بقلم المهندس/ طارق بدراوي
موسوعة" كنوز أم الدنيا"
شارع سنان باشا هو أحد شوارع منطقة المنشية بمدينة الإسكندرية العاصمة الثانية لمصر والذى يمتد من شارع الجيش المعروف بإسم الكورنيش ويتجه جنوبا ليتقاطع مع شارع عمر لطفي ثم يكمل مساره حتي ينتهي بتقاطعه مع شارع الشهيد مصطفي حافظ وهما من أشهر شوارع منطقة المنشية والإسكندرية عموما وفضلا عن ذلك يوجد شارع يحمل نفس الإسم بمنطقة الزيتون بالقاهرة وهو يبدأ من نقطة تقاطعه مع شارع جسر السويس ويمتد متقاطعا مع شارع طومان باى وشارع الشهيد أحمد المنسي حاليا وكان يسمي شارع سليم الأول سابقا حتي ينتهي بكوبرى سنان باشا العابر أعلي خط سكة حديد مترو الأنفاق فوق محطة مترو الزيتون وينسب هذان الشارعان إلي سنان بن علي بن عبد الرحمن والذى ولد في عام 912 هجرية الموافق عام 1506م بمنطقة ديبر أحد أقاليم البانيا إحدى دول منطقة البلقان جنوبي شرق القارة الأوروبية التي كانت ضمن أملاك الدولة العثمانية في عهد السلطان العثماني سليم الأول وهو يشتهر أيضا بإسم خوجة سنان أي سنان الكبير كما يطلق عليه المستشرق النمساوي جوزيف فون هامر لقب الألباني الجامح وقد نشأ سنان باشا نشأة علمية كما تعلم فنون القتال على أحسن ما يكون وكان لذلك أثره الكبير في حياته العملية فقد إشتهر بالذكاء والدهاء والقدرة السياسية والعسكرية وكانت الدولة في عصره قد أصبحت في حاجة ماسة إلي قادة أقوياء وأبطال شجعان علي إستعداد أن يقوموا بأدوار هامة ومحورية وأن يتحملوا المسئوليات الجسام عند تعرض الدولة لأى نازلة ويهبون فيسدون الثغور ويقمعون الأعداء ويقضون على الثورات ويحفظون الدين والأمة قبل الدولة والسلطان خاصة بعد أن كان الضعف قد بدأ يدب تدريجيا في أوصال السلاطين العثمانيين وتخف قبضتهم على أقاليم الدولة المترامية الأطراف في عدد 3 قارات آسيا وأفريقيا وأوروبا بعد فترة حكم السلطان سليمان القانوني الذى توفي عام 1566م مما كان يشجع دائما أصحاب الأطماع والأهواء الذين لا يعملون إلا في مثل هذه الأجواء ومن ثم قامت الثورات والحركات الإنفصالية الواحدة تلو الأخرى في المشرق وفي المغرب وفي البلقان وفي الجزيرة فالأرض لا تخلو من طامع وصاحب هوى لا يعمل إلا لمصلحته ودنياه وحقا فقد كان سنان باشا من هؤلاء الرجال .
وقد أهلت المهارات والملكات والمواهب التي كان يتمتع بها سنان باشا إلى أن يصبح أحد رجال البلاط العثماني ومن الوزراء المقربين للسلاطين العثمانيين خاصة السلطان سليم الثاني الذى تولي الحكم بين عام 1566م وعام 1574م خلفا لأبيه السلطان العظيم سليمان القانوني الذى يعد من أعظم وأشهر سلاطين الدولة العثمانية وذلك نظرا إلى ما تمتع به سنان باشا من مهارات قيادية وعسكرية وما أظهره من إخلاص وتفان للدولة العثمانية مما جعله موضع ثقة من السلاطين العثمانيين وقد تقلد سنان باشا ولاية مصر مرتين الأولى ما بين عام 1568م وعام 1569م والثانية ما بين عام 1571م وعام 1573م كما تقلد ولاية دمشق عام 1586م وبالإضافة إلي ذلك فقد تقلد منصب الصدر الأعظم أي رئيس الوزراء خمس مرات كانت الثلاث مرات الأولي منها في عهد السلطان مراد الثالث الذى تولي الحكم من عام 1574م وحتي عام 1595م وكانت المرة الأولي خلال الفترة من يوم 7 أغسطس عام 1580م حتي يوم 6 ديسمبر عام 1582م وخلفه شاوش باشا ثم عين مرة أخرى صدر أعظم بداية من يوم 14 أبريل عام 1589م وحتي يوم 1 أغسطس عام 1591م وخلفه فرحات باشا ثم في يوم 28 يناير عام 1593م أصبح صدرا أعظم للمرة الثالثة حتى عزل في يوم 16 فبراير عام 1595م وخلفه فرحات باشا أيضا وبعد فترة وجيزة من إرتقاء السلطان محمد الثالث العرش في عام 1595م عاد سنان باشا صدر أعظم مرة رابعة من يوم 7 يوليو حتى يوم 19 نوفمبر عام 1595م وعندما توفي الصدر الأعظم لاله محمد باشا الذي خلفه بعد أيام قليلة من توليه المنصب أدى ذلك إلى أن يصبح سنان باشا صدرا أعظم للمرة الخامسة والأخيرة في يوم 1 ديسمبر عام 1595م حتى توفي فجأة في يوم 3 أبريل عام 1596م وخلفه داماد إبراهيم باشا .
