بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا”
السلطان سليم الأول هو خادم الحرمين الشريفين الملكُ الناصر والسلطان الغازي القاهر ظهير الدين والدنيا ياووز سليم خان الأول بن السلطان بايزيد الثاني بن السلطان محمد الثاني الملقب بالفاتح ويعرف إختصارا بإسم السلطان سليم الأول أو سليم شاه وبلقبه ياووز سليم أى سليم القاطع وهو تاسع سلاطين آل عثمان وسابع من تلقب رسميا بلقب سلطان بينهم بعد والده السلطان بايزيد الثاني وأجداده من السلطان محمد الفاتح إلى السلطان مراد الأول وثالث من حمل لقب قيصر الروم من الحكام المسلمين عموما والسلاطين العثمانيين خصوصا بعد والده السلطان بايزيد الثاني وجده السلطان محمد الفاتح وأول من حمل رسميا لقب خليفة للمسلمين من بني عثمان والرابع والسبعين في ترتيب الخلفاء عموما ووالدته هي عائشة كلبهار خاتون وكان هو أصغر أولاد السلطان العثماني الثامن بايزيد الثاني الذين كتبت لهم الحياة حتي وفاة هذا الأخير وبهذا لم يكن في بادئ أمره ولي عهد أبيه بل كان هذا اللقب من نصيب أخيه الأكبر الشاهزاده عبد الله ثم الشاهزاده أحمد بعد وفاة الشاهزاده عبد الله وقد آل إليه الملك بعد إضطرابات عصفت بالدولة العثمانية أواخر عهد والده السلطان بايزيد الثاني نتيجة الصراع الذى نشب علي العرش بين أبناءه الثلاثة الذين كانوا علي قيد الحياة والذين كان منهم بالطبع الشاهزاده سليم بخلاف الشاهزاده أحمد والشاهزاده قورقود وكانت الغلبة في نهاية الأمر للشاهزاده سليم نتيجة دعم الإنكشارية له فقرر والده أن يتنازل عن العرش وترك له تدبير شؤون البلاد والعباد وقرر أيضا أن يتفرغ للعبادة لكنه توفي بعد حوالي شهر من تنازله عن العرش لإبنه الذى أصبح السلطان سليم الأول وفي بداية حكمه نازعه أخواه الشاهزاده أحمد والشاهزاده قورقود علي الحكم لكنه إستطاع تصفيتهما وأيضا أكثر أبنائهم خلال السنة الأولى من حكمه بعد أن إستشعر منهم الخيانة والغدر ثم حول أنظاره شرقا لحرب الصفويين الشيعة الذين كانوا يغالون في تشيعهم ويضطهدون أهل السنة والجماعة شرقي الأناضول في بلاد فارس والعراق ومن اللافت للنظر أن إستراتيجية العثمانيين قد تغيرت تغيرا كبيرا في عهد هذا السلطان إذ توقفت موجة الفتوحات بإتجاه الغرب وتحول الزحف ناحية الشرق الإسلامي لأسباب عديدة منها ما هو مذهبي ومنها ما هو إقتصادي وسياسي وثقافي ولذلك فقد جدد السلطان سليم الأول في بداية حكمه المعاهدات العثمانية السابقة مع الدول الأوروبية ثم سار لقتال الصفويين الشيعة وإنتصر عليهم إنتصارا باهرا بفضل الأسلحة المتطورة التي تزود بها جيشه ولكفاءة طوائف الجند العثمانية وبالأخص طائفة الإنكشارية وبعد ذلك حارب السلطان سليم الأول المماليك وتمكن من الإنتصار عليهم أيضا وإخراجهم أولا من بلاد الشام التي رحبت بلادها بمجئ العثمانيين وفتحت لهم أبوابها فدخلوها سلما دون قتال وبقيت الديار الشامية جزءا من الدولة العثمانية حتي نهاية الحرب العالمية الأولي أواخر عام 1918م أى لمدة أربعة قرون متتالية وبعد إستيلاء العثمانيين علي بلاد الشام تتبع السلطان سليم الأول المماليك حتى مصر وأنزل بهم ضربةً قاضية ساحقة فدانت له الديار المصرية ودخلت تحت جناح الدولة العثمانية وأثناء وجود السلطان سليم الأول في القاهرة بعد الإنتصار علي المماليك قدم إليه شريف مكة المكرمة وسلمه مفاتيح الحرمين الشريفين بمكة المكرمة والمدينة المنورة كرمز لخضوعه وكإعتراف بالسيادة العثمانية على الأراضي الحجازية وكانت هذه السيادة لسلاطين المماليك من قبل وهكذا أصبحت بلاد الحجاز جزءا من الدولة العثمانية من غير حرب أو قتال وإلتقي السلطان سليم الأول بآخر الخلفاء العباسيين الشرفيين الذين كانوا يقيمون بالقاهرة في ضيافة الدولة المملوكية محمد بن يعقوب المتوكل على الله وقد إصطحبه معه السلطان سليم الأول إلى العاصمة العثمانية إسطنبول حيث تنازل له عن الخلافة وبذلك إنتقلت الخلافة بعد عدة قرون إلي بني عثمان وهناك من المؤرخين من يشكك في صحة هذه الرواية على أساس أنهم يعتبرون أن السلطان سليم الأول كان قد أُعلن خليفةً للمسلمين فعلا قبل ضمه الديار المصرية وتحديدا في أول خطبة جمعة حضرها في مدينة حلب ببلاد الشام بعد الإستيلاء عليها وتسلم بوصفه هذا مفاتيح الحرمين الشريفين بمكة المكرمة والمدينة المنورة من شريف مكة المكرمة وما أن أتم سيطرته على البلاد المصرية وإسقاط الدولة المملوكية للأبد وإستكمال الإستيلاء علي أملاكها في مصر والشام والحجاز وكنتيجة إنتزاعه العديد من البلاد من الصفويين الشيعة ببلاد فارس شرقي الأناضول وبلاد العراق إتسعت الدولة العثمانية إتساعا عظيما وأصبحت أملاكها موزعة في عدد 3 قارات هي آسيا وأوروبا وافريقيا .
