بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا”
وقد عاد هذا الهجوم على الأساطيل المسيحية بالوبال مرة أخرى حيث وقع حادث أدى إلى إنفجار السفينة الفرنسية تيريز مما تسبب في خسائر كبيرة في صفوف السفن الفرنسية والبندقية القريبة منها ومن جانب آخر توترت العلاقات بين الفرنسيين والبنادقة بعد إستمرار الخسائر والكوارث وغاب التفاهم بين الجانبين في العمليات التي قاما بها في الأسابيع التالية وزاد من هذه الفجوة قلة الإمدادات وإنتشار الأمراض بين الجنود والإستنزاف اليومي للجنود أثناء قتالهم في كانديه مما جعل الفرنسيين يفضلون الرحيل وبالفعل قفل الفرنسيون عائدين إلى بلادهم في يوم 20 أغسطس عام 1669م تاركين البنادقة وحدهم في وجه العثمانيين الذين شنوا هجمتين عليهم بعد إنسحاب الفرنسيين بخمسة أيام لكن المدافعين نجحوا في صد الهجمتين وكان من الواضح لموروسيني أن المدينة ما عادت تتحمل وطأة الحصار فعقد إجتماعا في يوم 27 أغسطس عام 1669م تقرر فيه إستسلام المدينة دون التشاور مع البندقية وسلمت المدينة للعثمانيين في يوم 5 سبتمبر عام 1669م وأُجلي الناجون من الجنود والمدنيين بأموالهم من كانديه وتنازلت جمهورية البندقية الإيطالية عن كانديه بما فيها من مدافع وأسلحة للدولة العثمانية ومن ثم أصبحت جزيرة كريت تابعة للدولة العثمانية وقضى أحمد باشا الكوبريللي وقتا بعد الفتح في إصلاح القلاع والأسوار والأبنية ثم غادر الجزيرة في يوم 14 ذي الحجة عام 1080 هجرية الموافق يوم 5 مايو عام 1670م بعد أن ظل بها ثلاث سنوات ونصف السنة وتوصل موروسيني إلى إتفاقية سلام دائم مع العثمانيين وكانت هذه الإتفاقية كريمةً نسبيا في ظل الظروف التي مر بها البنادقة حيث سمح لجمهورية البندقية بالإحتفاظ ببعض الجزر الصغيرة في بحر إيجة مثل تينوس وسبينالونجا وجرامفوسا وسودا الواقعة قبالة ساحل جزيرة كريت فضلا عن المكاسب التي تحققت للبنادقة في منطقة دلماسيا والتي تقع بكرواتيا حاليا علي الساحل الشرقي للبحر الأدرياتيكي والتي كانت مسرحا منفصلا للعمليات العسكرية منذ المرحلة الأولى من الحرب لكن المجريات هناك كانت مغايرة تماما لما كان يحدث في جزيرة كريت حيث كانت دلماسيا بعيدة جدا بالنسبة للعثمانيين ولم تمثل لهم أهميةً حقيقيةً بينما كانت مجاورة لقواعد إمدادات البنادقة الذين كانوا الطرف المسيطر على البحر الأدرياتيكي دون منازع وبالتالي فإنهم كانوا قادرين على تعزيز معاقلهم هناك بسهولة تامة وأخيرا فجدير بالذكر أن إستسلام مدينة كانديه قد أنهي سيطرة البندقية على جزيرة كريت الذى إستمر لمدة أربعة قرون ونصف ووصلت الدولة العثمانية إلى أوج إتساعها الإقليمي في تلك الفترة بينما فقدت البندقية جراء هذه الحرب أكبر مستعمراتها وأكثرها إزدهارا وتضاءلت مكانتها التجارية في البحر المتوسط بشكل كبير وإستنفدت خزينتها بعد أن أنفقت حوالي أربعة مليون وربع دوقية في الدفاع عن مدينة كانديه وحدها لكن من جانب آخر فإن التكاليف والخسائر الناتجة عن هذه الحرب الطويلة قد ساهمت إلى حد كبير في تراجع قوة الدولة العثمانية في أواخر القرن السابع عشر الميلادى وقد حوكم القائد البندقي موروسيني بتهمتي العصيان والخيانة بعد عودته إلى البندقية عام 1570م لكنه برئ فيما