وكان من المهام الكبيرة التي أنجزها سنان باشا إعادة فتح بلاد اليمن حيث أنه بعد وفاة السلطان سليمان القانوني عام 1566م وتولي إبنه السلطان سليم الثاني الحكم إضطربت الأحوال في اليمن مع ظهور الزعيم الزيدي المطهر الذي كاتب أهل اليمن ودعاهم للخروج عن طاعة السلطان العثماني فإجتمعت القبائل لدى المطهر الذي دخل صنعاء بعد أن حاصر الحامية العثمانية في مدينة تعز وهزم العثمانيين هزيمة ساحقة فشعرت الحكومة العثمانية بخطورة الموقف وقررت إرسال حملة كبرى إلى اليمن بقيادة سنان باشا وكان وقتها يعمل واليا علي مصر وقد إهتم السلطان العثماني سليم الثاني إهتماما كبيرا بإرسال تلك الحملة حيث كانت بلاد اليمن تشكل بعدا إستراتيجيا هاما فهي مفتاح البحر الأحمر والمدخل الجنوبي للجزيرة العربية كما أنها تعد درعا قويا لبلاد الحجاز وقاعدة للتقدم في المحيط الهندي وفضلا عن ذلك فقد كانت هدفا مباشرا للأطماع الصليبية البرتغالية مما جعل العثمانيين شديدى الإهتمام بهذا الثغر الهام لضمان سلامة الأماكن المقدسة وكان العثمانيون قد فتحوا بلاد اليمن بعد فتحهم لمصر في عهد السلطان سليم الأول لكن السيطرة العثمانية على اليمن ظلت ضعيفة بسبب الصراعات الداخلية بين القبائل وبسبب نفوذ الأئمة الزيدية الذين كانوا يحكمون اليمن قبل العثمانيين وفكر السلطان سليم الثاني في الرجل الذي سيوليه مهمة السيطرة علي الأمور في اليمن والقضاء على ثورتها فأشير عليه بمصطفى باشا فأعد حملة قوية وأرسلها إلى مصر لتنطلق منها إلى الحجاز ثم اليمن وفي مصر حاول مصطفى باشا التخلص من سنان باشا ليحل محله في ولاية مصر لكن الله عز وجل كتب النجاة لسنان باشا ووصلت الأخبار للسلطان سليم الثاني فأمر بعزل مصطفى باشا وعين سنان باشا مكانه في قيادة الحملة علي اليمن .
