بقلم المهندس/ طارق بدراوي
موسوعة" كنوز أم الدنيا"
القائمقام محمد رشاد مهنا والمعروف بإسم رشاد مهنا ضابط مصري شاءت الظروف أن يبرز إسمه مع قيام ثورة يوليو عام 1952م وأن يكون من الشخصيات التي أدت دورا في الحياة السياسية المصرية والسيطرة على مقاليد الحكـم في هذه الفترة المحورية من تاريخ مصر من خلال المناصب العليا الغير عسكرية التي تقلدها خاصة أنه كان من الشخصيات المرموقة والمحبوبة سواء في المجال العسكرى أو المدني كما أنه كان من الضباط الوطنيين المتميزين والمشهود لهم بالكفاءة والأمانة والنزاهة والأخلاق الحميدة والتدين وقد قال عنه اللواء محمد نجيب أول رئيس لمصر إنه كان الأب الروحي لثورة 23 يوليو عام 1952م ومن ثم برز كشخصية رئيسية في المجتمع المدني والعسكرى وكان مولده في يوم 2 أكتوبر عام 1909م بقرية منشية علي مهنا باشا بمركز كوم حمادة بمديرية البحيرة وكان والده من خريجي الأزهر وألحقه بكتاب القرية لكي يتعلم مبادئ القراءة والكتابة واللغة العربية والحساب وتلاوة القرآن الكريم والذى حفظه كعادة سكان القرى في ذلك الوقت ولما بلغ سن المدرسة الإبتدائية إنتقل في عام 1922م إلي مدينة طنطا عاصمة مديرية الغربية وإلتحق هناك بالمدرسة الإبتدائية وبعد أن حصل علي الشهادة الإبتدائية إنتقل إلي المدرسة الثانوية وحصل علي شهادة البكالوريا في عام 1928م وكان من أوائل دفعته مما جعله يتوجه لدراسة الطب لكنه ترك الطب وإلتحق بالكلية الحربية نظرا لميوله العسكرية وتخرج منها عام 1932م وإلتحق بسلاح المدفعية وفي عام 1937م تم إختياره في منحة لمدة عام ليكون من المبعوثين إلى بريطانيا وقد أهلته هذه البعثة لكي يتخصص في مجال الدفاع الجوى وبعد عودته من البعثة في عام 1938م تم تعيينه مدرسا في مدرسة المدفعية وفي نفس الوقت أكمل دراسته حتي حصل في عام 1944م علي شهادة الماجستير في العلوم العسكرية وعين مدرسا بكلية أركان الحرب كما تولي منصب أركان حرب قوات قسم القاهرة وهو مايسمى الآن المنطقة المركزية وفي عام 1946م تم إعتقاله هو وزميله الرائد محمد أحمد حبيب بتهمة توزيع منشورات ضد الفريق إبراهيم عطا الله رئيس أركان حرب الجيش المصرى ثم أفرج عنه وفي الفترة ما بين عام 1946م وعام 1947م ساعد الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين الذي أعلن الجهادهناك وقام مع بعض الضباط بمده بالسلاح والعتاد من أجل المقاومة الفلسطينية وخلال عام 1947م تم إعتقاله مرة أخرى هو وعبد المنعم عبد الرؤوف بالإضافة إلي عدد 15 ضابط آخرين بتهمة التأمر على الملك وتوزيع منشورات داخل وحدات الجيش وعلي الشعب تدعو إلي الجهاد والنضال والثورة علي الحكام وأفرج عنهم بعض فترة قصيرة وتم إيقاف محاكمتهم نظرا للظروف السياسية المضطربة في ذلك الوقت وجدير بالذكر أنه أثناء إعتقال هؤلاء الضباط قام جمال عبد الناصر بجمع مبلغ من المال وقام بتوزيعه علي أسر الضباط المعتقلين وكان رشاد مهنا بحكم وظيفته في قسم القاهرة قد أصبح على صلة قوية بالكثير من ضباط الجيش وكانت تلك هي نقطة بداية إتصاله بتنظيم الضباط الأحرار .
