بقلم المهندس/ طارق بدراوي
موسوعة" كنوز أم الدنيا"
شارع شكيب أرسلان شارع قصير نسبيا يقع في حي بولكلي بمدينة الإسكندرية العاصمة الثانية لمصر وهو يمتد بين شارع أحمد شوقي وشارع أبو قير المعروف بإسم طريق الحرية وحي بولكلي يقع في منطقة الرمل بالإسكندرية وهو يمثل جزءا هاما من التاريخ المصري الحديث منذ أن إحتضن الحي المقر الصيفي لإجتماعات مجلس الوزراء المصري في العهد الملكي لمدة تقارب الأربعين عاما وذلك قبل قيام ثورة يوليو عام 1952م وهي تمثل فترة من أخصب فترات تاريخ مصر السياسي وأكثرها حيوية وديناميكية شهدت بدايات الحكم الدستوري البرلماني للبلاد ليتوافد على بولكلي العظماء من رجالات مصر وساستها وزعمائها نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر الزعماء ورؤساء النظارات والوزارات والوزراء محمد سعيد باشا وحسين رشدي باشا وعدلي يكن باشا وعبد الخالق باشا ثروت ومحمد توفيق نسيم باشا ويوسف وهبة باشا وسعد زغلول باشا ومصطفى النحاس باشا وأحمد زيوار باشا ومحمد محمود باشا وإسماعيل صدقي باشا وعبد الفتاح يحيي باشا وعلي ماهر باشا وحسن صبرى باشا وحسين سرى باشا وأحمد ماهر باشا ومحمود فهمي النقراشي باشا وإبراهيم عبد الهادى باشا وأحمد نجيب الهلالي باشا وعثمان محرم باشا ومكرم عبيد باشا وصبرى أبو علم باشا وفؤاد سراج الدين باشا وأحمد حمزة باشا وغيرهم الكثير من العظماء والنجباء ممن أنجبتهم مصر في كافة المجالات ويقع حي بولكلي ما بين منطقتي رشدي ومصطفى كامل باشا من جهة الغرب ومنطقتي فلمنج وجليم من جهة الشرق ويتقدمه شمالا شاطئ من أجمل شواطئ الإسكندرية يعد الإمتداد الطبيعي له وهو شاطئ ستانلي الساحر حيث الخليج الصغير الذى يشتهر بهدوء مياهه وزرقتها الصافية المسمي خليج ستانلي والذى زاد رونقه بريقا مع تشييد كوبري ستانلي بنهاية القرن العشرين الماضي بطرازه المتميز وتمتد منطقة بولكلي عبر مثلث يشمل ثلاث محطات لخط ترام الرمل رأسه في الغرب حيث المحطة الكبرى التي تعرف بمحطة إيزيس حاليا وكانت هي المحطة النهائية لخط ترام الرمل عند إنشاء الخط حينما كانت تعرف بإسم محطة بولكلي حيث يتفرع عندها الخط إلى فرعين خط باكوس في الجنوب الشرقي وخط جليم في الشمال الشرقي وتقع قاعدة المثلث ما بين محطة ترام الوزارة في إتجاه خط باكوس وسميت المحطة بالوزارة نسبة إلى مبنى المقر الصيفي لمجلس الوزراء والذي يقع في مقابل محطة ترام الوزارة مباشرة وكذا محطة ترام الهدايا في إتجاه منطقة جليم وذلك نسبة إلى مسجد الهدايا الذي يقع بالقرب من المحطة .
