بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا”
وبعد أن إعتلي السلطان بايزيد الثاني عرش السلطنة العثمانية بدأت تبرز مشكلة شقيقه الشاهزاده جم سلطان الذى بدأ ينازعه الملك والذى كان يتمتع بتعاطف بعض القطاعات التي تشكل الرأي العام وكان من أبرزها عدد من القبائل التركمانية الأناضولية قليلة الحماس للسلطة العثمانية المركزية فإجتمع عليه جمع من القرمانيين إلى جانب بعض العثمانيين البطالين والأوباش ولما بلغه خبر موت أبيه سعىي هؤلاء إلى تحريكه على طلب السلطنة فسار على الفور مع من حاز ولاذ به قاصدا مدينة بورصة والحقيقة أن جم سلطان لم يحصل على دعم أحد من كبار الأعيان والساسة العثمانيين إلا الصدر الأعظم المقتول محمد باشا القرماني بسبب المودة والصداقة القائمة بينهما كما أُسلفنا أما السلطان بايزيد الثاني فكانت علاقته قوية برجال الدولة النافذين منذ أن كان وليا لِلعهد وكان من هؤلاء صهره بكلربك الأناضول سنان باشا والغازي إسحق باشا الذي كان عدوا لمحمد باشا القرماني الصدر الأعظم الأسبق وكان صاحب تأثير فعالٍ على طائفة الإنكشارية وسبب هذه العداوة والكراهية بين الرجلين ترجع إلى الإشاعات التي ظهرت حول محاولة محمد باشا القرماني تسميم السلطان محمد الفاتح بالإضافة إلى تسلطه على بعض الأوقاف وتحويلها إلى تيمارات أي إقطاعيات يتملكها الأعيان والأغنياء والأمراء وفرضه بعض الضرائب الجديدة من أجل تقوية الخزينة ولما أُضيف إليها سعيه في إيصال الشاهزاده الأصغر إلى العرش كان عاقبة أمره أن لم يستطع إنقاذ نفسه من أيدي الإنكشاريين وبالإضافة إلى ذلك شهد بلاط السلطان بايزيد الثاني في أماسية تجمعا للمعارضين لسياسة والده السلطان السابق محمد الفاتح وكان من المعروف أن هؤلاء المعارضين شكلوا الطبقة الأرستقراطية العثمانية وكان سبب معارضتهم لسياسة الفاتح أنه إستبعدهم عن السلطة ومراكز القوى كما فعل مع آل الجندرلي الذين خلعهم من الصدارة العظمى بعد 90 عاما أمضوها يتوارثون هذا المنصب جيلا بعد جيل وقدم عليهم الساسة والقادة من زمرة الدوشيرمة وهم البلقانيون النصارى الذين كانوا يختارون وهم فتيان بالقرعة ويجلبون إلى البلاد العثمانية حيث يربون ويتعلمون لدى طائفة الإنكشارية أو في سراي السلطان فإمتعض هؤلاء أشد إمتعاض من هذه السياسة التي أظهرت السلطان وكأنه يفضل مجهولي النسب والتاريخ على أشراف العثمانيين وشاهدوا نفوذهم القديم يخرج من بين أيديهم وإنفتاح أبواب كافة الوظائف ومنها الصدارة العظمى أمام الدوشيرميين والواقع أن السلطان محمد الفاتح كان يقصد من وراء هذه الخطوة تقوية مركزية الدولة وذلك لا يكون إلا بتبلورها في شخص السلطان في سبيل إستمرار فاعلية عجلتها ودوامها كما أن أُمراء الأناضول من التركمان الإقطاعيين لم يكونوا قريبين من فكرة الإتحاد العثماني وكانوا يفلتون منها على الدوام كلما حانت الفرصة أمامهم فكان السلطان لا يرتاح لهم أما الدوشيرميين فكانوا قد تربوا في السراي السلطانية ولا يعرفون أبا أو سيدا لهم سوى السلطان العثماني فهم لا يستمدون قوتهم من عائلاتهم أو ثرواتهم أو ماضيهم وإنما يستمدونها مباشرة من السلطان نفسه وأمام هذا الواقع وقف أشراف العثمانيين خلف السلطان بايزيد الثاني على أمل إستعادة نفوذهم في عهده فشكلوا تكتلا جيد التنظيم مواليا له في مواجهة أخيه الشاهزاده جم سلطان في الوقت الذي كان فيه أعوان هذا الأخير قليلي العدد .