وفي عام 1949م إتصل جمال عبد الناصر مؤسس تنظيم الضباط الأحرار برشاد مهنا ودعاه لحضور الإجتماعات التحضيرية للثورة وفي يوم 16 من شهر أكتوبر عام 1951م برز دور رشاد مهنا في جمع الضباط في الفترة التي سبقت إجراء إنتخابات نادى ضباط الجيش بالزمالك حيث كان هناك صراع ملحوظ بين ضباط الجيش وبين الإتحاد المصرى الإنجليزى الذى كان يرغب في السيطرة علي النادى خاصة وأن معظم الضباط كانوا مشغولين في وحداتهم داخل وخارج القاهرة خاصة في فترة الحرب العالمية الثانية ولا يأتون إلي النادى كثيرا وفي اليوم المذكور جمع رشاد مهنا عدد 40 ضابطا من شتي الأسلحة بشكل سرى وترأس هو هذا الاجتماع حيث كان هو أكبر الضباط الحاضرين رتبة ووضح لهم أنهم في حاجة إلي توحيد جهودهم وبلورة أفكارهم وأشار إلي أنهم لا يعرفون شيئا عن ناديهم ولا يمتلكون فيه شيئا وقبيل إجتماع الجمعية العمومية للنادى الذي كان محددا عقده في الساعة الرابعة من مساء يوم 31 ديسمبر عام 1951م إجتمع رشاد مهنا مع عدد من ضباط تنظيم الضباط الأحرار في منزل أحدهم وهو مجدي حسنين في حي عابدين كان منهم زكريا محيي الدين وجمال سالم وحسن إبراهيم وعبد اللطيف البغدادي وكان رشاد مهنا مستمعا فقط في بداية هذا الاجتماع وفي نهايته إقترح علي الحاضرين أن تتضافر جهود جميع الضباط للتركيز على عملية إنتخابات ناديهم وبذلك يمكن إثبات قوة تنظيم الضباط الأحرار في مواجهة الفساد الملكي وإقترح أن يتفق الجميع على إنتخاب اللواء محمد نجيب قائد سلاح المشاة حينذاك ليكون رئيسا لمجلس إدارة النادي وهو المنافس للواء حسين سري عامر قائد سلاح حرس الحدود ومرشح الملك فاروق لرئاسة النادي وبذلك يظهر الضباط تحديهم لإرادة القصر الملكي وقبل إجراء الإنتخابات بأيام حدث عدد من المناوشات وبدأ كل سلاح من أسلحة الجيش يتخذ جانبا وبدأت المنافسة تظهر بين كل الأسلحة حيث إجتمع حوالي عدد 450 ضابط في قاعة السينما الملحقة بدار الحرس الملكي وترأس الإجتماع الأميرالاى جلال صبري وكاد أن ينشب خلاف من شأنه فشل هذا الإجتماع لولا أن رشاد مهنا قد تقدم وأمسك بالميكروفون وبدأ يدير الإجتماع بحكمة وهدوء ومن ثم كان له دور مهم في نجاح هذا الإجتماع وتوحيد كلمة ضباط كل الأسلحة الحاضرين والإتفاق معهم علي إنتخاب اللواء محمد نجيب رئيسا لمجلس إدارة النادى ومعه كل قائمته من الضباط أعضاء تنظيم الضباط الأحرار وأخيرا وفي اليوم المحدد لإجراء الانتخابات والتي كانت قد تقدم إليها ضباط من الرتب الصغيرة والمتوسطة وأيضا من الرتب الكبيرة كانت المفاجأة أن فازت الرتب الصغيرة وقائمة الضباط الأحرار كاملة وتم إختيار اللواء محمد نجيب رئيسا لمجلس إدارة النادى .
