بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا”
وبعد هذا السرد للحرب العثمانية الصفوية والضربات المتلاحقة والموجعة التي تعرض لها الصفويون الشيعة والتي أنزلها بهم السلطان سليم الأول فعلى الرغم من قسوة وعنف هذه الضربات إلا أنها لم تكن القاضية عليهم وعلي حركتهم ومذهبهم حيث أنها حقا قد أضعفت طوقهم وقضت على القوى المحلية التي أقامها الشاه إسماعيل الصفوى في وجه العثمانيين إلا أن عدم القضاء النهائي علي قوتهم سمح لهم أن يستعيدوا قوتهم وأن يعيدوا تنظيم جيشهم وإعادة بناء دولتهم من جديد أما بالنسبة للسلطان سليم الأول وبعد الإنتصارات التي حققها ضد الصفويين الشيعة فبعد أن وصل إلي العاصمة العثمانية إسطنبول بفترة قصيرة رأى أنه من الضرورى معاقبة كل من وسوس لفرق الإنكشارية وشجعهم على التمرد والعصيان أثناء الحملة على الدولة الصفوية الشيعية خشية من إمتداد الفساد والعصيان والتمرد في باقي فرق الجيش الأخرى وشيوع فكرة الضغط على السلاطين العثمانيين وعدم إطاعتهم وإجبارهم علي إتخاذ قرارات معينة غير ما يرى هؤلاء السلاطين وباقي الساسة والوزراء فإستدعى إليه جماعةً من أغوات أى قادة الإنكشارية وأجلسهم في خلوته ولاطفهم في الخطاب وألح عليهم أن يعلموه بأسماء قادتهم الذين حركوهم على سوء الأدب الذى صدر منهم فأخبروه أن كلا من إسكندر باشا والسكبانباشي وقاضي العسكر جعفر چلبي بن تاج هم المحركين الرئيسيين فأحسن السلطان سليم الأول إلى هؤلاء الأغوات وأرسل الكثير من العطايا والهبات إلى ثكنات الإنكشارية لكي يطيب قلوبهم ويضمن إستمرار ولائهم ثم أمر بإسكندر باشا والسكبانباشي فقتلا ثم دعا جعفر چلبي إليه وسأله إن كان هناك من يحاول تحريض عساكر الإِسلام على الفتنة ويعوقهم عن مصالحِ الدين والمسلمين والدولة هل يجوز قتله فقال جعفر چلبي يجوز بعد الثبوت فأمر به السلطان سليم الأول فقتل بعد أن عدد عليه قبائحه وأفعاله المشينة وخوفا من حدوث مثل ذلك العصيان والتمرد في المستقبل جعل السلطان سليم الأول لنفسه حق تعيين القائد العام للإنكشارية دون أن يكون من بينهم ليكون له بذلك السيطرة الكاملة عليهم وكان النظام السابق يقضي بتعيينه من أقدم ضباطهم .
وخلال السنوات التي أمضاها السلطان سليم الأول في محاربة الصفويين الشيعة شرقي الأناضول وفي بلاد فارس كان الإخوة عروج وخير الدين خضر وإسحق بربروس يجاهدون في الحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسط فيأسرون السفن الأوروبية ويدفعون الإعتداءات الغربية عن سواحل بلاد المغرب العربي وينجدون المسلمين المورسكيين الأندلسيين الهاربين من بطش الأسبان وقد حظي الإخوة بربروس بدعم السلطان الحفصي أبي عبد الله محمد بن الحسن المتوكل الحفصي الذى كان يحكم بلاد المغرب العربي حينذاك فأعطاهم قلعة حلق الواد بشمال مدينة تونس وسمح لهم بإتخاذها منطلقا ومركزا لإدارة عملياتهم العسكرية في مقابل منحه خمس غنائم الغزوات وإشتهر عروج وأخويه بكفاءتهم وقُدراتهم الحربية والملاحية المتميزة في كامل أنحاء قارة أوروبا نظرا لكثرة ما أسروا من السفن كان أبرزها سفينتان كبيرتان من سفن البابا ليون العاشر كانت كل منهما تسير بواسطة خمسين زوج من المجاديف وكان عروج دائم الإستعراض لقوته فرسا ذات مرة في جزيرة ميورقة الأسبانية بالبحر المتوسط ورفع فيها رايةً إسلامية وأبحر في البحر الليغوري أحد فروع البحر المتوسط والذى تطل عليه إيطاليا وفرنسا وإمارة موناكو كما أبحر أيضا في خليج جنوة الذى تطل عليه إيطاليا حاليا وعلى ساحل جزيرة سردنية الإيطالية وهاجم عدد من الموانئ التي تقع علي سواحل البلاد المذكورة ونقل بالتعاون مع أخويه آلاف الأندلسيين المسلمين واليهود الهاربين من إضطهاد محاكم التفتيش الأسبانية وحملوهم إلى بلاد المغرب العربي وفي أوائل عام 1515م حقق