بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا”
وبعد تخلصه من مشكلة أخيه الشاهزاده جم سلطان إستعاد السلطان بايزيد الثاني النظام في الدولة فبعد تعيين قاسم بك أميرا على ناحية إيج إيلي زال التهديد القرماني تماما وأصبحت البلاد القرمانية مرتبطة بالدولة العثمانية إرتباطا نهائيا وأعاد السلطان للأشراف إعتبارهم الذي فقدوه في عهد أبيه السلطان محمد الفاتح وأعاد للأوقاف شرعيتها كما أعاد الأملاك التي أعطيت لأصحاب التيمارات إلى مالكيها القدماء كذلك عزل السلطان بايزيد الثاني الصدر الأعظم إسحق باشا وأمره بأن يظل متقاعدا في سالونيك وأمر بإعدام الوزير كدك أحمد باشا لثلاثة أسباب رئيسية أولها أن الباشوين المذكورين كانا صاحبا السلطة الفعلية على أرض الواقع منذ أن أوصلا السلطان بايزيد الثاني إلى العرش وأعاناه على أخيه وكان من المعروف أن إسحق باشا كان حما لأحمد باشا وكان كلاهما يتمتعان بِشعبية كبيرة وسط جنود الإنكشارية ويقدران على تحريكها وثانيها أن كدك أحمد باشا كان راغبا بالإستمرار في حملات الدولة العثمانية على العالم المسيحي الغربي وآثر إعلان الحرب على الإسبتاريين الصليبيين في جزيرة رودس لأنهم حموا الشاهزاده جم سلطان في حين أن السلطان بايزيد الثاني كان يؤثر عدم معاداتهم للإتفاق المبرم بينهم وبين العثمانيين بخصوص التحفظ على الشاهزاده جم سلطان كما أنه رغب في الإبتعاد عن الحرب بعدما أرهقت فتوحات السلاطين السابقين للدولة العثمانية البلاد على الصعيدين المالي والإقتصادى والبشرى إلا أن الوزير أصر على الحرب وإنتقد السلطان الجديد لإتباعه السياسة السلمية فغضب عليه السلطان بايزيد الثاني وثالثها أن كدك أحمد باشا كان يظهر القسوة والغلظة في معاملته الرعايا فكثر التذمر منه وإستغل هذا الأمر الحساد والسعاة فأوغروا صدر السلطان عليه أكثر فلما تجمعت كل هذه الأسباب أمر السلطان بِإعدام الوزير المذكور وعين في الصدارة العظمى داود باشا الأرناؤوطي أمير سنجق البوسنة خلفا لإسحق باشا وأمام هذه التغييرات التي طالت أقرب سياسيين إلى الإنكشارية أخذ قادتها يظهرون إمتعاضهم وإستيائهم فتخلص السلطان بايزيد الثاني من بعضهم بأن أرسلهم إلى أماكن بعيدة بحجة إنجاز أعمال وأشغال مهمة لكن صفوفهم لم تهدأ رغم ذلك فإضطر السلطان بايزيد الثاني أن يشغلهم بالحرب كي لا يقلقوا راحة الدولة ويتسببوا في فتن داخلية بها وحتى يقوى سلطته عليهم ومن ثم إستغل السلطان بايزيد الثاني إنهيار الصلح مع مملكة المجر الذي تبع وفاة السلطان محمد الفاتح والغارات المتبادلة بين العثمانيين والمجريين وتجهز للحرب والجهاد وبالفعل ففي شهر ربيعٍ الأول عام 888 هجرية الموافق عام 1483م سار بجيشه إلى مدينة فيلپة بجنوب بلغاريا ثم عبر به من نهر الموراوة الذى ينبع من جبل كرالتسي سنزنك في الجزء الشمالي الغربي لدولة التشيك قرب الحدود مع بولندا وسلوفاكيا مشكلا الحدود الطبيعية لدولة التشيك مع دولة سلوفاكيا ثم لدولة النمسا مع دولة سلوفاكيا ثم يصب في نهر الدانوب بالعاصمة السلوفاكية براتيسلافا وعمر السلطان بايزيد الثاني القلاع التي كان أبوه السلطان محمد الفاتح قد أمر بهدمها في السابق وأقام في نواحي مدينة صوفيا إلى أن تم التعمير والحقيقة أن أى صدام بين العثمانيين والمجريين لم يحدث آنذاك فأمام إستعراض القوة العثماني وإنشغال ملك المجر متياس كورڤن بصراعه مع الإمبراطور الألماني جنح إلى الصلح الذي إقترحه السلطان العثماني بايزيد الثاني فأُبرمت هدنة بين الطرفين مدتها خمس سنوات .