وكان إختيار اللواء محمد نجيب رئيسا لمجلس إدارة نادى الضباط بالزمالك بالإضافة إلي قائمته يعد تحديا كبيرا للملك فاروق حيث كان القصر يؤيد كما ذكرنا في السطور السابقة مرشحا آخر ضد اللواء محمد نجيب وهو اللواء حسين سرى عامر قائد سلاح حرس الحدود ولذا فقد تفجرت في بداية شهر يوليو عام 1952م أزمة كبيرة بين الملك وضباط الجيش نتيجة عدم رضا الملك عن ما أسفرت عنه نتائج الانتخابات المشار إليها في السطور السابقة وأصدر الملك قرارا بحل مجلس الإدارة المنتخب برئاسة اللواء محمد نجيب وكان هذا التصرف بمثابة شرارة إندلاع ثورة 23 يوليو عام 1952م فقد كان صبر ضباط الجيش علي الأوضاع السياسية المتردية في البلاد وعلي عبث الملك فاروق قد نفذ ولم يعد هناك حل أو منفذ سوى التخلص من الملك ونظامه إلي الأبد وإلي غير رجعة وكان رئيس الوزراء حينذاك هو حسين سرى باشا والذى أخذ يحاول هو ووزير داخليته محمد هاشم باشا تهدئة حدة المشكلة وإيجاد حل مناسب لها إلا أن تصرفات الملك ورجال الديوان الملكى وحاشية القصر وحيدر باشا القائد العام للجيش كانت تزيد من أسباب حدتها وتتصاعد بأحداثها وكأنهم يرسمون نهايتهم الحتمية بأيديهم ومما زاد من حدة الأزمة أن الملك قام بإرسال مذكرة إلى رئيس مجلس الوزراء حسين سرى باشا تتضمن إنذارا لمحمد حيدر باشا قائد الجيش بأنه يعتبر مفصولا من منصبه إذا لم يعمل خلال 5 أيام على تنفيذ قرار حل مجلس إدارة نادى الضباط ونقل أعضائه خارج القاهرة وسارع حيدر باشا لتنفيذ هذا الأمر وهو ما أثار الضباط وأدى إلى تقديم اللواء محمد نجيب إستقالته كقائد لسلاح المشاة وحاول سرى باشا إنقاذ الموقف بأن طلب من الملك تعيين اللواء محمد نجيب وزيرا للحربية ورفض القصر طلب رئيس مجلس الوزراء مما دعاه الى تقديم إستقالته فى يوم 20 يوليو عام 1952م لعدم تمكنه من حل هذه المشكلة أمام عناد الملك وسده الطريق أمام أى حل من الممكن أن يخفف من وطأة الأزمة وبالرغم من محاولات الملك وحاشيته إثناء سرى باشا عن الإستقالة إلا أنه صمم عليها . وقد أدت بوادر حركة الجيش التي كانت قد بدأت تبدو في الأفق من ناحية وإستقالة وزارة حسين سرى باشا من ناحية أخرى إلى الوصول بالقصر إلى طريق شبه مسدود فلم يجد الملك منه مخرجا سوى إستدعاء أحمد نجيب الهلالى باشا لسمعته الطيبة ليكلفه بتشكيل الوزارة الجديدة يوم 22 يوليو عام 1952م وهي الوزارة التي لم تكمل 18 ساعة في الحكم وكانت من أقصر الوزارات عمرا ليس في مصر وحدها بل علي مستوى العالم كله حيث قامت ثورة 23 يوليو عام 1952م وتم إختيار علي ماهر باشا ليكون رئيسا لمجلس الوزراء يوم 24 يوليو عام 1952م نظرا لما عرف عنه بأنه رجل الأزمات وأنه سيكون حلقة إتصال مناسبة جدا بين الملك فاروق وأعضاء مجلس قيادة الثورة وبدأت عجلة الأحداث تتسارع حيث تم خلع الملك فاروق من عرش مصر يوم 26 يوليو عام 1952م وتم تنازله عن العرش لإبنه الرضيع الأمير أحمد فؤاد الثاني مع تكوين مجلس وصاية من عدد 3 أفراد تم إختيارهم بواسطة مجلس الوزراء بناءا علي ترشيح مجلس قيادة الثورة لهم وهم محمد بهي الدين بركات باشا والأمير محمد عبد المنعم نجل الخديوى عباس حلمي الثاني