بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا”
وبعد إنتصار العثمانيين علي الصليبيين الأوروبيين في نيقوبوليس توجه السلطان بايزيد الأول إلى بلاد اليونان حيث أنه كان قد فقد ثقته بالحكام المحليين المحيطين به والذين كانوا ينتهزون الفرص ولا يلتزموا بما إتفقوا عليه مع السلطان العثماني بأن يكونوا تابعين له وكان منهم بصفة خاصة تيودورأمير المورة البيزنطي والذى كان قد عاد إلي التحالف مع الأوروبيين رغم خصومته السابقة معهم وإستنجاده بِالسلطان العثماني لِذلك توجه إليه وفتح مدن آرغوس وآتيكة وسلوري بجنوب بلاد اليونان وحاصر أيضا مدينة كورنثة بوسط جنوب اليونان وإصطدم بتيودور في مدينة ليونتاريون في يوم 24 رمضان عام 799 هجرية الموافق يوم 21 يونيو عام 1397م إلا أنه لم يستطع إخضاعه وطلب هذا الأخير العون من البنادقة فرفضوا مساعدته بسبب نزاعهم السابق معه وبسبب علاقاتهم التجارية مع الدولة العثمانية فتوجه نحو فُرسان الإسبتارية الصليبيين في جزيرة رودس وعرض عليهم التنازل عن الإمارة مع الإحتفاظ بحق إعادة شرائها في مقابل مساعدته وتمت الصفقة وبذلك بقيت المورة خارج نطاق السيطرة الإسلامية العثمانية غير أن السلطان بايزيد نقل ما يقرب من ثلاثين ألفا من المناطق التي فتحها في المورة إلى آسيا الصغرى وشجع في المقابل حركة الإستيطان التركي والإسلامي في المورة بهدف إضعاف جبهتها كذلك تمكن بايزيد من إخضاع بعض الأُمراء الروم الثانويين في المورة وإرغامهم على تقبل السيادة العثمانية وذلك عقابا لهم على ما قدموه من مساعدة للحلف الصليبي بعد الإنتصار في نيقوبوليس وتأمين الجبهة البلقانية والسيطرة على قسم من المورة ومن ثم إلتفت بايزيد الأول مجددا نحو القسطنطينية لإستكمال حصارها ويبدو أنه كانت هناك علاقة بأمر إتخاذ هذا القرار بالمدى الذي إمتنع فيه الإمبراطور البيزنطي عمانوئيل الثاني عن الوفاء بإلتزاماته تجاه الدولة العثمانية التي ذكرناها في السطور السابقة حيث تنكر لما كان قد عاهد عليه العثمانيين حيث إمتنع عن إنشاء حيٍ للمسلمين ومحكمة شرعية ومسجد جامعٍ في القسطنطينية والراجح أنه أراد التخلص من التبعية للسلطان بايزيد الأول مبرهنا عن قصر نظر في الحقلين السياسي والعسكري لأن العاهل العثماني كان قد نجح في عزل العاصمة البيزنطية وهو في أوج قوته وحتى يحكم حصارها بنى قلعة أناضولي حصار على مسافة ثمانية كيلومترات منها على الساحل الأسيوى لمضيق البوسفور وقد شيدت هذه القلعة التي سميت بدايةً كوزل حصار أي القلعة البديعة على أطلال هيكل أورانوس الروماني القديم وأصبحت تتحكم في حركة السفن الداخلة والخارجة من المضيق بقذائف المدافع والمجانيق والسهام المشتعلة وبعد إحكام الحصار أرسل بايزيد إلى الإمبراطور البيزنطي يطلب منه تسليم عاصمته القسطنطينية للمسلمين عقابا له على موقفه المعادي للعثمانيين خلال حملة نيقوبوليس .
