بقلم المهندس/ طارق بدراوي
موسوعة" كنوز أم الدنيا"
شارع إبن كثير هو أحد شوارع ضاحية مصر الجديدة التي تعد من أرقي ضواحي القاهرة وهو يمتد من شارع الحجاز أحد أهم وأطول شوارع الضاحية الراقية ويمتد لشارع إبن ماجد وشارع زيد بن ثابت وينتهي بتقاطعه مع شارع علي عبد الرازق وهناك شارع آخر يحمل نفس الإسم بمحافظة الجيزة ويمتد بين شارع النيل وشارع شارل ديجول اللذان يعدان من أهم وأطول وأشهر شوارع الجيزة وينسب هذا الشارع إلي المحدث والمفسر والفقيه عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير والذى ولد بقرية مجدل وهي قرية من أعمال بصرى من منطقة سهل حوران بدرعا حاليا في جنوب دمشق عام 701 هجرية ومات أبوه بعد عامين في عام 703 هجرية ولما بلغ سنه 4 سنوات بدأ في حفظ أحاديث الناس عن خطب والده وأقواله المأثورة وأشعاره المحفوظة وأدرك بحسه منزلة العالم المخلص وأثره في الحياة والمجتمع ومكانته في القلوب والنفوس ثم إنتقل إلى دمشق مع أخيه الأكبر كمال الدين عبد الوهاب عام 707 هجرية والذى تربي إبن كثير في كنفه وقالَ عنه كان لنا شقيقا وبنا رفيقا شفوقا وكانت دمشق آنذاك موْئل العلماء وحاضرة العلم ومركز الحضارة وينبوع العطاء ومحط الأنظار ومرابع المعرفة التي يفد إليها العلماء والطلاب من كل حدب وصوب وإستقر إبن كثير في دمشق وصار إبنا من أبنائها وعالما من علمائها وخطيبا ومدرسا فيها وأحبها من قلبه فلم يفارقها حتى مات ودفن فيها وكان وفيا لها فكتب تاريخها ووصف أفراحها وإنتصاراتها وبكى أحزانها وأتراحها وشارك في أحداثها وكان له دور فاعل في ذلك حتى صار يشار إليه بالبنان محدثا ومفسرا ومدرسا ورئيسا ومصلحا وداعيةً ومعلما ومؤرخا وكان البيت الذى تربي فيه إبن كثير سواء بيت والده أو بيت شقيقه الأكبر بيت دين وقد كان لهذا الأمر أثر ظاهر في تميز إبن كثير رحمه الله ونبوغهِ وبدأ إبن كثير يحفظ القرآن الكريم وختم حفظه في عام 711 هجرية وقرأ القراءات وجمع التفسير وحفظ متن التنبيه في فقه الشافعي عام 718 هجرية وحفظ مختصر إبن الحاجب وتفقه على الشيخين برهان الدين الفزاري وكمال الدين بن قاضي شهبة وسمع الحديث من إبن الشحنة وإبن الزراد وإسحاق الآمدي وإبن عساكر والمزي وإبن الرضى وشرع في شرح صحيح البخاري ولازم المزي وقرأ عليه تهذيب الكمال وصاهره على بنته وصاحب إبن تيمية وقد تولي العديد من المدارس العلمية في ذلك العصر منها دار الحديث الأشرفية والمدرسة الصالحية والمدرسة النجيبية والمدرسة التنكزية والمدرسة النورية الكبرى وكانت له عدة تصنيفات أشهرها تفسير القرآن العظيم والبداية والنهاية وطبقات الشافعية والباعث الحثيث شرح إختصار علوم الحديث والسيرة النبوية وله رسالة في الجهاد وشرع في كتاب كبير للأحكام ولم يكمله وله أيضا شرح صحيح البخاري وهو مفقود .