وبعد ذلك حول السلطان بايزيد الثاني أنظاره ناحية إمارة البغدان وهي منطقة تاريخية وإمارة سابقة في وسط وشرق أوروبا كانت تشغل المنطقة الواقعة بين جبال الكاربات الشرقية ونهر دنيستر والجبال المذكورة تشكل قوسا بأوروبا الوسطى والشرقية يبلغ طولها حوالي 1500 كيلو متر حيث تمتد شرقا من جمهورية التشيك ثم إلي الشمال الغربي من خلال سلوفاكيا وبولندا والمجر وأوكرانيا وصربيا ورومانيا في الجنوب الشرقي أما نهر دنيستر فهو نهر ينبع من أوكرانيا قرب الحدود الأوكرانية البولندية وكان حينذاك أمير إمارة البغدان السابق أسطفان بن بغدان الذي هزمه السلطان محمد الفاتح مرتين في معركتي واسلوي عام 1475م والوادي الأبيض عام 1476م بمنطقة مولدوفا بشرق رومانيا حاليا وفر هاربا إلى بولونيا وهي دولة بولندا حاليا قد عاد إلى بلاده وإستغل فترة إنشغال السلطان بايزيد الثاني بالنزاع مع أخيه الشاهزاده جم سلطان لكي يتدخل في شؤون إمارة الأفلاق التي تقع شمال نهر الدانوب برومانيا حاليا جنوبي جبال الكارابات والخاضعة للدولة العثمانية فأزاح أميرها الموالي للعثمانيين بساراب الأصغر وقتله في إحدى المعارك وإستبدله بالأخ غير الشقيق لڤلاد دراكول أمير الأفلاق السابق لكن الأخير لم يلبث أن إعترف بتبعيته للسلطان العثماني مما دفع بِأسطفان بن بغدان إلى التحالف مع أمير إمارة المسكوب وهي موسكو العاصمة الروسية حاليا إيڤان الثالث خوفا من أي هجوم عثماني لن يقوى على دفعه منفردا ورأى السلطان بايزيد الثاني في تصرف الأمير البغداني إعتداء وقرر الرد عليه ووضع نصب عينيه إفتتاح مدينتي كيلية وآق كرمان بجنوب أوكرانيا حاليا التي لم يتمكن السلطان محمد الفاتح من إخضاعهما تماما مع سائر بلاد البغدان وكان هدف السلطان العثماني من وراء إستهداف المدينتين المذكورتين إلى تحقيق مكتسبات إستراتيجية وإقتصادية هامة فمن الناحية الإستراتيجية ستؤدي السيطرة عليهما إلى فتح الطريق أمام العثمانيين إلى بولونيا والمجر وتمركز الحاميات العثمانية فيها من شأنه أن يعرقل تدخلات البغدانيين في الأفلاق أما على الصعيد الإقتصادى فإن المدينتين تعدان مينائين تجاريين هامين وتقعان على منفذ الطريق الإقتصادي الذي يربط بولونيا وبلاد البلطيق الشمالية وهي جمهوريات إستونيا ولاتفيا وليتوانيا حاليا بالمشرق الإسلامي عن طريق البحر الأسود وبالإستيلاء على هذين الموقعين تكسب الدولة ثروة كبيرة كما أن ذلك من شأنه أن يضعف إمارة البغدان ويحقق سيطرة العثمانيين على مجمل البحر سالف الذكر وهي النتيجة المأمولة للسياسة المطبقة بشكل واعٍ في المنطقة منذ عهد السلطان محمد الفاتح ولما لم تكن البغدان مشمولةً بالهدنة المعقودة مع المجر كان بوسع السلطان بايزيد الثاني التحرك دون خوف فأرسل بدايةً إلى الأمير أسطفان يطالبه بالخراج المستحق على بلاده ولما لم يلق إستجابةً نادى بجمع الجيوش وخرج فيهم نحو إدرنه يوم الجمعة 4 ربيع الآخر عام 889 هجرية الموافق يوم 30 أبريل عام 1484م وأرسل سفنا مشحونة بالذخائر والآلات والرجال من البحر الأسود إلى ثغر نهر الدانوب ثم صعودا عبره إلى الهدف المقصود ومن جانب آخر فعندما وصل السلطان بايزيد الثاني إلى إدرنه أمر ببناء عمارة عظيمة أطلق عليها دار الشفاء وهي عبارة عن مجمعٍ يضم بيمارستانا لعلاج مختلف الأمراض وأبرزها الأمراض العقلية ومدرسة لتعليم الطب ومسجدا جامعا وحدث أثناء إقامة السلطان العثماني بالمدينة المذكورة أن إندلع فيها حريق كبير أتى على سوق الحرير فأمر بإعادة بناءه بالحجر والجص ثم توجه إلى البغدان فعبر نهر الدانوب بالسفن عند قصبة إيساقجي في إقليم دبروجة بجنوب شرق رومانيا وشمال شرق بلغاريا حاليا وإلتحق به أمير الأفلاق مع عسكره وتجمعت الجيوش العثمانية على مدينة كيلية بأوكرانيا حاليا فضربت الحصار عليها يوم 11 جمادى الآخرة عام 889 هجرية الموافق يوم 5 يوليو عام 1484م فطلب أهلها الأمان بعد عدة أيام فأجابهم السلطان إلى طلبهم ودخل المدينة صلحا يوم 20 جمادى الآخرة عام 889 هجرية الموافق يوم 14 يوليو عام 1484م ثم توجه السلطان العثماني إلى مدينة وميناء آق كرمان فقابله في الطريق خان خانية القرم وهي بأوكرانيا حاليا منكلي كراى الجنكيزي يصحبه ولده محمد كراي على رأس خمسين ألف مقاتل من التتر وهنأ السلطان العثماني بايزيد الثاني بتربعه على عرش آل عثمان وإنضم إليه في زحفه على المدينة سالفة الذكر .
وفي يوم 28 جمادى الآخرة عام 889 هجرية الموافق يوم 22 يوليو عام 1484م ضرب العثمانيون الحصار على آق كرمان وجد العساكر في القتال والتضييق على حاميتها حتي إستأمنوا إلى السلطان العثماني وسلموه القلعة فدخلها صلحا يوم 16 رجب عام 889 هجرية الموافق يوم 8 أغسطس عام 1484م وإغتنم الجنود منها غنائم عظيمة وصرف السلطان بايزيد الثاني حصته من الغنائم على أعمال الخير وبالأخص بناء المصالح العامة في مدينة إدرنه ومنح منها أشياء كثيرة إلى خان القرم وقادته وحاشيته وخلع عليه بقلنسوة بيضاء وأسكوفة مطليةً بالذهب وأذن له بالعودة إلى دار ملكه فكانت تلك أولى الحملات العسكرية التي شارك فيها خوانين إمارة القرم إلى جانب العثمانيين بعد أن أصبحوا يتبعون الدولة العثمانية منذ زمن السلطان محمد الفاتح وما أن تمت هذه الفتوحات حتي قدم الأمير أسطفان بنفسه إلى ركاب السلطان العثماني وأعلن خضوعه وتبعيته تفاديا لحصول ما لا تحمد عقباه فقبل منه السلطان ذلك ثم قفل وعاد إلى إدرنه حيث إستقبل وفودا من رسل السلاطين والملوك الذين أتوا لتعزيته بوفاة ولده الشاهزاده عبد