بقلم المهندس/ طارق بدراوي
موسوعة" كنوز أم الدنيا"
شارع أديب إسحق هو أحد شوارع منطقة محطة الرمل بمدينة الإسكندرية العاصمة الثانية لمصر والذى يمتد من طريق الجيش المعروف بإسم الكورنيش ويتقاطع مع شارع عمر لطفي أحد أهم وأطول شوارع مدينة الإسكندرية وموازيا مع شارع محمد طلعت نعمان وشارع النبي دانيال ويمتد حتي ينتهي بتقاطعه مع شارع سعد زغلول وينسب هذا الشارع إلي أديب إسحق الذى ولد في العاصمة السورية دمشق في يوم ٢١ يناير عام ١٨٥٦م لأسرةٍ كاثوليكية أرمينية الأصل وأَلحقه والده بمدرسة الآباء العازريين حيث درس اللغتين الفرنسية والعربية وأجادهما وقد تجلت موهبته الأدبية منذ نعومة أظافره فنظم الشعر قبل أن يتجاوز العاشرة وهو لم يتعلم العروض وحدث أن أصيبت أسرته بنكبة إضطر هو معها إلى إعالتها فترك المدرسة في الحادية عشرة من عمره وبعد أن ترك الدراسة إنتقل إلي بيروت وعمل كاتبا في ديوان المكس أي الجمرك بمائتي قرش في الشهر ودرس في أثناء ذلك مبادئ اللغة التركية فحصل على الكفاية منها في بضعة أشهر وأصبح قادرا على التعبير بها عما يجول بخاطره تكلما وكتابة ثم تمكن منها لدرجة أن أستاذه قال لأبيه إن ولدك هذا سيكون قوالا أي شاعرا لأن السجع كان يرد في كلامه عفوا وقام بترجمة قصيدة الشاعر التركي الشهير والذى يعد من رواد القومية التركية والذى عرف بلقب شاعر الحرية وشاعر الوطن محمد نامق كمال باشا في مقتل السلطان العثماني عبد العزيز خان ملتزما فيها القافية والبحر واللفظ التركي وكان لإجادته اللغة التركية ومهارته في الكتابة بها دور كبير في سرعة ترقيه ثم ترك ديوان الجمرك وتفرغ للكتابة والصحافة فتولى تحرير جريدة التقدم في صيف عام 1874م ولم يمض عليه زمن وهو يكتب المقالات الرنانة حتى تحدث الناس بطلاوة عبارته ورشاقتها وهو لم يتجاوز من العمر 18 عاما وفي تلك الأثناء ألف كتابا سماه نزهة الأحداق في مصارع العشاق طبعه وقدمه إلى أحد وجهاء بيروت كما ترجم لصاحب التقدم الصحفي والأديب والشاعر يوسف الشلفون أيضا كتابا في الأخلاق والعادات وكتابا صحيا طبعهما حينها ولكن لم يكتب عليهما إسمه .
وبعد ذلك إنضم أديب إسحق إلي جمعية زهرة الآداب وأصبح عضوا مهما فيها ثم تولى رئاستها وكان يلقي فيها الخطب البليغةَ والمباحثات وينظم القصائد وإنضم أيضا إلى جمعية شمس البر وزهرة الإحسان وعرف من خلال هذه الجمعيات جماعة من الأدباء والشعراء من شبان مدينة بيروت الزاهرة وكان له معهم مطارحات ومراسلات في الأدب والشعر تدل على توقد ذهنه وبديهته الشعرية وكان ميالا إلى التكلم باللغة الفصحى ولم يكن ذلك ليشغله عن الأدب والشعر ولما بلغ سن 19 عاما شارك في تأليف كتاب آثار الأدهار وكان يغتنم ساعات الفراغ فينظم القصائد والموشحات ويطالع كتب الإنشاء في العربية والفرنسية والتركية ويراسل المجلات الأدبية والتي كانت تنشر له العديد من المقالات والقصائد الشعرية وإجتمع من نظمه نحو ألف بيت أكثرها في الغزل والنسيب وبعضها في المدح والعتاب والرثاء وغيره وللأسف فقد تشتت معظمها وفي أوائل عام 1876م سافر إلى مصر وإستقر في البداية في مدينة الإسكندرية وشاركه صديقه سليم النقاش في تأليف بعض الروايات وتعريب البعض الآخر ونقح رواية أندروماك لجان راسين وعرب رواية شارلمان كما ألف رواية سماها غرائب الإتفاق ولكنها فقدت وقد مثلت هذه الروايات في الإسكندرية مرارا وكان لها وقع عظيم فنزعت به نفسه إلى ما هو أسمى من ذلك فإنتقل إلي القاهرة أواخر عام 1876م التي كان بها في ذلك الوقت السيد جمال الدين الأفغاني وذات ليلة من ليالي عام 1877م دخل أديب إسحق على الأفغاني في حلقته بمقهي متاتيا بالعتبة بصحبة الكاتب والأديب اللبناني المقيم في مصر حينذاك شبلي شميل والذى عرف الأفغاني علي أديب إسحق وكان قد سمع عنه وعن شعره وأفكاره من تلاميذه قبل شهور وأخبره أديب إسحق إنه حضر إلى القاهرة بعد إقامة قصيرة في الإسكندرية التي إنتقل إليها قادما من بيروت ليشارك صديقه سليم النقاش في تأليف وتقديم عروض مسرحية وقد أعجب الأفغاني بالثنائي إسحق والنقاش لما توسمه فيهما من ذكاء متقد وثقافة واسعة حتى صارا عضوين دائمين بحلقته وقد تأثر الثنائي بأفكار وتعاليم الأفغاني وتعرفا على أعضاء حلقته من رجال الفكر والأدب والقلم والسياسة وعلى رأسهم الإمام الشيخ المجدد محمد عبده وعبد الله النديم وإبراهيم المويلحي ومحمود سامي البارودي باشا وغيرهم .