ولما بلغ السُلطان بايزيد أن أخاه خرج عليه وتوجه إلى صوب مدينة بورصة أرسل أحد وزرائه وإسمه أياس باشا في ألفي إنكشاريّ من طريق مودانية بوسط غرب الأناضول والقريبة من مدينة بورصة لرد الخطر عن العاصمة العتيقة للدولة ثم عبر السلطان أيضا إلى أُسكدار في بقية الجيش وسار أياس باشا ونزل في بلدة قبلوجة من أعمال بورصة وكان قد قدم جمع من عسكر جم سلطان بقيادة شخص يقال له كدك نصوح وحاولوا دخول المدينة فقابلهم أياس باشا وقاتلهم إلا أن أهل بورصة سرعان ما إنضموا إلى جانب جم سلطان وقاتلوا الوزير وجنوده وحالوا دون دخول هؤلاء إلى البلد وكان السبب في ذلك هو أنهم خافوا مما فعله الإنكشارية بأهل إسطنبول من نهب البيوت وإرتكاب الفجور ففضلوا تسلط الشاهزاده جم سلطان العاصي عليهم وهكذا إنهزم أياس باشا ووقع في الأسر مع كثير من الإنكشارية وما أن وصل جم سلطان بعد إنتهاء المعركة حتى إستقبله الأهالي وأدخلوه البلد وسلموه قلعتها فجلس فيها على تخت الملك وخطب له فيها على المنابر وأقام فيها ثمانية عشر يوما سيطر خلالها علي نواحيها وعين الوزراء والقادة وضرب النقود بإسمه وما أن بلغ ذلك إلى السلطان بايزيد الثاني حتي سار إلى دفع غائلة أخيه من طريق يني شهر القريبة من بورصة أيضا فأرسل إليه جم سلطان عمة والدهما سلجوق خاتون بنت السلطان محمد الأول مع المولى أياس البروسوي وأحمد چلبي بن شكر الله وحملت سلجوق خاتون رسالةً إلى السلطان بايزيد الثاني عرض فيها جم سلطان الصلح على أخيه بشرط إقتسام الدولة فيحكم جم سلطان البلاد الآسيوية في حين يحكم بايزيد الثاني البلاد الأوروبية فرفض السلطان بايزيد الثاني عرض أخيه وأخذ يستعد لملاقاته فأعاد سلجوق خاتون مكرمةً إلى مرسلها وسار بإتجاه مدينة بورصة وإستعد جم أيضا للقتال فتوجه إلى صوب يني شهر وسير في مقدمته كدك نصوح ومحمد چلبي بن أوزغور في جمعٍ من جيشه وحاول السلطان بايزيد الثاني أن يحول دون إهراق الدماء فأرسل من ينصح أخاه وعرض عليه ما يختار غير السلطنة فلم ينتصح وهكذا لم يعد هناك مهرب ولا مفر من القتال وكان الصدر الأعظم إسحق باشا قد أرسل في طلب كدك أحمد باشا المحاصر لقلعة أطرانط أو أوترانتو بجنوب شرق إيطاليا منذ أواخر عهد السلطان محمد الفاتح يخبره بوجوب الحضور على وجه السرعة للقضاء على الفتنة فإستجاب أحمد باشا وأخذ الأُسطُول والقسم الأكبر من الجنود وغادر