الله الذى توفي قبل بضعة شهور من هذه الوقائع وتهنئته بإنتصاراته وفي مقدمتهم سلطان سلطنة دلهي والتي تقع بشبه القارة الهندية إسكندر بن بهلول اللودهي والسلطان المملوكي الأشرف قايتباي وملك المجر متياس كورڤن وبعد تحقيق هذا النصر أصبح العثمانيون يتحكمون بجميع مرافئ البحر الأسود مما أثار إنزعاج ومخاوف الملك البولوني كازيمير الرابع الذي كان حتي ذلك الوقت محايدا في صراع العثمانيين والبغدانيين لكنه رأى أن تحكم السلطنة بثغور نهري الدانوب والدنيپر من شأنه تهديد بلاده فرأى أن يتدخل في إمارة البغدان فشكل حزبا معاديا للعثمانيين وقيل بل إنضم إلى حزب قائم يعارض التقدم الإسلامي في البلقان وحظي بدعم خجول من طائفة الفرسان الطاوية الصليبيين التي كانت قد نشأت في المانيا وشاركت في العديد من الحروب الصليبية وتوجه هذا الحزب بالنداء إلى الأمير أسطفان بن بغدان أن يخلع طاعة السلطان ويسترد ما أُخذ منه فإستجاب الأخير وشن هجوما مفاجئا على آق كرمان في أواخر ربيع عام 1485م لكنه أخفق في إسترداد المدينة إذ هاجمه من فيها من الجنود العثمانيين ليلا وإنتصروا عليه وأسروا كثيرا من أصحابه وقتلوا مثلهم فعاد خائبا منكسرا ولما بلغ السلطان بايزيد الثاني ما حدث أرسل إلى بكلربك الروملي علي باشا الخادم بأن يغير على إمارة البغدان لمعاقبة أسطفان فسار علي باشا في شهر شعبان عام 890 هجرية الموافق شهر أغسطس عام 1485م من طريق الأفلاق وإنضم إليه أميرها مع عسكره على حسب الأمر السلطاني فدخلوا بلاد البغدان وهرب الأمير أسطفان من أمامهم إلى بولونيا بينما خضع الكثير من قادته وأتباعه لعلي باشا الذي بث السرايا إلى أطراف البلاد فسبوا وغنموا دون تعرض للمسالمين ثم عادوا أدراجهم وأرسلوا خمس الغنائم إلى العتبة السلطانية في إسطنبول أما الأمير أسطفان فإنه ما أن دخل بولونيا حتى سارع إلى الإستنجاد بملكها كازيمير وأقسم الولاء له يوم 3 رمضان عام 890 هجرية الموافق يوم 12 سبتمبر عام 1485م فأمده بجيش من البولونيين وأخذ هو يجند من يستطيع من أطراف البغدان لأخذ الثأر من العثمانيين فإجتمع عليه جمع عظيم وما لبث أن وصل الخبر إلى أمير سنجق البوسنة إسكندر باشا ميخائيل أوغلي فأرسل أقدم الأُمراء وأشجعهم وهو علي بك بن مالقوج ليرابط في مدينة سيلسترة بشمال شرق بلغاريا على تخوم إمارة البغدان ويحفظ تلك الحدود وأطلق يده في الإغارة على بلاد البغدان وتكبيدها ما أمكن من خسائر فجمع علي بك جمعا عظيما من الفرسان الآقنجية خفيفي التدريع وعساكر الحدود والثغور ودخل بهم بلاد الأعداء فبث الآقنجية إلى الأطراف وعسكر هو في قليل من خواصه على ضفاف نهر بروت والذى يجرى في شرق قارة أوروبا وينبع من أوكرانيا ويمتد حتي يصب في نهر الدانوب ويمثل حاليا الحدود الطبيعية بين رومانيا ومولدوفا وعلم أسطفان بقلة من مع علي بك عن طريق الجواسيس فإنتهز الفرصة وأحاط بمعسكره ولم يلبث أن تقاتل الطرفان وإمتد القتال إلى الليل وكان علي بك كان قد إحتاط للأمر فجعل عددا من جنوده يكمنون بالطبول والنقارات في موضعٍ قريب حتى إذا حل الظلام خرجوا وهم يضربون طبولهم ونقاراتهم فإضطرب البغدانيون إعتقادا منهم بأن جيشا عثمانيا قد وصل كمدد فإنسحبوا من الميدان وتتبعهم علي بك فقتل فريقا وأسر آخر وفي غضون ذلك عاد الآقنجية غانمين فأرسل علي بك خمس الغنائم إلى السلطان العثماني بايزيد الثاني وقسم الباقي على الجنود وحاول الأمير أسطفان أن يجابه العثمانيين مجددا بعد بضعة شهور فإنكسر في وقعة أخرى أمام إسكندر بك ميخائيل أوغلي وكاد أن يقتل لولا أن أنجده أحد البطاركة المرافقين لجيشه وأمام هذا الواقع لم يجد الأمير البغداني بدا من الإعتراف بعجزه أمام القوة العثمانية فراسل السلطان بايزيد الثاني طالبا الصلح فأجابه إليه وأُبرمت بين الطرفين هدنة مدتها ثلاث سنوات تعهد فيها أسطفان بالإعتراف بتبعيته للسلطان وبدفع خراجٍ سنوى للدولة العثمانية في مقابل الإحتفاظ بإستقلاله الإدارى .
وبعد فراغه من أُمور البغدان حول السلطان بايزيد الثاني أنظاره ناحية الدولة المملوكية في الشام ومصر إذ أن العلاقات الجيدة بين الدولتين كانت قد بدأت تتوتر وتضطرب منذُ وفاة السلطان محمد الفاتح ولجوء الشاهزاده جم سلطان شقيق السلطان بايزيد الثاني والذى ينازعه الملك إلى القاهرة وكانت أولى بوادر التأزم حينما غض المماليك النظر عن الشكاوى العديدة التي رفعها الديوان الهمايوني العثماني إلى القاهرة حول تعرض العربان للحجاج العثمانيين وهم في طريقهم لأداء فريضة الحج حيث كانت بلاد الحجاز تحت حكم المماليك وسلبهم أمتعتهم وأموالهم فطلب الديوان المذكور أن يسمح للدولة العثمانية أن ترسل جنودا مع حجاجها لحماية طريق الحج لكن هذا الطلب قوبل بالرفض وفي عام 890 هجرية الموافق عام 1485م وردت الأخبار من مكة المكرمة بأن الأمطار كانت قليلة بها جدا وأن الآبار قد جفت والعين التي أجراها السلطان المملوكي الأشرف قايتباي قد توقفت فتعرض أهل مكة المكرمة لضرر شديد بسبب ذلك فطلب السلطان بايزيد الثاني من نظيره المملوكي أن يسمح له بإصلاح بعض القنوات والآبار في الديار المقدسة فرفض طلبه ومما زاد الأمر سوءا أن سلطان الدولة البهمنية التي كانت قد تأسست في جنوب شبه القارة الهندية شهاب الدين محمود بن محمد كان قد أرسل هدايا حافلة إلى السلطان بايزيد الثاني على يد بعض تجار جنوب الهند فلما وصلت إلى ميناء جدة إستولي عليها نائب السلطنة المملوكية وأحضرها إلى السلطان المملوكي الأشرف قايتباي وكان من جملة تلك الهدايا خنجر قبضته