بقلم المهندس/ طارق بدراوي
موسوعة" كنوز الدنيا"
شارع سيزوستريس هو أحد أهم وأشهر شوارع وسط مدينة الإسكندرية العاصمة الثانية لمصر وهو يقع في نطاق حي العطارين أحد أقدم وأشهر الأحياء الشعبية بمدينة الإسكندرية وهو يمتد من تقاطعه مع شارع سيدى المتولي أحد اشهر شوارع الحي والذى يضم المؤسسة الثقافية اليونانية التي كانت في الأصل مدرسة أفيروف الثانوية للبنات ويعود تاريخها لأكثر من 100 عام ويمتد ليتقاطع مع شارع الإسراء وشارع مسجد العطارين وشارع أحمد عرابي وشاعر صلاح سالم وشارع طلعت حرب وينتهي بتقاطعه مع شارع كنيسة الأقباط الذى توجد به الكاتدرائية المرقسية بمدينة الإسكتدرية وقد سمي حي العطارين بهذا الإسم نظرا لوجود سوق العطارين به والذى يقع في الشارع الذى سمي أيضا بشارع العطارين المتواجد على مقربة من المسرح الروماني أحد أهم آثار مدينة الإسكندرية من العصر الروماني وكان هذا السوق قد أصبح مركزا تجاريا مهما إشتهر بتجارة التوابل والعطور خاصة بعد الفتح العربي لمصر وإعتبرت تلك السوق من أشهر أسواق العطارة في العالم وبمرور الزمن إختفت محال ودكاكين العطارين من هذا السوق وظهرت محال بيع التحف والأنتيكات والأثاث القديم والجديد والتي كان يمتلكها مصريون وشوام وأتراك ويونانيون وإيطاليون وأرمن ويهود ومالطيين وما زالت رائحة تلك التوليفة البشرية الرائعة تعبق أزقة وحواري هذا الحي العتيق ويمكنك أن تتحسس أثرها في لافتات المحال والحوانيت الصغيرة التي كانت ذات يوم تتلألأ إذ كان محل بولس شوحا اللبناني الأصل من أشهر محال الأحذية في الإسكندرية وكان محل ليليكان من أشهر محلات الحي لبيع الأثاث وسينتابك إحساس بأنك في عالم سحري تتفتح بوابته أمامك حين تسوقك الأقدار إلى هذا الحي ومما يذكر أن هذا الحي وحتي وقتنا الحاضر لم يفقد طرازه المعماري المتميز الذي يميز أغلب مبانيه ومتاجره ومحاله القديمة التي تبدو على ملامحها فنون العمارة الأوروبية وخاصة العمارة الإيطالية والفرنسية .
وكلنا يتذكر أغنية سبع سنين في العطارين وأنا بحبك يا مصطفى تلك الأغنية الفلكلورية الشهيرة التي تغنى بها المغني السكندري بوب عزام وغناها أيضا المغني التركي الفرنسي داريو مورينو لكن ربما لا يدري كثيرون أن إيقاعها كان توليفة سحرية قوامها نسيج بشري من التوليفة البشرية السابق ذكرها والذين عاشوا معا في وئام وسلام ومحبة ومما يلفت النظر أنك من الممكن أن تجد داخل تلك المحلات موبيليا علي الطراز الفرنسي والإنجليزي والإيطالي أو التركي ومع الوقت أصبح تجار الأثاث في هذه السوق من المهارة لدرجة أنهم أتقنوا أيضا أعمال الترميم والإصلاح فبنقرة واحدة علي أي قطعة خشبية يستطيع أحدهم معرفة ما إذا كانت بحالة جيدة أم لا وإصلاحها علي الفور كما إنتشرت في هذا السوق أيضا محلات بيع الملابس الجديدة والمستعملة ومحال بيع طيور وأسماك الزينة وشتلات النباتات في فترة الخمسينيات من القرن العشرين الماضي والتي إعتمد نشاطها على شراء ممتلكات الأجانب منهم أولا والذين هاجروا خارج مصر ثم بيعها لمن يرغب بعد ذلك حيث تجد نفسك بين ذخائر التحف والأنتيكات الممهورة بأسماء أصحابها من المشاهير التي يزدان بها هذا الحي العتيق كأنك في جاليري مفتوح يأسرك فيه هوس إقتناء التحف وقد حظيت المحال التي تبيع التحف والأنتيكات في العطارين في ذلك الوقت بشهرة عالمية كبيرة فكان يأتي إليها هواة جمع التحف من كل البلاد بحثا عن قطعة نادرة أو لوحة فنية أصلية ومن أشهر زوار هذه المحال الملكة صوفيا ملكة أسبانيا اليونانية الأصل والمولد والتي تربت وعاشت وتعلمت في مدينة الإسكندرية وكذلك الفنانة الراحلة العالمية الفرنسية الجنسية والمصرية الأصل داليدا .