وكان ميلاد السلطان سليم الأول علي الأرجح في عام 875 هجرية الموافق عام 1470م في مدينة أماسية بِالأناضول خلال ولاية أبيه السلطان بايزيد الثاني على سنجق تلك الناحية وتتفق معظم المصادر على أن والدته هي عائشة كلبهار خاتون إبنة أمير إمارة ذي القدرية علاء الدولة بوزقورد بك وقد تم ختانه علي يد جده السلطان محمد الفاتح وبحسب رواية المؤرخ أحمد بن يوسف القرماني فإن السلطان الفاتح طلب من ولده الشاهزاده بايزيد بأن يبعث إليه بِإبنيه الشاهزاده أحمد والشاهزاده سليم لكي يختتنهما بنفسه فلما قدما إليه أجلسهما بجانبه على تخت الملك وأخذ يلاعبهما ويداعبهما ويمازحهما فشد أُذُن سليم إليه فبكى الأخير فأمر السلطان بِإحضار طرائف التحف من الخزينة ليرضيهما فرضي أحمد وقام وقبل يد جده وأبى سليم أن يرضى رغم محاولات السلطان محمد الفاتح بإسعاده فقال له يا ولدى نصطلح معك فرد عليه سليم قائلا والله ما أصطلح معك إِن لي عليك حقا أبقيه إلى يومِ القيامة فإنزعج السىلطان وقال لوزرائه فلتعلموا أن ولدى هذا هو الذى سيملك هذا التخت ثم ختن كل من حفيديه أحمد وسليم وأرسلهما مرة أخرى إلى والدهما وتشير الدلائل علي أن الشاهزاده عبد الله بن بايزيد الأخ الأكبر للسلطان سليم الأول قد تولى إدارة سنجق طرابزون والذى يقع بشمال شرق الأناضول علي ساحل البحر الأسود خلال سلطنة جده السلطان محمد الفاتح ويستدل علي ذلك بنقش ظاهر على شاذروان جامع إيݘقلعة بالمدينة المذكورة يعود إلى عام 875 هجرية الموافق عام 1470م يحمل إسم الشاهزاده المذكور ومن المعروف أن الشاهزاده عبد الله إستمر يتولى سنجق طرابزون حتى عام 886 هجرية الموافق عام 1481م وفي هذا العام توفي السلطان محمد الفاتح وخلفه إبنه بايزيد فنقل ولده الشاهزاده عبد الله من طرابزون وولاه إمارة مغنيسية وجعل مكانه أخوه الشاهزاده سليم فبقي في منصبه هذا تسع وعشرين عاما وتحديدا من عام 886 هجرية الموافق عام 1481م وحتي عام 915 هجرية الموافق عام 1510م وخلال ولايته هذه تلقى الشاهزاده اليافع دروسا في العلوم الشرعية والسياسية والآداب على يد المولى عبد الحليم بن علي القسطموئي الشهير بمولانا عبد الحليم أفندي ولاحظ إمتعاض أُمراء قبائل التركمان الأناضوليين من الإدارة المركزية الشديدة في الدولة العثمانية التي أفقدتهم إمتيازاتهم وحولتهم إلى رعايا عاديين فصاروا تحت إمرة الموظف الصغير الذى يرسله السلطان العثماني من العاصمة إسطنبول ولم يعد بإمكانهم جمع الضرائب ولا حشد الجنود كما كان الحال في السابق ولذا فلم يجد هؤلاء مشكلةً في التشيع والإلتحاق بالدولة الصفوية الشيعية بقيادة الشاه إسماعيل بن حيدر الملقب بالصفوى والمتاخمة من جهة الشرق لحدود الدولة العثمانية طالما حفظ لهم إمتيازات الإمارة التي كانت بالنسبة إليهم أهم من مسألة المذهب فصاروا يذهبون إلى بلاد فارس دون تردد ويعلنون ولائهم للشاه المذكور فيصبحون قادة في جيوشه وتستمر إمتيازاتهم كلها .
وقد أدرك حينذاك الشاهزاده سليم بنظرته الثاقبة مدى الخطر الذي يمثله الصفويون الشيعة على الدولة العثمانية وأنهم يستغلون التركمان الميالين لِلتشيع في سبيل إختراق الدولة فقلق على مستقبلها لا سيما وأن والده السلطان بايزيد الثاني كان يسالم الشاه إسماعيل الصفوى ويتجنب الدخول معه في حرب كبيرة لذلك رأى أن يعمل على تقوية صلة القبائل التركمانية بالسلطنة فجند منهم جموعا غفيرة وغزا بهم بلاد الكرج وهي حمهورية جورجيا حاليا ثلاث مرات دون الرجوع إلى والده السلطان بايزيد الثاني في إسطنبول وفتح خلال غزواته هذه عدة مدن وضمها إلى الدولة العثمانية مثل قارص وأرضروم وأرتوين وآخسخة وآخلكلك بشرق وشمال شرق الأناضول ولم يؤد سليم خمس غنائم غزواته هذه إلى بيت المال بل منحها إلى المجاهدين التركمان الذين رافقوه وقاتلوا معه في محاولة منه لإستقطابهم إلى جانب السلطنة والحيلولة دون تعلقهم بِالصفويين الشيعة والذين كان سليم يبغضهم هم وزعيمهم الشاه إسماعيل الصفوى بغضا شديدا بسبب تطرفهم المذهبي وإضطهادهم لأهل السنة والجماعة في البلاد الخاضعة لهم ولذا فلم يتوان عن قتالهم مرة بعد أُخرى حتى أخذ من أيديهم عدة بلاد هي أرزنجان وبايبرد وكماخ وإيسبر وكموشخانة وجمكازاد وما جاورها من بلاد بشرق الأناضول وأضافها إلى ولايته فما كان من الشاه إلَّا أن أرسل أخاه إبراهيم لإسترجاع هذه المدن علي إعتبار أنها من مخلفات الدولة الآق قويونلوية التي قامت الدولة الصفوية شرقي الأناضول على أنقاضها وكونه هو وريث الآق قويونلويين من جهة أنه حفيد أميرهم الشهير أوزون حسن ومن ثم فإن له