ويبدو أن العثمانيين لم تكن لديهم بعد إمكانيات التغلب والإنتصار على الأسوار والتحصينات القوية للعاصمة البيزنطية القسطنطينية وعلى بسالة المدافعين عنها وِخاصة أن عمانوئيل الثاني إلتمس العون من الغرب الأوروبي وتلقى مساعدة من شارل السادس ملك فرنسا الذي أرسل إليه قوة عسكريةً مؤلفة من ألف ومائتي جندي بقيادة يوحنا لومينجر أحد القادة الذين إشتركوا في معركة نيقوبوليس وتوغلت هذه القوة في عمق الأراضي العثمانية ونفذت غارة على مدينة إزميد التي تقع شرقي القسطنطينية إلا أنها لم تستطع إبعاد الخطر العثماني عن العاصمة العتيدة والحقيقة أن بيزنطة كانت بحاجة إلى مساعدة أكثر فاعلية مما دفع الإمبراطور إلى السفر إلى بعض دول أوروبا والتي كان منها فرنسا لإستجداء المساعدة منها من أجل إنقاذ عاصمته وعين إبن شقيقته وعدوه القديم يوحنا السابع وصيا على العرش ولكنه لم يتلق أية مساعدة فمكث في العاصمة باريس منتظرا وصول خبر سقوط القسطنطينية في يد العثمانيين ومن تصاريف القدر أنه لم ينقذه هو وعاصمته من السقوط سوى إنشغال بايزيد بحرب أمير القرمان الذى نقض العهد معه مجددا علاوة علي إجتياح تيمورلنك للمشرق الإسلامي وكان من الواضح أن الإتفاق بين بايزيد الأول والأمير علاء الدين القرماني كان مرحليا فقط من جانب الثاني على الأقل إذ أنه إستغل إنهماك العثمانيين في فتح البلاد البلغارية ومحاربة الصليبيين وحصار القسطنطينية لكي يسترد ما تنازل عنه للعثمانيين فجهز جيشا عظيما من التركمان وإستعان ببعض جيرانه وسار بهذا الجيش قاصدا مهاجمة مدينة أنقرة فإشتبك مع حاكمها تيمورطاش باشا وهزمه في إحدى الوقائع وأخذه أسيرا فلما بلغ خبره إلى مسامع السلطان بايزيد الأول جاء رده سريعا فترك حصار القسطنطينية مضطرا وسارع عائدا إلي بلاد الأناضول لتأديب هذا الثائر وتقابل الجيشان في موضعٍ يقال له آق چاي قرب أنقرة بوسط تركيا حيث دارت بينهما معركة أفضت إلى هزيمة القرمانيين ووقوع الأمير علاء الدين القرماني وولديه محمد وعلي أسرى في يد السلطان العثماني بايزيد الأول فساقهم جميعا إلى مدينة قونية عاصمتهم حيث أمر بإعدام علاء الدين بعد أن أثبت سوء نيته مرارا وتكرارا تجاه العثمانيين وأرسل زوجته ملك خاتون وأبناءه ليقيموا في مدينة بورصة وضم ما بقي من أملاك القرمانيين إلى الدولة العثمانية والتي كان منها مدينتا قونية ولارندة الهامتان وذلك في عام 800 هجرية الموافق عام 1398م وبذلك زالت الإمارة القرمانية وأضحت ولايةً عثمانية وفي تلك الفترة كان أمير إمارة قسطموني الجديد المسمى بايزيد أيضا قد أشهر العصيان كذلك وحاول الإستقلال مجددا بإمارته وكانت هذه الإمارة هي آخر الإمارات المستقلة التي قامت على أطلال دولة آل سلجوق وشكلت ملجأ للكثير من أولاد الأُمراء الذين فُتحت بلادهم فكان ذلك سببا في غزو بلاده حيث أرسل إليه السلطان بايزيد الأول من يطلب منه تسليم أولاد أُمراء آيدين وصاروخان فإمتنع فسار إليه السلطان بايزيد بنفسه وأغار على بلاده ودخل مرة أُخرى إلى مدن صامصون وجانيت وعثمانجق وأعاد ضمها وهرب الأمير بايزيد صاحب قسطموني وإلتجأ إلى تيمورلنك أمير المغول وكانت مدينة سينوپ قد تسلمها إسفنديار بك شقيق سليمان باشا الجندرلي الأمير السابق لقسطموني فلما رأى سقوط المدن سالفة الذكر بِسهولة في يد العثمانيين سارع إلى عرض طاعته على السلطان بايزيد الأول فقبلها منه وبذلك إنقرضت جميع الإمارات الصغيرة القائمة بِبلاد منطقة الأناضول وعادت كلها إلى حوزة الدولة العثمانية من جديد .