خير الدين خضر إنتصارا مبهرا على الأسبان حيث إستولى على عدد عشرين سفينة من سفنهم وأسر عدد 3800 جندى وبحار فهرع إليه الكثير من الربابنة والقباطنة والبحارة العثمانيين وإلتحقوا بأُسطوله وأُسطول أخويه وكان من أبرز هؤلاء محيي الدين أحمد القرماني والذى إشتهر بإسم پيري ريس وآيدن ريس وغيرهما وكان عروج مقتنعا بوجوب تأسيس دولة قوية في بلاد المغرب العربي لحتي يمكن صد الإعتداءات الأوروبية عن سواحل ديار الإسلام وأراد أولا تحقيق ذلك في أفريقية والمقصود بها تونس لكنها كانت معقل الحفصيين وكانوا ما يزالون متمكنين من أمرهم وكان من المحتمل أن تؤدى إزالتهم إلى نفور رعيتهم من آل بربروس وكان المغرب الأقصى معقل الدولة الوطاسية التي أسسها الوطاسيون إحدى فروع قبيلة زناتة المغربية أما المغرب الأوسط والمقصود به الجزائر حاليا فكان معقل الدولة الزيانية التي أسسها الزيانيون وهم أيضا أحد فروع قبيلة زناتة المغربية وكانت هذه الأخيرة مفتتة بفعل الغزوات الأسبانية المتكررة وكان الأسبان قد إحتلوا بالفعل العديد من مدنها كوهران وتنس وهنين وحاولوا التقدم نحو العاصمة مدينة تلمسان لذا رأى عروج أن هذه المنطقة هي الأنسب لإقامة دولته بعد تخليصها من أيدى الأسبان لكن تحقيق هذا المشروع كان يحتاج إلي المزيد من السفن الحربية والذخائر والجنود والبحارة المتمرسين وما كان بحوزة الإخوة بربروس سوى عدد 12 سفينة حربية وقُرابة ألف جندى بخلاف عدد من المسلمين المغاربة لكن هؤلاء لم يكونوا بحارة ولا خبرة لهم كالجنود النظاميين لذا كان لا بد من توجه الإخوة إلى وطنهم الأُم وطلب المدد من السلطان سليم الأول وكان عروج بدايةً يخشى الإتصال بالسلطان العثماني سليم الأول خوفا من أن يكون قد أهدر دمه كونه كان من أتباع أخيه الشاهزاده قورقود ولما علم بإعدامه خاف على نفسه ولم يجرؤ على الإقتراب من السواحل العثمانية لكن ما لبث هذا الخوف أن تبدد لما تواترت أنباء إنتصارات العثمانيين على الصفويين الشيعة وإتضحت نوايا السلطان سليم الأول وسياسته الإسلامية الجامعة فتشجع عروج على الإتصال به وأرسل إلى إسطنبول رسولا منه هو محيي الدين پيري ريِس وحمله هدايا ورسالةً يعلن فيها ولاء الإخوة بربروس للدولة العثمانية وطلبهم العون والمدد من جانب السلطان العثماني والذى إستقبله في أوائل شهر المحرم عام 922 هجرية الموافقِ لشهر مارس عام 1516م وقد سر السلطان سليم الأول سرورا كبيرا بأخبار الجهاد البحرى والإنتصارات الإسلامية المتتالية وإستبشر خيرا بما يفعله الإخوة بربروس وتوقع منهم أن يستمروا علي جهادهم بما يخدم السياسة العثمانية تجاه بلاد المغرب العربي ولذا فقد أرسل إليهم سفينتين حربيتين مليئتين بالذخائر والمدافع إحداهما لعروج والأُخرى لخير الدين كما منحمها علي سبيل التكريم سيفين حلي مقبضاهما بالألماس وخلعتين سلطانيتين فاخرتين ونيشانين ويروي خير الدين في مذكراته أن السلطان العثماني سليم الأول لما قرأ الرسالة رفع يديه بالدعاء قائلا اللهم بيض وجهي عبديك عروج وخير الدين في الدنيا والآخرة اللهم سدد رميتهما وإخذل أعداءهما وإنصرهما في البر والبحر وأرسل السلطان سليم الأول أيضا رسالةً إلى نظيره الحفصي يحثه فيها على مساعدة الإخوة بربروس ويحذره من التقصير في ذلك ومما جاء في بدايتها إلى أميرِ تونس إذا وصلك كتابي هذا فعليك أن تعمل به وإحذر من أن تخالفه وإياك أن تقصر في تقديم أي عون لخادمينا عروج وخير الدين ويضيف خير الدين أنه قد تقلد سيف السلطان سليم الأول وخلعته في حفل بمدينة تونس وقد زادت مبادرة السلطان سليم الأول وخلعته من شعبيته وسط عامة الناس في تلك البلاد وقام المشايخ بالدعاء له والثناء عليه وأمام هذه المظاهر توجس السلطان الحفصي خيفةً من هذا إذ شعر أن العثمانيين باتوا يشكلون خطرا حقيقيا يهدد ملكه بالزوال .