إيطاليا متوجها نحو الأناضول وإلتقت طليعة السلطان بايزيد الثاني بقيادة بكلربك الأناضول سنان باشا مع مقدمة الشاهزاده جم سلطان فإقتتلوا قتالا شديدا حتي إنكسر أصحاب الأخير وأُسر محمد چلبي مع أتباعه وإتفق حينذاك أن كدك أحمد باشا وصل مع جنوده إلى ركاب السلطان فأكرمه الأخير وقلده إمارة جيشه وإلتقى الفريقان عند نهر يني شهر في يوم السبت 22 ربيع الآخر عام 886 هجرية الموافق يوم 19 يونيو عام 1481م فإشتبكوا في قتال شديد وكان السلطان ووزراؤه قد خابروا سرا لاله يعقوب بك بن أشتين مدبر أُمور جم سلطان يعدونه بالجميل إن تخلى عن سيده وأعان السلطان بايزيد الثاني على الظفر به ولما إشتد القتال فارق يعقوب جم سلطان وإنحرف مع جمع عظيم من أتباعه إلى جانب السلطان بايزيد الثاني فإنكسر عسكر الشاهزاده العاصي وإستأمن أكثر من معه إلى السلطان سوى القرمانيين الذين هربوا وفي أثناء ذلك تخلص من الحبس الإنكشاريون الذين كانوا قد أُسروا مع أياس باشا وسجنوا في قلعة بورصة فلحقوا بجيش السلطان وتبعوا المنهزمين إلى معبر دربند أرمني أما الشاهزاده جم سلطان فهرب في جمعٍ قليل من أتباعه وكان قد أُصيب بجرحٍ في رجله وفي أثناء هروبه وثب عليه بعض أوباش التركمان وسلبوه كل ما كان معه فأسرع بالهرب حتى وصل إلى مدينة قونية عاصمة القرمانيين وقرر مغادرة الأراضي العثمانية خوفا من أن يدركه أخوه وفي غضون ذلك حاصر فرديناند الأول ملك ناپولي قلعة أطرانط التي إعتصم فيها بقية الجيش العثماني بقيادة خير الدين باشا بنية إستردادها من المسلمين ولما كان واضحا أن هذه الفئة القليلة لن تصمد أمام الحصار فقد أرسل خير الدين باشا إلى الملك يخبره بأنه سيترك القلعة إذا سمح له بِركوب السفن والمغادرة دون تعرض لأحد من الجنود بأذى فوافق الملك وأخذ الباشا جنده البالغ عددهم 8 آلاف جندى وخرج بهم عائدا إلى الأراضي العثمانية وهكذا لم يدم الحكم العثماني في شبه جزيرة بوليا بجنوب شرق إيطاليا والمطلة على البحر الأدرياتيكي في الشرق وعلي البحر الأيوني المنحصر بين البحرين المتوسط والأدرياتيكي من الجنوب الشرقي ومضيق أوترانتو وخليج تارانتو المتفرع من البحر الأيوني جنوبي إيطاليا من الجنوب سوى 13 شهرا فقط ولم يلتفت السلطان بايزيد الثاني وأى من السلاطين الذين تلوه إلى خطة فتح إيطاليا التي كان قد شرع فيها السلطان محمد الفاتح قبل وفاته مباشرة .