وقام سنان باشا بإستنفار الناس لجهاد الخارجين والثائرين في اليمن ونظرا لحب الناس له فقد جاءه المصريون والشاميون من كل مكان حتى أنه لم يبق في مصر إلا المشايخ والضعفاء وإنطلقت الحملة من مصر إلى الحجاز في عام 1569م ووصلت إلى ميناء ينبع وإستقبله هناك قاضي القضاة وإنتقل منها إلي مكة المكرمة وهناك إستقبله أهلها إستقبالا جيدا ودخلت الجيوش العثمانية معه وكان جند مصر قد إنتقلوا إلي مكة أيضا بالإضافة إلى جنود الشام وحلب ومرعش وهي مدينة تقع في جنوب الأناضول ونظم سنان باشا الجنود وجمع الفقهاء والعلماء وأجرى عليهم النفقات وطلب منهم أن يشرحوا للجند إنحراف المذهب الزيدي والأئمة الزيديين باليمن وبذلك وفر سنان باشا الغطاء الشرعي لحملته وأصبغها بصبغة دينية لتحفيز الجند وتبصيرهم بالحق وأجرى الصدقات وأحسن على العلماء والفقهاء ومكث عدة أيام في مكة المكرمة ثم غادرها وإتجه جنوبا إلى جازان وعندما إقترب منها هرب حاكمها من قبل الإمام الزيدي المطهر وأقام سنان باشا في جازان وأقبل عليه العربان يطلبون الطاعة وكان منهم أهل صبيا وهي أحد أقاليم جازان فأكرمهم سنان باشا وخلع عليهم وكساهم كما أقبلت عليه وفود عربان اليمن وبذلوا الطاعة طالبين الأمان وأسرع سنان باشا بحملته البرية والبحرية إلى مدينة تعز حيث الحامية العثمانية المحاصرة هناك وبلغه أن الوالي العثماني في تعز ومن معه من الجنود في ضيق من أمرهم بسبب قطع عرب الجبال عليهم الميرة مما سبب مجاعة لهم فقطع الوزير سنان باشا المسافة في غاية السرعة ونزل خارج تعز وإنتشر جنوده في جبالها ولما شاهد الزيديون كثافة ذلك الجيش إعتصموا بأحد الجبال المسمى الأغبر فتابع جنود المطهر الزيدي عند هذا الجبل وخرج الزيديون من مخابئهم لمواجهة العثمانيين فأوقع بهم سنان باشا هزيمة كبيرة وولوا هاربين وإستطاع أن يفك الحصار عن الحامية العثمانية التي كانت محاصرة في تعز ثم تقدم إلى ميناء عدن درة اليمن وأهم مدنه وموانيه وكان المطهر الزيدي قد سمح للبرتغاليين بالسيطرة على هذا الميناء وأمدهم بالسلاح والمدافع اللازمة للدفاع عنه ضد هجوم العثمانيين وجهز سنان باشا حملتين للإستيلاء على عدن الأولى عن طريق البحر بقيادة خير الدين القبطان المعروف بقورت أوغلي وهو شقيق سنان باشا والثانية عن طريق البر بقيادة الأمير حامي وبرفقته عدد من الفرسان حتى تمت السيطرة عليها .
وبعد أن أنهي سنان باشا مهمته في جنوب اليمن إتجه نحو ذمار التي تقع جنوب صنعاء بحوالي 130 كم وسط الهضبة الجبلية لليمن وأمر بسحب المدافع لحصار مدينة صنعاء وجهز المطهر نفسه للإنسحاب منها ونقل ما فيها من الخزائن وتقدم سنان باشا نحو مدينة صنعاء بعد أن وعد أهلها بالأمان فإطمأنت قلوبهم وإختاروا عددا منهم لمقابلته فأكرمهم سنان باشا ودخل صنعاء بعد ذلك إلا أنه لم يستقر فيها بل نهض بجيوشه الجرارة لمطاردة الزيديين في مدينتي كوكبان وثلا لأن سنان باشا رأى أنه لن يتمكن من السيطرة على اليمن بأكمله إلا بالقضاء على مقاومة المطهر وأتباعه فأخذ يوالي حشد قواته وتبعه في ذلك الوالي العثماني ودامت الحرب سجالا ما يقرب من عامين إلي أن إنتهت بموت الإمام الزيدي المطهر في مدينة ثلا عام 1573م وبإستيلاء سنان باشا على سائر بلاد اليمن ومعاقل الزيدية في سائر مدن اليمن وبعد أن هدأت اليمن قام سنان باشا بالإحسان لأهلها وإستألف قلوبهم بالعطايا والمنح وتعمير ما خرب أثناء الحروب التي دارت مع الزيديين ونشر العدل بينهم وبالغ في إكرامهم وبعد ذلك توجه إلى مكة المكرمة كي يحتفل بإنتصاره على طريقة الصالحين حيث قام بحج بيت الله عز وجل وقام بتوزيع صدقات كثيرة على أهل الحرمين الشريفين وأنشأ مرافق كثيرة لتسهيل طريق الحجاج والمعتمرين وحفر الآبار وبنى الخانات وأصلح سبيل الطواف والسعي وبلطه بالحجارة الناعمة حتى يسهل الطواف والسعي وكان من قبل حصى وحجارة يتأذى منها الحجاج والمعتمرون وهكذا يحتفل الصالحون إذا ما إنتصروا حيث كان ما فعله يعتبر تجسيدا حقيقيا لمبادئ الإسلام وتعاليمه وشريعته وترجمة ناصعة وإقتداء بالفاتحين المسلمين الأوائل .
