بقلم المهندس/ طارق بدراوي
موسوعة" كنوز أم الدنيا"
سوق الخواجات أحد أهم وأشهر الأسواق الشعبية في مدينة المنصورة عروس الدلتا وهو يقع فى قلب المدينة بالقرب من شارع العباسى أحد أهم وأشهر شوارع المدينة ومدينة المنصورة مدينة مصرية قديمة وعريقة وهي عاصمة محافظة الدقهلية حاليا وتطل على الضفة الشرقية لفرع دمياط بنهر النيل وتواجه مدينة طلخا التابعة لمحافظة الدقهلية أيضا مباشرة والتي لها إدارة مستقلة عن مدينة المنصورة ويربط بينهما كوبرى المنصورة طلخا القديم والمخصص للمشاة وللسيارات غير كوبرى المنصورة طلخا للسكك الحديدية والذى يربط محافظات منطقة وسط الدلتا بمحافظات شرق الدلتا حيث يربط مابين محافظات الغربية وكفر الشيخ وبين محافظات الدقهلية والشرقية ودمياط وتبعد المنصورة مسافة حوالي 120 كيلو متر عن القاهرة عاصمة مصر في الإتجاه الشمالي الشرقي منها ويربط بينها وبين القاهرة طريق القاهرة / بنها / ميت غمر / أجا / المنصورة وأيضا طريق القاهرة / بنها / قويسنا / بركة السبع / طنطا / المحلة الكبرى / المنصورة وقد أنشأها الملك الكامل محمد بن الملك العادل من ملوك الدولة الأيوبية عام 616 هجرية الموافق عام 1219م وكان يطلق عليها إسم جزيرة الورد لأنها كانت محاطة بالمياه من ثلاث جهات وكانت بها أكبر حدائق ورد في مصر وقد سميت بالمنصورة بعد النصر الكبير الذي حققه الشعب المصري على الحملة الصليبية السابعة بقيادة الملك لويس التاسع الفرنسي والتي إنتهت بأسره هو وقواده وسجنه في دار القاضي إبن لقمان بالمنصورة حتي إفتدى نفسه وقواده بالمال مع الإنسحاب بقواته والعودة إلي بلاده وقد ظهرت أول خريطة لمدينة المنصورة في نهاية القرن التاسع عشر الميلادى في عهد الخديوى توفيق عام 1887م بمقياس رسم 1 : 2000 ويتضح منها أن العمران كان مقصورا على الرقعة المحصورة ما بين نهر النيل شمالا والمدافن القديمة مكان الساحة الشعبية حاليا وقد ذكرها المؤرخ الكبير تقي الدين المقريزى في مخطوطاته فقال إن هذه البلد على رأس بحر أشموم والذى سمي فيما بعد البحر الصغير وبناها الملك الكامل ناصر الدين محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب في عام 616 هجرية عندما نزل الفرنجة الصليبيون مدينة دمياط وإحتلوها فنزل في موضع هذه البلدة وخيم به وبنى قصرا لسكناه وأمر من معه من الأمراء والعساكر بالبناء فبنيت هناك عدة دور ونصبت الأسواق وأدار عليها سورا مما يلي البحر يقصد فرع النيل الشرقي وستره بالآلات الحربية والستائر ولم يزل بها حتى دحر الصليبيين وإسترجع مدينة دمياط ثم صارت المنصورة مدينة كبيرة بها المساجد والحمامات والأسواق وجدير بالذكر أن الحملة الصليبية التي يشير إليها المقريزى في مخطوطاته هي الحملة الصليبية الخامسة التي قادها حاكم عكا الصليبي جان دى برين والتي إنتهت بهزيمته وطلبه الصلح وإنسحابه إلي عكا مرة أخرى بعدما تكبد خسائر فادحة وكبيرة في أفراد جيشه وعدته وعتاده .