وينسب شارع سيزوستريس إلي الملك سنوسرت الثالث خامس فراعنة الأسرة الثانية عشر الفرعونية والذى حكم مصر من عام 1878 ق.م. حتى عام 1839 ق.م. ويعتبر من أعظم فراعنة الدولة الوسطى الفرعونية وأحد المؤثرين في تاريخ الفراعنة بوجه عام وهو يعد أيضا محارب عظيم وسياسى محنك وإقتصادى من الطراز الأول حيث وصل بعملية الإصلاح الزراعى والإقتصادى فى مصر فى هذه الفترة من الزمن ما جعل مصر فى مصاف الدول الإقتصادية الكبرى فى ذلك الوقت وقد إستمرت ذكراه تتردد حتى بعد مرور قرنين من الزمان كملك من أقوى الملوك حتى أن منهم من رفعه إلي مصاف الآلهة وقد سماه الإغريق سيزوستريس الثالث أي أن سيزوستريس هو الترجمة الإغريقية لسنوسرت والذى نشأ فى رعاية والده الملك سنوسرت الثانى ووالدته هى الملكة نفر حجيت الأولى وشهد الرخاء الذى عاشت فيه مصر فى ظل حكم والده الآمن وشارك والده فى آخر سنوات حكمه ليكون مستعدا لخلافته وفي عهد هذا الفرعون العظيم نهضت البلاد نهضة عظيمة في الأعمال المعمارية والفنية والملاحية والزراعية وأعمال الري التي لم يسبقه إليها أحد من قبل كما إزدهرت في عهده التجارة ووصلت إلى أقصى بلاد الجنوب وإلى الشمال مع بلاد الشام ومن الناحية الإدارية تمكن من أن يقضى نهائيا على نفوذ حكام الأقاليم بعد أن زادت ثرواتهم ونفوذهم فجردهم من ألقابهم التى كانت إرثا لهم ولمن بعدهم وألغي مزاياهم فأصبحوا موظفين لا أكثر ولا أقل وبهذا عادت هيبة الملك الحاكم وقداسته وهو ما إستفاد به من تلاه في الحكم وفي إطار الإصلاحات الإدارية أيضا أقام ثلاث إدارات رئيسية تهيمن كل منها على شؤون الشمال ومصر الوسطى ومصر العليا وهو ما لقى نجاحا كبيرا وكان الغرض من هذا النظام إعادة المركزية للعاصمة من جديد وعلاوة علي ذلك شرع القوانين التي من شأنها حفظ حقوق رعاياه وبذلك حقق الأمن والأمان في البلاد وحمى مصر من العديد من الأخطار التي كانت تحيط بها .