والقائمقام رشاد مهنا والذى كان يعد ممثل مجلس قيادة الثورة في هذا المجلس ومما يذكر في هذا الصدد أنه طبقا لدستور عام 1923م المعمول به في البلاد حينذاك أن عضوية مجلس الوصاية يشترط لها أن يكون العضو أميرا من الأسرة المالكة أو وزيرا حاليا أو سابقا وكان هذا الشرط لا ينطبق علي رشاد مهنا ولذا فقد تم تعيينه وزيرا للمواصلات لمدة أربع وعشرين ساعة ثم عين عضوا في مجلس الوصاية وكان من القرارات التي صدق عليها هذا المجلس قرار تعيين اللواء محمد نجيب رئيسا لمجلس الوزراء في يوم 7 سبتمبر عام 1952م خلفا لعلي ماهر باشا الذى كان معارضا معارضة شديدة علي الشكل الذى كان سيتم به صدور قانون الإصلاح الزراعي مما تسبب في حدوث خلاف شديد بينه وبين أعضاء مجلس قيادة الثورة بهذا الشأن ومن ثم قدم إستقالته لمجلس الوصاية .
وكان من المفترض أن يظل مجلس الوصاية قائما لحين بلوغ الأمير الطفل أحمد فؤاد سن الرشد وهو الأمر الذى لم يتحقق فعليا ولم يتحقق له حكم مصر ولو ليوم واحد حيث قامت سلطات الثورة بإلغاء النظام الملكي وإلغاء مجلس الوصاية علي العرش وإعلان الجمهورية في وقت لاحق كما تم رحيل الملك فاروق إلي منفاه الإختيارى في إيطاليا مساء يوم تنازله عن العرش وإقامته هناك لمدة 13 سنة تقريبا حتي وافاه الأجل المحتوم في شهر مارس عام 1965م وليعود إلي مصر جثة هامدة ليدفن في ترابها وفي واقع الأمر كان تعيين رشاد مهنا في مجلس الوصاية في حقيقته إبعادا له عن مجلس قيادة الثورة الذى كان متحكما في البلاد في ذلك الوقت وقد بدأ الرجل يستشعر أنه قد قذف به إلى أعلى منصب لا قيمة فعلية له وحاول أن يواجه أعضاء مجلس قيادة الثورة بأن مجلس الوصاية يمتلك سلطة السيادة التي كانت مخولة للملك وعارض الكثير من مواقف المجلس لكنه كان في واقع الأمر يحارب معركة خاسرة فعلي سبيل المثال كان من رأي رشاد مهنا في قانون تحديد الملكية الزراعية التعويض وعدم تفتيت الملكية بتوزيع الأراضي على الفلاحين في حدود الخمسة أفدنة ولكنه إضطر للتنازل عن هذا الرأي بعد مناقشة طويلة قائلا إنه ينزل على رأي الأغلبية ويوافق على المشروع وكذا أيده اللواء محمد نجيب بعد أن كان يعارضه في مجلس قيادة الثورة قائلا أنا الآخر أوافق على المشروع نزولا على رأي الأغلبية وفي منتصف شهر أكتوبر عام 1952م تم إبعاده عن منصبه الكبير ونقلا عن مذكرات الرئيس السادات إن رشاد مهنا كان يتعامل معنا وكأنه ملك البلاد وأنه نسي الثورة ومبادئها وبدأ يعد نفسه لمستقبل أكبر من الوصاية على العرش وكان من الجمل التي قالها حينذاك إني أملك وأحكم أيضا وقد عرض عليه عبد الناصر أن يشغل منصب سفير مصر لدى الهند أو باكستان لكي يستفيد من خبراته وقبوله لدى ضباط سلاح المدفعية لكنه رفض إلا إذا تم إستبعاده أي أنور السادات بالإضافة إلي جمال سالم من مجلس قيادة الثورة إلا أن عبد الناصر رفض وبعد بضعة أسابيع وفي يوم 15 يناير عام 1953م تم القبض عليه لإتهامه بالإتصال بجهات عديدة منها الأحزاب التي كانت قائمة في ذلك الوقت وعلي رأسها الوفد وبالإتصال بجماعة الإخوان وكذلك الإتصال بعدد من ضباط الجيش خصوصا من زملائه في سلاح المدفعية الذى كان له فيه