مرصعة بفصوص مثمنة فطمع السلطان المملوكي في تلك الهدية وأخذ الخنجر فلما بلغ السلطان بايزيد الثاني ذلك غضب غضبا شديدا وأرسل يطالب بِما أُرسل إليه لكن السلطان قايتباي تأخر في الرد وكانت هذه هي القشة التي قصمت ظهر البعير إضافة إلي أنه عندما أرسل السلطان العثماني بايزيد الثاني يطلب من السلطان المملوكي أن يرسل والدة أخيه الشاهزاده جم سلطان چيچك خاتون وإبنتيه المقيمين في القاهرة منذ هروبه إليها إلى إسطنبول لم يستجب له وعلاوة علي ذلك كان المماليك ينظرون بقلقٍ شديد إلى التوسع العثماني في الأناضول مع ما يحمله ذلك من منافسة إقتصادية لهم على صعيد تجارة التوابل التي تتقاطع طرقها التجارية مع الحدود المملوكية العثمانية ولا يبدو أن هذا غاب عن ذهن العثمانيين فكانوا يسعون ليكون لهم جزء من الهيمنة على التجارة المذكورة بل يروى أن السلطان محمد الفاتح كان يعقد العزم على التوسع بإتجاه المشرق العربي ولعله كان ينوي تحقيق تلك الغاية الإقتصادية لولا إنشغاله بحرب البندقية ثم وفاته وكنتيجة لكل ذلك تجمعت لدى السلطان العثماني العوامل التي جعلته يتخذ موقفا عدائيا صريحا من السلطنة المملوكية وتصرف على محورين فساند أمير إمارة ذي القدرية التابعة للدولة العثمانية علاء الدولة بوزقورد بك بن سليمان وأمده بالعساكر حتي هاجم ملطية التابعة للمماليك كما أحكم سيطرته على الطرق التجارية وعلى مصادر المواد الخام الإستراتيجية البالغة الحيوية بالنسبة للمماليك كأخشاب السفن مثلا وبذل جميع المحاولات لإضعاف طاقتهم العسكرية فعرقل شراء الرقيق الأبيض من أسواق البحر الأسود لنقلهم إلى مصر والراجح أن هذا العمل كان أحد الأسباب الرئيسية للنشاط العثماني في شبه جزيرة القرم وفي إقليم القفقاس أو القوقاز بما في ذلك الحملة العثمانية على جركستان وهي بلاد الشركس والتي كانت تقع في شمال وسط وغرب إقليم القفقاس عام 889 هجرية الموافق عام 1484م التي دمرت خلالها كل المراكز الأساسية التي كانت تؤمن الإمدادات البشرية للمماليك ولم يكن للسلطان المملوكي أن يقف متفرجا على ما يحدث فكان لا بد من إندلاع الحرب لكننا نلاحظ أن كلا الدولتين الإسلاميتين الكبيرتين حاولتا جهديهما حصر الحرب في نطاقٍ محلي وعدم تصعيدها أو تحويلها إلى حرب شاملة تكون نتيجتها كارثية علي كل منهما .
وقد بدأت الحرب بين المماليك والعثمانيين بصورة فعلية عندما سار بكلربك القرمان قراكوز محمد باشا في عساكر إمارته للإستيلاء علي البلاد الواقعة في أطراف أضنة وطرسوس بجنوب الأناضول والتي كانت في أيدي المماليك بناءا على أوامر السلطان بايزيد الثاني فخرج الباشا المذكور وتمكن من ضم حصون كوكلك والنقش وموللن وبرص وتيه وكلها من أعمال أضنة وقيل إن الحصون المذكورة لم يكن فيها أحد من المماليك بل كان أهلها من بقايا أرمن قيليقية الذين زالت دولتهم على أيدي المسلمين زمن السلطان المملوكي الأشرف زين الدين شعبان قبل نحو قرن ونصف من هذه الأحداث فأصبحوا من رعايا الدولة المملوكية يؤدون الجزية إلى السلطان في القاهرة وعند هذا التقدم العثماني سارع الأمير الرمضاني غياث الدين خليل بك بن داود والذى كان تابعا للماليك في التوجه لإسطنبول وعرض أن تكون تبعيته للدولة العثمانية وخروجه من تبعية المماليك مما يعني زوال الدويلات الحاجزة بين الدولتين العثمانية والمملوكية كون الدويلة الأُخرى أي إمارة ذى القدرية كانت تتبع بني عثمان وتبع ذلك أن أغار أمير ذي القدرية علاء الدولة بوزقورد على أطراف الدولة المملوكية بعد أن أمده السلطان بايزيد الثاني بجمعٍ كبير من عساكره بقيادة أمير سنجق قيصرية التي تقع بوسط الأناضول يعقوب بك فتصدى لهم نائب السلطنة المملوكية في حلب الأمير وردبش الظاهرى بمن معه من الجنود ونشبت بين الطرفين معركة مهولة إنتصر فيها العثمانيون وقتل وردبش وجماعة كثيرة من عساكره وقيل إن علاء الدولة ضرب عنقه بين يديه ولم يقف السلطان الأشرف قايتباى مكتوف اليدين أمام التحديات العثمانية فأرسل حملةً عسكريةً بقيادة السلحدار الأمير تمراز الشمسي لتأديب علاء الدولة فإشتبك معه وكسره مع العساكر العثمانيين وعاد إلى مدينة حلب محملا بالغنائم وعدد كبير من الرايات العثمانية فدخل بها المماليك إلى حلب وهي منكسة ويبدو أن السلطان المملوكي الأشرف قايتباى كان يؤثر السلام على الحرب فجمع الأمراء والمستشارين وطلب مشورتهم في أمر نظيره العثماني فأشاروا عليه بِأن يرسل إليه هديةً مع مبعوث خاص فتزول الوحشة بينهما ووافق السلطان المملوكي علي ذلك وعين في ذلك المجلس أمير الآخور الثاني جاني بك حبيب ليتوجه إلى العاصمة العثمانية إسطنبول وكان هذا الأخير حلو اللسان وسياسيا بارعا فخرج في شهر صفر عام 890 هجرية الموافق شهر فبراير عام 1485م متوجها من القاهرة إلى الإسكندرية ومنها ركب البحر إلى العاصمة العثمانية إسطنبول وأرسل السلطان الأشرف قايتباى مع مبعوثه سالف الذكر الخنجر والهدية التي بعث بها السلطان البهمني إلى السلطان العثماني بايزيد الثاني بالإضافة إلى هدية أخرى خاصة منه كما أرسل تقليدا من الخليفة العباسي الشرفي المقيم بالقاهرة أبي العز عبد العزيز بن يعقوب المتوكل على الله إلى السلطان العثماني بايزيد الثاني بأن يكون مقام السلطان على بلاد الروم وما سيفتحه الله تعالى على يديه من البلاد منَ بلاد الكفار وأرفقه برسالة يعتذر فيها عما بدر منه وأرسل إليه الخليفة العباسي أيضا رسالة رقيقة تضمنت ضرورة إخماد الفتنة التي قامت بين العاهلين المملوكي والعثماني حقنا لدماء المسلمين .