الحق وحده في تلك المناطق وقد رد الشاهزاده سليم آنذاك على هذا بأن سار لقتال الصفويين الشيعة مصطحبا معه إبنه الوحيد الشاهزاده سليمان البالغ من العمر 12 ربيعا فقابلهم قرب أرزنجان بشرقب الأناضول وإنتصر عليهم وتمكن من أسر إبراهيم شقيق الشاه إسماعيل الصفوى مكتسبا بذلك صيتا وإعتبارا كبيرا من الأهالي السنيين ومن قادة الجيش حتي وصل الأمر بِبعضهم أن لحن فيه قصيدة شعبية مطلعها سر سلطاني سر فاليوم يومك وسارع الشاه بعد أن علم بأسر أخيه إلى إرسال كتاب إحتجاج إلى السلطان بايزيد الثاني مذكرا إياه بالصداقة الصفوية العثمانية فكان ذلك ما يحتاجه الوزراء الموالين للشاهزاده أحمد والذين كانوا يدعمون وصوله إلى سدة العرش لتأليب السلطان بايزيد الثاني على إبنه سليم إذ كانوا متوجسين خيفة منه نظرا لتهوره وسوء خلقه وشدة سياسته وبطشه من وجهة نظرهم فنصحوا السلطان العثماني بايزيد الثاني أن يكبح جماحه كي لا يدخل الدولة العثمانية في حرب شاملة مع الدولة الصفوية الذين يسالمونها مما سيكون سببا في إضعاف وإنهاك كل منهما وإدعي هؤلاء بأن الشاهزاده سليم يخالف أوامر وإرادة السلطان بايزيد الثاني ويستبد بالأمر فيغزو بلاد الكرج بلا إذن من والده وتمادوا في الأمر حينما صنعوا كتبا مزورة نسبوها إلى الشاهزاده المذكور تتضمن تهديدات وتنبيهات إلى الوزراء وأخذوا يعددون الصفات الحميدة والمحاسن التي يتصف بها الشاهزاده أحمد ومعايب أخوه سليم فتحرك غضب السلطان بايزيد الثاني على إبنه الأصغر وكتب إليه ينهاه عن قتال الصفويين وغزو بلاد الكرج ويأمره بأداء مهامه الخاصة بإمارته فقط وإطلاق سراح أخ الشاه وإخلاء جميع المدن التي إستولى عليها وإعادتها للصفويين وهدده بالعقاب فيما لو لم يمتثل للأوامر وفي الوقت نفسه ثبت إبنه الشاهزاده أحمد في ولاية العهد .
وجدير بالذكر أن السلطان بايزيد الثاني كان آنذاك يعاني من أمراض شتى حتى وصف بأنه صار مثل صبي بتعاقب الأمراض عليه وكبر السن فيقلبه الوزراء والندماء كيف شاؤوا وإلى حيث أرادوا وإستجاب سليم لرغبات أبيه لكنه أعلن إستيائه بوضوح قائلا إن هذا العمل يعني إنعدام الشرف وأنه ليس للشاه حق فيما يدعيه فأرزنجان على سبيل المثال كان السلطان بايزيد الأول هو من ضمها إلى الدولة العثمانية وكانت ستبقى من جملة بلادها لولا إجتياح الغازى المغولي تيمورلنك لِلأناضول في عام 1402م هذا ولم تلق أوامر السلطان بايزيد الثاني إرتياحا سواء لدى الجيش أو لدى أهالي الأناضول أيضا وبناءا علي ذلك إطمأن الشاهزاده أحمد إلى موقف والده من أخيه الأصغر وسعى إلى إبعاد أخيه الآخر الشاهزاده قورقود وإبن أخيه سليمان عن دار السلطنة ليصفى له الملك فإلتمس من السلطان بايزيد الثاني أن ينقل سليمان بن سليم من سنجق بولي والذى يقع شمال غرب الأناضول والشاهزاده قورقود من سنجق مغنيسية بغرب الأناضول لقربهما من العاصمة العثمانية إسطنبول فأجابه السلطان بايزيد الثاني تطييبا لخاطره وعين سليمان على سنجق كفة بالقرم بأوكرانيا حاليا والشاهزاده قورقود على سنجق تكة بإقليم الأناضول وجدير بالذكر أيضا أن اِلسلطان بايزيد الثاني كان له ثمانية أبناء أسنهم هو الشاهزاده عبد الله ثم الشاهزاده شاهنشاه فالشاهزاده أحمد والشاهزاده علمشاه والشاهزاده قورقود والشاهزاده سليم والشاهزاده محمود والشاهزاده محمد وقد توفي عدد منهم في حياة والده ولم يبق منهم علي قيد الحياة عندما تولي والدهم السلطنة سوى شاهنهشاه وأحمد وقورقود وسليم وقد فرقهم والدهم وعين كل واحد منهم على بلد مختلف خشية وقُوع الشقاق بينهم نظرا لإختلافهم في الآراء والمشارب والصفات الشخصية فكان كبيرهم الشاهزاده أحمد محبوبا لدى الأعيان والأُمراء لحسن خلقه ولين جانبه وكان الصدر الأعظم علي باشا الخادم مخلصا له وكان الشاهزاده قورقود مشتغلا بالعلوم والآداب ومجالسة العلماء وكان هو نفسه عالما كبيرا وشاعرا وخطاطا وموسيقارا وملحنا وكان له مؤلفات باللغتين العربية والتركية في علوم الفقه والكلام والأخلاق والتصوف ولذا كان الجيش وخاصة طائفة الإنكشارية يمقته لعدم ميله إلى الغزو والحرب وبالإضافة إلي ذلك كان ولداه الذكور قد توفيا وهما طفلان مما تركه بلا وريث وأضعف حق إدعائه بالعرش أما الشاهزاده سليم فكان محبا للحرب والغزو والجهاد كما ذكرنا في السطور السابقة لذا كان محبوبا لدى الجند عموما والإنكشارية خصوصا مما قوى موقفه فيما لو طالب بالعرش ولما كان أعيان البلاد من الساسة والقادة والأُمراء أصحاب الغايات والمصالح المناصرين للشاهزاده أحمد يدركون مدى خطورة وصول شخص كالشاهزاده سليم القوي إلى