شهرة واسعة وكان محبوبا جدا من ضباطه عندما كان ضابطا في الجيش وذلك خوفا من تأثيره عليهم وعلى غيرهم من ضباط الأسلحة الأخرى وتم توجيه الإتهام إليه بمحاولة تدبير إنقلاب مضاد للثورة وقدم للمحاكمة هو وعدد من الضباط من سلاح المدفعية فيما عرف حينذاك بقضية سلاح المدفعية وفى يوم 30 مارس عام 1953م أذاعت محكمة الثورة المكونة من كل اعضاء مجلس القيادة برئاسة البكباشى أركان حرب جمال عبد الناصر حكمها في القضية المتهم فيها القائمقام محمد رشاد مهنا ومتهم فيها أيضا ضباط أخرون وحكم عليه بالسجن المؤبد ثم أفرج عنه في شهر يونيو عام 1956م وحددت إقامته بمنزله بينما حكم علي زملائه بأحكام تتراوح بين السجن لمدة عام والسجن لمدة 15 عاما .
وخلال تلك المحاكمة تم إعلان أسماء مجلس قيادة الثورة لأول مرة رسميا حيث لم يكن قد أعلن حتي ذلك الوقت إلا عن إسم الرئيس محمد نجيب فقط وكان البكباشى جمال عبد الناصر رئيسا لمحكمة الثورة وكان الأعضاء هم زكريا محيي الدين وصلاح سالم وجمال سالم وحسين الشافعي وعبد اللطيف البغدادي وعبد الحكيم عامر وكمال الدين حسين وحسن إبراهيم وأنور السادات وخالد محى الدين ويلاحظ غياب إسم البكباشى يوسف صديق الذي كان قد تم إبعاده وكذلك إسم قائد الأسراب عبد المنعم أمين وقد أعلن البيان الرسمي الذى صدر عن المحكمة أن الأحكام نصت على معاملة جميع المدانين معاملة المسجونين من الفئة الأولي ومعنى ذلك السماح لهم بتناول طعام خاص يرد إليهم من منازلهم وإرتداء ملابسهم الخاصة وتخفيف القيود الحديدية التي توضع في أطرافهم ومن المفارقات العجيبة في هذه المحاكمة أنه كان معروفا عن رشاد مهنا انه متدين ومع ذلك جاء في شهادات الشهود ضده أنه كان يقول إن الضباط زملاءه المدانين وهو يؤيدهم كانوا ينوون في الدستور الجديد إلغاء أن الدين الرسمى للدولة هو الإسلام أى أن رشاد مهنا كان إذا نجح في إحداث إنقلاب فإنه كان سيلغى من الدستور النص بأن دين الدولة هو الإسلام وفي مذكرات اللواء محمد نجيب كنت رئيسا لمصر والتي تم نشرها عام 1983م يقول عن رشاد مهنا إنه لم تمر 10 أسابيع على تعيينه وصيا على العرش حتى وقع الخلاف بينه وبين أعضاء مجلس قيادة الثورة فقد تجاوز رشاد مهنا حدود سلطته الدستورية بالتدخل في شئون تطهير الأحزاب والهيئات السياسية وبالإتصال بالوزراء وإقحام نفسه في شئونهم وبالإتصال برجال الصحافة ومناقشة الأمور معهم والإعتراض عليها كما أنه كان أيضا يسعى لإحياء الخلافة الإسلامية ليكون هو على رأسها وفي شهر أكتوبر عام 1952م وكنت رئيسا للوزراء إتصلت به في مكتبه بقصر عابدين لتهنئته بمولود رزق به ولتحديد موعد أراه فيه لتكون التهنئة مباشرة وجها لوجه فإذا به يصرخ في وجهي ويقول أريدك أن تأتي إلى مكتبي في القصر ومعك السيد سليمان حافظ نائبك لمقابلتي وتعجبت من هذا الإستدعاء وعلى الرغم من ذلك قررت أن أستجيب له لأنه صادر من أحد الأوصياء علي العرش والذين لهم بحكم مناصبهم إتخاذ مثل هذه الخطوة وتوجهت فعلا أنا وسليمان حافظ إلى القصر وقابلت رشاد مهنا في مكتبه أكثر من ساعة وكان ثائرا جدا يتحدث إلينا في عنف ويضرب المكتب بقبضة يده ونحن نسمع ولا نعلق .