وما أن وصل الشاهزاده جم سلطان إلى مدينة قونية حتى حمل أهله وعياله وسار بهم في بقية من أتباعه غلي جنوبي الأناضول حتي بلغ بلاد بني رمضان التي كانت تابعة للمماليك وتمثل منطقة عازلة بين أملاك كل من العثمانيين والمماليك فتعرض له على الطريق بعض قطاع الطرق وسلبوه أمواله ثم تابع طريقه حتى وصل إلى مدينة أضنة عاصمة بلاد بني رمضان فأكرمه الأمير الرمضاني عمر بك ثم سار منها إلى مدينة حلب والتي كانت تتبع الدولة المملوكية حينذاك حيث إستقبله نائب السلطنة الأمير أزبك الأتابكي وأعلم الشاهزاده العثماني الأمير سالف الذكر نيته بالسفر إلى القاهرة عاصمة الدولة المملوكية فأرسل الأمير إلى السلطان الأشرف قايتباى يستأذنه فعاد الجواب بالسماح لجم سلطان بدخول الديار المصرية شرط أن يحضر في قليل من عسكره وهكذا سار جم سلطان من حلب إلى دمشق التي بالغ نائبها في إكرامه ثم تابع طريقه وزار بيت المقدس ثم سار إلى غزة ومنها خرج يريد مصر فلما أُخبر السلطان قايتباى بذلك أعد العدة لملاقاته وإستقباله فأرسل إليه الأُمراء والأعيان ومقدمي العساكر ورؤساء النواب والحجاب فإستقبلوه إستقبالا حافلا وساروا به في موكب كبير حتى صعد إلى قلعة الجبل ومثل بين يدى السلطان المملوكي الذي بالغ في تعظيمه وتطييبه وأنزله منزلة ولده وأركبه فرسا خاصا من أفراسه ومنحه سرجٍ مذهب ثم نزل من القلعة في موكب حافل يتقدمه الأُمراء ورؤساء النواب وكان له يوم مشهود إذ إصطف أهالي القاهرة في الشوارع ورحبوا من صميم قلبهم بإبن فاتح القسطنطينية وأنزل الشاهزاده العثماني بدار إبن جلود كاتب المماليك الواقعة على خليج فم الخور وهو أحد الخلجان التي كانت تتفرع من نهر النيل بالقاهرة لتخزين مياه الفيضان وأما السلطان بايزيد الثاني فسار إلى بلاد القرمان ونزل في خارج العاصمة قونية وأعاد جميع البلاد التي كان قد سيطر عليها أخوه تحت جناح الدولة العثمانية وأرسل كدك أحمد باشا في عقب أخيه جم سلطان وأقطع القرمان لولده الشاهزاده عبد الله ثم قفل وعاد إلى دار ملكه وفي أثناء عودته طلب منه الإنكشارية أن يسمح لهم بالإنتقام من أهل بورصة ونهبها عقابا لهم علي قبولهم بالشاهزاده العاصي وحبسهم للجنود السلطانية فلم يأذن لهم السلطان في ذلك وأعطى إلى كل فرد منهم عطية خوفا من أن يحدثوا فتنة فإستكانوا ولما عاد السلطان إلى إسطنبول حضر إليه جمع من زعماء قبائل التركمان الذين كانوا قد أغاروا على جم سلطان ونهبوا أثقاله في معبر دربند أرمني وطلبوا منه إحسانا على ما فعلوه على إعتبار أنهم عاقبوا من عصى السلطان لكن السلطان بايزيد الثاني أمر بجمعهم وأنزل بهم عقابا صارما على ما فعلوه لِتعتبر وترتدع الرعية عموما وسائر القبائل التركمانية خصوصا ولا تتجاوز حدودها وتتطاول على السلاطين وأولادهم مهما كان السبب وخلال تلك الفترة كان كدك أحمد باشا قد تعقب جم سلطان حتي مدينة هرقلة القريبة من مدينة قونية وعلم بوصوله إلى مصر فعاد أدراجه وتوجه إلى قونية ثم إلي إسطنبول حيثُ قلده السلطان الوزارة أما الشاهزاده جم سلطان وبعد أن أمضى في القاهرة نحو أربعة أشهر عقد العزم على حج البيت الحرام فخرج في شهر ذي القعدة عام 886 هجرية مع موكب الحج تصحبه أُمه وعياله وعاد في شهر المحرم عام 887 هجرية فكان أول من حج من آل عثمان الذكور ولم يلبث جم سلطان أن شعر أن بقاءه في مصر لا جدوى منه ومن ثم طلب من السلطان الأشرف قايتباى التوجه إلى بلاده لكي يحارب أخاه فجمع السلطان المملوكي الأُمراء والمستشارين وتبادل معهم الرأي وكان من رأى الجميع الحيلولة دون سفر الشاهزاده العثماني لكنهم فشلوا في إقناعه فأذن له السلطان قايتباى بالسفر متي رغب في ذلك رغم أنه كان كارها لهذا الأمر ومدركا تمام الإدراك أن هذا الأمر سيؤدى إلي توتر وتعكير صفو العلاقات الطيبة التي كانت سائدة بين الدولتين المملوكية والعثمانية والتي كانت تتسم آنذاك بالود والتقدير والإحترام المتبادل .