وينسب شارع شكيب أرسلان إلي الكاتب والأديب والمفكر العربي اللبناني شكيب بن حمود بن حسن بن يونس الذى إشتهر بلقب أمير البيان بسبب كونه أديبا وشاعرا بالإضافة أيضا إلى كونه سياسيا وكان معروفا بإسم شكيب أرسلان وأرسلان هو أحد أجداده ويعني هذا الإسم باللغتين التركية والفارسية الأسد وكان مولد أديبنا الكبير في قرية الشويفات قرب العاصمة اللبنانية بيروت ليلة الإثنين غرة شهر رمضان عام 1286 هجرية الموافق يوم 25 ديسمبر عام 1869م في أسرة عريقة تضرب بجذورها في التاريخ وتحظى من الشرف والمجد بنصيب وافر فقد كان جده الأكبر الأمير عون ممن إشترك مع أبي عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد في فتوحات الشام أما أمه فقد كانت سيدة شركسية فاضلة عمرت طويلا وكان شكيب يحبها ويجلها وكان متعلقا بها بدرجة كبيرة وقد نشأ شكيب أرسلان متدينا محافظا على فرائض الإسلام من صلاة وصوم على طريقة أهل السنة علي الرغم من أنه قد ولد لعائلة تنتمي للطائفة الدرزية ومن المعلوم أن الدروز لهم مذهبهم الخاص بهم ولا يقبلون بدخول أحد إلى مذهبهم ولا يسمحون لأحدهم بالخروج منه ولكنه كان يصلي ويصوم ويؤدى سائر العبادات كما يفعل المسلمون السنة وأدى الحج أيضا علي مذهب أهل السنة وتزوج من إمرأة شركسية وليس من الدروز وكان شكيب أرسلان محبا للعلم حريصا على القراءة والإطلاع وكانت حياته كلها كتابة أو قراءة أو حديث أو رحلة وقد تعلم تعليما راقيا وأتقن اللغة العربية واللغة التركية واللغة الفرنسية واللغة الألمانية وتأثر بعدد كبير من أعلام عصره ممن تتلمذ على أيديهم أو إتصل بهم في مراحل متعددة من عمره خلال سفراته ورحلاته العديدة وكان أول أساتذته الصحفي والأديب واللغوى عبد الله البستاني الذي علمه اللغة العربية في مدرسة الحكمة الثانوية ببيروت كما إتصل بالإمام محمد عبده ومحمود سامي البارودي باشا وعبد الله فكري ومحمد رشيد رضا والشيخ إبراهيم اليازجي وتعرف إلى أمير الشعراء أحمد بك شوقي والشاعر المصرى الكبير إسماعيل صبري باشا وغيرهم من أعلام الفكر والأدب والشعر في عصره وكذلك تأثر بعدد من المفكرين والعلماء مثل الأديب واللغوى اللبناني أحمد فارس الشدياق الذي كان شديد الحماس والتأييد للخلافة الإسلامية والدولة العثمانية وتأثر أيضا بالمستشرق والعالم الأميريكي الدكتور كرنيليوس فانديك الذي كان يدرس بالجامعة الأميريكية ببيروت وكان دائم الإشادة به وفضلا عن ذلك فقد تأثر بالسيد جمال الدين الأفغاني تأثرا كبيرا وإقتدى به في منهجه الفكري وحياته السياسية .
وقد شب شكيب أرسلان ليجد الوطن العربي والإسلامي فريسة للمستعمرين والغزاة المحتلين ومن ثم فقد نما لديه منذ وقت مبكر وعي قومي قوي بضرورة الوحدة العربية وأهميتها في مواجهة أطماع المستعمرين ومؤامرات الغزاة لإضعاف الأمة العربية وتفتيتها ليسهل لهم السيطرة عليها وقد عني شكيب أرسلان بقضية الوحدة العربية عناية شديدة وأولاها كل إهتمامه وأوقف عليها حياته كلها وكانت مقالاته دعوة متجددة إلى قيام تلك الوحدة الكبرى التي كان يرى فيها الخلاص من حالة الضعف والإستكانة التي سادت الأقطار العربية وجعلتها فريسة للمستعمر الأجنبي وقد تعرض شكيب أرسلان بسبب مواقفه الوطنية للكثير من الإضطهاد من جانب المستعمرين وحيكت ضده المؤامرات العديدة من الإستعمار ومن أذنابه ممن ينتسبون إلى العروبة كما تعرض لحملات شرسة من التشويه والإفتراءات والأكاذيب حيث سعى المحتلون إلى تشويه صورته أمام الجماهير فإتهمه المفوض الفرنسي السامي المسيو هنرى دو جوفنيل بأنه كان من أعوان والي الشام العثماني أحمد جمال باشا الملقب بالسفاح وأنه كان قائدا لفرقة المتطوعين التي كانت تحت إمرته وكان جمال باشا قد تم تعيينه خلفا للوالي خلوصي بك في عام 1915م واليا على الشام وكان جمال باشا كارها أشد الكراهية للعرب وكان يبيت في نفسه نية الإنتقام منهم ومن حركاتهم السياسية على الأخص حالما تسنح له الفرصة وقام جمال باشا بإعدام نخبة من المفكرين والمثقفين العرب من مختلف مدن سوريا ولبنان بعد أن ساق لهم مختلف التهم