وعلي الرغم من توحيد الأناضول إستمر العثمانيون يواجهون مشكلةً خطيرة تتمثل في إستمرار عصيان القاضي برهان الدين أحمد بن شمس الدين صاحب إمارة سيواس فأرسل إليه السلطان بايزيد جيشا بِقيادة إبنه الشاهزاده أرطغرل إشتبك معه في معركة في موضعٍ يسمى قرق ديليم قُرب مدينة چوروم التي تقع في الجزء الشمالي من الأناضول في الجزء الأوسط الداخلي من منطقة البحر الأسود غلا أن الجيش العثماني قد تعرض للهزيمة وتم رده على أعقابه وحاول برهان الدين تخفيف حنق السلطان بايزيد الأول عليه بِأن أظهر نفسه حليفا مواليا له ضد تيمورلنك ذلك أن الأخير كان قد أرسل إلى برهان الدين يطلب منه أن يضرب النقود على غرار النقود المتداولة في البلاد الخاضعة لحكمه أي لحكم تيمورلنك وأن يجري الخطبة بإسم السلطان الجغطائي محمود بن سيورغتمش خان صنيعة تيمورلنك فقام برهان الدين بقطع رُؤوس رسل تيمورلنك الذين حملوا إليه هذا الطلب وأرسل يعلم السلطان العثماني والسلطان المملوكي بما أقدم عليه وبعث السلطان بايزيد إلى برهان الدين يعلمه بموافقته على تصرفه وغضب تيمورلنك عندما علم بما فعله برهان الدين برسله فأوعز إلى أحد إمرائه وهو عثمان بك قره يولوق بمهاجمة سيواس معقل القاضي سالف الذكر وفعلا نفذ الأمير عثمان في عام 800 هجرية الموافق عام 1398م هجوما على سيواس فقتل صاحبها برهان الدين وفرض نفسه حاكما على المدينة إلا أنه إضطر إلى الفرار منها بعد ذلك عندما رفض السكان الإقرار له بالطاعة وإستدعوا السلطان العثماني بايزيد الأول ليحكم مدينتهم فسار إليها في عام 801 هجرية الموافق عام 1399م وأقام أحد أبناءه وهو الشاهزاده سليمان حاكما عليها وترك له قوة عسكريةً كبيرة وحاشيةً تضم عددا من القادة العسكريين وتوجه بايزيد في صيف عام 1399م إلى منطقة ملطية شرقي الأناضول وإنتزعها من أيدي المماليك مستغلا الأوضاع المضطربة ببلاد العراق والشام نتيجة الغزوات المغولية وقد أدى ذلك إلى توتر العلاقات بين العثمانيين والمماليك في الوقت الذي كان فيه خطر تيمورلنك ماثلا على أبواب الأناضول كما ضم بايزيد إلى أملاكه مدنا أُخرى داخلة ضمن أراضي السلطنة المملوكية كحصن منصور والبستان عاصمة إمارة ذي القدرية إحدى إمارات الأناضول التي كانت قد ظهرت بعد إضمحلال دولة آل سلجوق بجنوب شرق تركيا ووصل حتي منابع نهر الفرات بجنوب شرق تركيا وسيطر علي هذه المناطق سيطرة كاملة وإعترفت الإمارة المذكورة بالسيادة العثمانية عليها ثم تقدم إلى أرزنجان ومعمورة العزيز شرقي تركيا حاليا وضمهما وبذلك تكونت الوحدة الأناضولية لكن علي الرغم من تلك الإنتصارات كانت هناك بوادر حرب عظيمة بين العثمانيين والمغول بدأت بوادرها تلوح في الأُفق بسبب إمتعاض تيمورلنك من تنامي قوة ونفوذ العثمانيين وسيطرتهم علي منطقة الأناضول .
ولننتقل الآن إلي الصراع العثماني المغولي الذى إنتهي بأسر السلطان بايزيد الأول وموته في الأسر ففي الوقت الذي أحرز فيه بايزيد الأول إنتصاره الكبير في نيقوبوليس كان تيمور بن طرقاي الكوركاني المعروف باسم تيمورلنك أي تيمور الأعرج إذ كان قد أُصيب في شبابه بسهم في قدمه أثناء إحدى غاراته بِهدف السرقة فأصيب بالعرج من أثر الإصابة فسمي تیمورلنك ولنك بالفارسية معناها أعرج قد جلس على العرش في بلاد ما وراء النهر وهي المنطقة التاريخية التي ضمت جزء من آسيا الوسطى وشملت أراضيها أوزبكستان والجزء الجنوب الغربي من كازاخستان والجزء الجنوبي من قيرغيزستان وكان تيمورلنك هذا فاتحا من الطراز المغولي وإستطاع في سنوات معدودة أن يؤسس دولةً واسعة الأرجاء تمتد من سهوب سمرقند بجمهورية أوزبكستان حاليا إلى أفغانستان والهند وفارس وأذربيجان حتي أرمينية وكردستان وبلاد الكرج وهي جمهورية جورجيا إحدى الجمهوريات السوفيتية السابقة وبذلك يكون قد جاور الدولة العثمانية الفتية والدولة المملوكية في مصر والشام والحجاز والدولة القره قويونلوية التركمانية الناشئة في شرق الأناضول ومعظم العراق الحالي ووسط إيران والدولة الجلائرية المتداعية في أذربيجان وغرب إيران والعراق وأراضي مغول