ولقد حبا الله الإمام إبن كثير رحمه الله بكثير من الصفات الحميدة والشمائل الكريمة والخلال العذبة والتي لا يتصف بها إلا العلماء الأخيار الأفذاذ وكان من هذه الصفات القدرة علي الحفظ فقد وهب الله جل جلاله إبن كثير حافظة قوية وذاكرة ممتازة وموهبة متفوقة فكان قادرا على حفظ العلوم والمتون وإكتناز المعلومات وظهر أثر ذلك في مصنفاته فقد حفظ إبن كثير القرآن الكريم وهو في الحادية عشرة من عمره كما صرح بذلك في تاريخه وحفظ التنبيه في الفقه الشافعي وعرضه وكان عمره ثماني عشرة سنة وحفظ مختصر إبن الحاجب في أصول الفقه والمتون المتنوعة في العلوم ولذلك وصفه عدد من العلماء بحفظ المتون فقال شيخه الذهبي ويحفظ جملة صالحة من المتون والرجال وأحوالهم وله حفظ ومعرفة كما قال عنه تلميذه إبن حجي كان أحفظ مَن أدركناه لمتون الأحاديث وأعرفهم بجرحها ورجالها وصحيحها وسقيمها وكان أقرانه وشيوخه يعترفون له بذلك وبخلاف قدرته علي الحفظ تميز إبن كثير بقدرته علي الإستحضار وهي منحة إلهية منحه الله إياها وميزة كبرى يمنحها الله للمصنف والفقيه ولذلك كان إبن كثير يستحضر المتون والكتب والعلوم حتى لفت نظر المحققين والمحدثين فهو ينقل من مصادر عدة ولكنه يضع المعلومات بصيغته وأسلوبه الخاص به مما يرجح أنه كان يكتب ويصنف من ذاكرته وحافظته ويتصرف بذلك حسب مقتضى الحال والمقام وقد تميز إبن كثير أيضا بالفهم الجيد وهذه أيضا من المنح الإلهية التي يهبها الله للإنسان وأيضا من التوفيق الرباني له وتتأثر هذه الصفة بالعوامل المكتسبة عن طريق الإخلاص والتقصي والدراسة والإستيعاب والإجتهاد وتحرى الدقة العلمية مما يساعد صاحبها بفضل الله تعالى وتوفيقه على الفهم الجيد والإدراك الصحيح والإستنتاج المقبول ولذلك يقول عنه تلميذه إبن حجي وكان فقيها جيد الفهم صحيح الذهن ومن جانب آخر كان إبن كثير يتمتع بخفة الروح وهذه الصفة من الصفات الحسنة للإنسان عامةً ومن عوامل التفوق والنجاح في التدريس والوعظ خاصَةً وتدل على سماحة النفس والإهتمام بالطلاب والتخفيف عنهم والترويح في التدريس وذلك مع الإلتزام بالحديث والسنة والدعوة إلى إتباع السلف وهو ما يظهر عند مراجعة مؤلفاته وكتبه ولا غرابة في ذلك فهو المحدث الفقيه الحافظ لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وكان إبن كثير رحمه الله يحارب البدع ويدعو إلى تركها ويساهم في إنكارها ويفرح لإبطالها ويسجل هذه المشاعر والعواطف والمبادئ في كتبه ومصنفاته .
وكان من أهم صفات إبن كثير بخلاف ما سبق أنه كان حسن الخلق وكان يلتزم الفضائل والقيم وكان يتحلي بسعة الصدر والحلم والصداقة المخلصة والتقدير لشيوخه فقد ترجم لعدد كبير منهم في تاريخه وأثنى عليهم خيرا وعدد مناقبهم وأثبت فضائلهم وإعترف بالأخذ عن الأساتذة وحسن الصحبة للزملاء والمعاصرين وكان دائم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبلا شك فقد كان ذلك من المبادئ الإسلامية الرشيدة التي نشأ عليها منذ طفولته في الدعوة فإلتزم بالنصح والإرشاد والتكافل والتناصح بين أفراد الأمة والمجتمع وهو واجب عيني على كل مسلم قادر ومستطيع أن يقوم به سواء كان من الحكام أوالمحكومين وكان إبن كثير يعرف واجبه في هذا الجانب الخطير ويؤدي حقه في مرضاة الله تعالى للحاكم والمحكومين لا يبتغي بذلك إلا الأجر والثواب من الله تعالى ولا يخشى في الله لومة لائم فيقول الحق ويقرر الشرع ويؤدي الأمانة ويبلِغ حكم الله تعالى