ولنعد الآن إلي الموقف بين العثمانيين والمماليك حيث أن إنتصار العثمانيين علي الصفويين الشيعة في معركة چالديران كان مفاجأة غير متوقعة للمماليك علي الرغم من أن موازين القوى كانت تشير إلي التفوق العثماني علي الصفويين الشيعة ومن ثم فقد كانت حسابات المماليك في هذا الأمر خاطئة تماما ولم يستطع السلطان المملوكي قنصوة الغورى وأُمراء دولته إخفاء خيبة أملهم من نتيجة تلك الواقعة الفاصلة فلم يبتهجوا لهذا الإنتصار كما إبتهجوا عندما تم فتح القسطنطينية في عهد السلطان محمد الفاتح والحقيقة أن المماليك كانوا قد بدأوا يقابلون بشئ من الفتور تنامي العلاقة بينهم وبين العثمانيين منذ أواخر عهد السلطان المشار إليه بعد أن شعروا بتعاظم شعبية العثمانيين بين المسلمين نتيجة فتحهم القسطنطينية وما تلا ذلك من الإنتصارات الكبيرة المتتالية على الأوروبيين في الوقت الذى أخذت فيه معالم الشيخوخة والضعف تظهر على الدولة المملوكية وتسوء أحوالها الإقتصادية وفي عهد السلطان العثماني بايزيد الثاني تأرجحت العلاقات بين العثمانيين والمماليك بين الود والتقدير والإحترام المتبادل وبين التوتر والصدام أحيانا ولما تولي السلطان سليم الأول الحكم لم يطل الأمر حتى بدأ المماليك يتوجسون خيفةً من العثمانيين فتبدلت نظرتهم إليهم من مشاعر الإعتزاز والود إلى مشاعر الغيرة وكان التنافس على زعامة المسلمين قد بلغ آنذاك أشده بين القوى الإسلامية الثلاث العثمانيين والمماليك والصفويين الشيعة مما دفع السلطان سليم الأول إلى الإصطدام بالصفويين وتحجيم قوتهم بعد أن هددوا وحدة وإستقرار الدولة العثمانية في إقليم الأناضول وحاولوا نشر مذهبهم الشيعي فيه وبعد التخلص منهم يكون عليه الإلتفات نحو المشرق العربي للإصطدام بالمماليك وكان السلطان المملوكي قنصوة الغوري يدرك تماما أن المنتصر من الجانبين سيعمل على تصفية الموقف في المشرق عبر الإصطدام بدولته ومن ثم كان عليه أن يتخذ موقفا من التطورات السياسية والعسكرية إما عبر الوقوف في صف أحد الطرفين أو عبر إلتزام الحياد ومن الواضح أنه قد رأى أن إنضمام المماليك إلى جانب العثمانيين سوف يخل بموازين القوى إختلالا شديدا لصالح العثمانيين الذين قد يشكلون خطرا عليهم إن هم أرادوا التوسع في البلاد العربية أما إنضمامه إلى الصفويين الشيعة فقد كانت تعترضه عقبات عديدة أبرزها المذهبية لهذا فضل السلطان قنصوة الغوري الوقوف على الحياد تاركا الدولة العثمانية وحيدة في مواجهة الصفويين الشيعة بدون تبصر بما قد يترتب علي ذلك الموقف من نتائج وعواقب وما قد يقوم به الشاه إسماعيل الصفوى في حال إنتصاره من أعمال عدوانية متزايدة ضد المماليك لا سيما وأن الشاه بعد خسارته ديار بكر والجزيرة الفراتية والجزء الأكبر من كردستان كان يجتهد في تكوين إتحاد ضد العثمانيين من الدول الأجنبية المنافسة للدولة العثمانية وفي مقدمتها الإمبراطورية البرتغالية الوليدة التي كانت تهدد الهيمنة الإسلامية عموما والمملوكية خصوصا في بحر القلزم أي البحر الأحمر والمحيط الهندي .
ومن جهة أُخرى فقد أدت العمليات التوسعية العثمانية في ديار بكر وقيليقية إلى تداخل حدود الدولتين بحيثُ لم يعد العثمانيين قادرين على وصل بلادهم ببعضها إلا بالدوران حول النتوء المملوكي المتمثل بأعالي الجزيرة الفراتية والذي كان يمتد بعيدا عن عينتاب وملطية بجنوب الأناضول إلى الشمال بين سيواس وأرزنجان وقد شكل ذلك عقبةً إستراتيجيةً أثارت القلق لدى السلطان سليم الأول من منظور شن عمليات أُخرى في المستقبل على الدولة الصفوية الشيعية وقد تأكدت مخاوف السلطان العثماني سليم الأول لما عزم إعادة الكرة على الدولة الصفوية الشيعية بعيد إنتصاره في دنيصر فأرسل الصدر الأعظم سنان باشا الخادم في أربعين ألف مقاتل وأمره بأن يسير من طريق ملطية ويمكث في حدود ديار بكر إلى أن يصل إليه الموكب السلطاني علما بأن ملطية وأعمالها كانت حينذاك تدخل ضمن نطاق الدولة المملوكية ولما وصل الصدر الأعظم إلى حدود المدينة أرسل إلى أميرها يستأذنه في العبور منها إلى ديار بكر فلم يجبه الأمير المذكور إلى ذلك بإيعاز من السلطان المملوكي قنصوة الغورى وفي الحقيقة لم يكن محرك هذا الرفض سوى الشاه إسماعيل الصفوى نفسه الذي راسل السلطان قنصوة الغوري وإلتمس منه أن يصلح بينه وبين السلطان العثماني سليم الأول أو يمنعه من العبور إلى بلاد فارس عبر الأراضي المملوكية فإستجاب له الغوري وحال بين العثمانيين والصفويين الشيعة ويبدو أن مراسلة الشاه للسلطان الغوري لم تكن الغاية منها إقامة حلف بين الدولتين لأن الشاه إسماعيل الصفوى كان يكن في نفسه كراهيةً للسلطان المملوكي قنصوة الغورى لا تقل عن كراهيته للسلطان العثماني سليم الأول وإنما كانت غايته الفعلية إلهاء العثمانيين ريثما يعمل على إعادة تثبيت حكمه في بلاد فارس ولم يؤد هذا التعاون المملوكي الصفوى إلا لمزيد من التردي في العلاقة بين العثمانيين والمماليك إذ عد السلطان سليم الأول هذه المحاولة طعنة للدولة العثمانية من الخلف ومظهرا من مظاهر العداوة السافرة الأمر الذي لعب دورا في تسريع عجلة الحرب بين الدولتين وفي ذلك يقول المؤرخ شمس الدين محمد بن أبي السرور البكرى المصرى وكان السبب في تحرك السلطان سليم الأول علي أخذ مصر من السلطان قنصوة الغورى تعاطفه وميله نحو الشاه إسماعيل الصفوى الذى يعد من أكبر وألد أعداء الدولة العثمانية والإسلام والمسلمين وحين ذهب السلطان العثماني سليم الأول لقتال الشاه إسماعيل الصفوى أرسل السلطان قنصوة الغورى أمرا سلطانيا بمنع مرور القوافل العثمانية من حلب وحين بلغ ذلك الأمر إلي السلطان سليم الأول قرر التحرك السريع للإستيلاء علي الديار المصرية وبناءا علي ذلك تشاور السلطان سليم الأول مع الوزراء والأعيان في أمر المماليك ومدى صحة تقديم قتالهم علي قتال الصفويين الشيعة فسكتوا جميعا ولم يرغب أحد في البداية في تأييد ودعم حرب يريق فيها المسلمون دماء بعضهم البعض ثم برز من بين الحضور وزير يدعي محمد باشا بن خواجة وكان من فضلاء عصره وقال إن من الأفضل والأصوب والأهم في الوقت الحاضر هو إزالة المانع الذى يحول دون توحيد المسلمين في دولة واحدة وذلك لن يتحقق إلا بقتال المماليك فوافق ذلك رأى السلطان سليم الأول وعاشت العاصمة العثمانية إسطنبول في جو الحرب ضد المماليك والتي صورها العثمانيون كما لو كانت واجبا علي كل مسلم أن يخوضها وتمكن السلطان سليم الأول من إستصدار عدد 3 فتاوى تجيز له حرب المماليك بحجة تعاونهم مع الكفار والمقصود بهم الشيعة وفي المقابل لم يتردد المماليك في إثارة الناس ضد العثمانيين فوصموا السلطان سليم الأول بالإرتداد عن الإسلام لاسيما وأنه يحلق لحيته ويرتدى القفطان والعمامة الكبيرة بدلا من الملابس الإسلامية التقليدية لكن تلك الإتهامات لم تفض إلى أي نتيجة وسط إتساع التعاطف الشعبي مع العثمانيين في الديار المصرية والشامية فعمد المصريون إلى عرقلة تدابير السلطنة المملوكية للتعبئة العامة ومن ذلك أن هجر الكثير من الفلاحين قراهم ولجأوا إلى بلاد الشام تاركين خلفهم محاصيلهم وفي القاهرة أقفل الخياطون وصناع الأسلحة حوانيتهم وتعالت في الشوارع التهديدات والشتائم الموجهة ضد السلطان قنصوة الغوري أما في بلاد الشام فكان الوضع أسوأ حيث أن الفلاحين الشوام لم يكتفوا بتقويض تدابير التعبئة العامة بل أخذت قُرى ومدن ومناطق بأسرها تخرج عن طاعة حكامهم من المماليك وتعلن ولائها للسلطان العثماني سليم الأول وفي مقدمتها أعمال حلب ويذكر إبن إياس إن سبب هذه النقمة في بلاد الشام تحديدا هو تعسف وإستبداد نواب السلطنة المملوكية ويضيف المؤرخ التركي المعروف يلماز أوزتونا إن من أسباب النقمة في مصر علي المماليك وعلي السلطان المملوكي إنفصال سلاطينهم وأُمراءهم وأشرافهم عن واقعهم وعن شعبهم وعن عامة الناس فكانوا على سبيل المثال يظنون أن قدراتهم العسكرية ما تزال كما كانت زمن السلطان المملوكي الظاهر بيبرس كما لم يكونوا ملتحمين بِالشعب ويستشعرون الإمتياز عن عامة الناس بحيث أن أكثرهم لم يكن يجيد اللغة العربية وكانت لهم إمتيازاتهم الإقطاعية الكبيرة التي كفلت لهم حياة مرموقةً ومرفهة رغم تدهور إقتصاد الدولة المملوكية في تلك الفترة .