وفي عهد سنوسرت الثالث أيضا إتسعت حدود المملكة المصرية حيث واصل سنوسرت الثالث توسيع أملاك المملكة المصرية الوسطى في النوبة حيث قام بعدد أربع حملات علي النوبيين فيما بين السنة الثامنة والسنة التاسعة عشرة من فترة حكمه وقد تم العثور علي لوحة توثق إنتصاراته في السنة الثامنة من حكمه ضد النوبيين والتي يعتقد أنه من خلالها آمن حدود مصر الجنوبية ومنع المزيد من التوغلات في مصر كما تم إكتشاف لوحة كبيرة أخرى سميت لوحة الحدود الخالدة في السنة السادسة عشرة من حكمه كان نصها لقد جعلت تخوم بلادي أبعد مما وصل إليه أجدادي ولقد زِدت في مساحة بلادي على ما ورثته وإني ملك يقول وينفذ وما يختلج في صدري تفعله يدي وإني طموح إلى السيطرة وقوي لأحرز الفوز ولست بالرجل الذي يرضي لبه بالتقاعس عندما يعتدَى عليه أهاجم من يهاجمني حسب ما تقتضيه الأحوال وإن الرجل الذي يركن إلى الدعة بعد الهجوم عليه يقوي قلب العدو والشجاعة هي مضاء العزيمة والجبن هو التخاذل وإن من يرتد وهو على الحدود جبان حقا ولما كانت الأسود تحكم بكلمة تخرج من الفم فإن الجواب الحاسم يردعها وعندما يكون الإنسان ماضي العزيمة في وجه الأسد فإنه يولي مدبرا أما إذا تخاذل أمامه فإنه يأخذ في مهاجمته ومما يذكر أن حملته الأخيره علي النوبة والتي كانت في العام التاسع عشر من حكمه كانت أقل نجاحا من حملاته السابقة لأن قواته تأثرت بإنخفاض منسوب النيل وكان عليها أن تتراجع عن تلك الحملة لكي تتجنب تلك القوات الوقوع في فخاخ النوبيين وجدير بالذكر أن هناك مسلة تذكر إنجازاته الحربية في النوبة وفلسطين وقام سنوسرت الثالث أيضا ببناء قلاع علي حدود مصر في مختلف الإتجاهات حيث أقام قلاع نهرية ضخمة منها بوهن وتوشكى عند أورونارتي جنوبي أسوان ووصل حتى الشلال الثالث كما بنى قلعة في مدينة بيبلوس الفينيقية وهي في محافظة جبيل بلبنان حاليا وبنى قلعتى سمنة وقمنة ما وراء الجندل الثاني لحماية مصر الجنوبية والغربية وقام أيضا الملك سنوسرت الثالث بإقامة تمثالين عملاقين في مدينة سمنة تخطى إرتفاعهما العشرين مترا وهو أول ظهور للتماثيل العملاقة بهذا الحجم فى التاريخ المصري وكان الغرض منهما هو تخويف بلاد النوبة من بطش صاحب التمثالين الملك سنوسرت الثالث عند الخروج عليه والذى ظهر فى التمثالين قوى البنية غليظ ملامح الوجه مهاب فى شكله العام .
وعلاوة علي كل ما سبق أنشأ سنوسرت الثالث معبدا ومدينة في أبيدوس ومعبد آخر في مدينة المدامود بمحافظة الأقصر حاليا وهرم في منطقة دهشور بمركز البدرشين بمحافظة الجيزة وهو يقع على بعد 1.5 كم شمال شرق الهرم الأحمر للملك سنفرو وقد تم تشييده على أرض مستوية ويتكون من لب طوب اللبن المغطى بغلاف من كتل الحجر الجيري الأبيض المجلوب من محاجر منطقة طرة وقد تم التنقيب عنه لأول مرة في عام 1894م من قبل عالم المصريات جاك دي مورجان الذي تمكن من الوصول إلى حجرة الدفن بهذا الهرم بعد إكتشاف نفق حفره لصوص القبور القدامى كما بني الملك سنوسرت الثالث هرم آخر في قرية هوارة بالفيوم وعلاوة علي ذلك ففي عام 1894م تم إكتشاف كتابات محفورة بالصخر الجرانيتي في جزيرة سهل قرب أسوان تدون حفر قناة سيزوستريس وهي القناة المائية التي خطط سنوسرت الثالث لإنشائها لكي تربط ما بين البحر الأحمر والمتوسط عن طريق النيل وسميت هذه القناة قناة سيزوستريس وهي القناة التي خرجت بالقرب من مدينة باستيت في الزقازيق