وكان العمل الثاني الهام الذى أنجزه سنان باشا هو إعادة بسط سيطرة الدولة العثمانية على تونس وإعادة نفوذها هناك بعد ان كلف السلطان سنان باشا بهذه المهمة بعد نجاحه المبهر في إعادة السيطرة علي بلاد اليمن وتاريخيا كان السلطان سليمان القانوني قد قام بضم الشمال الأفريقي للدولة العثمانية وذلك لتوحيد القوى الإسلامية ضد العدوان الصليبي المتنامي من ناحية البرتغال وأسبانيا لكن سلاطين السوء من الدولة الحفصية الذين كانوا يحكمون تونس قبل الدولة العثمانية وهي دولة خرجت في الأصل من عباءة دولة الموحدين التي حكمت المغرب والأندلس قرابة القرن من الزمان وكانوا مثالا للعمالة والخيانة والضعف والخور والجبن والحرص على المناصب والدنيا إلا قليلا منهم وللأسف فقد آثروا التحالف مع الصليبيين على الإتحاد مع المسلمين فتحالف السلطان الحفص الحسن بن محمد مع شارلكان المعروف بكارلوس الخامس ملك أسبانيا عام 942 هجرية الموافق عام 1535م في الوقت الذي كان فيه السلطان سليمان القانوني منشغلا بحرب الدولة الصفوية في بلاد فارس وتمكن شارلكان من الإستيلاء على تونس وبنى حصن البستيون بحلق الوادى وهي مدينة وميناء تونسي يقع قرب مدينة تونس العاصمة ليكون نقطة إنطلاق للإغارة على الشمال الأفريقي وظلت تونس تحت الإحتلال الصليبي الأسباني والسلطان الحفصي أبو العباس أحمد مجرد صورة حتى إستطاع أمير البحر العثماني قلج علي أن يعيد تونس للحكم العثماني عام 980 هجرية الموافق عام 1572م وخلع السلطان الحفص أبا العباس والذي أسرع بدوره لوليه وحليفه ملك أسبانيا حينذاك فيليب الثاني بن شارلكان وطلب منه مساعدته في إستعادة عرشه المسلوب فأرسل فيليب الثاني جيشا كبيرا يقوده دون جوان وهو القائد الشهير بالسفاح للمذابح المروعة التي قام بها ضد مسلمي الأندلس عندما قاموا بثورتهم عام 974 هجرية الموافق عام 1566م وإستطاع الأسبان إحتلال تونس مرة أخرى وقاموا كعادتهم الصليبية بإرتكاب مجازر فظيعة بحق مسلمي تونس وذلك خلال عام 981 هجرية الموافق عام 1573م .