والواقع أن السلطان العثماني بايزيد الثاني الذي رأى نفسه في وضعٍ جيد يسمح له بالتدخل في شؤون الدولة المملوكية تمهيدا للتمدد على حسابها في بلاد الشام جنوبي إقليم الأناضول ومن ثم فقد إستقبل رسول السلطان المملوكي أسوأ إستقبال ولم يكرمه ورفض إقرار الصلح بين الدولتين فعاد جاني بك إلى القاهرة وأخبر السلطان المملوكي بما حدث وكان السلطان قايتباى قد أعد حملةً أُخرى لإخضاع علاء الدولة أمير إمارة ذي القدرية التابعة للدولة العثمانية ولما رأى الأخير نفسه واقعا بين فكي الكماشة المملوكية والعثمانية وأدرك أنه إن سلم من المماليك فلن يسلم من طموحات العثمانيين ومحاولات السلطان بايزيد الثاني الحثيثة للسيطرة على المنطقة فأرسل إلى السلطان قايتباى في شهر ذي الحجة عام 890 هجرية الموافق شهر ديسمبر عام 1485م رسالةً يطلب فيها الصلح والخروج من دائرة الصراع بين الدولتين وأرسل أيضا نائب السلطنة في حلب الأمير أزدمر يستحث السلطان المملوكي بخروج حملة ثقيلة أو خروج السلطان بنفسه لرد العثمانيين عن أطراف البلاد فإستجاب قايتباي ونادى بجمع الجيش وعين الأمير أزبك الأتابكي أميرا عليه وأرسله لقتال بني عثمان فتوجه الأمير المذكور إلى دمشق حيث خرج معه نائب السلطنة الأمير تمربك وسارا إلى العواصم والمقصود بها الجبهة أو التحصينات ومفردها العاصمة وتعني الحامية وكان هذا المصطلح يطلق علي الجهة ذات الحكم الإسلامي في المنطقة الحدودية بين الإمبراطورية البيزنطية وأراضي الخلافة الأموية والعباسية في قيليقية بالأناضول وشمال بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين العليا وبعد سقوط الدولة البيزنطية أصبحت الجهات العازلة بين أملاك العثمانيين والمماليك بنفس المناطق المذكورة وسار الأمير أزبك والأمير تمربك متوجهين نحو الحصون التي أخذها قراكوز محمد باشا فوجدا أن القائم على محافظتها أميران هما موسى بك وفرحات بك وكان معهما جمع من العسكر فهجما عليهما وقتلاهما بعد قتال يسير وفرقا أصحابهما بعد أن قتل وأُسر كثير منهم وإستردا الحصون ولما بلغ السلطان بايزيد الثاني خبر الإنكسار جهز جيشا جديدا جعل على إمارته بكلربك الأناضول أحمد باشا بن هرسك وجعل معه محمد باشا بن خضر وقراكوز محمد باشا وأرسلهم لقتال الجيش المملوكي الذى يقوده الأمير أزبك فإنهزم العثمانيون مجددا وتفرق جمعهم ووقع أحمد باشا بن هرسك في الأسر بعدما قطعت أصابعه أثناء القتال وتمكن محمد باشا وقراكوز باشا من النجاة بحياتهما ولم يكتف الأمير أزبك بإنتصاره هذا فتابع سيره حتى أخذ أضنة وطرسوس ثُم عاد إلى القاهرة حاملا معه إبن هرسك بعد أن أودعه في الحديد ولما بلغ ذلك إلى السلطان بايزيد الثاني تكدر كدرا شديدا وأمر الصدر الأعظم داود باشا الأرناؤوطي في عام 982 هجرية الموافق عام 1487م بأن يسير على رأس جيش ضخم من أجل أخذ الثأر من المماليك فسار الصدر الأعظم حتى دخل إمارة ذي القدرية التابعة للدولة العثمانية فأشار عليه علاء الدولة أن لا يتخطي الحدود إلى أراضي الدولة المملوكية لأن السلطان المملوكي الأشرف قايتباي قد أعد حملةً عسكريةً ضخمة بقيادة الأمير يشبك الجمالي للزحف على بلاد بني عثمان فيما لو هاجموا أراضي الدولة المملوكية فقبل الصدر الأعظم إشارة هذا الأمير وحول مسيره إلى بلاد التركمان الورساقيين والطرغُديين بجنوب شرق الأناضول لدفع شرهم إذ كان أحد أُمرائهم المدعو محمود بك بن درغوث قد إدعى أحقيته في ميراث بني قرمان بعد وفاة قاسم بك فأحاط الصدر الأعظم بجبال تلك القبائل حتى أُجبر محمود بك على الهرب إلى مدينة حلب وإضطر بقية الأُمراء إلى الإستئمان فحضروا عند داود باشا وأقسموا على الطاعة وإعترفوا بتبعيتهم للدولة العثمانية فخلع عليهم الصدر الأعظم وأعادهم إلى بلادهم ثم قفل وعاد إلى العاصمة العثمانية إسطنبول .