وأخذ الثنائي إسحق والنقاش عن الأفغاني دروسا في الفلسفة الأدبية والعقلية والمنطق كما ساعد الأفغاني أديب إسحق على إصدار صحيفة مصر الأسبوعية في أوائل شهر يوليو عام 1877م في القاهرة التي كانت تعيش آنذاك صراعا شديدا بين جهات متعددة حيث كان هناك الصراع بين الإستعمارين البريطاني والفرنسي على مصر وكان هناك أيضا صراع السلطنة العثمانية مع الإستعمارين المذكورين ومع الخديوي إسماعيل ممثل أسرة محمد على باشا في مصر التي كانت تعد مستقلة منذ بداية القرن التاسع عشر الميلادى عن الحكم العثماني وإن ظلت تتبع الدولة العثمانية إسميا ثم ما لبث أن نشأ صراع من أجل الإستقلال عن النفوذ البريطاني والنفوذ الفرنسي ونفوذ السلطنة العثمانية ووسط هذا الصراع تبلورت حركة شعبية وشهدت القاهرة تحركات سياسية كان محورها الأفغاني وتلاميذه ولما أراد الشيخ نقل هذه الحركة إلى الإسكندرية طلب من تلميذه الجديد أديب إسحق نقل صحيفة مصر إلى الثغر لخلق حركة سياسية في المدينة الثانية بالقطر المصري وراجت بالفعل صحيفة مصر سواء في القاهرة أو في الإسكندرية التي وضع الأفغاني خطتها ورسم خطها وشارك فيها بما يوحيه وما يمليه وما كان يكتبه بإسمه أو بإسم مستعار حيث كان يوقع بإسم مظهر بن وضاح كما إستكتب تلامذته أمثال محمد عبده وعبد الله النديم وكان أديب يعززها ببلاغته وقدراته الكتابية وبثقافته ومعرفته وأمانيه السياسية وفي الإسكندرية أيضا أصدر أديب إسحق أيضا بالتعاون مع صديقه سليم النقاش صحيفة التجارة اليومية عام 1878م والتي نشر فيها جمال الدين الأفغاني أيضا بعضا من مقالاته لكن الحكومة المصرية أنذرت الجريدتين أولا بحجة مخالفة قانون المطبوعات وكتب إسحق معلقا علي هذا الإنذار قائلا المسلك الذي إختارته التجارة لإدراك غايتها النبيلة إنما هو الدفاع عن الوطن وحكاية الأمور الواقعة والقيام بأمر الحق والتشبث بأهداب الإعتدال ولا ريب أن هذا المسلك يضمن لها رضا أولي الأمر وسائر ذوي الألباب فضلا عن أن يوجب العقاب لها وردت حكومة مصطفي رياض باشا القائمة حينذاك علي هذا التعليق إصدار قرار بغلق الجريدتين في شهر نوفمبر عام 1879م بحجة التهجم علي الأجانب العاملين والمقيمين في مصر وتم إعتقال أديب إسحق وكتب في ذلك قصيدة وأرسلها إلى محمد سلطان باشا رئيس مجلس النواب المصري آنذاك يقول فيها أيبعد ذو فضل ويدني منافق ويسجن واف حين يطلق غادر ويكرم جاسوس عن الصدق حائر ويظلم همام على الحق سائر .