وفي هذه الأثناء كان سنان باشا قد عاد لتوه من حج بيت الله الحرام ولم يكد يلتقط أنفاسه من عناء غياب طويل عن داره وعياله لأكثر من ست سنوات حتى جاءته الأوامر السلطانية بالتوجه مع أمير البحر قلج علي لنجدة مسلمي تونس وتحرير البلاد من الأسبان الغزاة فإمتثل سنان باشا للأوامر خاصة أن القتال هذه المرة ضد ألد أعداء الإسلام والمسلمين وأمده السلطان سليم الثاني بالجنود والمؤن والذخيرة اللازمة بالإضافة إلى تجهير عدد 283 سفينة مختلفة الأحجام وفي نفس الوقت أخذ حيدر باشا الحاكم العثماني في تونس الذي إنسحب إلى مدينة القيروان في حشد وتجهيز المجاهدين والمتطوعين من الأهالي الذين إلتفوا حوله وناصروه وأبحر الأسطول العثماني بقيادة سنان باشا في يوم 14 مايو عام 1574م حيث خرجت السفن من المضائق التركية إلى البحر المتوسط وقامت بضرب ساحل مسينا بإيطاليا ومن هناك قطعوا عرض البحر نحو تونس في خمسة أيام وفي هذا الوقت وصل الحاكم العثماني السابق في تونس حيدر باشا بالإضافة إلى بعض القوات المتطوعين من بعض الولايات العربية العثمانية القريبة وبدأ القتال في ربيع عام 1574م وباشر سنان باشا الحرب بنفسه كواحد من الجند حتى أنه أمر بعمل متراس يشرف منه على القتال كما كان ينقل الحجارة والتراب على ظهره مثل الجنود وعمل حيدر باشا على تنظيم صفوف المقاومة الداخلية وإستعد الجميع للإنقضاض على الأسبان وحلفائهم الخونة الحفصيين وإشتبك سنان باشا بحملته الكبيرة ومعه البطل الكبير قلج علي مع الأسبان عند حلق الوادى وهجمت المقاومة الوطنية على العاصمة تونس في قتال مدن شديد الضراوة وأمام هذا الهجوم الكاسح فر الأسبان وإحتموا بحصن البستيون المنيع ومعهم السلطان الحفصي الخائن وشدد سنان باشا حصاره على هذا الحصن حتى إستطاع فتحه ولجأ الحفصيون إلى صقلية حيث ظلوا يوالون الدسائس والمؤامرات والتضرعات لملوك أسبانيا سعيا لإسترداد ملكهم وإتخذهم الأسبان آلات طيِعة تخدم مآربهم السياسية حسبما تمليه الظروف عليهم وقد قضى سقوط تونس على الآمال الأسبانية في أفريقيا وضعفت سيطرتها تدريجيا حتى إقتصرت على بعض الموانئ مثل مليلة ووهران والمرسى الكبير وتبدد حلم الأسبان نحو إقامة دولة أسبانية في شمال القارة الأفريقية وضاع بين الرمال وأدراج الرياح .
ونظرا للإنجازات الكبيرة التي حققها القائد المظفر سنان باشا وجدارته في المهام الصعبة التي لا يصلح لها إلا هو أمر السلطان مراد الثالث الذى خلف السلطان سليم الثاني الذى توفي عام 1574م بترقيته لمنصب الصدارة العظمى أي رئاسة الوزراء وذلك عام 988 هجرية الموافق عام 1580م وكان هذا المنصب هو أرفع منصب في الدولة العثمانية والصدر الأعظم يعتبر الحاكم الفعلي للدولة وبيده كل السلطات فهو الذي يقود الجيوش ويوقع على المراسيم ويعين الولاة ويعقد الإتفاقيات والمعاهدات وبإختصار يعد هو أهم وأقوى رجل في الدولة وفي الحقيقة كان هذا المنصب يعد منصب نقمة على سنان باشا لكثرة الطامعين والمتشوقين له حتى أن كثيرا ممن ولي هذا المنصب أما أن قتل أو عزل بالدسائس والمؤامرات حتى أن الصدر الأعظم السابق لسنان باشا وهو صوقللي محمد باشا رغم جدارته وكفاءته فقد قتل نتيجة الدسائس لذلك فإن سنان باشا لم يمكث في هذا المنصب طويلا وتم عزله بعد سنتين وعدة شهور في شهر ديسمبر عام 1582م ثم لم يجدوا من هو أكفأ منه فأعادوه للمنصب مرة أخرى في عام 1589م ثم عزلوه في عام 1591م ثم ولوه مرة ثالثة في عام 1593م وهو في كل مرة يسمع ويطيع طالما في خدمة الدين والأمة فهو جندي عظيم وقائد صالح لا تهمه مناصب ولا تشغله ولاية أو غير ذلك وفي العام المذكور 1593م قام الجنود الإنكشاريون وهم عماد الجيش العثماني بتمرد كبير شمل عدة ولايات عثمانية في مصر ودمشق وحلب وإسطنبول وغيرها وكانت ثورة عنيفة وواسعة وحار السلطان مراد الثالث في كيفية التعامل