ويعد سوق الخواجات نموذج للأسواق الشعبية التي كانت منتشرة في العاصمة القاهرة وفي جميع مدن مصر والتي توارت تدريجيا خاصة منذ أواخر القرن العشرين الماضي بعدما إنتشرت المولات التجارية خاصة في المدن الكبرى وأصبحت تشمل جميع المحال التجارية المعروض بها كل مستلزمات الحياة ويشمل سوق الخواجات شبكة من الشوارع ولا يزيد عرض شارعه الرئيسي على 6 أمتار وهو يبدأ من شارع سوق التجار الغربي المتفرع من ميدان الطميهي والذى يمتد حتي شارع العباسي وقبل إنشاء هذا الشارع وأيضا شارع بور سعيد كان سوق الخواجات يتكون من عدة شوارع متصلة لكن بعد إنشاء هذين الشارعين قسمه إلي عدة شوارع منها شارع إبن لقمان وشارع الغربي وشارع الموافي وشارع الصيادين وشارع الشابورى كما اصبح السوق يتكون من جزئين هما سوق التجار الشرقي وسوق التجار الغربي وتعج جميع هذه الشوارع بالمحال على جانبيها وتكتظ بضائعها بحيث لا يمكنك رؤية جدرانها ما بين أثاث وأقمشة وأحذية وملابس ومفروشات وعطور وغيرها والتي مازالت تحتفظ بطابعها التراثى الفريد إلى الآن مرورا بالأجهزة الكهربائية الحديثة وحتى أدوات ومستلزمات المطبخ ويعود تاريخ هذا السوق إلي تشييد مدينة المنصورة في القرن الثالث عشر الميلادى لكنه لم يأخذ شكل السوق التجارى الشعبي إلا في العصر العثماني وكان أغلب تجاره آنذاك من التجار المغاربة الذين كانوا يفدون إلي مصر وكانوا يتاجرون في الأقمشة والبن وبالإضافة إلي التجار المغاربة كان أيضا بالسوق الكثير من التجار العراقيين والشوام وكان الكثير من هؤلاء التجار من اليهود والمسيحيين وكان المصريون دائما ما يطلقون عليهم لقب الخواجات والذين كانوا يتقبلون هذا اللقب ومن هنا أطلق علي هذا السوق إسمه المعروف به حتي عصرنا الحالي وإن كان إسمه الرسمي هو سوق التجار ومما يذكر أنه كان من أهم الصناعات بسوق الخواجات وحتي الخمسينيات من القرن العشرين الماضي الصناعات النحاسية وكانت هناك منطقة داخله تسمي سوق النحاسين كان بها صناع وتجار ومبيضو النحاس كما كانت هناك لوكاندة شهيرة بالسوق كان يبيت بها التجار القادمون من خارج المنصورة من القرى والمدن المجاورة وكان يتجمع بها الكثير من هؤلاء التجار والكثير من تجار السوق وعقد الصفقات التجارية فيما بينهم .
وبحلول بداية القرن العشرين الماضي وحتي منتصف الخمسينيات كانت تقيم فى مصر عموما وفي المنصورة خصوصا عائلات من اللبنانين واليونانيين والذين كانوا يعملون بالتجارة في سوق الخواجات وكانوا يمتلكون المحلات بهذا السوق والتي ظلت تحمل أسماءهم حتى عام 1956م وهو العام الذى بدأت فيه حركة مغادرة العديد من هؤلاء التجار مصر وتركوا تجارتهم للعاملين معهم والذين كان الكثيرون منهم قد تعلموا منهم طرق وأساليب وأصول التجارة وكان من أشهر العائلات التى كانت تتاجر فى السوق هى عائلة الرئيس اللبنانى السابق أمين الجميل وكان لهم محل فى السوق إضافة إلى أسماء خواجات آخرين وكان لكل محل تخصصه وله طابعه الخاص وزبائنه الذين يأتون له من المدن والقرى من العام للعام ليجهزوا العرائس أو يتفقوا على بيع الأقطان فى محلات السوق وكان من أشهر تلك المحلات محلات خورى لتجارة القطن ومحلات إلياس كينج للأحذية ومحلات نجيب فاركوح وعاقورى للموبيليا والأثاث ومحلات يوسف حبير للمانيفاتورة ومحلات هرارى للخردوات ومحلات داود روفا ونسيم أشكينازى وولده إلياهو وزكى دهونا وديكورى للأقمشة والمنسوجات ومحلات تريخاس للبقالة ومحلات إليادس لصناعة وبيع الخل وماء الورد وجدير بالذكر أن من شوارع سوق الخواجات الشارع المسمي بسوق الصيادين وكما هو واضح من إسمه كان يسكنه الكثير من العاملين بصيد الأسماك من نهر النيل الذى كان قريبا من هذا الشارع في الأزمنة الماضية وكان من المألوف لزائر هذا الشارع أن يرى شباك الصيد منشورة أمام منازله ولكن مع مرور الوقت أصبح هذا الشارع جزءا من سوق الخواجات وأصبح يعج بالزحام والبضائع المعروضة بالمحلات المنتشرة علي جانبي الشارع الضيق ومن الناحية التاريخية كان هذا الشارع حتي القرن الثامن عشر الميلادى مقرا لسكن بعض أمراء المماليك ومنهم الأمير مصطفي أرناؤوط والأمير سليمان جلبي والأمير حسن والذين كانوا يعملون في حفظ الأمن وتقوية الترع والمصارف وجباية الضرائب ووضع تسعيرة للسلع ومراقبة الإلتزام بها من جانب التجار .
