بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا”
جانب آخر تميز به السلطان مراد الأول فقد نجح نجاحا باهرا في الإرتقاء بالدولة العثمانية إستكمالا لمسيرة أبيه وجده وقد مهدت الفتوحات التي تمت في عهده السبيل إلي إحداث تغييرات هامة وجذرية في نظم وقوانين الدولة العثمانية الناشئة عسكريا وسياسيا وإقتصاديا وإجتماعيا مما ساعد على وضع أُسس الهيكل المركزي لها وقد ترك السلطان مراد الأول وراءه دولةً بلغت مساحتها حوالي نصف مليون كيلو متر مربع منها حوالي 291 ألف كيلو متر مربع في البلقان ومايزيد عن 208 ألف كيلو متر مربع في الأناضول وأدخل إنتصاره الأخير في كوسوفو معظم البلاد البلقانية ضمن ديار الإسلام وظلت هكذا أكثر من 500 عام.
وبهذا فإن السلطان مراد الأول قد زاد حدود دولته أكثر من خمسة أمثال مساحتها في آخر عهد أبيه في مدى حوالي 29 سنة إذ كانت مساحتها عندما تسلمها 95 ألف كيلو متر مربع فقط وعلى الصعيد الإداري توسعت الإدارة العثمانية في عهد السلطان مراد الأول بمقدار خمس مرات عما كانت عليه كما إزداد عدد السكان بحيث أصبح عهد السلطان مراد الأول يعد نقطة تحول فاصلة في الحلقة التاريخية للإنتقال إلى طور الدولة بكامل أركانها رسميا كما أدى الإنتشار العثماني الواسع في البلقان إلى ظهور مناطق حدودية جديدة كانت هدفا لحركة هجرة تركية وإسلامية واسعة وعلى الرغم من المقاومة التي صادفها العثمانيون فإن هدف الإستيطان والسياسة التي طبقوها قد أثبتت لهم أنه من الصعب إجلاؤهم عن البلقان ومن المعروف أن ممارسة عمليات نقل السكان إلى المناطق المفتوحة قد بدأت منذ وقت مبكر بهدف تدعيم الجهاد وفي الوقت الذي إستقر فيه الفاتحون في المناطق المفتوحة جرى دمج القادة المحليين شيئا فشيئا عن طريق الإقطاع مما أحدث تغييرات هامة في التركيبة السياسية في البلقان إذ أن تطبيق نظام الإقطاع العسكري الذي سار عليه العثمانيون في الأراضي المفتوحة ألحق قسما من الأُمراء المحليين بنظام أطلق عليه التيمار حيث أُبطلت حقوق هؤلاء على السكان وتساوى المزارعون في البلقان بالمزارعين المسلمين الأناضوليين في الحقوق والواجبات كما حقق هذا الربط الأمن والهدوء وعزز قوة الجيش وحيث أن إرساء أُسس نظام الإقطاع العسكري منوطة بشكل مباشر بتعمير القرى فقد عمل العثمانيون على تشجيع الناس على الهجرة من الأناضول والعمل من ناحية أُخرى على إقرار السكان المحليين في أماكنهم وهكذا رسخت الإدارة العثمانية أقدامها في الروملي وجرى إحياء عملية الحياة الإقتصادية من واقع تعزيز الوجود السكاني في القرى وتعمير الخربة منها وأدى العلماء الذين إستقطبتهم فرص المناصب والمخصصات والدراويش الغزاة الذين وجدوا الفرصة لممارسة عملية الجهاد دورا في تطبيع الممارسات الإدارية الإسلامية المتميزة بالتسامُح مع غير المسلمين والواقع أن الصدر الأعظم قره خليل باشا الجندرلي أدى دورا أساسيا في بناء إدارة مركزية فأنشأ منصب قاضي العسكر القاضي الأعلى للجيوش العثمانية وكان في واقع الأمر قاضي القضاة أي رئيس العلماء وما يقوم مقام وزير العدل المعاصر وذلك حتي إنشاء منصب شيخ الإسلام لاحقا وكان يجمع بحكم صلاحياته بين رئاسة الإدارة وقيادة الجيش وأنشأ خزانة الدولة ونظام الدفاتر وهما أساس المؤسسة التيمارية وكان من يتولى نظارة الخزانة يسمى الخازندار ومن يتولى نظارة الدفاتر يسمى الدفتردار وتم في ظل حكم السلطان مراد الأول إنشاء منصب البكلربك أى أمير الأُمراء .