التي تتراوح بين التخابر مع الإستخبارات البريطانية والفرنسية بهدف التخلص من الحكم العثماني إلى العمل على الإنفصال عن الدولة العثمانية وهو ما قيل إن هذا ما كان يسعى هو بنفسه إليه وكان جمال باشا قد أحال ملفاتهم إلى محكمة عرفية في عالية في جبل لبنان حيث أديرت المحاكمة بقسوة وظلم شديدين وبدون أن تحقق أدنى معايير المحاكمات العادلة والقانونية صاما أذنيه عن جميع المناشدات والتدخلات التي سعت لإطلاق سراحهم وخصوصاً تلك التي أطلقها الشريف حسين بن علي شريف مكة الذي أرسل البرقيات إلى جمال باشا وإلى السلطان العثماني محمد الخامس وإلى الصدر الأعظم العثماني وأوفد إبنه الأمير فيصل بن الحسين إلى دمشق وقابل جمال باشا ثلاث مرات في مسعى لإيقاف حكم الإعدام دون جدوى إذ أن جمال باشا كان قد عقد النية على تنفيذ مخططه الرهيب وبالفعل نفذت أحكام الإعدام شنقا على دفعتين واحدة في يوم 21 أغسطس عام 1915م وأخرى في يوم 6 مايو عام 1916م في كل من ساحة البرج في بيروت ولذا فقد سميت بساحة الشهداء وساحة المرجة في دمشق .
وكانت الحقيقة أن شكيب أرسلان كان قد تولى قيادة تلك الفرقة من المتطوعين اللبنانيين لمقاومة الدول التي إحتلت لبنان وكان من الطبيعي أن يكون تحت إمرة أحمد جمال باشا بإعتباره قائد الفيلق الرابع الذي كانت تنتمي إليه فرقة شكيب لكنه لم يشارك في جريمة جمال باشا النكراء بالإقدام علي الحكم بالإعدام علي نخبة من المثقفين العرب في لبنان وسوريا وإستطاع شكيب أن يفند أكاذيب من هاجموه ويفضح زيفهم وخداعهم ومن ناحية أخرى كان شكيب لا يثق بوعود الحلفاء للعرب وكان يعتقد أنهم يخدعون العرب ولا يريدون الخير لهم وإنما هم يخططون للقضاء على الدولة العثمانية أولا ثم يقسمون البلاد العربية بعد ذلك وكان دائم التحذير من هذا المخطط الماكر وعندما إنتهت الحرب العالمية الأولى في أواخر عام 1918م حدث ما حذر منه شكيب أرسلان فقد سقط القناع عن وجوه الحلفاء وتجلت حقيقة خداعهم للعرب وظهرت حقيقة نواياهم وأطماعهم ضد العرب والمسلمين وفي نفس الوقت كان شكيب أرسلان يحذر قومه من إستغلال الأجانب الدخلاء للشقاق بين العرب والترك خاصة بعدما تنكر الأتراك للخلافة الإسلامية وقام مصطفي كمال أتاتورك في عام 1924م بإلغائها وخلع السلطان عبد المجيد الثاني آخر السلاطين العثمانيين وإعلان قيام الجمهورية التركية والإتجاه إلى العلمانية وقطع ما بين تركيا وبين العروبة والإسلام من وشائج وصلات فهنا إتخذ شكيب أرسلان موقفا آخر من تركيا وحكامها وبدأ يدعو إلى الوحدة العربية لأنه وجد فيها السبيل إلى قوة العرب وتماسكهم كذلك إهتم شكيب أرسلان بأحوال المسلمين في أنحاء العالم المختلفة ففي عام 1924م أسس جمعية هيئة الشعائر الإسلامية في العاصمة الألمانية برلين وكانت تهدف إلى الإهتمام بأمور المسلمين في المانيا وقد تشكلت هذه الجمعية من أعضاء يمثلون معظم الشعوب الإسلامية وكان أهم ما يميزها أنها نحت منحى دينيا بعيدا عن الشؤون السياسية وذلك لتلافي أسباب الخلاف والشقاق التي قد تنجم عن إختلاف الأيدلوجيات السياسية بين الشعوب والدول المختلفة وقد أدرك شكيب أرسلان منذ وقت مبكر أثر العامل الديني في الصراع بين الشرق والغرب وأكد عليه في كثير من كتبه ومقالاته وأوضح أثر ذلك العامل في إثارة دول الغرب ودعمها لإستعمار الشرق وإحتلال العالم الإسلامي وربط بين الحملات الصليبية القديمة نحو الشرق وأخواتها المعاصرة على أيدي الفرنسيين والإنجليز والألمان ولكنه كان أشد نقدا للفرنسيين فقد كانت فرنسا في طليعة الدول التي حاربت الإسلام والمسلمين وقد خرجت منها وحدها إحدى عشرة حملة صليبية في مقابل حملة إنجليزية واحدة وأخرى ألمانية وتناول شكيب أرسلان أيضا فظائع فرنسا ضد المسلمين في شمال أفريقيا مؤكدا أنها حملة عنصرية ضد العروبة والإسلام وهو لا يغفل في حديثه الإشادة بسماحة الإسلام والحديث عن جو التسامح والإخاء الذي يعيشه أبناء الوطن العربي من مسلمين ونصارى موضحا ما يسود بينهم من السلام والوئام حيث ينعم الجميع بكل الحقوق والواجبات دون تمييز أو تهميش .
