بقلم المهندس/ طارق بدراوي
موسوعة" كنوز أم الدنيا"
شارع مارييت باشا هو أحد شوارع منطقة وسط مدينة القاهرة وهو شارع قصير نسبيا ويمتد من ميدان التحرير ويتجه شمالا موازيا للواجهة الجانبية الشرقية للمتحف المصرى وينتهي بميدان عبد المنعم رياض متقاطعا مع بداية شارع رمسيس وينسب هذا الشارع إلي فرانسوا أوجست فردينان مارييت باشا والذى ولد في بولوني سور مير بفرنسا في يوم 11 فبراير عام 1821م وقد نشأ مارييت محبا للأسفار والإكتشاف منذ نعومة أظافره ولم يلبث طويلا حتى سلك طريق العمل لمساعدة عائلته قبل أن يكمل دراسته فعين عام 1839م معلما للرسم واللغة الفرنسية في مدرسة أسترافورد بإنجلترا فنمت فيه موهبة الرسم العملي ولكن حبه للعلم تغلب عليه فعاد إلى بولون للحصول على درجة البكالوريا وعمل مارييت بالتدريس فترة من الزمن إلى أن مل التدريس فإتجه إلى الكتابة بالصحف وتولى تحرير جريدة فرنسية إسمها الشاح البولوني وإشتهر بحسن الأسلوب فيما كان يكتبه وكان الرحالة المسيو دينتون رفيق حملة نابليون بونابرت على مصر قد أهدى إلى متحف بولون في عام 1847م تابوتا مصريا فيه مومياء وقد تصادف أن رأى مارييت ما على التابوت من الكتابة المصرية القديمة فتاقت نفسه إلى حل رموزها وإستعان بكتابين لجان فرانسوا شامبليون الذى فك رموز الكتابة المصرية القديمة وظل يتردد على المتحف ليقضي أوقاته بين الآثار المصرية حتى تمكن من إتقان اللغة المصرية القديمة وبعد ذلك سافر إلى باريس وإنقطع إلى متحف اللوفر لقراءة ما فيه من الآثار المصرية وتولى منصب صغير في المتحف وتمكن من خلاله التبحر في اللغة الهيروغليفية وألف كتابا في اللغة القبطية وأرادت فرنسا في ذلك الوقت أن ترسل من يبحث في مكتبات الأديرة المصرية عن الكتابات القبطية القديمة أملا في معرفة حقائق جديدة تتعلق بتاريخ اليونان وكان مارييت قد إشتهر حينذاك بينهم بمعرفة اللغة القبطية فأسندوا إليه هذه المهمة فجاء إلى القاهرة في عام 1850م في عهد والي مصر عباس باشا الأول .
وعندما وصل مارييت إلى القاهرة وشاهد أهرامات الجيزة وسقارة تاقت نفسه إلى الآثار ونسي ما جاء من أجله ومن ثم تحول عقله إلى الآثار وإتجه إلي الكشف عنها وبالفعل إكتشف منها الكثير وخاصة في منطقة سقارة وهي معبد السيرابيوم ومقابر العجل أبيس وهي مدافن بديعة الصنع منقورة في الصخر وبجانب السيرابيوم إكتشف مقبرة تي الذي كان أحد رجال البلاط الملكي وأرسل مارييت بعض الآثار التي عثر عليها إلى فرنسا فطلب منه إرسال المزيد وتم نسيان أمر المخطوطات القبطية وبناءا عليه واصل مارييت عمله في الكشف عن الآثار المصرية فإكتشف من التماثيل والتحف الكثير حيث ذهب إلى منطقة الأهرامات وأحذ ينقب ويبحث حول تمثال أبي الهول وأشرف على إزالة الرمال من حوله فعثر على آثار كثيرة منها معبد يعد من أقدم المعابد المصرية ثم إنتقل إلى الصعيد وإكتشف الكثير من آثارها وعندما توفي عباس باشا الأول وكان مارييت تربطه علاقة قوية بفرديناند ديليسبس الذي كان يتمتع بنفوذ واسع وشهرة عظيمة في عهد محمد سعيد باشا خليفة عباس باشا الأول فطلب منه تقديمه إلى محمد سعيد باشا ومساعدته في إنشاء دار للآثار المصرية وبالفعل تمت المقابلة وشرح مارييت لسعيد باشا كيف تنهب آثار مصر مدللا على صدق كلامه بأنه أمضى أربع سنوات منذ أن قدم إلي مصر بين الفلاحين رأى خلالها ما لا يصدقه عقل من إختفاء 700 مقبرة من منطقتي أبو صير وسقارة وأخذ يعدد له فوائد إنشاء دار للآثار تكون مهمتها الأولى تنظيم عمليات التنقيب وعرض الآثار المصرية التي أصبحت مرتعا لكل يد تمتد إليها خاصة وأن المنقبين أصبح شغلهم الشاغل هو جني المال وبيع ما يعثرون عليه من آثار لنبلاء أوروبا ليزينوا به قصورهم ومتاحفهم فأوكل إليه سعيد باشا مهمة الحفاظ على الآثار المصرية وعَينه مديرا لمصلحة الآثار المصرية الوليدة ومن هنا إنطلق مارييت في عمله في مجال التنقيب المنظم وأسس أول متحف للآثار في مصر بعد تولي الخديوى إسماعيل حكم مصر في شهر يناير عام 1863م والذى عرف بإسم متحف بولاق وتم إفتتاحه في يوم 18 أكتوبر عام 1863م في حفل رسمي بهيج إجتمع فيه كبار رجال الدولة وقناصل الدول الأجنبية .