في كل الأمور والظروف والأحوال حتي لو كان الأمر يتعلق بشئون الحكم والخلاف بين الأمراء الذين يحاولون أن يتحصنوا بفتوى كبار العلماء ويجعلوها ذريعة لتحقيق مآربهم ولذلك فقد كان ينصف الخصوم إذا كان الحق معهم وكان يقول دائما إن العدل مطلوب من الحكام والقضاة ومن كل ذي ولاية وسلطة مهما تنوعت وإختلفت وتفاوتت درجتها وذلك بإنصاف الناس وحتى الخصوم من النفس وحينئذ يصبح الإنسان من السابقين إلى ظل الله تعالى يوم القيامة وكان مدركا تمام الإدراك أن العدل من الفضائل وخاصةً إذا كان الأمر مع الخَصم فهو أعلى درجات العدل بأن ينصف الإنسان خصمه من نفسه وهذه المرتبة العليا لا يبلغها إلا القلة وتدل على أن صاحبها بلغ رتبة عالية من تطبيق أحكام الشرع وآدابه ومراقبة الله تعالى في ذلك حتى يجاهد نفسه فيخضعها للحق ويقف بها عند جادة الصواب ولا يستسلم لهواه وأهوائه وهذا ما حدث مع إبن كثير رحمه الله في ترجمته لكثير من خصومه في الرأي والفكر والمواقف فيصفهم بالحق والعدل ولا يتجنى عليهم ولا ينقصهم صفة لهم ومن الشواهد الكثيرة على ذلك نجد في البداية والنهاية أنه كان بين إبن كثير وبين قاضي القضاة تقي الدين السبكي خصومة فكرية وتشاء الظروف أن توجه إتهامات إلى قاضي القضاة بالتفريط في أموال الأيتام وطلب من المفتين أن يضعوا خطوطهم بتثبيت الدعوى ضده لتغريمه ومحاكمته ويصل الأمر إلى صاحبنا العلامة إبن كثير ذي الخلق الكريم والموقف العادل فيأبى الكتابة وينصف قاضي القضاة ويوقف الإفتراء والإتهام إلى أن يتبين الحق ويسجل ذلك في تاريخه في أحداث عام 743 هجرية .
وقد عاصر الإمام إبن كثير الإمام إبن تيمية والذى كان ضمن من ظهر في القرنين السابع والثامن الهجريين من العلماء الأفذاذ الذين مثلوا الإتجاه الإصلاحي ووقفوا في وجه البدع والخرافات الموجودة والمنتشرة في ذلك الوقت ورفعوا الراية في وجه المبتدعة وغلاة الصوفية حيث كان قد بدأ يعلق بالإسلام الصحيح وسننه بعض الغبار مع الأيام وتضاف إليه بعض الأمور التي لا تتفق مع جوهر الدين وتلحق به البدع والخرافات شيئا فشيئا والتي قد تستشري في بعض الأحيان لتشوه صورة الإسلام النقية وهنا يأتي دور العلماء والدعاة والمصلحين الذين ينادون بالدعوة إلى تطبيق الإسلام والعودة إلى مبادئه الصافية وتطهيره من البدع والخرافات وكان من هؤلاء العلماء كما ذكرنا إبن تيمية وكان من نتيجة موقفه هذا أن إنقسم العلماء والفقهاء والحكام والناس في شأنه إلى فريقين فتحامل عليه علماء الصوفية وكثير من الفقهاء والقضاة حتى وشوا به عند الحكام فوقف بعضهم بجانبه والبعض الآخر وقف ضده وكان من الذين وقفوا مع إبن تيمية وناصروه الإمام إبن كثير رحمه الله ومن جانب آخر فقد شهد الإمام إبن كثير العديدَ من أحداثِ القرنِ الثامن الهجري الموافق للقرن الرابع عشر الميلادى وكان الحكم في تلك الفترة لدولةِ المماليك وكان من الأحداثِ التي حدثت في القرن الثامن الهجرى هجوم التتار على الدولةِ الإسلامية وإنتشار المجاعاتِ وتواليها على الدولة الإسلامية وإنتشار العديد من الأوبئة والأمراض وقد حصدت هذه الأحداث ملايين الناس كما حدثت في القرن نفسه عدة حروب أبرزها حرب المسلمين مع الصليبيين كما إنتشرت المؤامرات والفتن على الدولة بينَ الأمراء والوزراءِ ومع كل ما إكتنفه هذا العصر من الحروبِ والفتنِ والأمراضِ والأسقامِ إلا أنه رغم ذلك كان عصر النشاط العلمي المتمثِل في إنتشار المدارس وإزدهار التأليف .