وكنتيجة لدفاع شكيب أرسلان عن شعوب الآمة العربية وحملته على تنكر حكامها للخلافة والإسلام أصبح شكيب مطاردا من أكثر من دولة فتركيا تطارده لإهتمامه بقضايا العرب وإنجلترا وفرنسا تطاردانه لدفاعه عن شعوب الأمة العربية ودعوته إلى التحرر وتزعمه الجهاد ضد المستعمرين كما ظل مبعدا لفترة طويلة من حياته عن كثير من أقطار الوطن العربي لا يسمح له بدخولها خاصة مصر وسوريا اللتين كانتا تشكلان قلب الأمة العربية ولم يقتصر دور شكيب أرسلان على الإهتمام بقضايا الأمة العربية وإيقاظ الهمم وبعث الوعي الوطني في داخل الوطن العربي فحسب وإنما إنطلق أيضا يشرح قضية العرب ويفضح فظائع المستعمرين ويكشف زيفهم وخداعهم في كثير من بلدان العالم فسافر إلى إيطاليا وأسبانيا وروسيا وأمريكا الشمالية وقد إستقبل في كل بلد زاره بكل حفاوة وتقدير كما قام بنشر العديد من المقالات التي تفضح جرائم المستعمرين في حق الشعوب العربية والإسلامية وتصور الحالة الأليمة التي صارت إليها الأمور في كثير من البلدان التي ترزح تحت نير الإستعمار الغاشم وعلاوة علي ذلك كان شكيب أرسلان من أشد دعاة الوحدة العربية ومن أكثر المتحمسين لأصالة الثقافة العربية وكان مولعا بتمجيد العرب والعروبة كما كان يضيق بالشعوبية وأهلها ويراها حركة تخريب لمدنية العرب وإضعافا لعزائمهم وجمودا لأفضالهم وكان يقول إن لكل عصر شعوبية وشعوبية هذا العصر هم أولئك الأدباء والكتاب الذين يهاجمون العرب والعروبة وبلغ من حرصه على هويته وقوميته العربية أنه كان يخطب دائما بالعربية في رحلاته إلى دول أمريكا وأوروبا مع تمكنه وإجادته للغات الإنجليزية والفرنسية والتركية وإلمامه بالألمانية وكان من أوائل الدعاة إلى إنشاء الجامعة العربية إن لم يكن أولهم على الإطلاق ففي أعقاب الحرب العالمية الأولى مباشرة دعا شكيب أرسلان إلى إنشاء جامعة عربية ولما تألفت الجامعة العربية فيما بعد في عام 1945م كان سرور شكيب أرسلان لها عظيما وكان يرى فيها الملاذ والملجأ الآمن للأمة العربية من التشرذم والفرقة والإنقسامات والسبيل إلى تحقيق نهضة عربية شاملة في جميع المجالات العلمية والفكرية والإقتصادية .