القبيلة الذهبية في حوض نهر الڤولجا أطول أنهار أوروبا غربي روسيا وقرر تيمورلنك أن يخضع كافة الحكام على إمتداد حدود دولته ليدينوا بالولاء له أما السلطان بايزيد الأول فلم يقنع بأقل من حكمه لدولة تمتد من نهر الدانوب شمالا إلى نهر الفرات جنوبا وربما إلى نهر النيل وكان تيمورلنك قد إستطاع أن يضرب الجلائريين والمماليك والعثمانيين كلا على حدة إذ أن إستيلاء بايزيد على مدينة ملطية التابعة للدولة المملوكية عقب وفاة السلطان سيف الدين برقوق قضى على إمكان التحالف مع السلطان المملوكي زين الدين فرج بن برقوق الذي خلف والده في الحكم فإنقض تيمورلنك على بلاد الشام وأمعن في تخريبها وإشاعة الفوضى بها ثم إلتفت إلى الدولة العثمانية والواقع أن الصراع بين السلطان بايزيد الأول وتيمورلنك قد مر بمرحلتين تفصل بينهما أعمال وغزوات تيمورلنك في بلاد الشام والعراق والكرج بين عام 803 وعام 804 هجرية الموافقين لعام 1401م وعام 1402م وقد بدأت الإحتكاكات بين الطرفين بشكل غير مباشر منذ قضية القاضي برهان الدين الذي قتل رسل تيمورلنك في سيواس ووافقه السلطان بايزيد الأول على فعله هذا كما ذكرنا في السطور السابقة ثم تأزمت الأُمور بين العاهلين بشكل أكبر عندما ضم السلطان بايزيد الأول مدينة أرزنجان إلى ممالكه إذ كان صاحب المدينة المدعو طهارتن موال لتيمورلنك فطلب منه السلطان بايزيد الأول أن ينبذ طاعته ويقر بالتبعية لِلعثمانيين فأبلغ طهارتن تيمورلنك بذلك والذي عد تدخل السلطان بايزيد الأول في أرزنجان عملا عدائيا موجها ضده وعلاوة علي ذلك فقد كان تجاور الحدود بين العثمانيين والمغول قد جعل فرص الصدام أكبر .
وخشي تيمورلنك من التوسع العثماني في شرق الأناضول فقام ليوقف هذا التمدد وكانت مخاوفه تنبعث من أنَّ أذربيجان التي تسكنها العديد من القبائل التركية سوف تكون هدف السلطان بايزيد الأول بعد أرزنجان وسيكون مصيرها كمصير الإمارات التركمانية في الأناضول وكان تيمورلنك يطمع في ضم مناطق الأناضول الشرقية بِوصفه الوارث الشرعي لأحفاد القائد المغولي الشهير السفاح جنكيز خان لذلك حاول إقناع السلطان بايزيد الأول بالتوسع نحو الغرب والتخلي له عن المناطق الشرقية التي إستولى عليها وطالب بضم سيواس وملطية والبستان وكماخ الواقعة عند المجرى الأعلى لنهر الفرات بجنوب شرق تركيا إلى أملاكه ومما يذكر أن تيمورلنك كان قد إستولى على العاصمة العباسية بغداد في عام 795 هجرية الموافق عام 1393م بناءا على طلب سكانها الذين لم يعودوا يتحملون عسف سلطانهم أحمد بن أويس الجلائري فلجأ أحمد هذا وحليفه التركماني يوسف نویان بن محمد القرة قويونلوي إلى السلطان بايزيد الأول في بورصة فأحسن إستقبالهما وأقطع أحمد بن أويس كوتاهية وأنعم على يوسف نويان بآق سراي بمنطقة الأناضول فخشي تيمورلنك عند ذلك من فيام تحالف عثماني جلائري قره قويونلوي وقد ينضم إليه المماليك أيضا فطلب من السلطان بايزيد الأول تسليمهما إليه وقد وصفهما بأنهما قاطعا طريق ولصان وأنه يجب معاقبتهما أشد العقاب فرفض بايزيد طلبه ورد عليه بأن هذا الأمر يخالف تقاليد الضيافة التركية وفي واقع الأمر فإن الرسالة التي حملها مبعوث تيمورلنك إلى بايزيد كانت مغلفة بالتهديد والوعيد والتخويف والتهويل إذ ورد فيها عن ضيفي بايزيد إنهما مادة الفساد وبوار البلاد ودمار العباد وسنخ الخمول والإدبار وكفرعون وهامان في العلو والإستكبار وقد صارا بمن معهما في حمي ذراكم لاجئين وأينما حلوا حلت التعاسة وحل الشؤم وحاشا أن يكون مثلهما من المفلوكين تحت جناح صاحب الروم فإياكم أن تأووهم بل أخرجوهم وخذوهم وإحصروهم وإياكم ومخالفة أمرنا فتحل عليكم دائرة قهرنا فقد سمعتم قضايا مخالفينا وما نزل بهم منا في حرابهم وضرابهم فلا تكثروا بيننا وبينكم القيل والقال فضلا عن جدال وقتال فقد بينا لكم البراهين وضربنا لكم الأمثال ولما تسلم السلطان بايزيد الأول هذه الرسالة ثارت ثائرته لما تضمنته من تهديد ووعيد وكانت تلك الرسالة فاتحة رسائل متبادلة بين العاهلين مفعمة بالتحدي والتهديد والوعيد والسباب .