وكان الإمام إبن كثير سلفي الإعتقاد في غالب بل في كل مؤلفاته وكان يصرح بذلك ولعل المتتبع البسيط لتفسيره للقرآن العظيم والمعروف بتفسير إبن كثير يرى بوضوح وبدون أدنى لبس أنه على عقيدة معلمه وشيخه إبن تيمية وكذلك ما كتبه في أول كتابه الجليل البداية والنهاية عن علو الله على عرشه وإثبات صفة العلو والفوقية لله العلي القدير أما ما أثير حول كونه أشعريا لقبوله منصب مشيخة دار الحديث الأشرفية التي كان شرط وقفها أن يكون المدرس فيها أشعريا فقد كان هذا الشرط شرط غير ملزم وقد ولي مشيخة دار الحديث الأشرفية علماء سلفيون آخرون من قبله مثل الحافظ جمال الدين المزي والحافظ أبو عمرو بن الصلاح أما ما رواه الحافظ إبن حجر فهي كما قال نادرة وقعت بينهما ولم تكن في مقام البيان والإقرار ولا مانع من كون هذه الكلمة على فرض صحتها أنها خرجت منه على سبيل الفكاهة فهذا الحافظ إبن حجر يقول عنه في الدرر الكامنة وأخذ عن إبن تيمية ففتن بحبه وإمتحن بسببه وكان كثير الإستحضار حسن المفاكهة سارت تصانيفه في البلاد في حياته وإنتفع بها الناس بعد وفاته فنجد الحافظ إبن حجر يقول إنه حسن المفاكهة والمقصود بقوله لأنني أشعري هو ما وضحه إبراهيم بن إبن القيم حين قال له لو كان من رأسك إلى قدمك شعر أي كثرة الشعر وهذا من باب المعاريض وهو جائز في المفاكهة والتندر بلا ريب فرسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سأله الرجل في غزوة بدر من أين أنت قال أنا من ماء وهذا ما يسمى تعريض ومما يقوي رأي السلفية هو ما قاله إبن كثير بنفسه عن رجوع الأشعري عن ما قاله في العقيدة فلو كان إبن كثير أشعريا فهو إذن على العقيدة التي يعتقد أن الأشعري قد إستقر عليها آخر عمره ويقوي ذلك شدة تأثره بإبن تيمية وتبجيله له وإنتصاره له حتى توفي ودفن بجواره وقد خالف إبن كثير أصول الأشاعرة وردهم في كثير من المواضع وكان مساندا لشيخه الإمام إبن تيمية وبالذات في مسائل الإعتقاد فالذهاب إلى أنه أشعري لحادثة قبوله الوظيفة فهو يعلم أنه لا يلزم صاحب الوقف هذا الشرط في الوقف بل إن إبن كثير نشر عقيدة السلف وخالف الأشاعرة في دروسه وعامة تلامذته من السلفية وأن مرد الكلام كله أن صاحب الكلام أعني السبكي كان عدوا لدودا لشيخ الإسلام إبن تيمية وهو أحد أهم الأسباب في سجن إبن تيمية وكان ذو نفوذ وقوة عند حاكم البلاد فسطر في كتابه ما أراد كونه أشعريا وكان الكل من طلاب شيخ الإسلام كإبن كثير وإبن القيم وغيرهما يدركون أن مواجهة السبكي تعني سجن القلعة وحدث هذا بالفعل للإمام إبن القيم فقد سجن هو الآخر ولكن إبن كثير إتقى وإبتعد عن مواجهة السبكي فلا يصح الإستدلال بأدلة الغريم والقرائن وهذا معلوم عند أهل الأصول والعلم وأخيرا فقد توفي الإمام إبن كثير يوم الخميس 26 شعبان عام 774 هجرية في دمشق عن ثلاث وسبعين سنة وكان قد فقد بصره في آخر حياته وهو يؤلف جامع المسانيد فأكمله إلا بعض مسند أبي هريرة وفيه قال لازلت فيه في الليل والسراج ينونص حتى ذهب بصري معه وقد ذكر إبن ناصر الدين أنه كانت له جنازة حافلة مشهودة ودفن بوصية منه إلي جوار شيخه شيخ الإسلام إبن تيمية بمقبرة الصوفية بدمشق .
|