معها ولم يجد خيرا من سنان باشا يستشيره في الأمر ولأن هذا الرجل كان مجاهدا من الطراز الأول وخبيرا بالمواقف الصعبة فقد نصح السلطان بنصيحة المجاهد المخلص حيث أشار عليه بأن يكلف هؤلاء الجند الثائرين بالحرب على الجبهة الأوروبية ضد بلاد المجر وذلك لتفريغ الطاقة المعطلة عندهم لصالح الإسلام والمسلمين وكسب هذه الجهود المبعثرة لصالح الأمة وذلك بعد أن كان الجيش العثماني قد أصبح لا وظيفة له بعد توقف الحروب والفتوحات بعد فترة حكم السلطان سليمان القانوني وكان هؤلاء الجنود الإنكشارية قد فسدت أخلاقهم وضعف إيمانهم وإنتشرت بينهم الموبقات خاصة شرب الخمر والدخان وإستطالوا على الناس وقويت شوكتهم حتى على السلطان مراد الثالث نفسه حتي أنه كان قد أصدر فرمانا في بداية حكمه يمنع شرب الخمر وإقامة الحد الشرعي على شاربها بعدما شاعت بين الناس وأفرط فيها الجنود الإنكشارية فثاروا ثورة عنيفة وأجبروه على إلغاء هذا الفرمان مما يدل على مدى الإنحراف الذى وصل إليه الجنود الإنكشارية وعلي ضعف قبضة السلطان العثماني الجالس علي العرش .
وبالفعل دخل الإنكشاريون الحرب ضد المجر لكن للأسف نتيجة لفساد أخلاقهم وإنحراف نواياهم زالت هيبتهم من صدور عدوهم حاصة وأنهم دخلوا الحرب من أجل الغنيمة فقط لا غير ولم يعد للأهداف السامية من الجهاد مثل نشر الإسلام والدفاع عن الأمة وغير ذلك وجود في قلوبهم ونفوسهم وبالتالي تحولوا من مجاهدين في سبيل الله إلى قطاع طرق ولصوص ومن أعلى الدرجات لأحط الدركات وبالتالي كان من الطبيعي والمنطقي أن يهزم هؤلاء الجند بعدما فقدوا كل أسباب الإنتصار خاصة أن دولة النمسا كانت قد دخلت الحرب مع المجر وإستطاعت أن تحتل عدة قلاع حصينة وطردت منها العثمانيين وهنا أصبح وضع الدولة العثمانية حرجا حيث توالت الهزائم على الجيوش العثمانية الخائرة فأرسل السلطان مراد الثالث إلى رجل المهام الصعبة الذي أنقذ الدولة العثمانية في مواطن كثيرة القائد سنان باشا وكلفه بإسترجاع القلاع والحصون المفقودة ومعها سمعة الدولة العثمانية التي إنهارت بسبب سوء أفعال جنودها الإنكشارية وبالفعل قاد سنان باشا حملة كبيرة على البلقان وإستطاع أن يستعيد ما فقدته الدولة من حصون وقلاع وذلك عام 1003 هجرية الموافق عام 1595م وكان حينذاك قد جاوز السبعين من عمره ولكن كان الجسد جسد عجوز والقلب قلب شاب فتي لا يعرف الهزيمة أو التراجع وبعد هذه الإنتصارات التي حققها سنان باشا بأرض البلقان عاد إلى إسطنبول حيث إستقبله السلطان الجديد محمد الثالث الذى خلف السلطان مراد الثالث وشكره على حسن صنيعه وأعاده إلى منصب الصدارة العظمى ولكن القائد العجوز كانت قد هدت الأيام جسده وترك الزمان آثاره على بدنه فقد وهنت القوة وضعفت اليد وإن كان القلب ظل حيا شابا مخلصا لذلك فقد كان منصب الصدارة العظمى تبعة ومسؤولية ثقيلة عليه وشعر بدنو أجله وأوشكت شمسه على الأفول وقبل أن يغادر دنيانا أدى واجب النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم فعندما زاره السلطان محمد الثالث في مرض موته أوصاه سنان باشا أن يخرج هو بنفسه لقيادة الجيوش كما كان السلاطين الأقوياء يفعلون قبل ذلك مثل السلاطين الأقوياء مراد الثاني ومحمد الفاتح وسليمان القانوني حيث أن سر الهزائم المتتالية لجيوش الدولة العثمانية كان سببها ضعف القيادة وغياب القدوة الصالحة على رأس الجيوش المحاربةوما تسلطت الإنكشارية إلا بسبب ذلك وقد عمل السلطان محمد الثالث بهذه الوصية النافعة والتي سيظهر أثرها جليا ومباشرة من أول معركة خاضها وفي شهر شعبان عام 1004هجرية الموافق شهر أبريل عام 1596م مضى سنان باشا إلى ربه عز وجل بعد أن قام بدور عظيم في الحفاظ على دولة الإسلام وقمع الثائرين وطرد الغزاة الصليبيين فجزاه الله خيرا على ما قدم للإسلام والمسلمين ورحمه الله عز وجل رحمة واسعة .