وخلال تلك الفترة كان السلطان المملوكي قايتباي يحاول تكوين جبهة معارضة للعثمانيين فأرسل إلى أمير الدولة الآق قويونلوية التي تقع أملاكها شرق الأناضول يعقوب بن حسن البايندري بن أوزون حسن يعرض عليه التحالف إلا أنه فشل في تحقيق غايته لأن هذا الأمير الذي إتجه بسياسته نحو الشرق رفض الدخول في الصراع الدائر غرب دولته وكان يستعد لحرب الشيخ حيدر بن جنيد الصفوى والد الشاه إسماعيل الصفوى لذلك أجاب على رسالة السلطان قايتباى مكتفيا بإظهار التودد وصدق المحبة له فحاول قايتباى مجددا إستعادة الشاهزاده جم سلطان شقيق السلطان بايزيد الثاني من فرسان الإسبتارية لكي يتخذ منه وسيلة ضغط علي العثمانيين إلا أن شيخ الفرسان رفض طلبه مرة أُخرى وكنتيجةً لهذا الفشل السياسي إنتهج قايتباى سياسةً من شقين فإلى جانب إستعداداته العسكرية فإنه ظل يتمسك بأهداب السلام وتقدم بخطوة دبلوماسية برهن من خِلالها على ميوله السلمية فأطلق سراح الأسرى العثمانيين ومن بينهم البكلربك أحمد باشا بن هرسك وطلب منه أن يبلغ نظيره العثماني بأن هذه الحرب لا طائل من ورائها وأنه على إستعداد لعقد صلحٍ تقر فيه الأطراف بحدود ما قبل الحرب وأنه يبلغه أيضا أن المماليك لا يرغبون في الحرب مع العثمانيين الذين يجاهدون بصورة مستمرة ضد الممالك الأوروبية المسيحية وأن هذا لا يليق بهم كما طلب منه كذلك أن يبلغ السلطان بايزيد الثاني أنه لا ينوى التنازل عن أية أراض مملوكية للدولة العثمانية ثم أذن له بالعودة إلى إسطنبول وما أن وصل أحمد باشا إلى العاصمة العثمانية حتى نقل الرسالة أمام السلطان بايزيد الثاني والديوان الهمايوني لكنها لم تلقَ آذانا صاغية كون الديوان المذكور لم يكن قد إعتاد إنهاء حرب خاضتها الدولة ولم تتكلل بالنجاح وهكذا فشل الإتجاه الدبلوماسي في حل النزاع القائم بين الدولتين وتغلب الإتجاه الصدامي ومن ثم فقد إستمرت الحرب بين المماليك والعثمانيين بضع سنوات أُخريات برز فيها الأمير أزبك الأتابكي كقائد عسكرى كبير وفي عام 893 هجرية الموافق عام 1487م تجددت مرة أخرى الأعمال الحربية بين الدولتين عندما أرسل السلطان بايزيد الثاني إلى الحدود المملوكية العثمانية الوزير علي باشا الخادم في نحو خمسة آلاف مقاتل وضم إليه بكلربك الروملي خليل باشا مع أُمراء الروملي وعسكرها وبكلربك الأناضول سنان باشا مع عسكر إمارته وأُمرائها كما عين أحمد باشا بن هرسك قبطانا وأرسله في نحو مائة سفينة مشحونة بالرجال والعتاد من البحر ليمد علي باشا من سواحل الإسكندرونة والتي تقع علي ساحل البحر المتوسط بأقصي شمال الشام ولما وصل علي باشا إلى بلاد القرمان إنضم إليه بكلربكها يعقوب باشا فساروا جميعا حتى قيليقية بجنوب الأناضول فإستعادوا السيطرة على مدينتي أضنة وطرسوس وعمروا أسوارها وحصنوها وبحلول صيف عام 1488م كان علي باشا قد ضم قلاع أتاذر وبياس ونمرون وملوانة وسيس وألقى القبض على من فيها من المماليك وأرسلهم إلى العتبة العليا بالعاصمة العثمانية إسطنبول فأطلقهم السلطان العثماني بايزيد الثاني وأعادهم إلى مصر معززين مكرمين ولما بلغ السلطان المملوكي الأشرف قايتباى هذا الخبر سارع بإرسال الأمير أزبك الأتابكي إلي هذه القلاع وضم إليه السلحدار الأمير تمراز الشمسي وأمير الآخور قانصوه خمسمائة الأشرفي وضم إليهم أُمراء الشام مع عساكرهم وكذلك إنضم إليهم الأمير الرمضاني غياث الدين خليل بك بن داود والأمير الورساقي محمود بك بن درغوث مع التركمان وإلتقى الجمعان بقرب مدينة طرسوس يوم 8 رمضان عام 893 هجرية الموافق يوم 15 أغسطس عام 1488م فإقتتلوا قتالا شديدا إنكسر فيه العثمانيون وفر أغلب أُمرائهم ولم يثبت إلا الوزير علي باشا ونفر من الذين معه فجدوا وشدوا في القتال إلى آخر النهار حتى قتل أغلب الجند فإضطر إلى الإنسحاب بمن بقي إلى بلاد القرمان أما المماليك فغنموا مغانم عظيمة مما وجدوه في المعسكر العثماني ثم حاصروا أضنة وأخذوها بالأمان وما أن وصلت أخبار هذا الإنتصار إلى القاهرة حتى سر السلطان الأشرف قايتباي سرورا عظيما وأمر بدق البشائر في القلعة فدقت سبعة أيام كما زينت مدينة دمشق زينةً عظيمةً ودقت البشائر في قلعتها أما السلطان العثماني بايزيد الثاني فقد أمر بمعاقبة الأُمراء والقادة الذين هربوا من أمام الجيش المملوكي ولم يثبتوا عند القتال فقبض عليهم أجمعين وسجنوا في قلعة يني حصار مدة وأمر السلطان العثماني أيضا بإعدام قراكوز محمد باشا لتكراره الهرب من أمام الأعداء وأُطلق سراح بقية الأُمراء .