بعد ليقود القوات البندقية بعد 15 عاما في الحرب المورية أمام العثمانيين من جديد حيث حاولت جمهورية البندقية للمرة الأخيرة إعادة ترسيخ نفسها كواحدة من القوى الكبرى في شرق البحر المتوسط وقد حاول الأسطول البندقي خلال تلك الحرب وبالتحديد في عام 1692م إستعادة كانديه لكنه فشل قبل أن تسقط آخر معاقل البنادقة المتبقية قبالة ساحل جزيرة كريت في الحرب العثمانية البندقية السابعة عام 1715م وقد بقيت جزيرة كريت تحت سيطرة العثمانيين حتى عام 1897م عندما باتت دولةً مستقلةً تحت سيادة الدولة العثمانية وإستمر هذا الوضع حتى إندلاع حروب البلقان ما بين عام 1912م وعام 1913م والتي تحالفت فيها عدد 4 دول بلقانية ضد الدولة العثمانية وهي بلغاريا وصربيا واليونان والجبل الأسود وكانت هذه الحرب قد إندلعت في شهر أكتوبر عام 1912م وإنتهت في يوم 30 مايو عام 1913م بتوقيع معاهدة لندن وقد أدت هذه الحرب إلى خسارة الدولة العثمانية لغالبية أراضيها في قارة أوروبا كما أدت الأحداث التي تلتها إلى قيام دولة ألبانيا كما تخلت الدولة العثمانية في أعقاب هذه الحرب أيضا عن جزيرة كريت .
وكان مما واجهه محمد باشا الكوبريللي من تحديات ومصاعب أيضا خلال توليه منصبه أنه كان أمير منطقة ترانسيلفانيا وهي في رومانيا حاليا جيورجي راكوشي التابع إسميا للعثمانيين قد دخل في عداء مع مملكة بولونيا وهي بولندا حاليا وتراسل سرا مع مملكة النمسا أعدى أعداء العثمانيين وكان راكوشي طامحا في جعل إمارته دولة كبري وإستولي على عدة قلاع من بولونيا فأرسل ملكها رسالة إلى محمد باشا الكوبريللي يشكو إليه فعل راكوشي فأمر محمد باشا راكوشي بأن يخلى القلاع التي إستولى عليها ويعيدها للبولونيين وأمره أيضا بالتوقف عن التدخل في شئون بولونيا فأرسل راكوشي بدوره رسالة إلى محمد باشا يستفسر عن السبب في ذلك بينما وسعت الدولة العثمانية حدودها فإعتبر محمد باشا رد راكوشي تمردا وعصيانا من جانبه وأمر خان القرم التابع للعثمانيين بتأديب راكوشي وإستطاع خان القرم هزيمة قوات راكوشي لكن الأخير نجح في الفرار فقاد محمد باشا جيشه بنفسه ودخل الإمارة لكنه لم يعثر على راكوشي الذي فر إلى النمسا وأبلغ كل أمراء ترانسيلفانيا محمد باشا بأنهم طائعين للسلطان العثماني فأصدر محمد باشا قرارا بنقل عاصمة الإمارة من ترجوفيشت إلى بوخارست من أجل فرض رقابة أكبر على الإمارة والتي أصبحت عاصمة رومانيا حاليا كما ضم مدينتي يانوفا وفاراد للحكم العثماني المباشر وسلخهما من الإمارة وجدير بالذكر أن سياسة محمد باشا القوية والعنيفة أحيانا قد ألبت عليه العديد من رجال الدولة العثمانية فكانت النتيجة علي سبيل المثال أن أعلن أباظة حسن باشا والى حلب الثورة ضده وشاركه العديد من البشوات وصل عددهم إلى 31 باشا كما إشترك في التمرد أحد أقسام شعب الأناضول المعروفين بإسم أسرة الجلالية والذين كانوا في تمرد مستمر ضد الدولة العثمانية وأرسل حسن باشا رسالة إلى السلطان العثماني محمد الرابع أعلن فيها خضوعه وتبعيته للسلطان وقال إن تمرده ليس ضد السلطان بل ضد شخص محمد باشا الكوبريللي الذي يسعى لعدم إبقاء رجال داخل الدولة ويتعامل بالظلم معهم ونصح السلطان بأن يعين أحد قادة التمرد وهو أحمد باشا بن طيار محمد باشا