ولم يقتصر إنتشار المشاعر المعادية للسلطنة المملوكية في أوساط العامة فحسب بل إنتقلت إلى صفوف الجيش فإنخفضت درجة الإنضباط بصورة كبيرة وأخذ الجند يتمردون ويعيثون فسادا في الشوارع وإنضم إليهم بعض أُمراء المماليك وصاروا يصيحون مطالبين السلطان المملوكي قنصوة الغورى بالسير على نهج أسلافه ووضع حد للظلم والجور ورفض قُرابة ألف جندي مغربي كانوا نواة مدفعية المماليك الإشتراك في القتال عموما وأعلنوا أنهم لن يحاربوا إلا الإفرنج ولن يرفعوا السلاح في وجه إخوانهم المسلمين وقد أدت هذه المشاعر التي إجتاحت البلاد والعباد إلى الحكم بإعدام عدد كبير من أُمراء المماليك بتهمة الخيانة فكان من نتيجة ذلك أن أخذ عدد منهم يتواصل سرا مع العثمانيين ويزود السلطان العثماني سليم الأول بمعلومات عن الأوضاع في مصر وكان في مقدمة هؤلاء الأمير خاير بك الجركسي نائب السلطنة في حلب بل إن العلماء في مصر إلتقوا سرا بالسفير العثماني وإشتكوا له من الأوضاع والمظالم التي طالت الرعية في عهد السلطان قنصوة الغورى وأعلموه أنهم ينتظرون السلطان العثماني سليم الأول ليأتي وينتشل البلاد مما هي فيه وكذلك فعل علماء وأعيان وقُضاة وأشراف حلب فبعد أن إجتمعوا وتدارسوا الوضع قرروا كتابة عريضة بإسم الأهالي ضمنوها مطالبهم للسلطان العثماني وذكروا فيها إن أهل الشام قد ملوا من تعسف المماليك وأن رجال الإدارة والحكم يخالفون الشريعة الإسلامية وإنهم مستعدون للترحيب بالسلطان العثماني إن رغب في السيطرة على الديار الشامية وهكذا ساهمت جميع هذه العوامل المشجعة إلى التعجيل بمضي العثمانيين قدما في مشروع القضاء على الدولة المملوكية وضم المشرق العربي للدولة العثمانية وأخيرا خرج السلطان العثماني سليم الأول من العاصمة العثمانية إسطنبول وعبر إلي أسكدار يوم الخميس 4 جمادى الأولى عام 922 هجرية الموافق يوم 4 يونيو عام 1516م وعين لمحافظة إدرنه ولده الشاهزاده سليمان ولإسطنبول الدفتردار پيري باشا ولمحافظة بورصة الصدر الأعظم السابق أحمد باشا بن هرسك ولما وصل الموكب إلى مدينة قونية أرسل السلطان سليم الأول إلى محمد باشا البيقلي الذي كان قد إنتصر قبل نحو شهر على الصفويين الشيعة أن يلحق به عند عبوره من الفرات ولما علم السلطان المملوكي قنصوة الغوري بأنباء التحرك العثماني حرك هو الآخر جيشه الذى خرج به من القاهرة وإصطحب معه الخليفة العباسي الشرفي الذى كان يقيم بالقاهرة محمد بن يعقوب المتوكل على الله وقُضاة المذاهب الإسلامية الأربعة وكبار الأُمراء والقادة ومشايخ الطرق الصوفية وسار حتى دخل مدينة حلب يوم الخميس 10 جمادى الآخرة عام 922 هجرية الموافق يوم 10 يوليو عام 1516م ولما علم السلطان العثماني سليم الأول بوصول السلطان المملوكي قنصوة الغورى إلى مدينة حلب أرسل إليه قاضي العسكر المولى ركن الدين بن زيرك والأمير قراجة باشا وحملهما كتابا قال فيه السلطان والدى وأسأله الدعاء لكن لا يدخل بيني وبين الصوفي فإني ما أرجع عنه حتي أقطع جادرته من علي وجه الأرض فلا تدخل من أمر الصلح وطلب منه بعض السكر والحلوى المصرية الفاخرة ولم تكن هذه الرسالة والمبادرة السلمية سوى مناورة وحركةً بارعةً من السلطان العثماني سليم الأول هدف من خلالها أن يثني عزم السلطان الغورى عن القتال فإطمأن السلطان الغورى لرسالة نظيره العثماني وإعتقد أن الأخير لا يريد الحرب ورد على الرسولين قائلا لولا أنه مثل ولدى ما جئت من مصر إلي هنا بأهل العلم جميعا حتي نصلح بينه وبين الشاه إسماعيل الصفوى .
وسرعان ما فوجئ السلطان قنصوة الغوري بتواتر الأخبار حول خلع الكثير من أُمراء القلاع والمدن الطاعة والولاء للمماليك ودخولهم في طاعة السلطان العثماني سليم الأول وكان من أبرز هؤلاء يونس بك أمير عينتاب الذي أتى بنفسه وسلم مفاتيح المدينة للسلطان العثماني إضافةً إلى أُمراء ملطية وبهسنى وكركر وغيرها وتحقق السلطان قنصوة الغورى من أن الصدام إذا نشب بين المماليك والعثمانيين فقد يؤدى إلى نتائج خطيرة بالنسبة له ولذلك قرر أن يرسل سفارة من قبله إلى السلطان العثماني سليم الأول وإستشار الأُمراء والأعيان في هذا الأمر فإقتضى رأيهم أن يرسل رجلين من أهل العلم والدين لحقن دماء المسلمين ولكن السلطان المملوكي قنصوة الغوري لم يفعل ذلك وأرسل كاتم سره الأمير مغلباى الدوادار إلى السلطان العثماني سليم الأول ليؤكد له رغبته في الصلح كما أمر عشرة من خيار العسكر بإصطحابه وكان السلطان سليم الأول قد وصل إلى مدينة البستان عاصمة إمارة ذي القدرية في يوم 23 جمادى الآخرة عام 922 هجرية الموافق يوم 23 يوليو عام 1516م فتوجهت إليه السفارة المملوكية ولما دخلوا عليه قال يا مغلباى أستاذك ما كان عنده رجل من أهل العلم يرسله لنا وإنما أرسلك بهؤلاء العشرة يرعب بهم قلوب عسكرى ويخوفهم برؤية أجناده ولكن أنا أكيده بمكيدة أعظم من مكيدته فقبض علي مغلباى وقتل من كان معه من الجند وكاد أن يقتل مغلباى أيضا بعد ذلك إلا أن الصدر الأعظم سنان باشا الخادم