وفي المجال العسكرى بعيدا عن الفتوحات فقد شهدت المؤسسة العسكرية العثمانية بضع تغيرات وتطورات ملحوظة في عهد السلطان مراد الأول ففي مجال سلاح الفرسان ينسب إلى القائد والوزير تيمورطاش باشا تنظيم فرق الخيالة العثمانيين المسماة السپاهية على نظام جديد وإختار أن تكون راياتهم بِاللون الأحمر الذي أصبح شعار الدولة العثمانية حتى آخر أيامها وأقطع كل فرد منهم جزءا من الأرض يزرعهُ أصحابه الأصليون مسيحيين كانوا أو مسلمين في مقابل دفع بدل معين لصاحب الإقطاع وذلك بشرط أن يسكن الجندي في أرضه وقت السلم ويستعد لِلحرب عند الحاجة على نفقته وأن يقدم أيضا جنديا آخر معه وكان كل إقطاع لا يتجاوز إيراده السنوي عشرين ألف قرش يسمى تيمار وما زاد إيراده على ذلك يسمي زعامت وكانت هذه الإقطاعات لا يرثها إلا الذكور من الأعقاب وإذا إنقرضت الذرية الذكرية ترجع المقاطعة إلى الحكومة والتي تقطعها إلى جندى آخر بنفس هذه الشروط وفي عام 1387م إقترح قره خليل باشا الجندرلي على السلطان مراد الأول تشكيل وحدات عسكرية نظامية جديدة إلى جانب الإنكشارية والسپاهية فوافقه السلطان على ذلك وهكذا تأسست وحدتا مشاة اليايا وفُرسان المسلم وكانت المرحلة الأولى هي جمع ألفين من فتيان الترك الأشداء ألف لِلفُرسان وألف لِلمشاة وهؤلاء سوف يتقاضون أُجورا أثناء الحرب أما في زمن السلم فسوف يعملون في زراعة الأراضي التي ستخصص لهم وقسم جنود المشاة إلى جماعات تضم عشرة جنود وبلوكات تضم مائة جندي وعرف قائد الجماعة بإسم أونباشي أي رئيس العشرة وعرف قائد البلوك بإسم يوزباشي أي رئيس مائة بينما يقود الجميع قائد إسمه بكباشي أي رئيس الألف أما فُرسان المسلم فقد إنقسموا إلى فرق عرفت بإسم الأوجاقات تضم كل منها ثلاثين فارسا يقضي الأمر بذهاب خمسة منهم إلى الحرب ولما تضاعفت الفتوحات العثمانية في الروملي زادت حاجة الدولة إلى الجنود فإتجهوا من أجل هذا إلي الإستفادة من أسرى الحرب بموجب قانون الخمس الذي نص على جواز حصول الدولة على خمس أسرى الحرب مقابل الضريبة المستحقة عليهم وكان يجري في البداية إلحاقهم بِأوجاق الإنكشارية بعد مرحلة تدريب قصيرة وذلك في عهد السلطان أورخان غازى فلما تبين لخليفته السلطان مراد الأول بعض المحاذير في ذلك أشار بتسليم الفتيان من أسرى الحرب في البداية للأُسر التركية المسلمة في الأناضول وبذلك أمكن لهؤلاء العمل بالزراعة لقاء أجر زهيد وفي الوقت ذاته كانوا يتعلمون العادات والتقاليد التركية الإسلامية وكانوا يتلقون التعليم العسكري الأساسي في أوجاقٍ أسسه السلطان مراد الأول في كاليبولي عرف بإسم أوجاق العجمية كما كان السلطان مراد الأول قد أنشأ عقب فتح إدرنه أوجاقا آخر بهمة وجهود قره خليل باشا الجندرلي.
وفي مجال العلاقات الخارجية فقد حرص العثمانيون علي إقامة علاقات متميزة بينهم وبين دولة المماليك التي كانت تحكم مصر والشام والحجاز وتميزت هذه العلاقات بالود والتقارب الشديدين وذلك منذ أن قامت الدولة العثمانية وأخذت على عاتقها فتح بلاد البلقان ونشر الإسلام في ربوعها وخطب السلاطين العثمانيين ود السلاطين المماليك بإعتبارهم زعماء العالم الإسلامي والقائمين على حماية الخلافة الإسلامية حينذاك وإعترفوا لهم بالأولوية السياسية والدينية بينما خططوا لأنفسهم في البداية دورا متواضعا هو دور البكوات حماة حدود ديار الإسلام هذا وقد ظل المماليك ينظرون إلى تحركات العثمانيين الجهادية كجزء من المسألة الإسلامية العامة وفي الوقت الذي حرص فيه العثمانيون على تجميع القوى الإسلامية في الأناضول لمواجهة البيزنطيين والأوروبيين فقد حرصوا من جهة أُخرى على توثيق العلاقات الأخوية مع المراكز الإسلامية الأخرى وبحلول عهد السلطان مراد الأول أعطي العثمانيون أهمية خاصة لتوثيق علاقاتهم بالدولة المملوكية بإعتبارها أقوى زعامة إسلامية آنذاك وقد قوى ظهور القائد المغولي تيمورلنك أواصر هذه العلاقات حين تعرضت كل من الدولتين لخطر توسعه على حسابها وكانت الدولة العثمانية هي البادئة بالسعي لتأكيد روابط الصداقة والود مع المماليك أو إيجاد نوع من الروابط معهم وبدأت العلاقات الرسمية بين الدولتين في عام 790 هجرية الموافق عام 1388م حين زود العثمانيون المماليك بالمعلومات الخاصة بِتحركات تيمورلنك وجيوشه حيث أرسل السلطان مراد الأول بعثةً إلى القاهرة عاصمة الدولة المملوكية قابل أعضاؤها السلطان المملوكي سيف الدين برقوق بن أنس وقدموا إليه هدية سلطانهم مراد الأول وسلموه رسالة منه مفادها أن تيمورلنك قد خرج من تبريز عاصمته وتوجه بإتجاه الشرق إلى مدينة سمرقند التي تقع في جمهورية أوزبكستان حاليا وأن معني هذه التحركات هو رغبة تيمور لنك في التوسع غربا علي حساب جيرانه في أرمينيا وأذربيجان وخوارزم وخراسان وباقي بلاد فارس والعراق وبلاد الشام وفي الأناضول أيضا وهو الأمر الذى حققه تيمورلنك بالفعل تدريجيا عاما بعد عام وتمكن من هزيمة العثمانيين وتم أسر السلطان العثماني بايزيد الأول بن السلطان مراد الأول هو وأحد أبنائه بعد معركة هائلة عرفت بإسم معركة أنقرة والتي وقعت في يوم 19 ذي الحجة عام 804 هجرية الموافق يوم 20 يوليو عام 1402م ولم يتحمل السلطان العثماني الأسر فمات كمدا في يوم 15 شعبان عام 805 هجرية الموافق يوم 10 مارس عام 1403م .
|