سدة السلطنة فإنهم أوغروا صدر والده السلطان بايزيد الثاني عليه كما أسلفنا ليقللوا من حظوظه في تولي أُمور البلاد والعباد وصوروا الشاهزاده أحمد على أنه المرشَح الأمثل لخلافة أبيه في حين إستبعد الشاهزاده قورقود تماما وإلى جانب أبناء السلطان بايزيد الثاني كان هناك أحفاده الذين تولى كل منهم سنجقا خاصا به وكان من أبرز هؤلاء سليمان بن الشاهزاده سليم الذى نقله جده السلطان بايزيد الثاني من سنجق بولي إلى سنجق كفة بالقرم بناءا علي طلب عمه الشاهزاده أحمد وولى مكانه إبن الأخير المدعو مراد وكان هناك أيضا محمد شاه بن الشاهززاده شاهنشاه والذى كان قد تولى سنجق القرمان بوسط الأناضول لاحقا بعد وفاة أبيه وعثمان بن الشاهزاده علمشاه والي چانقري القريبة من أنقرة بوسط الأناضول أيضا وأورخان بن الشاهزاده محمود والي قسطموني بشمال الأناضول وموسى بن الشاهزاده محمود والي سينوپ والتي تقع بأقصي شمال تركيا بمنطقة البحر الأسود وبالإضافة إلى هؤلاء كان للشاهزاده محمود ولد ثالث يدعى أميرخان لم يتول أى منصب كونه كان ما يزال طفلا صغيرا .
وقد إمتعض الشاهزاده قورقود عندما نقله والده من سنجق مغنيسية إلى إمارة تكة جنوبي الأناضول ورأى في ذلك محاباة لأخيه الأكبر الشاهزاده أحمد على حسابه فإلتمس من أبيه السلطان بايزيد الثاني أن يعاد إلى سنجقه لكن بايزيد لم يجبه إلى طلبه فتألم لذلك وتغير على أبيه وخرج على رأس 137 شخصا من خاصته وركب البحر من مرفأ أنطالية الواقع علي ساحل البحر المتوسط جنوبي الأناضول وتوجه إلى مصر معلنا أن نيته حج البيت الحرام بينما قصد إلقاء الرعب في قلب والده وتخويفه من إحتمال تعامله مع المماليك فمكث في الديار المصرية نحو عام وفي أثناء غياب الشاهزاده قورقود في مصر أدرك شقيقه الشاهزاده سليم موقف حاشية والده منه وأنهم زوروا كتبا ونسبوها إليه فسعى إلى تبرئة ذمته وجنايته أمام العتبة السلطانية إلا أنه لم يجسر على الذهاب إلى العاصمة إسطنبول ومقابلة السلطان بلا إذن فإلتمس من أبيه أن يوليه سنجقا من سناجق الروملي فيصبح بذلك على مقربة من العاصمة إسطنبول لكن الوزراء والحاشية حالوا دون حصول الشاهزاده سليم على مطلبه فأرسل ثانيا وثالثا يطالب والده فلم يجبه إلى ذلك بتأثير من وزرائه ولما حرم الشاهزاده سليم من تلبية مطلبه وعاد رسله خائبين ركب البحر متوجها إلى إمارة كفة بالقرم سنجق ولده سليمان وأقام فيها أياما وأرسل إلى العتبة السلطانية رسولا آخر يلتمس الإذن في الحضور إلى إسطنبول فحال الوزراء والساسة المائلون إلى الشاهزاده أحمد دون قُبول السلطان مجددا وقبحوا عنده عبور الشاهزاده سليم إلى الروملي بل إن الشاهزاده أحمد نفسه كتب إلى خان القرم منكلي كراي وأبلغه بأنه سيشكوه إلى أبيه ويطلب عزله فيما لو عاون الشاهزاده سليم على أن الخان المذكور لم يلتفت لِهذا التهديد لإرتباطه بسليم عبر المصاهرة وأرسل السلطان بايزيد الثاني إلى إبنه بالقرم أحد العلماء المسلمين وهو المولى نور الدين صاروكرز لينصحه ويقنعه بالعودة إلى سنجقه طرابزون فسار المولى المذكور وحاول نصح سليم بِالإمتثال لأمر والده لكن الأخير أصر علي ألا يعود ما لم يصل إلى عتبة السلطان فعاد المولى ثم رجع مرة أُخرى حاملا رسالةً من السلطان بايزيد الثاني يعلم فيها إبنه بأن يختار سنجقا من سناجق الأناضول فيوليه عليه فلم يجب ما لم يقترن ذلك بحضوره إلى والده وخلال تلك الفترة كانت بلاد الأناضول خاصة القريبة من حدود بلاد فارس تموج بنار الفتنة التي أضرمها الشيعة الموالون للشاه إسماعيل الصفوى وتزعم الثورة أحد دعاة الشاه المسمى شاهقلي بابا بن حسن التكلوي وهذا الإسم شاهقلي مكون من كلمتين شاه بمعني ملك وقلي بمعني خادم فيكون معني الإسم خادم الشاه أو الملك أما التكلوي فنسبةً إلى بلاد تكة وأهلها من التركمان التكليين وعاث شاهقلي وأتباعه فسادا في الأناضول حيث إعتدوا على الأهالي وخربوا البلدات والقرى وقصدوا مدينة كوتاهية بغرب الأناضول والتي كانت تعد دار بكلربكية الأناضول فأحرقوها بعد أن هزموا حاميتها وقتلوا أغلبهم بما فيهم بكلربك الأناضول قراكوز أحمد باشا وقد تكدر السلطان بايزيد الثاني بمجرد أن وصلته أخبار هذه الفتنة وما جرى من إحراق كوتاهية وقتل قراكوز أحمد باشا فإشتد عليه مرضه وإزداد ضعفا ووهنا وكلف إبنه الأكبر الشاهزاده أحمد بالقضاء على شاهقلي وأتباعه ثم جمع الوزراء والأعيان وأعلمهم عزمه على تسليم السلطنة إلى ولده المذكور ما أن ينتهي من مهمته وأرسل في عقبه الصدر الأعظم علي باشا الخادم في خمسة آلاف مقاتل لكي يعاونه في القضاء على