الذي كان صدرا أعظما في عهد السلطان مراد الرابع وإستشهد في حصار بغداد ورغم ذلك أعطى السلطان الرسالة إلى محمد باشا الكوبريللي دون أي تعليق وأمر بتجهيز جيش بقيادة مرتضى باشا وعينه واليا على إمارة حلب وأمره بالتخلص من المتمردين والعصاة وخرج مرتضى باشا بجيش قوامه 30 ألف مقاتل لكن كانت قواته حديثة التدريب وكانت نخبة القوات العثمانية موجودة في جزيرة كريت آنذاك بالإضافة إلى النفور الذى كان قد تولد بين طرفي الجيش الفرسان السباهية والجنود الإنكشارية نتيجة فض الإنكشارية العنيف لتمرد السباهية في السابق فهزم الثوار مرتضى باشا لكنهم إختلفوا لاحقا فيما بينهم وأنهكهم القتال مع جيش مرتضى باشا فعرضوا التفاوض فرحب بهم مرتضى باشا في قصره في مدينة حلب وأمنهم على حياتهم وإستضافهم على مأدبة غداء لكنه غدر بهم أثناء الطعام وقطع رؤوسهم جميعا وأرسلها إلى العاصمة إسطنبول ولما كان محمد باشا الكوبريللي يخشى من ثورة الجلالية نتيجة قتل زعماء الثورة فقد أرسل جيشا أخر بقيادة إسماعيل باشا وعينه مفتشا على إقليم الأناضول وقد قام إسماعيل باشا بقتل عدد 10 الآف شخص بتهمة أنهم من الجلالية وجدير بالذكر أنه علي الرغم من أن السلطان العثماني محمد الرابع كان معارضا لكثير من قرارات صدره الأعظم محمد باشا الكوبريللي إلا أنه لم يفكر مطلقا في عزله بل رفض مرارا وتكرارا الإستقالات التي كان يقدمها له إذا إحتج على أحد قراراته فكان يبقيه وينفذ قراراته ويروى أن السلطان قد تأثر كثيرا لوفاته .
وإستمر محمد باشا الكوبريللي في منصب الصدارة العظمي خمسة سنوات نجح في أثنائها في أن يحقق الإستقرار للدولة العثمانية وأن تتمكن من إسترداد عافيتها وأن يعود إليها بعض من هيبتها القديمة التي كانت قد فقدت الكثير منها على الساحة العالمية وكان محمد باشا الكوبريللي متقدما في السن كما أسلفنا وكان يعد إبنه فاضل أحمد باشا الكوبريللي ليخلفه وأوصى السلطان محمد الرابع وهو على فراش الموت بتعيينه مكانه وكانت وفاته في شهر أكتوبر عام 1661م في مدينة إدرنه ونقل جثمانه إلى العاصمة إسطنبول ودفن بها وأنفذ السلطان محمد الرابع وصيته وعين مكانه إبنه المذكور وكان في السادسة والعشرين من عمره وبذلك كان يعد أصغر من تولى هذا المنصب الرفيع في تاريخ الدولة العثمانية لكنه كان علي درجة عالية من المهارة والكفاءة كما كان متعدد المواهب وعلى دراية واسعة بالسياسة العالمية وما أن تولى منصبه حتى أدرك أن جبهة الدولة الخارجية تحتاج إلى جهود كثيرة منه فترك متابعة وتسيير أمور الدولة الداخلية إلى وزيره الأول قرة مصطفى باشا وتحرك هو إلى إعلان الحرب على مملكة النمسا التي كانت قد إنتهزت فرصة إنشغال الدولة العثمانية بأمورها الداخلية المضطربة وحرضت جورج الثاني أمير ترانسيلفانيا المتواجدة في جمهورية رومانيا حاليا على التمرد على العثمانيين ومهاجمة أراضيهم في المجر عام 1658م فإعتدت على حدود الدولة وبنت عليها قلعة حربية على الرغم من مخالفة ذلك للمعاهدة المعقودة بين الدولة العثمانية ومملكة النمسا لكنها لم تستجب لنداءات الدولة العثمانية المتكررة بإيقاف الإعتداءات علي أراضيها وردا علي ذلك تحرك الصدر الأعظم أحمد باشا الكوبريللي من مدينة إدرنه على رأس جيش هائل بلغ تعداده نحو 120 ألف جندى مزودين بالمدافع والذخائر والعتاد بعد أن أعلنت الدولة العثمانية الحرب على المملكة النمساوية في يوم 3 من شهر رمضان عام 1073 هجرية الموافق يوم 10 من شهر أبريل عام 1663م وهاجم قلعة نوفي زرين وهي تقع بدولة سلوفاكيا حاليا وفشل في فتحها بعد عدد 6 محاولات بسبب تراجع الجيش العثماني تقنيا لكنه إنتصر في معركة كوبلكت على النمساويين الذين حاولوا إنقاذ المدينة إلا أن حهودهم قد باءت بالفشل وقد وقعت هذه المعركة بالقرب من منطقة كوبلكت الموجودة حاليا في دولة سلوفاكيا وذلك في يوم 5 أغسطس عام 1663م وإنتهت هذه المعركة بنصر عثماني مطلق مما أثار رعب قوات الصليبيين في نوفي زرين فسلموا القلعة ثم فتح احمد باشا الكوبريللي إقليم مورافيا شرقي دولة التشيك حاليا وإقليم سيليزيا والذى يقع جنوب بولندا بالقرب من الحدود مع دولتي التشيك وسلوفاكيا وصولا لقلعة نوهزل الشهيرة وكانت تقع شمال غرب العاصمة المجرية يودابست شرقي مدينة فيينا بنحو 110 كيلو متر وتبعد عن مدينة براتسيلافا عاصمة دولة سلوفاكيا حاليا بنحو 80 كيلو متر وكانت هذه القلعة بالغة التحصين وفائقة الإستحكامات حتى أصبحت من أقوى القلاع في قارة أوروبا وما أن وصل الصدر الأعظم العثماني أحمد باشا الكوبريللي إلى هذه القلعة حتى ضرب عليها حصارا قويا دام سبعة وثلاثين يوما وإضطرت القلعة بعدها إلى طلب الصلح والإستسلام فوافق الصدر الأعظم أحمد باشا الكوبريللي بشرط جلاء الحامية عن القلعة بغير سلاح ولا ذخيرة أو أي عتاد فدخلها في يوم 25 صفر عام 1074 هجرية الموافق يوم 28 سبتمبر عام 1664م وبعد إستسلام هذه القلعة العظيمة إستسلمت حوالي عدد 30 من القلاع والحصون النمساوية أخرى وإضطرت مملكة النمسا إلى طلب الصلح مع الدولة العثمانية ودفعت لها غرامات حرب قدرها 200 ألف قطعة ذهبية كما أنها وافقت أيضا علي أن تبقى كافة القلاع والحصون التي فتحتها الجيوش العثمانية في السابق تحت سيادتها المطلقة .
وبفتح القلاع المشار إليها صارت الطريق مفتوحة أمام العثمانيين لعبور نهر رابا الذى يقع في غرب المجر وجنوب غرب النمسا وفتح العاصمة النمساوية فيينا وكانت النمسا في ذلك الوقت قد وصلت إلى أسوء حال بسبب الحروب المنهكة التي خاضتها لسنوات طويلة مع العثمانيين فقام الإمبراطور النمساوي ليوبولد الأول بمناشدة البابا لكسب الدعم العسكري من فرنسا العدوة التاريخية للنمسا من أجل منع العثمانيين من فتح فيينا وناشد الأمراء الألمان لتقديم العون له رغم كل ما فعله النمساويون والألمان ببعض خلال حرب الثلاثين عاما حيث أن الألمان كانوا بروتستانت بينما كان النمساويون كاثوليك متعصبين للكنيسة الكاثوليكية فقام لويس الرابع عشر ملك فرنسا بإرسال عدد 3500 جندي لمساندة النمساويين وقدم الألمان فوجين من الجند إضافة لقوات كرواتية وتشيكية وسلوفينية وقام القائد النمساوى رايموندو مونتيكيكولي بمباغتة العثمانيين في الأول من شهر أغسطس عام 1664م أثناء عبورهم نهر رابا قرب قرية سانت جوتهارت التي تبعد مسافة 110 كيلو مترات شرقي فيينا وهاجمهم وهم غير مستعدين فألحق بهم خسائر كبيرة فهربوا بشكل فوضوي إلى غابة مجاورة لإعادة ترتيب صفوفهم فهاجمهم بشكل خاطف مما أخرج الجنود العثمانيين عن سيطرة