وأثناء الفترة التي إنشغل فيها السلطان بايزيد الثاني وأخوه الشاهزاده جم سلطان بالإقتتال وقبل هروبه إلي مصر قرر آخر أُمراء بني قرمان وهو قاسم بك بن إبراهيم أن يستغل الوضع ويحاول إسترداد ملك آبائه المفقود وكان من المعروف أن قاسم بك سبق هو وأخيه پير محمد أن أشهرا التمرد والعصيان على الدولة العثمانية زمن السلطان محمد الفاتح وهزما وضمت بلادهما إلى جملة الممالك العثمانية ثم خضع قاسم بك للسلطان في حين توجه پير أحمد إلى بلاد الشام وبقي فيها حتي مماته وإجتمع على قاسم بك كثير من أوباش قبائل التركمان خاصة من الذين كانوا يسكنون جنوب شرق الأناضول فسار بهم قاصدا العاصمة قونية معقل الشاهزاده عبد الله بن بايزيد وكان مدبر شؤون الشاهزاده المذكور هو الأتابك علي باشا الخادم فخرج إلى قتال قاسم بك وإشتبك معه في موضعٍ يسمى بروانة چايري ولم يقدر عليه لكثرة من كان معه من الخارجين على الدولة العثمانية فرجع علي باشا إلى مدينة قونية وتحصن مع الشاهزاده عبد الله في قلعتها ولم يلبث قاسم بك أن وصل المدينة وضرب الحصار عليها وما أن بلغ ذلك إلى السلطان بايزيد الثاني حتى سير الوزير كدك أحمد باشا إلى الأناضول لإخضاع قاسم بك ومن معه فسار أحمد باشا في ألفي إنكشارى وأربعة آلاف عزبي وجميع عساكر الأناضول من أهل التيمار والسپاهية والسلحدارية فهرب قاسم بك إلى هضبة طاش إيلي في قيليقية بجنوب الأناضول مخبأ أجداده لكن أحمد باشا تبعه وإشتبك معه حتي أجبره على الهروب من مخبئه إلى مدينة طرسوس جنوبي الأناضول وتوجه أحمد باشا بعد ذلك إلى مدينة لارندة بجنوب وسط تركيا وأرسل يعلم السلطان بالمستجدات وقضي فصل الشتاء في المدينة على أن يكمل ملاحقة الأمير العاصي في فصل الربيع أما قاسم بك فكان قد بلغه عودة الشاهزاده جم سلطان من الحج إلى مصر فأرسل إليه رسولا وخدعه بأن الأُمراء والوزراء ساخطون على السلطان بايزيد الثاني وأن الرأي الصواب هو رجوع الشاهزاده جم سلطان إلى طلب الملك ثم سير إليه جماعة من الأُمراء المنافقين على رأسهم أمير أنقرة محمد بك الطرابزني يحملون إليه كتابا جاء فيه إِن العثمانيين ساخطون علي أخيكم بايزيد الثاني فإِذا جِئتم يمكنكم أَن تتحصلوا علي سلطنتكم الموروثة فإنخدع الشاهزاده جم سلطان بهذا الكلام وخرج من القاهرة يوم 6 صفر عام 887 هجرية الموافق يوم 26 مارس عام 1482م وتوجه إلى الأناضول بعد أن زوده السلطان المملوكي الأشرف قايتباي بالمال والمؤن اللازمة له أثناء رحيله مرة أخرى عائدا إلي بلاده .