ومما يذكر أيضا أنه في بداية سوق الخواجات تم بناء جامع الموافي وهو من أشهر المساجد بمدينة المنصورة وأسسه الملك الصالح نجم الدين أيوب عام 583 هجرية علي مساحة 1000 متر تقريبا وكان مسجدا صغيرا إلى أن نزل به شيخ يسمي عبد الله الموافي فنسب إليه وأصبح معهدا دينيا تعقد فيه المحاضرات الدينية والحلقات الدراسية بمعرفة كبار العلماء بالدلتا وكان يحيط بهذا المسجد سوق للشماعين أي باعة الشمع وسوق للدجاج والحمام وسوق للسلاح كانت تباع فيه الخناجر والسكاكين كما كان ينتشر حوله باعة الأطعمة المطبوخة وقد هدم هذا المسجد الأثري للأسف بحجة بناء مسجد جديد بدلا منه على الطراز الحديث كما هدمت مئذنته بعده في عام 2000م بحجة ميلها وخشية سقوطها وكان أيضا من المساجد الأثرية أيضا بسوق الخواجات مسجد النجار والذى بني خلال العصر العثماني في عام 1708م علي يد الشيخ محمد النجار أحد كبار تجار واعيان مدينة المنصورة فى ذلك الوقت وكان محبوبا من جميع تجار السوق كما كانت له أفضال كثيرة عليهم وكانت له كلمته المسموعة وكان دائما قادرا علي حل المنازعات التي كانت تنشب أحيانا بينهم ولما توفاه الله دفن في ضريح داخل المسجد وكان يقام له مولد سنوي حتي وقت قريب وكان هذا المسجد قد ظل محتفظا ببنائه الأصلي وسقفه الخشبي القديم ومئذنته المائلة مثل برج بيزا المائل والتي كانت مبنية علي الطراز العثماني وعلي مر السنين كانت قد أجريت عدة أعمال ترميمات بالمسجد أدت إلي تغيير معالمه مما أدى إلي عدم إمكانية تسجيله كاثر لأن هناك معايير معينة للمنشآت لكي يتم تسجيلها كأثر تاريخي ومن جانب آخر كان التجار في السوق يقومون بتعليق منتجاتهم علي جدرانه الخارجية وأخيرا ففي عام 2017م تم هدمه بعد أن وصل إلي حالة سيئة للغاية وأصبح مهددا بالإنهيار والسقوط ولم يكن المسجد الثالث بسوق الخواجات أوفر حظا من المسجدين السابقين وهو مسجد الشيخ إدريس الحناوى والذى ما يزال قائما لكن للأسف فقد تم ترميمه بشكل سئ للغاية أفسدت الزخارف والنقوش التي كان يتميز بها وقضت عليها تماما وبالإضافة إلي المساجد الثلاثة السابقة يوجد مسجد آخر بالجزء من سوق الخواجات المسمي بسوق التجار الغربي أمام فندق كليوباترا القديم هو مسجد ريحان وهو من المساجد القديمة بالمنصورة وبناه تاجر سورى إسمه الشيخ ريحان كان قد قدم إلي المنصورة وعمل بالتجارة في السوق وحقق شهرة واسعة حتي أصبح شيخ لتجار السوق وقد جدده خلال العصر العثماني المهندس عثمان بك كتخدا عام 1725م وكان يوجد لوحة علي باب المسجد توضح ذلك ولايعرف أين ذهبت الآن وقد تم تجديد هذا المسجد مرة أخرى في السبعينيات من القرن العشرين الماضي ثم أعيد تجديده مرة أخرى في بداية القرن الواحد والعشرين الحالي والمنطقة الموجود بها هذا المسجد داخل سوق الخواجات تعد أحد شياخات المنصورة الكبرى وتسمي شياخة ريحان .
