هذا النحو كان الدكتور حسين فوزي يود لو أن كل فلاح مصري تحول إلى مستمع جيد إلى بيتهوفن أو إلى فاجنر ولئن كان الدكتور حسين فوزي قد تنازل في فترات عن علياء إختياراته الأوروبية الكبيرة فإنه إنما فعل ذلك لكي يعيد إكتشاف كل من كامل الخلعي وداود حسني وصالح عبد الحي على ضوء ما يشبههم في أوروبا وهذا ما عمق في الحقيقة ذلك الشرخ الذي قام على الدوام بين نخبة معينة في مصر والجمهور المصري ككل وجعل أبناء تلك النخب يبدون وكأنهم خواجات أو مستشرقون وسط عالم كان يؤلمهم تخلفه .
|