وبعد خروجه من مصر وصل الشاهزاده جم سلطان إلي مدينة حلب شمالي بلاد الشام في يوم 18 ربيع الأول عام 887 هجرية الموافق يوم 6 مايو عام 1482م حيث إستقبله قاسم بك بن إبراهيم الذى أتي إليه من طرسوس وإجتمع عليه جمع من الأُمراء العثمانيين فتوجه إلى مدينة أضنة جنوبي الأناضول ثم سار منها إلى مدينة أركلو وبلغ ذلك السلطان بايزيد الثاني فأرسل إلى كدك أحمد باشا يلومه على تهاونه مع قاسم بك وعدم تتبعه ويأمره بالعودة إلى العتبة السلطانية بعد أن ينقل الشاهزاده عبد الله من قونية إلى أفيون قره حصار بجنوب غرب مدينة أنقرة ليحتمي في قلعتها من العصاة الزاحفين ونفذ أحمد باشا المهمة الموكلة إليه وفي أثناء خروجه من قونية صادف أمير أنقرة محمد بك الطرابزني فإقتتلا قتالا يسيرا ثم إنسحب أحمد باشا تاركا الأمير سالف الذكر يحاصر المدينة وبعد أن أسكن الشاهزاده عبد الله في القلعة المشار إليها توجه عائدا إلى عتبة السلطان فوجده زاحفا بنفسه إلى صوب مدينة قونية ولقيه بناحية سيدي غازي وخلال تلك الفترة كان الشاهزاده جم سلطان قد إنضم إلي الجيش المحاصر لقونية ويروى أنه وعد قاسم بك أنه لو بقي في جانبه وساعده لِلحصول على ملك آل عثمان يرد له بلاد أجداده أى أن يعيد إحياء الإمارة القرمانية من جديد ولما بلغ جم سلطان أن السلطان بايزيد الثاني قد إقترب لإنقاذ المدينة المحاصرة سارع بالهرب مع قاسم بك وترك محمد بك الطرابزني خلفه فإشتبك الأخير مع طليعة الجيش العثماني بقيادة والي أماسية سليمان باشا فقتل محمد بك وتم فك الحصار عن قونية وأرسل السلطان بايزيد الثاني أحد قادته وإسمه إسكندر باشا في خمسة آلاف فارس لتعقب آثار الشاهزاده جم سلطان وتبعه إلي أركلو ليكتشف أنه قد هرب مع قاسم بك وتحصنا في هضبة طاش إيلي كالعادة فما كان من السلطان بايزيد الثاني إلا أن أرسل رسالة إلى أخيه ينصحه فيها بالكف عن القتال والإقلاع عن الأفكار الفاسدة وإقترح عليه أن يقيم في بيت المقدس مع خواص رجاله وان يتم تخصيص دخل سنوي مناسب له يكفيه هو وأهله وعياله وحاشيته لكنه رفض هذا العرض ولم يرضَ إلا بحصة من الملك فأجاب أخاه بأنه يقبل الصلح إن أقطعه بعض الإمارات فرفض السلطان بايزيد الثاني على إعتبار أن مثل هذا الطلب لا يكون ورائه إلا إنقسام الدولة العثمانية وضعفها مما يشجع المتربصين بها علي الطمع في مهاجمتها والإستيلاء علي أملاكها وأرسل أحد وزرائه وهو أحمد باشا بن هرسك في جيش إلى طاش إيلي بهدف الظفر بالشاهزاده جم سلطان وحليفه قاسم بك ولما بلغ ذلك إليهما خاب أملهما بالوصول إلى مبتغاهما ورغب الشاهزاده جم سلطان بالرجوع إلي مصر مرة أخرى فأرسل رجل من أصحابه إسمه سليمان الفرنجي إلى جزيرة رودس لطلب المعونة على العبور بحرا من شيخ الفرسان الإسبتاريين الصليبيين المتمركزين هناك بطرس الأُبوسوني الشهير في المؤلفات العثمانية بإسم ماصنوري وقبل شيخ الفرسان تأدية هذه الخدمة وأعاد سليمان المذكور مع كتاب العهد وسفينة خاصة لتقل جم سلطان لكن سليمان نصح مخدومه بألا يقدم على العبور لِاستشعاره الغدر من الإسبتاريين فتردد جم لفترة ثم حمله بعض أتباعه على ركوب البحر فإستمع إليهم وتوجه إلى رودس يوم 13 جمادى الآخرة عام 887 هجرية الموافق يوم 29 يوليو عام 1482م أما قاسم بك فإنه لما يئس من إنتصار جم سلطان علي أخيه السلطان بايزيد الثاني أرسل إلى العتبة السلطانية يلتمس العفو والصفح عما بدر منه فعفا عنه السلطان بايزيد الثاني وأقطعهُ ناحية إيج إيلي فبقي أميرا عليها إلى أن وافاه الأجل عام 888 هجرية الموافق عام 1484م .