وكان من المناصب الهامة التي تولاها سنان باشا أيضا منصب والي مصر وقد تولي هذا المنصب مرتين كما ذكرنا في بداية هذا المقال الأولى ما بين عام 1568م وعام 1569م والثانية ما بين عام 1571م وعام 1573م وعندما تولى ولاية مصر للمرة الثانية شرع في تعمير البلاد وتأمين العباد ودفع من يريد البغي والعناد وقطع جادرة أهل الفساد وأكرم العلماء وأحسن إليهم وساند الضعفاء من الفلاحين والرعايا وجذب قلوب كافة البرايا إلى أن عمرت مصر بعد خرابها وتدميرها كما أنشأ عمارة جليلة حسنة وأبنية عالية نفيسة وقفها في وجوه الخيرات وكان من محاسن آثاره إعادة حفر الخليج الذاهب إلى الإسكندرية فقطعه وعمره فعاد على أحسن ما يكون وعمر الثغر السكندري وبنى وكالات وغير ذلك وعمر تكية في طريق الروم وبالإضافة إلى ذلك قام ببناء قصر في حي الزيتون وبناء مسجد يحمل إسمه في شارع السنانية المنسوب إليه بالسبتية في حي بولاق عام 1571م وهو ثاني مسجد عثماني يتم إنشاؤه في القاهرة ويبلغ طوله 35 مترا وعرضه 27 مترا وشيد طبقا لعمارة المساجد التركية وتغطيه قبة مركزية كبيرة محاطة بثلاث إيوانات من الجهات الشمالية والجنوبية والغربية ويبلغ قطرها 15 متر وقد شيدت من الداخل بالحجر ومن الخارج بالطوب الآجر وهو نوع من الطوب يتميز بأنه يتحمل درجات الحرارة العالية وبرقبة القبة تم فتح عدة شبابيك عددها 16 شباك والمسجد ليس له حرم بمعنى أنه لا يتقدمه أو يتوسطه أي فناء مكشوف والسبب في ذلك صغر مساحته نسبيا حيث كان المسجد يقع مباشرة على شاطئ النيل وقد إستبدل المهندس الذى صممه الفناء بالأروقة وكان المسجد محاط من خارجه بأسوار كان بها عدة أبواب وقد تهدم السور الشرقي آخر جوانب هذا السور عام 1902م وأروقة المسجد تحيط بالقبة من جوانب ثلاثة وتفتح على القبة بواسطة عدد 3 أبواب عرض كل منها 8 أمتار وكل باب منها يحوي عقد يعلوه مقرنصات بدلايات متنوعة الأشكال ويعلو الأروقة قباب صغيرة يبلغ عددها خمسة قباب في الرواق الغربي بينما الرواقين الشمالي والجنوبي يحويان أربعة قباب فقط ومحراب المسجد يتوسط الضلع الشرقي للقبة ويكتنفه عمودان رخاميان يحملان عقد مدبب مزخرف بطريقة الصنجات المعشقة وصنع بدن المحراب من الفسيفساء الرخامية المزخرفة بأشكال الأطباق النجمية المتعددة الألوان وزخرفت طاقية المحراب بزخرفة الزجزاج بألوان صفراء وسوداء بديعة المنظر أما مئذنة المسجد فتقع في الركن الجنوبي الشرقي ومقامة على قاعدة مربعة يعلوها بدن أسطواني زخرف بستة عشر قناة من الخارج ويعلوها الطابق الثاني وهو دائري القطاع وينفصل عن الطابق الأول بشرفة مقرنصة ذات 16 ضلع ومزخرف بنقوش محزمة وفي النهاية نجد الشكل المخروطي الذي يشبه أعلي القلم الرصاص وهو السمة المميزة للمآذن في العمارة العثمانية وجدير بالذكر أن المسجد يحوي مزولة قيشانية في النهاية الجنوبية الغربية صنعت على يد أحد الصنايعية المصريين المهرة المشهورين إسمه حسن الصواف في عام 1862م .