وبلا شك فقد كانت إمارات شرقي الأناضول خلال النصف الثاني من القرن الرابع عشر الميلادي تشعر بتعاظم قوة العثمانيين فخشي أُمراؤها من أن ينقض هؤلاء عليهم ويفرضوا سيطرتهم على المنطقة لذلك كانوا على أتم الإستعداد للإستجابة لإغراءات تيمورلنك بمهاجمة الدولة العثمانية من أجل القضاء عليها أو إضعافها وإستطاع السلطان بايزيد الأول أن يصدهم وأن يسيطر علي عدد من هذه الإمارات ففر أُمراؤها إلى تيمورلنك وشكوا أمرهم إليه وحضوه على التدخل لإعادتهم إلى إماراتهم ومن جانب آخر كانت القوى الأوروبية المعادية والناقمة علي الدولة العثمانية علي أتم الإستعداد لأن تمد يدها إلي أية قوة تستطيع هزيمة العثمانيين لِذلك سعت جمهوريات جنوة وقشتالة وفرنسا إلى التحالف مع تيمورلنك لكن هذا الأخير لم يستمع إلى رسلها بسبب تمسكه بِالإسلام من جهة ومن جهة أُخرى فإنه لم ير من هذه الدول ما يدل علي مقدرتها علي تقديم مساعدات مجدية لكن هذه الإتصالات شجعت تيمورلنك على العمل ضد الدولة العثمانية حيث أدرك تمام الإدراك أن هذه الدول لن تعين العثمانيين عليه إذا ما غزا أملاك الدولة العثمانية في الأناضول ونظر كل من العاهل العثماني والعاهل المغولي نظرة عدائية للآخر حيث نظر تيمورلنك إلى بايزيد على أنه ذلك التركي الخلاسي المنحط المطعون في أصله والذي أفسده الوسط الحضاري البيزنطي والغربي الغريب عن تقاليد الترك الأقحاح وعاداتهم والتي تتمثل بالترك الجغطائيين ونعتته المصادر التيمورية بالقيصر بايزيد وهو لقب لم يكن يطلق إلا على ملك غير مسلم بل كافر في حين أن تيمورلنك يمثل شخصية التركي الأصيل ومن جهته نعت بايزيد تيمورلنك بأنه سيد طوران المتوحش الذي أتى من أعماق الداخل الآسيوي لسفك الدماء وهتك الحرمات وأن الوقوف في وجهه دفاع عن الحضارة هذا وجدير بالذكر أن أسباب الصراع بينهما تختلف بإختلاف المصادر فالمصادر التيمورية الفارسية تصور الصراع بأنه كان بسبب تعنت السلطان بايزيد الأول وإستعلائه وسوء تصرفه وإعتداده فأقدم على إمتلاك سيواس وملطية في حين ترجع المصادر التركية أسباب الصراع بِالإشارة إلى رفض تيمورلنك عروض المصالحة كما تشير إلى مظالمه التي أوقعها بالمسلمين وعموما فلم يكن هذا الصراع في صالح أي منهما وفي غير صالح الإسلام والمسلمين وأضاع الكثير من الإنتصارات التي كانت قد حققتها الدولة العثمانية سواء في منطقة الأناضول أو في القارة الأوروبية وأضاع فرصة الإسراع بسقوط العاصمة البيزنطية العتيدة القسطنطينية في أيدى المسلمين وأخر تحقيق هذا الحلم لأكثر من 50 عاما وعلاوة علي ذلك فقد كادت الدولة العثمانية أن تنهار تماما وأن تختفي من الوجود بعد هزيمتها في معركة أنقرة الطاحنة علي يد المغول بقيادة تيمورلنك في شهر يوليو عام 1402م ووقوعه في الأسر هو وإبنه موسي چلبي ثم وفاته كمدا في شهر مارس عام 1403م أي بعد 8 شهور تقريبا من وقوعه في الأسر كما سنرى في السطور القادمة بإذن الله تعالي مما تسبب في وقوع صراع مرير علي الحكم بين أبناء السلطان بايزيد الأول ودام لمدة 10 سنوات .