وهبط الشاهزاده جم سلطان في جزيرة رودس في نفس اليوم الذي أقلع فيه من آسيا الصغرى وقابله أهل الجزيرة بكل تقدير وإحترام وقابل شيخ الإسبتاريين في قلعة القديس بطرس فأكرمه وأقسم له أن يوصله إلى مصر ومكث جم سلطان وحاشيته في رودس لمدة 34 يوما دون أن ينفذ شيخ الفرسان وعده ثم حنث بقسمه وأرسل الشاهزاده ومعيته إلى مدينة نيس بجنوب فرنسا بعد رحلة بحرية دامت 46 يوما وهكذا بدأت إقامة جم سلطان في فرنسا التي قدر لها أن تستمر ست سنوات وأربعة أشهر نقل خلالها من قلعة إلى أُخرى من قلاع الإسبتارية وعندما علمت بعض الدول الأوروبية المعادية للدولة العثمانية بمجئ شقيق السلطان العثماني بايزيد الثاني حاولت إنتهاز الفرصة والإستفادة من الخصومة الداخلية بينهما لمهاجمة أراضي الدولة العثمانية فطلب كل من ملك المجر متياس كورڤن وملك فرنسا لويس الحادي عشر ودوق جمهورية البندقية يوحنا موسينيجو وإمبراطور المانيا فريدريك الثالث أن يسلمهم الفرسان الشاهزاده العثماني ليتخذوه ذريعةً للتدخل في شؤون الدولة الداخلية وفي سبيل الحيلولة دون إستغلال الشاهزاده جم سلطان ضد الدولة العثمانية أرسل السلطان بايزيد الثاني وفودا إلى رودس لإبلاغ شيخ الإسبتارية على إبقاء أخيه عندهم تحت الحفظ وفي مقابل ذلك يتعهد لهم السلطان بعدم التعرض لإستقلال الجزيرة مدة حياته وأن يدفع لهم مبلغا سنويا لقاء نفقات العناية بأخيه فقبل شيخ الفرسان بذلك وأُبرمت معاهدة بهذا بين العثمانيين والإسبتاريين يوم 26 شوال عام 887 هجرية الموافق يوم 7 ديسمبر عام 1482م وأوفى الإسبتاريون الصليبيون بوعدهم فلم يقبلوا تسليم الشاهزاده لأى من الملوك الأوروبيين ولا للسلطان المملوكي الأشرف قايتباي الذي كان قد علم بما جرى للشاهزاده جم سلطان من الإنكسار بعد خروجه من مصر أمام أخيه السلطان بايزيد الثاني في إقليم الأناضول ثم الوقوع في أيدى الإسبتاريين الصليبيين فندم وحزن على السماح له بالخروج من مصر وأرسل إلى الفرسان يعدهم بدفع مبلغ كبير من المال لقاء إرسالهم الشاهزاده جم سلطان إلى مصر فلم يوافقوا وسجل خلال هذه الفترة مراسلة الشاهزاده جم سلطان لأخيه السلطان بايزيد الثاني ورد الأخير عليه وكانت رسالة جم عبارة عن بيتين من الشعر تعريبهما لماذا تنام بالورد هانئا مع الأسرة بينما أنام أنا علي الرماد في وضع مهين فرد عليه بايزيد بسلاح الشعر أيضا وقال لأن الدولة قسمتنا من يوم الأزل فلماذا لا تطأطئ برأسك للقدر وقد حظيت بلقب حاج الحرمين فلماذا تسأل عن سلطة دنيوية وقد ذكر هذا الصدام بين الشقيقين للدلالة على تمكن كل منهما من القلم بقدر تمكنهما من السيف وجدير بالذكر أن الشاهزاده جم سلطان قد عرف طيلة فترة إقامته بفرنسا بإسم البرنس زيزيم .
|