وفضلا عن هذا المسجد بالقاهرة قام سنان باشا أيضا ببناء مجموعة في حي السنانية قرب ساحة باب الجابية في دمشق وهو أحد أبواب دمشق الرومانية ويذكر كتاب تاريخ الخلفاء للسيوطي أن قبر الخليفة الأموى الأول معاوية بن أبي سفيان يقع عند هذا الباب وكان موضع هذه المجموعة أولا مسجد قديم يقال له مسجد رحبة البصل وتضم هذه المجموعة مسجدا ومدرسة وسبيلا للماء وكان قد شرع سنان باشا في بنائها عام 1586م عندما تولي ولاية دمشق وهو يعد من أهم المساجد القديمة في مدينة دمشق كما أنه نموذج لمعظم المساجد العثمانية التي تتكون من مئذنة وحرم وصحن وأروقة وصحنه مستطيل الشكل ويوجد له بابان الأول هو المدخل الرئيسي للجامع وهو يقع في الجهة الغربية نحو شارع السنانية وهو باب جميل يعلوه لوح مستطيل من القيشاني الأزرق فيه صور نباتية متشابكة بينها أبيات شعرية ويعلو لوح القيشاني مقرنصات جميلة أما الباب الثاني للصحن فهو في الجدار الشمالي كما توجد لوحة مستطيلة في الطرف الغربي من الجدار الشمالي تتألف من قطع القيشاني الأخضر والأزرق التي تزينها صور من أوراق وأزهار نباتية متعانقة يوجد بينها قيشاني أبيض عليه كتابات بخط النسخ مكتوبة باللون الأسود وهي تشير إلى إسم الباني وتاريخ الإنشاء وعلاوة علي ذلك توجد نافورة ذات شكل مثمن في صحن المسجد تم بناؤها من الحجر الكلسي أما بلاط الصحن فهو من الحجارة المصقولة البيضاء والسوداء ورصفت بأشكال هندسية جميلة وتتخللها قطع كبيرة من المرمر الأحمر والأبيض والأسود في الجهة الجنوبية وبأشكال هندسية والرواق الذى يتقدم حرم المسجد مسقوف بسبع قباب وهو محمول على ستة أعمدة ويوجد محراب صغير ذو عمودين من الرخام الأبيض في الجهة الشرقية من هذا الرواق وفوق هذا المحراب توجد لوحة كتابية من ستة أبيات شعرية وحرم المسجد مستطيل الشكل وتغطيه قبة رائعة وكبيرة الحجم تحتوي على كتابات رائعة ونوافذ جميلة وأعمدة رشيقة ومنبر المسجد من المرمر الأبيض المحفور والمحراب الرئيسي بجواره ترسمه قطع المرمر متعددة الألوان الدقيقة الصنع وتعلوه لوحة مستطيلة من القيشاني الأزرق عليها كتابات قرآنية كما يحتوي المسجد على مئذنة مميزة ذات شكل مستدير بنيت من الحجارة ومكسوة من الخارج بطبقة من الآجر المغطى بطبقة من القيشاني الملون باللون الأخضر يفصل بينها ثلاث خطوط من القيشاني الملون بالأزرق ويعلو جذع المئذنة شرفة أسطوانية محملة على مساند من المقرنصات البسيطة ويحيطها درابزين أسمنتي مفرغ وتغطيها مظلة خشبية على غرارها وفوقها جوسق وقلنسوة مخروطية تتميز بقدها الممشوق ورأسها الشبيه بشكل القلم الرصاص وقد زال لون القيشاني بفعل الزمن في بعض الأماكن من المئذنة وجدير بالذكر أنه لا يوجد في بلاد الشام كلها ما يماثل هذه المئذنة المستديرة الفريدة الطراز والتي يكسو سطح جذعها الخارجي ألواح من القيشاني الأخضر.
|