تشفع له وذكر السلطان بأن السفراء لا يقتلون لمخالفة ذلك لحقوق الدول والمبادئ السائدة فعدل السلطان سليم الأول عن قتله وإكتفى بحلق شعره ولحيته وأركبه على حمار أعرج أجرب وأعاده إلى السلطان الغورى وقال له قل لِأُستاذك يلاقينا علي سهل مرج دابق وهو سهل يقع شمالي مدينة حلب بشمال سوريا وبهذا لم ير السلطان قنصوة الغوري مفرا من القتال وأمر قُواته بالخروج من حلب والإستعداد للحرب وبالفعل تقابل الجيشان العثماني والمملوكي في مرج دابق يوم الأحد 25 رجب عام 922 هجرية الموافق يوم 24 أغسطس عام 1516م وقُبل نشوب المعركة مباشرة كتب السلطان سليم الأول إلى السلطان المملوكي قنصوة الغورى لآخر مرة يعاتبه ويعلمه بأن النصر سيكون في جانب العثمانيين وأن عاقبة ظلمه لرعيته ستحل عليه وكان من اللافت للنظر أن كتاب السلطان سليم الأول هذا لم يتضمن تبجيلا وتعظيما للسلطان قنصوة الغوري في رسالته كما في المراسلات السابقة بين العاهلين وإنما إفتتحه بِقوله إلى قنصوة الغوري أصلح الله شأنه كما كتب الرسالة باللغة التركية وليس بالعربية وكان الجيش العثماني جيش منظم ويعد من أكثر الجيوش تقدما آنذاك ويجيد أفراده إستخدام الأسلحة النارية الحديثة آنذاك وكان لديه مائة وخمسين مدفع متحرك بحسب التقديرات المعاصرة بينما كان الجيش المملوكي غير متجانس وغير منظم حيث كان يضم خمسة آلاف مملوك من جملتهم 944 مملوكا سلطانيا وهم مماليك السلطان الغوري نفسه وكذلك أعداد من البدو والتركمان إلى جانب جنود المقاطعات الشامية والمصرية ولم يستخدم المماليك قبل ذلك المدافع والبنادق في حروبهم الميدانية بل إن جماعات كبيرة من جنودهم لم يكن لها عهد بالسلاح النارى وكانوا متشبثين بالعرف القديم القاضي بأن الحماس والشجاعة والبطولة الشخصية هي العامل الفاصل في القتال .
وعندما إلتقي الجيشان العثماني والمملوكي وقف نائب دمشق الأمير سيباي في ميمنة الجيش المملوكي ونائب حلب خاير بك الموالي سرا للعثمانيين في الميسرة وكان السلطان المملوكي قنصوة الغوري والخليفة العباسي في القلب وحولهما مشايخ الطرق الصوفية البدوية والقادرية والرفاعية وقيل إن أول من برز إلى القتال كان الأتابكي سودون العجمي ونائب دمشق سيباي والمماليك القرانصة وهم قدامي المحاربين فقاتلوا قتالا شديدا وتمكنوا من دفع العثمانيين وقتلوا منهم فريقا لكن ما لبث أن إستعاد العثمانيون زمام المبادرة وتمكنوا بفضل تفوقهم العسكري والإنقسام في قيادة المماليك العليا من دحرهم والفتك بهم فُقتل الأتابكي سودون العجمي وقتل سيباي نائب دمشق فإنهزمت الميمنة وفر من بها من العسكر للنجاة بأنفسهم وفي هذه الفترة التي تحرج فيها القتال سحب خاير بك نائب حلب وقائد الميسرة القوات التي تحت إمرته وأشاع هزيمة المماليك قائلا الفرار الفرار فإن السلطان سليم قد أحاط بكم وقتل السلطان الغورى والكسرة علينا وأحدثت هذه الشائعة أثرا خطيرا فأخذت الكتائب والفرق المملوكية تنسحب تباعا من المعركة وحاول السلطان المملوكي قنصوة الغورى تثبيت عساكره وأخذ يشجعهم وينادى فيهم بالثبات لكن أحدا لم يجبه وعلا الغبار بين الجيشين بحيث صار الجند لا يرى بعضهم بعضا وتتفق جميع المصادر على أن السلطان المملوكي قنصوة الغورى قد لقى حتفه في هذه المعركة أما كيفية ذلك فغير معروفة بالتحديد ويقول إبن إياس إن السلطان قنصوة الغورى لما تحقق له الإنكسار وأدرك هزيمة جيشه أصابه فالج في الحال فطلب الماء ليشرب ثم سار به فرسه خطوتين وما لبث أن إنقلب على الأرض ومات وقيل أيضا إنه فُقعت مرارته وخرج دم من فمه ويقول منجم باشي إن قذيفة مدفع كبير قد سقطت قُرب السلطان قنصوة الغورى فإضطرب من شدة هولها فخرج من بين عساكره هاربا لكن جسده لم يسعفه على الإبتعاد كثيرا من هول الصدمة فطلب من غلامه أن يبسط له فراشا قُرب نهر ليتوضأ فإضطجع عليه وفاضت روحه إلي بارئها ساعتئذ ويقول إبن إياس إن أحدا لم يعثر على جثة الغورى ولا يعرف ما حل به وتتبع العثمانيون فلول المماليك المنهزمين الفارين يقتلون منهم ويأسرون وحاول هؤلاء الدخول إلى مدينة حلب لولا أن أغلق الأهالي أبواب مدينتهم في وجههم فإضطروا إلى الهرب نحو مدينة دمشق في ظُروف قاسية وغنم الجند العثمانيون جميع ما في المعسكر المملوكي من سلاحٍ وأرزاقٍ ومال وتحف فكانت مغانمهم لا حصر لها وأقام السلطان العثماني سليم الأول في سرادق السلطان المملوكي قنصوة الغورى قبل أن يأمر الجيش بمتابعة الزحف نحو مدينة حلب وكان من أبرز أُمراء المماليك الذين قُتلوا في هذه المعركة إلى جانب سودون العجمي وسيباي نائب دمشق أقباي الطويل وتمراز نائب طرابلس الشام وطربيه نائب صفد وأرسلان نائب حمص ووقع الخليفة العباسي محمد بن يعقوب المتوكل على الله في أسر العثمانيين فأحاطه السلطان العثماني سليم الأول بالتكريم وجلس بين يديه وخلع عليه وأنعم عليه بمال ورده إلى مدينة حلب معززا مكرما ووكل به أن لا يهرب أي وضعهُ في إقامة جبرية في المدينة ثم إستعد ليسير نحوها بجيشه ويدخلها .