وفي عام 894 هجرية الموافق عام 1489م وصلت رسالة إلى السلطان بايزيد الثاني من طرف البابا إنوسنت الثامن مفادها أن الشاهزاده العثماني جم سلطان قد أصبح في عهدته بعدما سلمه إليه فُرسان الإسبتارية في يوم 11 ربيع الآخر عام 894 هجرية الموافق يوم 13 مارس عام 1489م وتعهد البابا في رسالته إلى السلطان العثماني بإبقاء أخيه عنده لقاء ما كان يدفعه للفرسان ويبدو أن الإسبتاريين سلموا الشاهزاده إلى البابا كحل وسط بعد تعرضهم لضغوط شديدة مورست عليهم من قبل الدول الأوروبية المعادية للدولة العثمانية وخصص البابا قلعة الملك المقدس سان أنجيلو لإقامة جم سلطان بعدما إستقبله بمراسم فوق العادة وفي هذا العام أيضا أمر السلطان بايزيد الأول بمعاقبة أمير ذي القدرية علاء الدولة بوزقورد بك بعدما سالم المماليك كما ذكرنا في السطور السابقة ودخل في طاعتهم فخلعه السلطان عن الإمارة وولى مكانه أخاه شهبداق بن سليمان وأرسل إلى محمد باشا بن خضر والي أماسية وإسكندر بك ميخائيل أوغلي أمير سنجق قيصرية يأمرهما بأن يعينا شهبداق على أخيه حتى يأخذ الملك منه وكذلك كتب إلى بكلربك القرمان محمود بك بن مستنصر بأن يمد شهبداق إن إستمد منه كما أمر إسكندر بك بإلقاء القبض على شاهرخ بن علاء الدولة وكان واليا على قرشهر من قبل السلطان فنفذ هذه المهمة وأرسله إلى إسطنبول حيث أُكحلت عيناه وإستعاد العثمانيون السيطرة على أضنة وطرسوس وسيس وبياس وغيرها ولما وصل ذلك إلى علاء الدولة جزع وفزع ثم حشد وجمع من التركمان والمماليك جمعا عظيما وأسرع بالسير إلى قتال أخيه لأخذ ثأر ولده شاهرخ فوصل إليه قبل وصول المدد وقاتله أشد قتال حتى كسره فهرب شهبداق وثبت إسكندر بك ميخائيل أوغلي حتى وقع في الأسر وأُرسل مكبلا إلى القاهرة وأخذ علاء الدولة يحث السلطان المملوكي على قتال العثمانيين مجددا وهون الأمر عنده وأطمعه في البلاد العثمانية لكن نظرا لسوء الحالة الإقتصاديَّة وإنتفاضة المماليك الجلبان وهم الذين كانوا ينتقلون من خدمة سلطان مملوكي إلي السلطان الذى يليه ثم الذى يليه وهكذا لم يتمكن قايتباى من إرسال حملة أُخرى لطرد العثمانيين من المناطق التي إستولوا عليها فمال إلى الصلح وإستقبل في شهر جمادى الآخرة عام 894 هجرية الموافق شهر مايو عام 1489م رسولا عثمانيا أرسله الصدر الأعظم داود باشا بهدف إحلال السلام بين الدولتين المملوكية والعثمانية فإشترط السلطان المملوكي الأشرف قايتباى إطلاق سراح الأسرى المماليك وتسليم مفاتيح القلاع التي إستولى عليها العثمانيون ويبدو أن المفاوضات لم تسفر عن نتيجة إيجابية ملموسة فكان لا بد من الإصطدام مجددا خاصةً وأن الإنتصار العثماني الأخير لم يكن حاسما وتقدمت القوات العثمانية بإتجاه الأراضي المملوكية ووصلت إلى حصن كوكلك في شهر صفر عام 895 هجرية الموافق شهر ديسمبر عام 1489م فأرسل السلطان الأشرف قايتباي حملةً قويةَ بقيادة الأمير أزبك وأعطاه الأوامر بالإهتمام بالجانب السلمي أولا وإذا فشلت المحاولات السلمية فلا بد له من الإصطدام بالعثمانيين ودخل الأمير أزبك الأراضي العثمانية عن طريق مدينة حلب وتحرك إلى عمقها حتي وصل إلى مدينة قيصرية فنهب عدة قرى تابعة لها وأحرقها وإستولى على قلعة كوارة ووقع في يديه أحمد باشا بن هرسك مرة أُخرى بعدما أرسله السلطان العثماني بايزيد الثاني من أجل دفع المماليك وكانت تلك آخر حملة لِلأمير أزبك على بلاد العثمانيين وعاد بعدها إلى القاهرة في مستهل شهر المحرم عام 896 هجرية الموافق شهر نوفمبر عام 1490م .
وعامل السلطان الأشرف قايتباى الأسرى العثمانيين بما فيهم أحمد باشا بن هرسك ببرود هذه المرة وكادت الحرب أن تستمر بين الدولتين لولا أن حالت الظروف الطبيعية والإقتصادية دون ذلك فقد كان السلطان العثماني بايزيد الثاني قد خرج بنفسه إلى أسكدار للتجهز لِأخذ الثأر من المماليك فبينما هو متجهِز لذلك إذ ساءت حالة الطقس وهطلت أمطار غزيرة ونزلت صواعق متتابعة على إسطنبول يوم 22 شعبان عام 896 هجرية الموافق يوم 29 يونيو عام 1491م فتخربت مواضع عديدة وأبنية كثيرة بفعل السيول والصواعق ونزلت صاعقة على كنيسة مهجورة بقرب ميدان سباق الخيل البيزنطي وكانت تستخدم مستودعا للذخائر وفيها عدة قناطير من البارود فإشتعلت ثم إنفجرت موقعةً أضرارا كبيرةً في المحلات المجاورة مهلكةً جميع أهلها وتطايرت أنقاض المباني فهبطت في مواضع مختلفة من إسطنبول كجلاطة وبشكطاش وطوبخانة وغيرها فقتل الكثير من الناس وإضطر السلطان العثماني أن يبقى في عاصمته ليعيد إعمار ما تهدم ويغيث الأهالي المنكوبين أما في مصر فكانت هناك بوادر ضائقة إقتصادية تلوح في الأُفق بعدما أُنهكت موارد البلاد بِفعل الحرب المستمرة ورافق ذلك ملامح من المجاعة والطاعون كما يروى أن السلطان قايتباى تأثر عندما علم أن السلطان بايزيد الثاني سيخرج بنفسه على رأس حملة ضد المماليك إذ لم يكن يرغب في أن تتطور الأُمور إلى حرب شاملة وكان يعلم أن الغازى تيمورلنك فقط هو الذي تمكن من الإنتصار على العثمانيين في حرب شاملة في تاريخ الدولة العثمانية حتى ذلك الحين وليس هناك مثال آخر فأثبط ذلك من عزيمته وإتصل بالسلطان أبو يحيى زكرياء بن يحيى الحفصي سلطان الدولة الحفصية والتي كانت تحكم بلاد أفريقية وهي بلاد المغرب العربي بشمال قارة أفريقيا وطلب إليه أن يتوسط لِتأمين الوئام بينه وبين