وبذلك توافرت كل أسباب الحرب بين العثمانيين بقيادة السلطان بايزيد الأول والمغول بِقيادة تيمورلنك ومن ثم سار الأخير بجيشه إلى الأناضول الشرقية قاصدا مدينة سيواس وكان مترددا إذ على الرغم من مشاعر العداء التي نمت بين الأمير المغولي والسلطان العثماني لم يكن تيمورلنك راغبا في إثارة مشاعر العالم الإسلامي التي لم تكن أساسا في صالحه بِسبب قسوته وعنفه مع جيرانه المسلمين عبر شن حرب على السلطان بايزيد الأول الذي كان في ذلك الوقت قد أصبح أكبر مجاهد في ديار الإسلام وإستقطب ودولته أنظار المسلمين حول العالم لكنه كان عازما على إخضاعه وإبقاءه تحت سلطانه وكان يردد إِنه يجب ألا يوجد سوى سيد واحد علي الأرض طالما أنه لا يوجد إلا إله واحد في السماء ومن ثم فقد ضرب المغول الحصار على سيواس بما لا يقل عن مائتي ألف جندي وكان يحكم المدينة الشاهزاده سليمان بن السلطان بايزيد الأول يعاونه أخوه الشاهزادة أرطغرل فأقاما دفاعا طويلا بحوالي عدد 4 آلاف جندي على أسوار المدينة لكن بعد ثمانية عشر يوما من الحصار سقطت المدينة بيد المغول فإقتحمها تيمورلنك ورجاله يوم 5 محرم عام 803 هجرية الموافق يوم 26 أغسطس عام 1400م ووضع السيف في أهلها وعاث فيها دمارا وخرابا وقتل كافة الأسرى العسكريين العثمانيين بما فيهم الشاهزاده أرطغرل بن بايزيد الذى قبض عليه وقطع رأسه أما الشاهزاده سليمان فقد تمكن من الهرب ولم يكن تيمورلنك قد شاهد خلال حياته الطويلة صمود مدينة إلى هذه الدرجة من الشدة وأدرك عدم إمكان إسقاط القلاع الأناضولية الواحدة تلو الأُخرى على هذا المنوال فكان عليه أن يظفر بالجيش العثماني السيار ويبيده وأمام هذا الواقع إنسحب تيمورلنك من الأناضول إلى منطقة القفقاس أو القوقاز والتي تقع علي الحدود بين قارتي آسيا وأوروبا بعد أن أخذ من العثمانيين ملطية أيضا وقد برر تيمورلنك فيما بعد هجومه على سيواس بسبب أن سكانها قد أرسلوا بعض الهدايا إلى السلطان المملوكي في مصر ولِذلك وجبت معاقبتهم لتواصلهم مع أعداء الدولة وخلال ذلك كان السلطان بايزيد قد حضر مع جيشه إلى قيصرية بوسط منطقة الأناضول وتبادل مع تيمورلنك رسائل تشير إلى أنهما كانا على وشك الإتفاق لِتوحيد كلمة المسلمين وإصلاح ذات البين وحقن الدماء بينهما فطلب السلطان بايزيد الأول من تيمورلنك إعادة مدينتي سيواس وملطية إلى الحظيرة العثمانية وأنه مستعد لقاء ذلك تنفيذ إتفاق تحالف بينهما ويجعل ذلك شرطا للصلح فرد تيمورلنك بالمطالبة بتسليم قلعة كماخ له لأنها في نظره من أملاك تابعه طهارتن كما أصر تيمورلنك على تسليم يوسف نویان بن محمد القرة قويونلوي اللاجئ إلى السلطان العثماني بعد أن قام بغارة على إحدى قوافل الحجاج المغول التي كانت تقصد بلاد الحجاز إذ إلتجئ بعض من نالهم الأذى من أفراد القافلة إلى تيمورلنك وألحوا عليه للتدخل والإنتقام لهم لذلك شعر تيمورلنك بِضرورة معاقبة يوسف بن محمد المذكور ليكون ذلك بمثابة إنذار لتنبيه حاميه السلطان بايزيد الأول .