ولم يمكث أديب إسحق في المعتقل طويلا حيث تم الإفراج عنه وإضطر لمغادرة مصر في عام 1880م إلى العاصمة الفرنسية باريس بعد مهاجمته رئيس نظار مصر حينذاك مصطفي رياض باشا ليصدر من هناك جريدة القاهرة ووضع عليها عبارة نصها ما تغيرت الحقيقة بتغير الرسم ولا تغيرت الصحيفة بتغير الإسم بل هي مصر خادمة مصر ثم ما لبث أن عدل إسمها إلى مصر كما ألف هناك كتاب تراجم مصر في هذا العصر والذى للأسف سرق في جملة ما سرق من منزله بعد وفاته وفضلا عن ذلك فقد نشأت علاقات بين أديب إسحق وبين بعض رجال الدولة الفرنسيين وإحتك بالعديد من الأدباء الفرنسييين خلال إقامته في باريس ومنهم الأديب الفرنسي الكبير فيكتور هوجو وكان لقبه في فرنسا نابغة الشرق كما أنه كتبَ في الصحف الفرنسية عن الشرق وحضر بعض من جلسات مجلس الأمة وحدث أن أُصيب بالسل لما دخل الشتاء وإشتد البرد فعاد إلى بيروت ثم إلي مصر بعد عزل رياض باشا حيث إستدعاه محمد شريف باشا بعد أن تولى رئاسة النظارة وعينه ناظرا لقلم الإنشاء والترجمة بنظارة المعارف العمومية وأذنت له الحكومة مرة أخرى في إصدار جريدة مصر فأصدرها في شكل كراسة ثم أعادها إلى مظهرها الأول وعين أديب إسحق في الوقت نفسه سكرتيرا لمجلس النواب وذلك بسبب مواقفه المؤيدة للعرابيين ونال في خلال ذلك الدرجة الثالثة ثم أحال إمتياز الجريدة إلى عوني إسحق شقيقه ليتفرغ لمهام منصبه وظل مع ذلك يحرر القسم الأكبر منها ومع وقوعِ أحداث الثورة العرابية عام 1881م لم يكمل أديب إسحق طريقه حتى النهاية مع الثورة العرابية فقد كان من أتباع شريف باشا ومن المتحيزين له وكان سقوط نظارة محمد شريف باشا على أثر الخلاف الذى وقع بينه وبين العرابيين وتولي محمود سامي البارودى باشا رئاسة النظارة له رد الفعل على مؤيدي شريف باشا كما أن لرفع الثورة لشعار مصر للمصريين أثرا في إزدياد مخاوف الوافدين على مصر من الجنسيات المختلفة والذين إكتسب بعضهم إمتيازات عديدة على حساب الشعب المصري أثرا في عزوف البعض عن إستمرار التأييد للثورة ومن ثم إنسحب أديب إسحق من الميدان الثورى ليعمل ضد الثورة وهاجم في مقالاته في صحيفة الإعتدال الثوار ليرد الهجوم الذي شنته الثورة على غير المصريين وفضل أن يعود إلي بيروت مرة أخرى وهناك تولي تحرير التقدم للمرة الثالثة وطبع في خلال ذلك رواية الباريسية الحسناء وكان قد عربها في أيام الصبا وفي عام 1882م بعد أن إحتل الإنجليز مصر حزن حزنا شديدا وتملكه الأسي وأرسل رسالة إلى صديقه جبرائيل مخلع والذى كان من كبار المترجمين وكان مقيما بالإسكندرية كان نصها نحن في زمان لا يشبه الأزمنة وحال لا تماثل الأحوال فيومنا مشتبه الخبر وغدنا مجهول الأثر ورئيسنا ليس بأعلم من المرؤوس بما تؤدي إليه الحوادث ولذلك تلجلجت الألسنة وترجرجت الأقلام وتهدجت الأصوات فصار الإعتزال كرامة والخمول سلامة .