العصاة كما أرسل إلى أُمراء الأناضول أن يجتمعوا معهم بِعساكرهم وبلغت أخبار هذه الأحداث مسامع الشاهزاده سليم في القرم فقرر إستغلال الوضع كي يحصل على مراده بالقوة فشق عصا الطاعة وسير عدة سفن من البحر بأثقاله ورجاله وسار هو في أصحابه وأتباعه من البر إلى صوب دار السلطنة من طريق ميناء آق كرمان الواقع علي البحر الأسود بأوكرانيا حاليا ولما قرب من سيلسترة وهي بشمال شرق بلغاريا حاليا ونزل بخارجها أرسل أميرها قاسم بك إلى السلطان بايزيد الثاني يعرض الحال فخاف الوزراء المخالفون من دخول الشاهزاده سليم إلى العاصمة العثمانية إسطنبول وسيطرته على الحكم فحركوا اباه السلطان بايزيد الثاني فورا للتصدي له وتقابل جيش السلطان بايزيد مع جيش إبنه الشاهزاده سليم في موضعٍ يقال له جوقورچايري قرب مدينة إدرنه لكن لم يقع أي قتال بين الجيشين إذ لما رأى الشاهزاده سليم عزم والده السلطان على القتال أرسل إليه أحد خواصه يستعفيه ويستعطفه ويعتذر له ويطلب منه الرأفة والعفو عنه فبكى السلطان بايزيد الثاني متأثرا بالكلمات التي أرسلها له إبنه فرد عليه بأنه سيمنحه ما يرضيه سوى دخول العاصمة إسطنبول فإلتمس الشاهزاده سليم سنجقا من ثغور الروملي ليغزو من خلاله البلاد الأوروبية المجاورة فمنحه السلطان بايزيد سنجق سمندرية ببلاد الصرب أولا ثم أضاف إليه سناجق ڤيدين وآلاجة حصار ببلغاريا ونيقوبوليس ببلاد الصرب وأرسل له هدايا جليلة وثمينة مرفقة بكتاب عهد على أن لا يولي عهده إلى أحد من أولاده ما دام حيا ويفوض ذلك إلى مشيئة الله سبحانه وتعالي .
وإستهدف السلطان بايزيد الثاني من وراء ذلك تطييب قلب إبنه الشاهزاده سليم وجبر خاطره عما جرى كي لا تتسع شقة الخلاف ويكبر البغض بين الأشقاء وكان ذلك في عام 917 هجرية الموافق عام 1511م وفي ذلك الوقت كان علي باشا الخادم قد عبر إلى الأناضول ولقي الشاهزاده أحمد في أنقرة فهنأه بالسلطنة في خلوته مما دفع الأخير إلى بذل الأموال على مقدمي الجند لإستمالة قلوبهم وضمان وقُوفهم إلى جانبه حينما يجلس على تخت الملك ولم يلبث علي باشا أن علم في غد ذلك اليوم بقدوم الشاهزاده سليم صوب إدرنه وبكل ما جرى بينه وبين والده فتكدر من ذلك الخبر إلا أنه كتمه عن الشاهزاده أحمد وعن خواصه أيضا ثم توجه معه إلى دفع غائلة الشيعة وبالفعل فقد تمكن العثمانيون من إلحاق هزيمة كبرى بشاهقلي التابع للشاه إسماعيل الصفوى وجماعته فقتلوا أغلبهم في بضع معارك وشتتوا البقية على أن ثمن هذا الإنتصار كان باهظا إذ قتل الصدر الأعظم في إحدى تلك المواجهات ولما وصل خبر مقتله إلى الشاهزاده أحمد حزن وإضطرب إضطرابا عظيما وتحير في أمره فرجع إلى سنجقه أماسية بمنطقة البحر الأسود بشمال الأناضول ولم يتعقب العصاة للثأر منهم مما أثار حفيظة عسكره وفي أثناء ذلك توفي الشاهزاده شاهنشاه والي القرمان ووصل خبر وفاته إلى السلطان بايزيد الثاني مرفقا بخبر مقتل علي باشا فإزداد ضعفا ووهنا وإشتدت عليه الآلام والإضطرابات فجمع الوزراء والأعيان وشاورهم في أمر السلطنة فأشاروا عليه بإحضار الشاهزاده أحمد وإجلاسه على تخت السلطنة قبل تفرق أُمراء الروملي وعساكرها وإجتمعت الكلمة على ذلك وهكذا أرسل السلطان أولا إلى أُمراء الروملي أن يحضروا إليه فلما مثلوا بين يديه أخذ منهم البيعة لولده الشاهزاده أحمد وإستحلفهم على طاعته ثم أمر الوزراء بأن يستدعوا الشاهزاده المذكور فأرسلوا إليه يستعجلونه الحضور إلي العاصمة إسطنبول وعلم الشاهزاده سليم بهذا الإتفاق عن طريق أحد أعوانه المخلصين الذين كانوا يعملون في خدمة والده فتوجه سريعا صوب العاصمة وقابل والده في وادي أوغروش قرب ݘورلي بشمال غرب الأناضول فأرسل أحدا من خواصه إلى أبيه للسؤال عن سبب نقض العهد والإصغاء إلى أقوال الوزراء والأعيان أصحاب الأغراض الخبيثة لكن هؤلاء حالوا دون دخول الرسول على السلطان وعرضوا إلى الأخير بأن ولده سليم قد قصده في ثلاثين ألف مقاتل وهو يعقد العزم على خلعه من السلطنة والجلُوس مكانه وحثوه على قتاله وكان عند السلطان حينئذ أربعون ألف مقاتل فهجموا على الشاهزاده سليم وعسكره فإقتتلوا قتالا شديدا حتى تشتت جند سليم وهرب إلى صوب البحر الأسود في جمعٍ قليل من أتباعه فتبعه جمع من عسكر والده وأدركوه ولم يحل بينه وبين الأسر سوى أحد خواصه المدعو فرحات بك فأشغل جند السلطان بايزيد الثاني في حين أسرع سليم السير على صهوة جواده قره بولوط أي السحاب الأسود حتى وصل ساحل البحر المذكور وإجتمع عليه ثلاثة آلاف جندى من رجاله فأبحر بهم إلى كفة سنجق ولده سليمان بالقرم ودخلها خائبا محزونا .