وكان تيمورلنك يأمل أن يقر السلطان بايزيد الأول بتبعيته له مثل سائر سلاطين وأُمراء المسلمين المجاورين له لكن لم يتحقق أمله هذا إذ رد السلطان بايزيد الأول طلبات تيمورلنك بصيغة فيها تحقير وسخرية وإستهزاء فأرسل له يقول إن الحرب دأبنا والضربَ طلابنا والجهاد صنعتنا وشرعةُ الغزاة في سبيل الله تعالي شرعتنا إِن قاتل أحد تكالبا على الدنيا فنحن المقاتلون لتكون كلمة الله هي العليا رجالنا باعوا أنفسهم وأموالهم من الله بأن لهم الجنة فكم لضرباتهم في آذان الكفار من طنة ولسيوفهم في قلانس القوانس من رنة وختم كلامه بإستعجال تيمورلنك للحرب حيث قال فنحن المجاهدون في سبيل الله الذين لا يخافون في الله لومة لائم وأنا أعلم أن هذا الكلام يبعثك إلي بلادنا إنبعاثا فإن لم تأت تكن زوجاتك طوالق ثلاثا وإن قصدت بلادى قررت عنك ولم أقاتلك البتة فزوجاتي إذ ذاك طوالق ثلاثا فلما وصل هذا الكلام إلى تيمورلنك قال إن إبن عثمان مجنون أحمق لأنه أطال وأساء وعاد تيمورلنك وأرسل إلى السلطان بايزيد الأول كتابا أهانه ضمنيا حين ذكره بغموض أصل أُسرته وعرض عليه العفو على إعتبار أن آل عثمان قد قدموا خدمات جليلة إلى الإسلام والمسلمين ولو أنه إختتم رسالته بصفته زعيما للترك بإستصغار شأن بايزيد الذي قبل التحدي بأنه سيتعقب تيمورلنك إلى قاعدته بمدينتي تبريز وسلطانية وهما بإيران حاليا وحاول تيمورلنك خلال قضاءه الشتاء في القفقاس إقناع أُمرائه بشن حرب نهائية مع العثمانيين لكن كان رأي أُمراء تيمورلنك وحتى أولاده وأحفاده أنه لا يليق بهم الحمل على الدولة العثمانية المسلمة السنية الحنفية مثلهم والتي تنطق بالتركية والتي تعتبر حاملةً لراية الجهاد ضد أعداء الإسلام والمسلمين وأقنع تيمورلنك قادته الذين خالفوه في رأيه بإحتمال ضرب السلطان بايزيد الأول الجيش التيموري من الخلف أثناء حملته على بلاد الصين التي كان المغول يتوقون لِفتحها وإدخالها إلى ديار الإسلام وساعده على إقناعهم بهذا سياسة السلطان بايزيد الأول ورسائله النارية وما إشتهر به من جسارة وإعتداد وثقة بالنفس .
وكان مما لجأ إليه السلطان بايزيد الأول لكي يواجه الخطر والتهديد المغولي لدولته محاولته التقرب من السلطان المملوكي سيف الدين برقوق بن أنس أملا في أن يتعاونا في صد الخطر التيموري والواقع أن السلطان برقوق كان قليل الثقة ببايزيد ويخشاه أكثر مما يخشى تيمورلنك ومن ثم لم يتحمس لربط نفسه بتحالف معه لكنه أظهر إستعداده لقبول التعاون معه مبرهنا عن بعد نظر في حقل السياسة الخارجية وثبت صحة إعتقاد السلطان المملوكي لما ضم بايزيد مدينة قيصرية بوسط الأناضول في عام 795 هجرية الموافق عام 1393م إلى دولته وكانت مشمولةً بِحماية المماليك وقبض على حاكمها لكن تجدد خطر تيمورلنك على غربي آسيا أجبر السلطان العثماني على الإعتذار إلى السلطان المملوكي وبادر إلى إصلاح الأمور معه وقبل برقوق إعتذار بايزيد وأرسل إليه الأمير حسام الدين حسن الكنكجي ليتوسط في عقد الصلح بينه وبين صاحب قيصرية ومن الراجح أن بايزيد كان بحاجة إلى دعم دولة قوية كالدولة المملوكية لمساندته في دفع الخطر المغولي التيموري المتجدد على بلاده لذلك إستغل وساطة السلطان برقوق ورد عليها في السنة نفسها بِهدية جليلة وكتاب حذره فيه من خطر