وكان لشكيب أرسلان موقفه أيضا من الطائفية التي كانت تعد من أبرز المشاكل في لبنان فمنذ عام 1860م بعد الحرب الطائفية في لبنان بين المسيحيين والدروز كان النظام الجديد للبنان والذي تبناه ممثلو الدول الأوروبية الست الكبرى فرنسا وبريطانيا وروسيا والمانيا والنمسا وإيطاليا بالإضافة إلي الباب العالي في شهر يونيو عام 1861م كان مناصرا للطائفة المسيحية المارونية ويقوم على الإعتراف بالمبدأ الطائفي وتشجيعه له فوفقا لهذا النظام منح لبنان الحكم الذاتي المحلي في ظل حاكم مسيحي عثماني وكان هذا النظام وما يتبعه من تنظيم للقائمقاميات الطائفية لمصلحة الموارنة وبسبب تهميش هذا النظام الجديد لجبل الدروز حيث ظلت طائفة الدروز على هامش التطور الإقتصادي الذي عرفته طائفة الموارنة بفضل الدعم الخارجي لهم كان من الطبيعي أن يرى شكيب أرسلان بأن الواجب يقتضي تدعيم موقع الأسرة الأرسلانية الدرزية في هذه القائمقامية وأن يكون على رأسها من يحمل تاريخ العائلة الفعلي ويجسد تراثها العربي الإسلامي ومن يعمل على إلتحام الدروز بالدولة العثمانية وتحقيق الذوبان الإستراتيجي للدروز وسط المحيط الإسلامي والسوري الأوسع ولذا نجد أن الأمير شكيب غاص في الصراعات الحزبية الجبلية الضيقة خلال الفترة من عام 1892م وحتي عام 1908م وقام بعدة مأموريات عام 1902م في جبل حوران لإقناع الثوار الدروز هناك بالرجوع إلى طاعة الدولة العثمانية وكان حاسما وواضحا في موقفه من ضرورة وحدة الدروز وإلتفافهم حول الدولة في تلك المرحلة التي تميزت على حد وصف جميع السياسيين والمراقبين والباحثين بضعف الدروز وقوة الموارنة وقام شكيب أرسلان بجهود جبارة في توحيد القوى لإدراج جبل الدروز ضمن إطار الدولة حيث أقام تحالفا بين العائلات الدرزية والعائلات اللبنانية وهذا التحالف قام بالحركة المعروفة بإسم المظاهرة الكبرى حيث توجه وجهاء هذه العائلات على رأس وفود من أعيان البلاد من جميع المناطق اللبنانية والطوائف إلى بيت الدين مطالبين بشمول الدستور لجبل الدروز ثم تحولت هذه المظاهرات إلى حركة عصيان جماهيري أرغمت المتصرف المسيحي على إعلان الدستور في جبل الدروز وكان من النتائج المباشرة لهذه الحركة عزل كبار المأمورين الذين كان المتصرف يعتمد عليهم وتعيين أشخاص من التحالف أو الحزب المؤيد لشكيب أرسلان مكانهم وكان من جملتهم تعيين أرسلان نفسه قائمقاما لمنطقة الشوف اللبنانية .
ولما قامت الثورة العربية ضد الدولة العثمانية في عام 1906م لم يشارك شكيب أرسلان في أحداثها وإنما كان له موقف منها فقد إنتقدها وحذر من عواقبها وقد أدى موقفه هذا إلى أن الكثيرين أساءوا الظن به ولم يكن شكيب أرسلان بدعا في ذلك فقد إتخذ هذا الموقف نفسه عدد كبير من الزعماء الوطنيين والمفكرين العرب كالشيخ عبد العزيز جاويش والزعيم محمد فريد باشا وعبد الحميد سعيد وغيرهم ويفسر شكيب أرسلان موقفه هذا بأنه إعتقد أن البلاد العربية ستصبح نهبا للإستعمار وأنها ستقسم بين بريطانيا وفرنسا ومن ثم سعى شكيب أرسلان إلى إيقاظ الشعور الوطني لدى أبناء الأمة العربية وتنبيههم إلى الأخطار المحدقة بهم وكان من أوائل الذين تنبهوا إلى خطورة سياسة المستعمرين في فلسطين وسعيهم إلى تقسيمها وإنشاء وطن قومي لليهود فيها ويؤكد أنه يفضل الدولة العثمانية الشرقية الإسلامية على إحتلال الفرنجة الأعداء الغرباء ولكنه في الوقت نفسه يذكر أنه لو علم أن الثورة ضد الدولة العثمانية ستؤدي إلى إستقلال العرب وحصولهم علي حرياتهم لما سبقه إليها أحد ومما يذكر أن موقفه هذا لم يكن وليد حدس أو تخمين حيث كانت قد تجمعت لديه الأدلة والقرائن أن الدولتين الإستعماريتين الكبيرتين فرنسا وبريطانيا يسعيان لتقسيم كل من سوريا وفلسطين وما كادت الحرب العالمية الأولى تضع أوزارها حتى تبين للجميع صحة ما ذهب إليه شكيب أرسلان وبعد نظره وعلاوة علي ذلك فقد كان شكيب من أوائل الذين تصدوا لخطر الوجود اليهودي في فلسطين وسعى مخلصا إلى دعوة العرب إلى جمع الشمل والتصدي لتلك المؤامرة الدنيئة وحذر أبناء فلسطين من الخلاف والشقاق لأن ذلك مما يقوي آمال الإنجليز واليهود ويعظم أطماعهم في بلادهم .