وبعد إنكسار الشاهزاده سليم عاد السلطان بايزيد الثاني إلى عاصمته إسطنبول وجمع الوزراء للتشاور معهم مرة أخرى فأشاروا عليه بإستعجال إستقدام الشاهزاده أحمد إلى العاصمة لتسليمه السلطة فوافقهم وأمر بأن يرسلوا إليه بأن يأتي على الفور وما أن وصل الخبر إلى الشاهزاده المذكور حتى نهض من أماسية على الفور وركب فرسه وجد في السير دون أن ينم ليلا ولا نهارا حتى وصل إلى منطقة مالدپة وهي أحد أحياء إسطنبول حاليا في جانبها الآسيوى قرب منطقة أسكدار التي تعد أيضا من أعمال إسطنبول وأرسل إلى السلطان بايزيد الثاني يستأذنه في العبور إليه صباحا فأذن له وإقترح أتباع الشاهزاده أحمد من الوزراء والساسة إستمالة قلوب أُمراء الروملي وقادة الجند ببذل الأموال لهم وعرضوا ذلك على السلطان فوافقهم والحقيقة أنه كان قد أصبح على درجة من المرض والضعف لا يستطيع معها تدبير أى أمر من أمور الدولة بمفرده فأصبح وزراؤه هم الحكام الفعليون للدولة ولما شاع خبر وصول الشاهزاده أحمد وإستعداده العبور إلى العاصمة إسطنبول إجتمع أغوات أي رؤساء فرق الإنكشارية وتشاوروا في أمر السلطان المستقبلي وإتفقوا على أن سلطنة الشاهزاده أحمد مكروهة لإختياره الدعة والمسالمة في جميع أوقاته ولأنه لم يقدر على حماية البلاد من الصفويين الشيعة ولم يقو أيضا على دفع غائلة جمع من أوباش قبائل التركمان وهرب منهم وقالوا إنه بتصرفه هذا قد هتك عرض السلطنة فكيف يصلح لها وإتفقت كلمتهم على أن أحدا لا يصلح لها سوى الشاهزاده سليم المقدام في الحرب والجهاد وعقدوا العزم على المطالبة بتوليته السلطنة وتنحية أخيه الشاهزاده أحمد ولما إتفق الإنكشاريون على ذلك قاموا في يوم 18 ذي الحجة عام 917 هجرية الموافق يوم 6 مارس عام 1512م بنهب بيوت الأعيان الموالين للشاهزاده أحمد وكان منهم الصدر الأعظم الجديد أحمد باشا بن هرسك والبكلربك حسن باشا والوزير الثاني مصطفى باشا وقاضي العسكر عبد الرحمٰن بن مؤيد والطغرائي جعفر چلبي بن تاج فنجا هؤلاء بأنفسهم لكنهم خسروا أموالهم وأثقالهم وظل الإنكشاريون ينهبون بيوت الساسة والأعيان طوال الليل وهم يهتفون بإسم الشاهزاده سليم ويرفعون شعاره ثم سيطروا على جميع مراسي السفن للحيولة دون خروج أحد من العاصمة إسطنبول أو العبور إليها وبعد ذلك إجتمعوا في باب سراي طوپ قاپي مقر السلطان وطلبوا منه العفو عما جرى وإلتمسوا منه عزل الرجال الخمسة السابق ذكرهم فعزلهم السلطان وأدا للفتنة التي بدأت تطل برأسها وحاول أحد الوزراء المدعو سنان بك يولار قصدي أن يستميل فرق الإنكشارية إلى جانب الشاهزاده أحمد فلم يقدر على ذلك حيث تمسكوا بالثبات والدوام علي محبة الشاهزاده سليم والميل إليه وتأييده فخرج من العاصمة إسطنبول بمشقة عظيمة وتوجه إلى الجانب الآسيوى منها حيث قابل الشاهزاده أحمد وأخبره بأن وصوله إلى سدة الملك قد بات أمرا ميؤوسا منه وهنا دب اليأس والغضب في قلب الشاهزاده أحمد لما علم بما جرى في دار السلطنة ويقال إنه بكى متأثرا بضياع الملك منه بعد أن كان قد أصبح قاب قوسين أو أدنى من التربع على عرش آل عثمان فعاد شرقا عبر الأناضول لكنه لم يتوجه إلى سنجقه أماسية بل ذهب إلى إمارة القرمان وقد عقد العزم على السيطرة على جميع البلاد الأناضولية لكي يفرض سلطنته بحكم الأمر الواقع .