بمحافظة الشرقية من فرع النيل البيلوزى وهو أحد فروع النيل السبعة التي كانت موجودة في عصره والذى كان متجها إلي مدينة بيلوزيم شرقي بور سعيد حاليا وتمر غربا بوادي الطميلات ومدينة بيتوم بالقرب من الإسماعيلية حاليا ومنها إمتدت نحو البحيرات المرة ثم أنشأ إمتدادها ما بين البحيرات المرة وخليج السويس وسماها قناة كبريت وقد ساهمت هذه القناة في إزدياد حركة التجارة مع مصر وبلاد بونت وبين مصر وجزيرتي كريت وقبرص بالبحر المتوسط كما أنها ساهمت في إزدياد رقعة الأرض الزراعية ومن ثم وفرة المحاصيل في مصر أثناء فترة حكم الدولة الوسطى وجدير بالذكر أن هذه القناة أهملت بعد ذلك وطمرت ثم أعيد إفتتاحها بعد ذلك عدة مرات تحت عدة أسماء منها قناة سيتي الأول عام 1310 ق.م فقناة دارا الأول عام 510 ق.م ثم قناة بطليموس الثاني عام 285 ق.م وقناة الرومان في عهد الإمبراطور الروماني تراجان عام 117م وقناة أمير المؤمنين عام 642م بعد الفتح الإسلامي لمصر على يد عمرو بن العاص وظلت تلك القناة 150 عاما إلى أن أمر الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور بردم تلك القناة التي كانت تصل بين الفسطاط والسويس وسدها من ناحية السويس منعا لأي إمدادات من مصر إلى أهالي مكة والمدينة الثائرين ضد الحكم العباسي وبعدها فتحها الخليفة العباسي الخامس هارون الرشيد لمدة ومن بعده ردمت من جديد إلي أن برزت الفكرة مرة أخرى إلى الوجود في زمن الحملة الفرنسية علي مصر ولكن لم يتم تنفيذها نتيجة خطأ في الحسابات ظنا من أن البحر الأحمر منسوبه أعلي من البحر المتوسط ومن ثم فإن حفر قناة بينهما قد يعرض مصر للغرق ومن ثم تم صرف النظر عن تنفيذ هذه الفكرة إلي أن تبين أنه لا خطر من حفر تلك القناة وبالفعل تم البدء في حفرها في عهد محمد سعيد باشا إبن محمد علي باشا عام 1859م وتم إفتتاحها في عهد خليفته الخديوى إسماعيل عام 1869م .
ومما يذكر عن الملك سنوسرت الثالث أنه أراد أن يجسد نفسه في تمثال كملك ويرتدي غطاء الرأس الملكي يحمل عبء المسئولية الكبيرة فصور نفسه بالتمثال بملامح رجل مسن بوجه منهك وعينان غائرتان مع وجود إنتفاخ بالجفن أسفل العين كذلك جعل أذناه كبيرتان في إشارة علي أنه كان يستمع إلى شعبه وذلك على نقيض عادة الملوك في ذلك الوقت حيث كانوا يصورون أنفسهم بملامح الشباب وفي آخر أيام حكمه والذي إستمر تسعة وثلاثين عاما أشرك سنوسرت الثالث إبنه أمنمحات الثالث في حكم البلاد في العشرين عام الأخيرة من فترة حكمه متبعا في ذلك العادة المتبعة حينذاك حيث كان ملوك الفراعنة يشركون أبناءهم في الحكم في حياتهم من أجل إعدادهم لتولي أعباء الحكم من بعدهم وكنتيجة لكل الأعمال العظيمة التي قام بها هذا الملك من مظاهر مشرفة فقد دفع ذلك المصريين إلى تقديسه سواء في حياته أو بعد موته ومن الملفت للنظر أن سيرته ظلت تروى كالأساطير التي تصل إلى حد التقديس بين أفراد الشعب بعد وفاته حتى وصلت إلى مسامع المؤرخين اليونانيين في العصور المتأخرة والذين عرفوه تحت إسم سيزوستريس كما ذكرنا في السطور السابقة ويعد هذا الملك من بين الملوك المعدودين الذين تم تقديسهم وعبادتهم في حياتهم على الأرض وكان من أهم وصاياه قبل وفاته لأبنائه وأحفاده ضرورة حماية أمن مصر وفي إشارة للتمثالين اللذين وضعهما في مدينة سمنة جنوبي البلاد قال لهم لقد وضعت تمثالى هنا لا لكي تعبدوه ولكن لكي تدافعوا من أجله .
|