وكان مما قاله رشاد مهنا لمحمد نجيب إنني أحب أن تعرف أن رشاد مهنا ليس بصمجيا وإنني لا أقبل أن أجلس هنا أوقع المراسيم التي ترسلونها إلينا فحسب وإنني ألاحظ أن الوزارة تتخذ خطوات كثيرة لا أعرف عنها شيئا ولا يعرض على أية تفصيلات إنك يا نجيب تستقبل السفير البريطاني السير رالف ستيفنسون والسفير الأميريكي جيفرسون كافرى وتستدعي من السودان أقطابه وتتباحث مع الجميع من دون علمي مع أنني واحد منكم ولابد أن يؤخذ رأيي في كل شئ وكان رد اللواء محمد نجيب أنت يا رشاد غاضب أشد الغضب وثائر الآن وأنا أفضل أن أتركك بضعة أيام حتى تستعيد هدوءك لكنه إزداد إنفعالا وقال في ثورة شديدة إعلموا أنني لن أكون طرطورا وحاول نجيب أن يوضح له الأمر وعندما إنتقلا إلى مكتب الأمير محمد عبد المنعم وكان معهما بهي الدين بركات باشا أصر على موقفه وشاركه بهي الدين بركات باشا وحاول اللواء محمد نجيب توضيح الموقف الدستوري لهما لكنهما لم يقتنعا وأصر رشاد مهنا على أن يقدم إستقالته وبقي الأمير محمد عبد المنعم صامتا وأعلن بهي الدين بركات باشا أنه سيستقيل هو الآخر ومن ثم تم إتخاذ قرار بإقالته وتحديد إقامته وإقترح اللواء محمد نجيب على مجلس الوزراء أن يكتفي بوصي واحد علي العرش هو الأمير محمد عبد المنعم ووافق نائبه سليمان حافظ علي ذلك وقال لا مانع من الناحية القانونية إذ أن من السهل تعديل الأمر الملكي رقم 25 لعام 1923م والذي يقضي بأن يكون مجلس الوصاية مشكلا من ثلاثة أعضاء وفي جلسة واحدة تمت الموافقة على إعفاء رشاد مهنا وتعديل الأمر الملكي المشار إليه .