وعلى الرغم من أن متحف بولاق كان متواضعا للغاية إذ كان يشغل بقعة على ساحل رملي وَعِر تجور عليه مياه النيل في أغلب الأوقات خاصة في وقت الفيضان وكان به أيضا منزل مارييت وأسرته أما قاعات العرض فكانت مكتظة بالمعروضات ورغم ذلك كانت محل إعجاب الزوار وإنبهارهم وبذلك كان لمصر السبق في الشرق الأوسط في تاريخ المتاحف لتلحق بالسباق الدولي في تأسيس المتاحف بمفهومها الحديث من قاعات عرض منظمة ومرتبة تتيح للزائر خلال جولته معرفة تاريخ الشعوب وحضارتهم وفي العاصمة الفرنسية باريس كان القائمون على متحف اللوفر متذمرين من غياب مارييت الذي كان لا يزال معينا بمتحف اللوفر وأفضى الأمر برؤسائه إلى مطالبته بالإختيار بين فرنسا ومصر وكان مارييت ممزقا بين البلدين ولكنه إختار مصر وقد إعتمد الخديوى إسماعيل كليا على مارييت في أمور شتى بداية من تنظيم الجناح المصري بمعرض باريس الدولي عام 1867م ومصاحبته لرحلة ضيوف مصر أثناء إحتفالات إفتتاح قناة السويس في شهر نوفمبر عام 1869م وتحضيره لأوبرا عايدة كما ذاع صيت مارييت كثيرا بفضل إكتشافاته في مجال التنقيب خاصة في منطقتي سقارة وأبيدوس وفي عام 1877م زاد فيضان النيل وغمرت المياه مبنى متحف بولاق وأتلفت الكثير من معروضاته وفُقد منها الكثير وعندما إنحسرت المياه عن المبنى أخذ مارييت في التنقيب من جديد عن معروضاته ولكن هذه المرة تحت الطمي الذى تراكم عليها بسبب الفيضان وأخذ يعيد ترتيب ما عثر عليه ووضع ما تبقى في صناديق وحزن كثيرا لفقدان الكثير من القطع وتَهشم الرقيق منها ولجأ إلى الخديوى إسماعيل طالبًا العون للحفاظ على ما تبقى من معروضات خاصة بعد أن أصبح موقع المتحف غير آمن بالمرة من ناحية الفيضان ومن ناحية أخرى فقد أصبح المبنى متهالكا ولا يليق بكونه متحفا لأعظم حضارة عرفتها الإنسانية وعلي الرغم من مرضه الشديد بذل مارييت مجهودا كبيرا حتي تم تجهيز هذا المتحف مرة أخرى وتم إفتتاحه من جديد في أول عام 1881م في عهد الخديوى توفيق حيث كان قد تم خلع الخديوى إسماعيل من حكم مصر في شهر يونيو عام 1879م وبعد أيام قليلة وفي يوم 18 يناير عام 1881م توفي أوجست مارييت وكان قبل وفاته بمدة 13 يوم أي في يوم 5 يناير عام 1881م قد وفد إلي مصر عالم آثار فرنسي آخر هو جاستون ماسبيرو ليتولي مسؤولية إدارة هيئة الآثار المصرية بدلا منه وأقيمت لأوجست مارييت جنازة رائعة وأقيم قبره في حديقة متحف بولاق أمام تمثال خفرع طبقا لوصيته وقام بتصميم تابوته الحجري المهندس المعماري أمبرواز بودري وفي عام 1891م وفي آخر عهد الخديوى توفيق تم نقل المتحف إلي قصر الخديوى إسماعيل بالجيزة ليكون متحفا بديلا عن متحف بولاق وتم نقل الآثار إليه وتم نقل رفات مارييت إليه وفي عام 1902م كان قد تم تشييد المتحف المصرى بالتحرير وتم نقل الآثار إليه وأيضا تم نقل رفات مارييت إلي مقبرة صغيرة توجد بحديقته والتي لاتزال قائمة حتي الآن ومما يذكر أنه في مدينته ومسقط رأسه بولوني سور مير أُقيم لماريت تمثال من البرونز فوق قاعدة على شكل هرم مبتور ويظهر مارييت مرتديا طربوشا وتم تدشين التمثال في يوم 16 يوليو عام 1882م في إحتفال بسيط .