وبعد هذا الإنتصار الكبير الذى حققه العثمانيون علي المماليك في معركة مرج دابق سار السلطان سليم الأول على رأس جيشه حتى وصل مدينة حلب فخرج أهلها إلى لقائه بالمصاحف والأعلام والرايات وهم يسبحون ويهللون ويكبرون وطلبوا منه الأمان فأجابهم إلى سؤالهم وقابلهم بمزيد من الإجلال والإحترام والتعظيم وأكرمهم بوافر الصدقات وكان دخوله المدينة في يوم 29 رجب عام 922 هجرية الموافق يوم 28 أغسطس عام 1516م وكانت حينذاك مدينةً عامرةً بالتجارة والثراء ويقطنها قرابة مائتيّ ألف نسمة أغلبهم يزاول التجارة على نطاق واسع وتسلم السلطان العثماني سليم الأول قلعة المدينة بالأمان ووجد فيها أموالا عظيمة والكثير من الأمتعة والأسلحة والتحف التي كان المماليك قد جمعوها فيها وبحسب إبن إياس فقد بلغت قيمة هذه المتاع نحو مائة ألف ألف دينار وثمانمائة ألف دينار ومكث السلطان العثماني سليم الأول في مدينة حلب ثمانية عشر يوما نظم فيها شؤون المدينة وأعمالها فعومل الحلبيون وكأنهم من الرعايا العثمانيين منذُ القدم وولي عليهم الأمير قراجة باشا وفُوض القضاء إلى كمال چلبي الشهير بجولمكجي زاده والدفتردارية إلى عبدي چلبي بن عبد الله باشا وأرسل السلطان مبعوثين من جانبه لإستلام مدن الأقاليم الشامية الشمالية وقيليقية مما لم يدخل تحت جناح الدولة العثمانية بعد فأطاعت كلها وكانت نحو ثلاثين مدينة أبرزها مدن درنده وديوريكي وأنطاكية وسيس وأضنة وطرسوس وقلعة الروم وغيرها وبايع أهل حلب السلطان سليم الأول على السمع والطاعة بحضور الخليفة العباسي المتوكل على الله ونائب السلطنة الأسبق خاير بك والقضاة الثلاثة كمال الدين الطويل الشافعي ومحيي الدين بن الدميري المالكي وشهاب الدين الفتوحي الحنبلي أما القاضي الرابع وهو قاضي القضاة الحنفي محمود بن الشحنة فكان قد هرب مع العسكر المملوكي إلى مدينة دمشق وعند البيعة أظهر السلطان العثماني سليم الأول التعظيم والتبجيل للخليفة العباسي مجددا وجلس بين يديه وأُشيع أنه تعهد له بإعادة الخلافة العباسية إلى بغداد كما كان الحال قبل سقوطها على يد المغول أما القضاة فيروى أنه وبخهم قائلا أنتم تأخذون الرشوة علي الأحكام الشرعية وتسعوا بالمال حتي تتولوا القضاء لماذا ما كنتم تمنعون سلطانكم عن المظالم التي كان يفعلها بالناس وأدى السلطان سليم الأول أول صلاة جمعة له في مدينة حلب بجامع الأطروش وتزينت المدينة كلها ودعي له علي جميع منابرها ومنابر أعمالها وفي الخطبة دعا إمام الجامع للسلطان العثماني سليم الأول ملقبا إياه بخادم الحرمين الشريفين وهو اللقب الذي كان قد توارثه السلاطين المماليك منذُ قيام دولتهم عن السلاطين الأيوبيين في عام 1250م فأصبح السلطان العثماني سليم الأول بهذا أول من حمل هذا اللقب من سلاطين بني عثمان ويروى أنه قال الحمد لله الذي منح لي هذا المقام وحين نزل الخطيب من علي منبره خلع عليه جميع ما كان يلبسه من مفاخر اللباس وبعد ترتيبه شؤون مدينة حلب خرج السلطان العثماني سليم الأول بجيشه متابعا زحفه جنوبا صوب مدينة دمشق فوصل مدينة حماة يوم 23 شعبان عام 922 هجرية الموافق يوم 20 سبتمبر عام 1516م فتسلمها بالأمان وأقطعها لأحد من خواص خدام أبيه وهو كوزلجه قاسم باشا وهو الذي تنسب إليه قصبة قاسم باشا في ناحية بك أوغلي بمدينة إسطنبول التركية حاليا وبعدها بيومين وصل العثمانيون إلى مدينة حمص وتسلموها بالأمان أيضا وفوض السلطان إمارتها إلى إبن حتمان وفي يوم 13 رمضان عام 922 هجرية الموافق يوم 9 أكتوبر عام 1516م كان السلطان سليم الأول يدق أبواب مدينة دمشق العتيدة فهرب منها من كان قد وصلها بعد الهزيمة التي حاقت بهم في معركة مرج دابق من المماليك صوب مصر بينما خرج أهلها وهم يهللون ويكبرون وإستقبلوا السلطان العثماني سليم الأول حاكمهم الجديد وطلبوا منه الأمان فأجابهم ودخل المدينة وعزم علي أن يقضي فصل الشتاء بها فأذن للعسكر في التفرق إلى المشاتي كما أذن أيضا لكل من كان وطنه قريبا أن يعود إليه .