وفي يوم 14 أكتوبر عام 1952م تم إذاعة البيان الخاص بإعفاء رشاد مهنا من مجلس الوصاية علي العرش والذي جاء فيه لقد قام الجيش بثورته وكان أول أهداف الثورة القضاء على الطغيان فأقصت ملكا طاغيا لا يحترم الدستور ولا السلطات دائب التدخل في شئون الحكم ويؤسفنا وقد رشح الجيش أحد ضباطه وهو القائمقام أركان حرب محمد رشاد مهنا في مجلس الوصاية المؤقت وطلب منه أن يلتزم حدود وظيفته كوصي علي العرش ولا دخل له بشئون الحكم فأخذ تارة يتصل بالوزراء طالبا إجابة مطالب شتى أكثرها وساطات ومحسوبيات وتارة أخرى يتصل برجال الإدارة وتمادى إلى أن حدث ذات يوم أن أمر بمباشرة إيقاف إصدار إحدى الصحف بل وسحب رخصة أخرى وقد نم لفت نظره المرة تلو المرة ولكنه تجاهل ما كان يوجه إليه من نصح وإرشاد فحدث أن سمح لنفسه بأن يعارض علنا قانون تحديد الملكية الزراعية رغم علمه التام بأن القانون هو حجر الزاوية في الإصلاح الشامل الذي تريده الأمة والجيش وقيادته التي قامت بتوجيه الحركة بل وبلغ به التمادي فأخذ يدلى بالتصريحات العامة للصحف والمجلات المصرية والأجنبية وبعض هذه التصريحات من صميم سياسة الدولة وهذا ما لا يجوز بأى حال من الأحوال أن يصدر من وصي على العرش فتناول موضوع السودان ومواضيع شتى داخلية وأخذ يتصل بدور الصحف موحيا إليها القيام بدعاية واسعة النطاق له ودأب على بث روح التفرقة حتى خيل للبعض أن هناك جملة إتجاهات داخل الجيش وليس إتجاه واحد قوى نحو غاية مرسومة ولقد تحملت القيادة العامة تصرفاته هذه على مضض أسبوعا تلو أسبوع إلى أن تقدم حضرته رسميا لنا بطلب تدخله الفعلي في كل أمر من أمور الحكم ومن ذلك ظهر لنا بوضوح أن حضرته لم يستطع التمشي والتأقلم مع أهداف الحركة والسير على مبادئها المرسومة لذلك قررنا إعفاءه من منصب الوصاية على العرش وليعلم الجميع أن هذه الحركة قائمة على المبادئ ولن تقف في سبيلها نزوات أشخاص أو أطماع أفراد والله ولى التوفيق .
ويضيف الرئيس محمد نجيب أنه بهذا البيان إختفى رشاد مهنا نهائيا من الحياة العامة وعلى الرغم من ذلك فإنني أسجل إعجابي وتقديرى وإحترامي له ولا مانع من أن أذكر أنه كان ضحية مثلي فقد أراد جمال عبد الناصر ومجموعته إبعاده عن القيادة في منصب شرفي وهو منصب الوصي علي العرش وعن السلطة الفعلية وعندما غضب سارعوا بإبعاده وإعتقاله وتلفيق تهمة ظالمة له وكما يقول المثل أكلوه لحما ورموه عظما كما فعلوا بي بعد ذلك تماما وهنا إنتهي كلام اللواء محمد نجيب ومن جانب آخر قال رشاد مهنا أنا الذي أقلت نفسي ولم يقلني جمال عبد الناصر وأعطيت صورة من إستقالتي لكل من بهي الدين بركات باشا وللأمير محمد عبد المنعم وكما ذكرنا في السطور السابقة فقد تم الإفراج عن رشاد مهنا في شهر يونيو عام 1956م بعد حوالي 3 سنوات قضاها في السجن علي الرغم من أن باقي زملائه من الضباط المتهمين في نفس القضية قد تم الإفراج عنهم في عام 1954م ثم أعيد إعتقاله مرة أخرى عام 1965م ضمن حملة الإعتقالات العديدة التي تمت خلال هذا العام لأفراد وقيادات جماعة الإخوان المسلمين على الرغم من أنه لم يكن له أي علاقة بهم وأفرج عنه بعد سنتين في عام 1967م وإعتزل الحياة السياسية تماما بعد ذلك وتوفى صباح يوم 3 يناير عام 1996م عن عمر يناهز 87 عاما وعلق على وفاته الصحفى الكبير مصطفى أمين في مقاله فكرة بتاريخ 10 يناير عام 1996م وختم مقاله بهذه العبارة إتهم رشاد مهنا بأنه يدبر إنقلاب وكانت التهمة ملفقة تماما فقد إنقلب شهود الإثبات إلى شهود نفى وكانت جريمته الوحيدة أنه كان شخصية محبوبة أكثر من اللازم . |