ومن أهم معالم شارع مارييت كما ذكرنا في صدر هذا المقال المتحف المصرى وكان جاستون ماسبيرو قد أقنع والي مصر حينذاك الخديوى عباس حلمي الثاني بضرورة تشييد هذا المتحف وبالفعل بدأ تشييده عام 1897م حيث بدأ حفر الأساسات ووضع حجر الأساس يوم أول أبريل عام 1897م في حفل شرفه بالحضور الخديوى عباس حلمي الثاني وكان يرافقه عالم الآثار الفرنسي جاستون ماسبيرو وقد قام بالتصميم المعمارى للمتحف المهندس المعمارى الفرنسي مارسيل دورنون وجاء تصميم الواجهات متأثرا بالفن والعمارة الكلاسيكية الإغريقية وخاليا من أي تأثيرات للفن المصري القديم والمعابد المصرية القديمة ومن الداخل جعله يحاكي نمط المعابد المصرية القديمة حيث يحاكي مدخل قاعاته صروح تلك المعابد وقد إنتهي العمل في تشييد المتحف يوم 9 مارس عام 1902م وبدأت عملية نقل الآثار من قصر الخديوى إسماعيل بالجيزة إليه وقد تم نقل الآثار الصغيرة علي سيارات خشبية تجرها الخيول وبلغ عدد النقلات حوالي 5000 نقلة وبخصوص الآثار كبيرة الحجم فقد تم نقلها بواسطة قطارين عبر عدد 19 رحلة ذهاب وعودة وتمت عملية النقل في يوم 13 يوليو عام 1902م كما تم نقل ضريح عالم المصريات أوجست مارييت إلي حديقة المتحف بناءا علي وصيته ورغبته في أن يكون مرقده بجوار الآثار التي عكف على تجميعها والعناية بها طوال حياته وتم إفتتاح المتحف رسميا يوم 15 نوفمبر عام 1902م والمتحف به مايزيد عن 150 ألف قطعة أثرية أهمها القطع اﻷثرية التي تم العثور عليها في مناطق وادى الملوك والملكات باﻷقصر وماعثر عليه في منطقة دهشور عام 1894م وتعد محتويات مقبرة توت عنخ آمون والتي تم إكتشافها علي يد اﻷثرى البريطاني هوارد كارتر عام 1922م في منطقة وادى الملوك باﻷقصر هي أهم وأشهر المجموعات اﻷثرية المعروضة به ويعد القناع الذهبي للملك الشاب توت عنخ آمون أهم وأشهر قطع هذه المجموعة والتي أحيانا يتفق علي عرضها خارج مصر في معارض خاصة تتميز بأنها تلقي إقبالا شديدا من سكان البلاد التي يتم بها العرض .
وقد روعي في تصميم المتحف أن يشمل مكتبة وقد أنشئت بالفعل منذ إفتتاحه ورصد مبلغ من المال منذ عام 1889م لشراء الكتب لها وكان عالم المصريات جاستون ماسبيرو قد طالب بتخصيص مبلغ دائم لشراء الكتب الأمر الذى تم الموافقة عليه وعين مسيو دكروس كأول أمين لها خلال الفترة من عام 1903م وحتي عام 1906م ثم جاء بعد ذلك عدة أمناء آخرين كان منهم مسيو مونييه عام 1926م والذي قام بإعداد كتالوج شامل لمحتويات المكتبة ثم كانت النقلة الهامة للمكتبة حين تولى عبد المحسن الخشاب إدارة المكتبة وعملت معه السيدة ضياء الدين أبو غازي والتي تولت بعد ذلك أمانة المكتبة عام 1950م وكان لها دور هام في إعداد كتالوجات للكتب وزيادة التبادل الخارجي وتوسيع المكتبة بحيث أصبح حجمها الحالي من طابقين وتشمل قاعتي إطلاع ومخزن للمطبوعات كما تضم المكتبة أكثر من 50 ألف كتاب ومجلد من أندر الكتب في تخصص الآثار المصرية القديمة واليونانية والرومانية والشرق الأدنى القديم فضلا عن تخصصات أخرى ومن أهم تلك الكتب المتواجدة بالمكتبة كتاب وصف مصر وكتاب آثار مصر والنوبة وكتاب ليبسيوس كما تحتوي المكتبة أيضا على مجموعة نادرة من الخرائط واللوحات والمخطوطات والصور وفي عام 1983م تم تسجيل مبنى المتحف المصرى كمبنى أثري بإعتبار أنه قيمة معمارية فريدة من نوعها وفي شهر أغسطس عام 2006م أجريت أكبر عملية تطوير للمتحف بهدف جعله مقصدا علميا وثقافيا عن طريق إنشاء مركز ثقافي وملحق إداري تجاري على الجانب الغربي للمتحف مكان العشوائيات التي تم إزالتها وجدير بالذكر أن زيارة المتحف المصرى لا يخلو منها أي برنامج لأى فوج سياحي يفد إلي مصر في وقتنا الحاضر .
|