وفي ذلك الوقت إشتد مرض الصدر علي أديب إسحق فأشار عليه الأطباء بالعودة إلى مصر للإستشفاء بهوائها فقدم إلى القاهرة وعينته الحكومة القائمة آنذاك ناظرا لقلم الترجمة بنظارة المعارف العمومية وأعادت إليه رخصة جريدة مصر ثم عين كاتب أسرار مجلس النواب وأقام بالقاهرة بعض الوقت وإشتد عليه المرض فغادرها إلي الإسكندرية وقضى بضعة أيام هناك ولم تتحسن صحته أيضا بل تدهورت بصورة ملحوظة وأشار عليه الأطباء بالعودة إلى بيروت من جديد ليقضي أيامه الأخيرة هناك وسط أهله وبالفعل لم تمضِ على عودته إلى بيروت ثلاثين يوما حتى توفاه الله في قرية الحدث في يوم 12 يونيو عام ١٨٨٥م وله من العمر تسعة وعشرون عاما ومما يذكر أنه عقب الوفاة إستدعى والده الكاهن من الكنيسة لينهي إجراءات مواراة جثمان إبنه الثرى فرفض الكاهن الصلاة عليه أو دفنه مع الأقباط الكاثوليك إلا بعد أن يوقع والده على إقرار بأن إبنه عاش كاثوليكيا ومات كاثوليكيا وذلك نتيجة غضب الكنيسة الكاثوليكية وقادتها من الكهنة والقساوسة من أفكاره العلمانية التحررية ودخوله في معارك مع رجال الكهنوت وفي النهاية وافق الوالد ودفن الأديب الشاب بعد حياة قصيرة لمناضل عاش من أجل الحرية ومدافع عن الدستور وحقوق الشعوب في التحرر والعلم وبعد مماته شن مجهولون قيل إنهم مدفوعون من الأكليروس أي النظام الكهنوتي الخاص بالكنائس المسيحية هجوما مباغتا على منزل والد أديب إسحق وحرقوا أوراقه التي دون فيها أفكاره وتعاليمه التي إعتبرتها الكنيسة الكاثوليكية طعنا في الملة والعقيدة ونظام الكهنوت ولم تكن كذلك لكنها كانت تدعو إلى تحرير الفرد العربي من سطوة الإستبداد السياسي والديني معا .
ورثا الأفغاني تلميذه أديب إسحق في جريدته العروة الوثقى قائلا غالب نائبة الدهر طراز العرب وكان زهرة الأدب في الشام وريحانة العرب في مصر صفينا أديب إسحق وكتب إسكندر العازار عاش ومات حر الضمير فكرا وقولا وفعلا فليبكه ضمير الأحرار ولتندبه الحرية كما ذكره الزعيم سعد زغلول باشا بأنه كان في مقدمة الذين تأثر بهم خطابيا وإعتبره مارون عبود أحد رواد النهضة العربية الحديثة وأنه كاتب نضال وترك أثره في الأجيال المتعاقبة وبدت ملامح أسلوبه في جميع من كتبوا المقالة بعده كما يبدو في أسلوب جبران أول عهده ونجيب حداد وكذلك إبراهيم اليازجي هذا ويعتبر أديب إسحق من أعمق كتاب ومفكري العرب صلة بالثورة الفرنسية ومبادئ مفكريها فكان يدعو إلى تبني أفكار مفكري الثورة الفرنسية وآرائهم حيث نجد في كِتاباته إقتباسات وإستشهادات من جان جاك روسو ومونتسكيو ولابروير وغيرهم فضلا عن إعادة إنتاج تصوراتهم التنويرية في الإصلاح والحرية والعدل والعقد الإجتماعي وإعلاء الرابطة القومية والوطنية وتجاوز العصبيات الطائفية والمذهبية وفي هذا الإطار أهابَ إسحق بالعرب إلى الإتحاد قبل فوات الأوان مقترحا لهذه الغاية إجتماعا عربيا منزها عن المقاصد الدينية منحصرا في العصبية الوطنية مؤلفا من أكثر النحل العربية ويلاحظ أن أديب إسحق إنتهج خطا تنويريا إصلاحيا يغلب الإعتدال على التطرف كما دعا إلى إتحاد العرب قبل فوات الأوان وإذا فعلوا فإنهم يحققون ما يريدون وهذه الدعوة تكاملت مع ما هو مشرقي وعثماني وقومي وبإختصار كان أديب إسحق سليل المدرسة الإصلاحية العربية وإرتبط الإصلاح عنده بالحرية حرية الرأي والقول والإنتخاب وكانت الحرية عنده ملازمة للمساواة الحقوقية والسياسية والمساواة بين الرجل والمرأة كما أنه حاول التوفيق في كتاباته المختلفة بين مفهوم الشورى عند العرب وليبرالية الغرب لكنه في كل الأحوال كان رافضا للتدخل الأجنبي وإلتزم في الدعوة إلى إتحاد عربي وإلتزم بنهضة الأمة العربية وحريتها وإستقلالها ووحدتها وتقدمها ولقد قضى أديب إسحق سنوات عمره القصار مجاهدا ومناضلا من أجل وحدة العرب وعزة الأمة العربية في زمن كانت فيه لا تزال ترسف في ظلام وغياهب القرون الوسطى وقد كان لإسحق أديب أثر بين في أسلوب إنشائنا الأدبي برز عند جميع مَن كتبوا المقالة من بعده .
|