السلطان بايزيد الثاني والحيلولة دون إراقة المزيد من دماء المسلمين ووافق السلطان بايزيد الثاني على هذه الوساطة وأرسل السلطان الحفصي بدايةً القاضي الفقيه حسين بن عمر بن محمد القلشاني المغربي ليحل الأزمة القائمة بين المماليك والعثمانيين وكان القاضي المذكور ذا صولة وإقدام على الملوك وبينما هو في طريقه إلى إسطنبول إعترته سفن إفرنجية فوقع في الأسر وقتل فأرسل السلطان يحيى رسولا آخر حمله هدايا جليلة إلى العتبة السلطانية وأعانه في إحلال السلام أحد أكبر وأبرز علماء الدولة العثمانية في ذلك العصر وهو المولى أبو بكر زين الدين علي العربي المشهور عند الترك بملا العرب وأثبت المولى المذكور خيرية الصلح بأدلة كثيرة بخلاف سائر العلماء الذين كانوا قد أفتوا بجواز الجهاد ضد المماليك وإراقة دمائهم وحثوا السلطان العثماني بايزيد الثاني على قتالهم إلأ أن أدلة المولى العربي كانت قوية وكان من أهم ما قاله للسلطان لسنا راضين عن فعلك يا إبن عثمان ومعاداتك لأهل تلك البلاد وأن الضرورة قد حدثت لنا ولهم وإن الكفار طغوا عندما رأوا المسلمين يقاتل بعضهم بعضا ومن ثم فإننا نشير بالصلح وأمام هذا الرأي الرشيد مال السلطان بايزيد الثاني إلى قول المولى وأجاب السلطان الحفصي إلى قبول ملتمسه وهو مصالحة السلطان قايتباى فإستقر الصلح ورد بايزيد جميع الحصون التي كان قد أخذها من أعمال أضنة بعدما تبين له أنها من أوقاف الحرمين الشريفين وهكذا ثبتت الحدود كما كانت عليه قبل بداية الحرب فعادت الإمارة الرمضانية إلى تبعيتها للمماليك وإمارة ذي القدرية إلى الدولة العثمانية وسعى السلطان بايزيد الثاني إلى إزالة البرود الكائن بينه وبين السلطان الأشرف قايتباى فزوج جوهرملك سلطان إبنة أخيه الشاهزاده جم سلطان بناصر الدين محمد بن قايتباى وإستمر بعد ذلك متبعا سياسة مساندة الدولة المملوكية بإخلاص وفي الحقيقة فإن هذا الصراع الذى نشب بين المماليك والعثمانيين والذى كان لا داعي له كان صراعا أضعف الطرفين وأنهك قوتهما وأثر سلبا علي النواحي الإقتصادية للدولتين ولم يستفد منه سوى أعداء الإسلام والمسلمين .
وللأسف الشديد فخلال الفترة التي إنشغل فيها المماليك والعثمانيين بقتال بعضهم كانت دولة الإسلام في بلاد الأندلس تعيش أيامها الأخيرة وكانت الدولة القائمة هناك حينذاك هي الدولة النصرية الشهيرة بمملكة غرناطة التي كانت قد إجتمعت تحت ظلالها أشلاء الأندلس المنهارة التي إنكمشت أطرافها فيما وراء نهر الوادي الكبير جنوبا وشغلت شرقا رقعةً متواضعةً من جيان وبياسة وإستجة حتى البحر المتوسط ومن ألمرية وإلبيرة غربا حتى مصب الوادي الكبير وكانت هذه الدولة قد فقدت حتى ذلك الحين الكثير من بلادها وأراضيها لصالح الممالك المسيحية المحيطة بها وإزدادت وهنا على وهن وفي عام 884 هجرية الموافق عام 1479م كانت قد إتحدت مملكة قشتالة وأرغون بزعامة الملكين الكاثوليكيين فرديناند الثاني الأرغوني وإيزابيلا القشتالية فكانت تلك كارثة الكوارث بالنسبة للمسلمين في بلاد الأندلس إذ هدف الملكان الكاثوليكيان إلى إقتلاع الإسلام بكامله من شبه الجزيرة الأيبيرية ثم أُضيف إلى هذا الهدف سياسة عدم الإبقاء على أى شخص لا ينتسب للمسيحية والمذهب الكاثوليكي فأصبح وجود كل من المسلمين واليهود في بلاد الأندلس مهددا بالزوال ولم يلبث الملك فرديناند أن أخذ يهاجم المدن والحواضر الأندلسية فسقطت في يديه تباعا وفي عام 888 هجرية الموافق عام 1483م هاجم أمير المسلمين أبو عبد الله محمد بن علي مدينة قرطبة فتغلب على النصارى في عدة وقعات لكنه أُسر عند قاعدة اللسانة جنوب شرق مدينة قرطبة ولم يطلق سراحه إلا عام 890 هجرية الموافق عام 1485م بعد أن وقع إتفاقا في صالح مملكة قشتالة وقد صاحب ذلك قيام إنقسامات في داخل مدينة غرناطة فإنقسمت الزعامات والأحزاب بين مؤيدة لمحمد بن علي وأُخرى مؤيدة لعمه محمد بن سعد الزغل الذي حكم المدينة طيلة فترة أسر إبن أخيه وتطور الأمر إلى حرب بين الطرفين إنتهت بتقسيم غرناطة فإستغل الملك فرديناند الثاني هذا الموقف وإستولى على المزيد من المدن والحصون الأندلسية مثل لوشة والحمة وعمد إلى تخريب ما حول غرناطة من الزروع والمحاصيل لتضييق الخناق عليها وعمل على إذكاء الفتنة بين المسلمين وفي شهر جمادى الآخرة عام 892 هجرية الموافق شهر يونيو عام 1487م حاصر القشتاليون مالقة التي كانت تدين بالولاء للأمير محمد الزغل الذي لم يستطع أن يسير لإنجادها بقواته خوفا من غدر إبن أخيه أمير غرناطة ففكر في وسيلة أُخرى لعلها تجدى في إنقاذ الأندلس من خطر الفناء الداهم هي أن يستغيث بسلاطين وأُمراء الإسلام لآخر مرة فبعث رسلا إلى السلطان الحفصي في أفريقية والسلطان المملوكي قايتباى في مصر والسلطان العثماني بايزيد الثاني في إسطنبول وللأسف الشديد فقد حال بعد المسافة دون وصول الرسل الأندلسيين إلى سلاطين الإسلام في أفريقية والقاهرة وإسطنبول في الوقت المناسب فسقطت مالقة بيد النصارى يوم 28 شعبان عام 892 هجرية الموافق يوم 18 أغسطس عام 1487م ولم يلتزم الملك الكاثوليكي فرديناند الثاني بعهود الأمان التي قطعها لأهل المدينة وأصدر قرارا بإعتبار المسلمين المالقيين رقيقا يجب عليهم إفتداء أنفسهم ومتاعهم بالمال مهما إختلفت أحوالهم الإجتماعية وظروفهم وترك جنوده يعيثون دمارا وخرابا وسلبا ونهبا في المدينة .
|