وكان والي إمارة القرمان حينذاك هو محمد شاه بن الشاهزاده شاهنشاه أي إبن أخ الشاهزاده أحمد وحفيد السلطان بايزيد الثاني فحاصره في قلعة قونية أياما حتى إستسلم ثم دخلها وأعلن نفسه سلطانا فيها وبهذه الحركة أصبح الشاهزاده أحمد في وضع المدعي وفقد صفة ولي العهد الشرعي وتردد صدى ذلك في ردة فعل السلطان بايزيد الثاني إذ غضب على إبنه غضبا شديدا وأرسل إليه يؤنبه ويوبخه لإقدامه على ما فعل بدون إذنه وإتفق حينذاك أن الشاه إسماعيل الصفوى كان قد أرسل أحد خلفائه المسمى نور الدين خليفة إلى الأناضول ليجمع من قبائل التركمان الذين يميلون إلي المذهب الشيعي فإجتمع مع نور الدين المذكور نحو ثلاثين ألف مقاتل تركماني فأغار بهم على نواحي إمارات أماسية وتوقاد بشمال إقليم الأناضول وسيواس بوسطه ونهبها وأحرق بيوتها فحاول الشاهزاده أحمد التصدي له وأرسل لقتاله وزيره سنان بك يولار قصدى فسار إلى الصفويين وقاتلهم حتى إنكسر هو وجنوده وفر ناجيا بحياته الأمر الذي زاد من نفور العسكر من الشاهزاده المذكور وعندما وصل خبر إنكسار جيش الشاهزاده أحمد إلى إسطنبول إجتمع القادة العسكريون وكبار العلماء والأعيان مع السلطان بايزيد الثاني وأظهروا له أن نظام الملك قد إختل بطمع الوزراء والنزاع على ولاية العهد وتسلط أعداء الدولة عليها من كلِ جهة وبينوا له أن إبنه الأكبر الشاهزاده أحمد لا يليق للسلطنة لإنهماكه في الدعة والمسالمة حيث وقع منه أمران يدلان على عدم صلاحيته وأهليته لتولي شؤون البلاد والعباد وقعة شاهقلي ووقعة نور الدين خليفة وكذلك فإن الشاهزاده قورقود لا يصلح للملك أيضا وإن كان عالما فاضلا لأن السلطنة لا تتم إلا بترك الراحة والرفاهية وإختيار الإقدام على المخاوف والشدائد وأنه ليس له ذلك كما أنه لا عقب له بعد وفاة أبنائه الذكور ومن ثم فلا يصلح لهذا الأمر سوى الشاهزاده سليم الذي أثبت شجاعته وحزمه ومقداميته وحسن تدبيره في معاركه مع الصفويين الشيعة والكرجيين وهو الوحيد الذي تعلق عليه الآمال في دفع البلية الصفوية وإلتمس المجتمعون من السلطان بايزيد الثاني تقليد العهد لولده الشاهزاده سليم بل تفويض السلطنة إليه وكان السلطان أيضا قد مال إلى جانب الشاهزاده سليم بعد خروج الشاهزاده أحمد عليه وتصرفه الطائش مع إبن أخيه محمد شاه الذى كان قد فقد أباه حديثا فإعتبر السلطان بايزيد الثاني أن هذه دلالات على عدم رشد إبنه الكبير وبالتالي لا يصح له تولي السلطنة وكان السلطان بايزيد الثاني قد أرسل إلى الشاهزاده سليم براءات السناجق الثلاثة سمندرية وڤيدين وآلاجة حصار مرة أُخرى مع كتاب يستميله فيه ويطيب قلبه ويعلمه بأنه قد سامحه ورضي عنه ويعتذر إليه عما جرى بينهما من الشقاق بسعي أصحاب المصالح والأهواء الشخصية ففرح الشاهزاده سليم بذلك وتهيأ لِلمسير إلى سنجق سمندرية وبينما هو يتجهز وصله رسول آخر ببشارة السلطنة ودعاه إلى الحضور فورا إلي العاصمة إسطنبول فتوجه إليها وأما الوزراء المناهضين للشاهزاده سليم والخائفين من شدته وسطوته فإنهم لما رأوا ضياع الملك من الشاهزاده أحمد بإتفاق الإنكشارية أرسلوا إلى الشاهزاده قورقود يدعونه إلى دار السلطنة ويستعجلونه في الوصول إليها قبل أخيه الشاهزاده سليم وأشاروا عليه بأن يقدم في جمعٍ قليل من أتباعه ويدخل المدينة متنكرا وينزل في مساكن الإنكشارية لِيستميلهم إليه .
وظن الشاهزاده قورقود أنه قد نال السلطنة عندما أصبح أخوه الأكبر في وضع العاصي لا سيما وأنه يأتي بعده حسب تسلسل العمر فتوجه وعبر البحر إلى إسطنبول ودخلها متوجها إلى مساكن الإنكشارية ونزل في المسجد القريب من ثكناتهم المشهور بمسجد أورطة جامع وحاول إستمالتهم إليه بحقوقٍ سابقة له عليهم من الترقيات والهبات والعطيات إليهم لما ناب عن أبيه أياما عند وفاة جده السلطان العظيم فاتح القسطنطينية محمد الثاني فرحب به جنود الإنكشارية وعظموه وكرموه إلا أنهم لم يساعدوه على مطلبه من إحراز السلطنة ولما رأى منهم ذلك خاف على نفسه وأعلن أن سبب قُدومه ليس للمطالبة بالعرش العثماني وإنما خوفا من غدر أخيه الشاهزاده أحمد فرأى أن يحتمي بالعاصمة وأرسل السلطان بايزيد الثاني يعاتب إبنه لقدومه دون إذنه وإلتجاؤه للإنكشارية وعدم لجوئه إليه فطلب الإنكشارية من السلطان بايزيد الثاني أن يسامح ولده على فعلته من واقع تقديرهم لمكانته العلمية فإستجاب لهم وأرسل إليه العلماء والقادة فأعلموه أن الأُمور لن تستقيم إلا بتولي أخيه الأصغر الشاهزاده سليم أُمور الملك وأقاموا له الحجج بذلك فرضي وقبل بالأمر الواقع وفي يوم 3 صفر عام 918 هجرية الموافق يوم 19 أبريل عام 1512م وصل