وفي أول جمعة بعد دخوله مدينة دمشق خطب للسلطان العثماني سليم الأول على منبر الجامع الأُموي وسائر مساجد دمشق إعلانًا بِدخول البلد تحت جناح الدولة العثمانية وفي أثناء ذلك تتابع دخول البلاد الشامية تحت حكم الدولة العثمانية حيث تسلم السلطان مدن طرابلس وبعلبك وبيت المقدس وصفد وغزة سلما ووفد عليه أُمراء الإقطاعيات الصغيرة أيضا معلنين ولائهم للسلطنة العثمانية وكان في مقدمة هؤلاء أُمراء منطقة جبل لبنان الممتدة بطول لبنان بالتوازى مع البحر المتوسط وعلى رأسهم فخر الدين عثمان المعني أمير الشوف وجمال الدين اليمني أمير الغرب وعساف التركماني أمير كسروان وبحسب الرواية الكلاسيكية اللبنانية فإن فخر الدين المذكور ألقي خطبة بليغة أمام السلطان العثماني سليم الأول دعا له فيها ومدحه فأُعجب السلطان ببلاغته وبفصاحته وجسارته فأنعم عليه وقربه وقال هذا الرجل بالحقيقة واجب أن يدعى سلطان البر ومنذُ ذلك الوقت لقب الأمير المعني بهذا اللقب وقدم المعنيون على غيرهم من أُمراء جبل لبنان ومكث السلطان العثماني سليم الأول في دمشق قُرابة شهرين وثمانية عشر يوما أمضاها في زيارة معالم المدينة والتعرف عليها فأمر بترميم وتوسيع جامع الشيخ محيي الدين بن عربي وضريح الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي والجامع الأُموى وفرق الإنعامات على سائر المساجد وأنشأ السلطان سليم الأول أيضا أوقافًا على مسجد الشيخ إبن عربي وبنى علي مقربة منه مطبخا لإطعام الفقراء والمحتاجين وجعل للأوقاف ناظرا يجمع غلتها وبحسب إبن أبي السرور البكري فإن السلطان سليم الأول كان أول من إهتم بمقام إبن عربي من الحكام المسلمين وإهتم السلطان سليم الأول أيضا خلال فترة إقامته بدمشق بمجالسة علمائها ومشايخها سيما الشيخ محمد البدخشي الذى زاره في الجامع الأُموى مرتين وإستجلب دعاءه وخلال الوقت الذى كان السلطان العثماني سليم الأول يفرض فيه سيطرته على بلاد الشام إجتمع أُمراء المماليك العائدين إلى مصر لدراسة الموقف الناجم عن الهزيمة الكبيرة التي لحقت بهم في بلاد الشام وأيضا لإختيار سلطان جديد بدلا من السلطان الغورى لكي يتولى القيادة ويعمل على تدعيم القوة الدفاعية لِلصمود أمام الزحف العثماني فوقع إختيارهم على طومان باى الذي كان نائبا عن السلطان الغورى أثناء غيبته في الشام وإمتنع طومان باى في البدايةً عن قبول السلطنة خوفا من الغدر الذى أصبح أبرز سمات المماليك في أواخر دولتهم إضافةً لعلمه بالإنقسامات الخطيرة بين صفوفهم والضيق الإقتصادي الذي كانت تعاني منه الديار المصرية لكن أكابر الأُمراء ضغطوا عليه وأجبروه على القبول وجرت بيعته يوم 14 رمضان عام 922 هجرية الموافق يوم 11 أكتوبر عام 1516م ولم يكن السلطان العثماني سليم الأول من ناحيته متشوقا للإستمرار في الحرب فقد حقق هدفه الرئيسي وهو القضاء على التحالف المملوكي الصفوي لذا حاول إستقطاب السلطان المملوكي الجديد طومان باى سلما وكتب يعرض عليه الدخول في طاعته لقاء بقائه وجميع الأُمراء في مناصبهم فقال إن لكم الأَمان إِن سلمتم لنا مصر وأَنتم على وظائفكم وأَنا أَكسو الكعبة المشرفة وأُولي في البلاد والقلاعِ من أختار وإن لم تسلموا فإنا نأتي إليكم وحمل هذه الرسالة إلى القاهرة أحد الأُمراء العثمانيين المدعو مراد بك الجركسي فلما عرضها على السلطان طومان باى غضب عليه وقتله وفي رواية أن هذا الرسول قد وقع في أيدى الأُمراء المماليك فقتلوه دون رضا السلطان طومان باى إذ يعتقد أن الأخير كان قد مال إلى قبول عرض السلطان العثماني سليم الأول لمعرفته بعدم مقدرة المماليك على التصدى للعثمانيين الأقوياء خاصةً بعد هزيمتهم المدوية في مرج دابق لكن أُمرائه قتلوا الرسول لإجبار سلطانهم على الدخول في الحرب في سبيل الحفاظ على ملكهم وإمتيازاتهم من الضياع دون مراعاة من جانبهم لمدى قوتهم وقدراتهم المتواضعة قياسا بقوة وقدرات الجيش العثماني الأقوى والأعلى كفاءة والأحدث تسليحا .
|