وإذا ما عدنا إلي شارع الصيادين بسوق الخواجات فسوف نلاحظ أن هذا الشارع قد تميز بتنوع ديني فريد حيث تواجد في هذا الشارع أثر إسلامي وأثر مسيحي وأثر يهودى أما الأثر الإسلامي فهو ضريح الشيخ شنك والذى يعد من أقدم أضرحة المنصورة ويقال إن الشيخ شنك كان يعمل صيادا للأسماك في نهر النيل وأثناء الحملة الفرنسية كان من كبار المجاهدين ضدها وتمكن من قتل وأسر عدد من جنودها ولما توفاه الله تم إقامة ضريح له تكريما له وفي الوقت الحالي نجد هذا الضريح مختفيا بين منازل ومحلات السوق وبخصوص الأثر المسيحي فهو كنيسة الطائفة الإنجيلية والتي أسستها الإرسالية الأميريكية في أواخر القرن التاسع عشر الميلادى ولا تزال آثارها باقية حتي اليوم وكان يقيم بالمنصورة الكثير من أفراد الإرسالية الأميريكية في مصر وقاموا بتأسيس هذه الكنيسة ومدرسة الأمريكان والتي نقلت فيما بعد إلي منطقة الحسينية والتي مازالت تقدم خدماتها التعليمية حتي وقتنا الحاضر كما كان لهذه الإرسالية مقابرها الخاصة التي ما زالت موجودة حتي اليوم بشارع بور سعيد أمام نادى المنصورة وتسمي بمقابر الأمريكان وكانت الحارة التي توجد بها الكنيسة المشار إليها تسمي حارة النصارى وكان يحرص الكثير من المسيحيين علي السكن بهذه المنطقة وكان من أشهرهم عائلة يوسف مطر وعائلة عبد السيد ميخائيل وأخيرا كان الأثر الديني الثالث المتواجد بشارع الصيادين هو حوش اليهود وهو زقاق ضيق متفرع من شارع الصيادين كان به منزلان كبيران تمتلكهما السيدة شرابية بنت نور الدين المغربي وكانت تؤجرهما للأعداد القليلة من اليهود الذين كانوا يسكنون بمدينة المنصورة خلال القرن الثامن عشر الميلادى وفي هذا الحوش تم بناء معبد يهودى كان يطلق عليه كنيس إبراهيم حسون وقد ظل هذا المعبد يعمل حتي منتصف الخمسينيات من القرن العشرين الماضي وكان بهذا الكنيس دكك مرصوصة علي إمتداد عدد 3 جدران وكان تابوت العهد موجودا بالجدار الرابع وكانت تغطيه ستارة قطيفة وفي الوقت الحالي تحول الحوش المشار إليه إلي جزء من السوق وفي النهاية نقول إن هذا الشارع قد إحتضن الأمير والفقير المسلم والمسيحي واليهودى المصرى والشامي والمغربي واليوناني والإيطالي والأميريكي وكان الكل يعيش في سلام وأمان وود ومحبة لا فارق بينهم بسبب الجنسية أو الديانة .
وأخيرا فمن المعالم الحديثة بمنطقة سوق الخواجات منزل الشاعر الكبير علي محمود طه والذى عاش فيه وتوفي فيه عام 1949م وكان قد ولد في عام 1902م في مدينة المنصورة وقضى معظم شبابه فيها وتعلم في الكتاب كسواه من أبناء جيله ثم إنتقل إلى المدرسة الإبتدائية ولما حصل علي شهادتها إنتقل إلى مدرسة الفنون والصناعات التطبيقية وتخرج منها عام 1924م مساعد مهندس معماري وعين في إدارة هندسة المباني بمدينة المنصورة وهو يعد من أعلام الشعر الرومانسي العربي بجانب جبران خليل جبران والبياتي والسياب وأمل دنقل وأحمد زكي أبو شادي وقد قال عنه الأديب أحمد حسن الزيات إن الشاعر على محمود طه كان شابا منضور الطلعة مسجور العاطفة مسحور المخيلة لا يبصر غير الجمال ولا ينشد غير الحب ولا يحسب الوجود إلا قصيدة من الغزل السماوي ينشدها الدهر ويرقص عليها الفلك كما كان شاعرنا علي محمود طه واحدا من أقطاب مدرسة أبوللو وهي إحدى المدارس الأدبية الهامة في الأدب العربي الحديث والتي أسسها في العقد الرابع من القرن العشرين الماضي الشاعر الكبير أحمد زكي أبو شادي وكان من أشهر قصائده قصيدة الجندول والتي كانت سببا رئيسيا في زيادة شهرته حينما غناها الفنان محمد عبد الوهاب وأصبحت كلماتها متداولة علي ألسنة العامة ومضى كثيرون ينشدون في الطرقات المقطع الذى كرره عبد الوهاب حينما غناها وهو أنا من ضيع في الأوهام عمره كما غني له أيضا الفنان محمد عبد الوهاب قصيدة كليوباترا وأيضا كان من أبناء منطقة سوق الخواجات ومايزال المنزل الذى نشأ فيه موجودا به الشهيد اللواء أحمد حمدى نائب قائد سلاح المهندسين إبان حرب أكتوبر عام 1973م والذى إستشهد يوم 14 أكتوبر عام 1973م أثناء عمله في إصلاح أحد معابر الجيش الثالث الميداني نتيجة إصابته بشظية قاتلة وهو بين جنوده وتكريما له سمي النفق الذى أنشئ فيما بعد شمال مدينة السويس أسفل قناة السويس للربط بين وادى النيل وسيناء بإسمه .
|