الشاهزاده سليم إلى إسطنبول وإستقبلته الإنكشارية بإحتفال زائد وكان على رأسهم الشاهزاده قورقود الذي خرج وسلم على أخيه وهنأه بالسلطنة ودعا له بالتوفيق والنصر معلنا بذلك خضوعه له ومسالمته وبعد بضعة أيام من وصوله وإستراحته من عناء السفر جمع الشاهزاده سليم أعيان الدولة من مقدمي الإنكشارية وأُمراء الروملي وغيرهم وصارحهم بأنه رجل شديد حاد الطباع وأنه قد عقد العزم علي الغزو والجهاد في سبيل الله وتوحيد كلمة الإسلام والمسلمين ولم شملهم في دولة واحدة كما كان الحال زمن بني أُمية وخلال العصر الذهبي لبني العباس وأنه قرر ضم البلاد العربية بعدما ثبت عجز المماليك وحدهم عن مواجهة المخاطر المحدقة بالأراضي المقدسة والدفاع عن المصالح الإقتصادية والإستراتيجية لِلمسلمين كما إعتزم القضاء على الدولة الصفوية وضم البلاد الفارسية للدولة العثمانية وأنه لن يتقاعد عن ذلك لا صيفا ولا شتاءا ولن يفتر عن الركوب وتحمل الشدائد لا ليلا ولا نهارا حتى يصل بلاد السند والهند فيضمها أيضا لدولة الإسلام وأضاف أنه سينصف المظلوم من الظالم وإن كان ولده الشاهزاده سليمان ولن يرحم الجائرين وأهل الفساد ولن يترك مجالا لعسكره ولأُمرائه كي يترفهوا ولما أتم سليم الكلام ذكر إتصاف أخويه الشاهزاده أحمد والشاهزاده قورقود بخلاف ذلك من الملاءمة ولين الجانب وإختيار الراحة على الشدة وطلب من المخاطبين أن يختاروا أحدهم بعدما سمعوا ما سمعوه فقالوا له إِن منتهى مطالبنا ما ذكرتم لنفسكم الشريفة فإخترناكم فإعمل ما شئت فإِنا منقادون لأمرك وراسخون على طاعتك .
ولما شاهد الشاهزاده سليم ذلك منهم سر ودعا لهم وفي يوم السبت 8 صفر عام 918 هجرية الموافق يوم 24 أبريل عام 1512م توجه سليم في موكب إلى سراي طوپ قاپي ولما وصلها إصطفت الإنكشارية على عادتهم من طرفي الباب فدخل السراي ولقي والده السلطان بايزيد الثاني ماشيا فقبل يده وطلب منه النصح والرضا فنصحه وأوصى إليه بأُمور أهمها أن يغض الطرف عن أخيه الشاهزاده أحمد وأن يسامحه ولا يقتله ولا يقتل كذلك أخاه الآخر الشاهزاده قورقود ويطيب قلب كل منهما بحصة من الملك ثم أجلسه على تخت السلطنة وألبسه العمامة الخاصة بالسلاطين العثمانيين ودعا له بالتوفيق والعزة والنصر ولما تم أمر التنصيب والإجلاس علي العرش سارع جميع الوزراء والوكلاء والساسة وأعيان الدولة إلى مبايعة السلطان سليم وتقدمهم أخوه الشاهزاده قورقود فأقطعه سنجقه القديم مغنيسية وضم إليها جزيرة مدللي أيضا والتي تقع شمالي بحر إيجه ببلاد اليونان وطيب خاطره بكثير من الإحسانات والوعود ثم وزع العطايا على الجند وفق ما أصبح ثابتا في العرف العثماني ومنحهم الترقيات ثم أرسل إلى أُمراء الأطراف يدعوهم إلى الحضور وكذلك طلب حضور إبنه سليمان من إمارته بالقرم وبعد أن سلم السلطان بايزيد الثاني السلطنة إلى ولده سليم قرر أن يعتزل الناس وأُمور الدنيا وأشغالها وأن يعود إلى مسقط رأسه مدينة ديموتيقة والتي تقع في أقصي شمال شرق اليونان ليمكث فيها ويتفرغ للعبادة والتأمل وكان قد عمر سرايتها لأجل ذلك فدعا إبنه السلطان سليم الأول وأخبره بنيته فرفض بدايةً السماح لوالده بالسفر وطلب منه البقاء في إسطنبول والإقامة إلي جانبه لكن بايزيد لم يقبل رغم محاولة إبنه سليم إقناعه وقال له إن السيفينِ لا يجتمعانِ في قراب واحد فلما رأى سليم إصرار والده وافقه على فعل ما يريحه فطلب بايزيد أن يرافقه إلى دار تقاعده بكلربك الروملي يونس باشا لكونه من قُدماء خواصه والدفتردار قاسم باشا فعينهما السلطان سليم لخدمته وللمسير معه إلى مقصده وكذلك أرسل معه العديد من الفرسان السپاهية والإنكشارية ولم يستطع بايزيد ركوب حصانه لشدة مرضه فنقلوه في تختروان وهي عربة مغلقة يجرها حصانان وشيعه ولده السلطان سليم الأول حتى أسوار القسطنطينية القديمة حيث طلب من إبنه العودة للعاصمة إسطنبول فودع والده وقبل يده عدة مرات ثم إفترقا فعاد السلطان سليم الأول إلى دار السلطنة وسار بايزيد نحو مدينة إدرنه وكان موكبه يسير بطيئا بسبب مرضه وكان يستريح في كل موقف عدة أيام وفي يوم 11 ربيع الأول عام 918 هجرية الموافق يوم 26 مايو عام 1512م وصل الموكب إلى موضعٍ معروف بإسم سكودلودره من أعمال إدرنه وهناك إشتدت آلام المرض على السلطان السابق وتعرض لغيبوبة ولم يلبث أن فارق الحياة وكان قد مر حوالي شهر علي تنازله لإبنه السلطان سليم الأول عن عرش السلطنة فكفنوه وعادوا بنعشه إلى العاصمة إسطنبول حيث ورى الثرى في قبة أعدها لنفسه بقرب المسجد الجامع الذي بناه وسمي بإسمه وقد بلغت مدة سلطنته 30 عاما وإحدى عشر شهرا وإثنين وعشرين يوما .
|