تيمورلنك ونصحه بِأن يكون متيقظا لتحركاته كما طلب منه طبيبا لمعالجته من مرض النقرس وبعض الأدوية فأجابه السلطان إلى طلبه وأرسل إليه الطبيب علاء الدين محمد بن صغير ومعه الأدوية والعقاقير المطلوبة وإستمر تبادل الرسائل بين العاهلين فأرسل السلطان بايزيد الأول في السنة التالية كتابا إلى السلطان برقوق يخبره بأنه جهز مائتي ألف فارس لمساندته في حربه ضد المغول وأنه ينتظر تعليماته لينفذها وبعد وفاة السلطان برقوق تأرجحت العلاقات بين الدولتين العثمانية والمملوكية بين العدائية والودية بسبب إنتهاز السلطان بايزيد الأول إنقسام المماليك ووقوع الإضطرابات في الشام وضمه ملطية والبستان كما ذكرنا في السطور السابقة مرتكبا خطأ سياسي جسيم أدرك منه المماليك أنه طامع في أن يكون زعيما للعالم الإسلامي وحرمانهم من هذه الزعامة كما دل على إستهتاره بالعلاقات السياسية القائمة بين الدولتين المملوكية والعثمانية في تلك الظروف العصيبة التي أحاطت بهما.
وعلي ذلك فقد كان هذا الحادث كافيا لتحذير المماليك من نوايا بني عثمان إلا أن خطر تيمورلنك ظل يدفع هؤلاء إلى كسب ودهم بدليل أنه حين زحف الغازى التيموري نحو الغرب وأضحى قريبا من الحدود المشتركة بين الدولتين لم ير السلطان بايزيد الأول حرجا في التقرب من السلطان فرج بن برقوق وطلب محالفته لإقامة جبهة متحدة في وجهه فأرسل بعثةً في عام 803 هجرية الموافق عام 1400م إلى القاهرة تحذر فرج من تيمورلنك ونيته في مهاجمة مصر وعرض عليه إقامة تحالف بينهما ليأمن الإسلام والمسلمون من خطر المغول وإخضاع السلطان بايزيد الأول وألح في كتابه على إجتماع كلمة العثمانيين والمماليك لكن الأُمراء في مصر رفضوا تناسي الخلافات ولم يلتفت أحد إلى كلام السلطان العثماني بايزيد الأول بل أرسلوا إليه يذكرونه بغارته على ملطية وقالوا له ساخرين ما معناه الآن صرت صاحبنا وعندما توفي أُستاذنا الملك الظاهر برقوق مشيت علي بلادنا وأخذت ملطية من أعمالنا فلستَ لنا بصاحب نقاتل عن بلادك ونقاتل عن بلادنا ورعيتنا وقد أعطى هذا التصرف العدائي للسلطان فرج بن برقوق وأُمرائه فرصةً ذهبيةً لتيمورلنك قرر إستغلالها بنجاحٍ لضرب القوتين الكبيرتين في الشرق الأدنى كل على إنفراد وقد تنبهت قلة من الأُمراء والساسة والقادة العسكريين المماليك لضرورة الإستجابة لطلب السلطان العثماني بايزيد الأول وكان بين هؤلاء المؤرخ جمال الدين يوسف تغري بردي وأسنباي الظاهري الزردكاش فقد كان الأخير أسيرا عند تيمورلنك وعرف خلال فترة أسره أن تيمورلنك لم يعرف في حياته مثل جيوش المماليك والعثمانيين خاصة إذا تحالفا إلا أنه بلا شك فقد أصبح لا يهاب قوة المماليك بسبب صغر سن السلطان فرج بن برقوق وقلة خبرته وعدم معرفة من كان حوله من الأُمراء بالحروب لكنه كان من جانب آخر يأخذ مقدرة العثمانيين العسكرية على محمل الجد بسبب خبراتهم القتالية ولأن السلطان بايزيد الأول كان صاحب رأى وتدبير وإقدام وقال إبن تغري بردي في هذا إن مصلحةَ الإسلام والمسلمين كانت تقتضي الصلح مع السلطان العثماني بايزيد الأول حيث بهذا الصلح كان سيصير للسلطان بايزيد عساكر مصر مع عساكره عونا ولو تحقق ذلك ما كان تيمورلنك ليتجرأ علي مدافعتهم وإن تجرأ لنال هزيمة ساحقة لكن ما شاء الله كان .
|