وفي النهاية نذكر أن شكيب أرسلان قد عاش نحو ثمانين عاما قضى منها نحو ستين عاما في القراءة والكتابة والخطابة والتأليف والنظم وكتب في عشرات الدوريات من المجلات والصحف في مختلف أنحاء الوطن العربي والإسلامي وبلغت بحوثه ومقالاته المئات فضلا عن آلاف الرسائل ومئات الخطب كما نظم عشرات القصائد في مختلف المناسبات وقد إتسم أسلوبه بالفصاحة وقوة البيان والتمكن من الأداة اللغوية مع دقة التعبير والبراعة في التصوير حتى أطلق عليه لقب أمير البيان وأصدر عددا كبيرا من الكتب ما بين تأليف وشرح وتحقيق وكان من أهم تلك الكتب كتاب تاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط وأصدره عام 1933م وكتاب شوقي أو صداقة أربعين سنة وأصدره عام 1936م وكتاب السيد رشيد رضا أو إخاء أربعين سنة وأصدره عام 1937م وكتاب الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية وكتاب لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم وأصدرهما عام 1939م كما كان له كتاب مترجم وهو رواية آخر بني سراج وهذا الكتاب من تأليف الكونت دي شاتوبريان وقام بترجمته شكيب أرسلان عام 1925م وفضلا عن ذلك كان لشكيب أرسلان عدد من المؤلفات المخطوطة منها رحلة إلى المانيا وبيوتات العرب في لبنان ومذكرات الأمير شكيب أرسلان وقد أودعها مكتب المؤتمر الإسلامي في القدس لتنشر بعد وفاته كما كان له العديد من المخطوطات تجاوز عددها 24 مؤلف ومعظم هذه المخطوطات موجود في المكتبة الخاصة بالملك المغربي الراحل الحسن الثاني أو موزعة لدى العديد من أبناء الجبل في لبنان وحوران وفي عام 1945م وبعد أن إنتهت الحرب العالمية الثانية وتحررت سوريا ولبنان عاد شكيب أرسلان إلى لبنان في يوم 30 أكتوبر عام 1946م وتم إستقباله إستقبالا حافلا فمتع نظره بمشاهدة وطنه حرا مستقلا طليقا من الإحتلال والإستبداد إلا أنه تحالف عليه مرض تصلب الشرايين والنقرس والرمل في الكليتين وثقل الثمانين عاما فلم تطل مقاومته فلفظ أنفاسه الأخيرة ليلة الإثنين 9 ديسمبر عام 1946م ودوى النبأ الفاجع فهرع الأمراء الأرسلانيون إلى بيته يرسلون إليه النظرة الأخيرة لوداعه وهبت بيروت ودمشق إلى داره وساد وجوم رهيب في أنحاء العالمين العربي والإسلامي لموته وشيعت جنازته في اليوم التالي بموكب مهيب وتمت الصلاة عليه في الجامع العربي ببيروت وسار في صدر هذا الموكب الحاشد رئيس الجمهورية اللبنانية آنذاك الشيخ بشارة الخوري ونقل جثمان الراحل إلى مسقط رأسه في قرية الشويفات فعاد إلى الربوع التي عرفته صبيا يافعا بعد حياة حافلة بالنضال والكفاح من أجل صالح وطنه العربي والأمة الإسلامية .
|