قائدهم ووصلت الخسائر في صفوفهم إلى 22 ألف قتيل بينما خسر الأوروبيون 5 آلاف قتيل فقط وعلي الرغم من إنتصار النمساويين إلا أنهم إضطروا لتقديم تنازلات كبيرة للعثمانيين لقاء قبولهم السلام نظرا لأن إمكانياتهم كانت لا تسمح بإستمرارها ولأن ملك فرنسا لويس الرابع عشر الذي كان داعما لهم كان يستعد لغزو النمسا وعليهم التجهيز لقتاله وبذلك بدأت مفاوضات السلام بين الطرفين والتي أسفرت عن معاهدة فسفار التي نتج عنها سلام بين الدولتين إستمر 20 عاما تخللتها مناوشات حدودية تطورت إلى حرب شاملة إنتهت بحصار العثمانيين لفيينا مرة أخرى وقد سمحت هذه المعاهدة للعثمانيين بالتركيز على حربهم مع جمهورية البندقية والخروج منتصرين عام 1669م بعد سقوط كانديه عاصمة كريت وجدير الذكر أن البندقية لم تستغل فترة الحرب النمساوية العثمانية بشكل فعلي إذ أن العثمانيين خفضوا قواتهم المحاربة للبندقية لإستخدامها في الحرب مع النمسا وكان السبب أن البندقية أيضا كانت تعاني من مشاكل جمة إذ أن أسطولها لم يكن كافيا لشن هجوم واسع لفك الحصار عن كانديه كما أن تجارتها كانت قد توقفت منذ بداية الحرب مع العثمانيين إضافة لتفشي وباء الطاعون في الجمهورية ومن جانب آخر فبرغم الإنتصارات العثمانية على النمساويين والبنادقة إلا أن قسوة وعنف الحروب التي خاضتها الدولة العثمانية خلال عشرات السنوات وإستمرارها أدى إلى تقليص قوتها وإضعافها بشكل كبير مما جعلها تخرج فيما بعد مهزومة في الحرب التركية العظمى التي نشبت ما بين عام 1683م وعام 1699م وكانت عبارة عن مجموعة من الصراعات بين الدولة العثمانية والقوى الأوروبية المعاصرة لها والتي تجمعت في حلف مقدس إشتمل على الإمبراطورية الرومانية المقدسة التي كان يأتي على رأسها أرشيدوقية النمسا والكومنولث البولندي الليتواني وجمهورية البندقية الإيطالية كما إنضمت إليهم روسيا أيضا وفضلا عن ذلك فقد أدت الحروب المتتالية التي خاضتها الدولة العثمانية في قارة أوروبا إلي تردي وسوء العلاقات العثمانية الفرنسية بعد أن ظلت العلاقات بين الدولتين لفترة طويلة علاقات ود وصداقة لفترة طويلة جدا لأن ملك فرنسا لويس الرابع عشر كان قد دعم النمساويين في حربهم مع العثمانيين ودعم جمهورية البندقية الإيطالية في حربها معهم مما دفع الصدر الأعظم العثماني أحمد باشا الكوبريللي لإلغاء الإمتيازات التجارية لفرنسا والتي كانت تتمتع بها في الأراضي العثمانية عقابا له مما وتر العلاقات بين الدولتين بشكل كبير وأراد الملك لويس الرابع عشر إعلان الحرب على العثمانيين لكن وزيره المحنك كولبيير أقنعه بألا يفعل ذلك نظرا لسوء الوضع الإقتصادي للمملكة نتيجة حروب الملك الطويلة في هولندا والنمسا وأسبانيا.
وفي أثناء تولي أحمد باشا الكوبريللي الصدارة العظمى دخلت أيضا بلاد القوقاز جنوبي روسيا في حماية الدولة العثمانية وذلك بعد حرب وقعت بين الدولة العثمانية والدولة البولونية وهي دولة بولندا حاليا عام 1672م بسبب تنافس هاتين الدولتين على تبعية أوكرانيا لإحداهما وكان أمير أوكرانيا بيترو دوروشينكو تابعا للعثمانيين ولكنه فوجئ بعدوان بولندى علي أرضه بقيادة القائد البولندي الشهير چون سوبيسكي والذى حقق عليه عدة إنتصارات في الفترة ما بين عام 1666م وعام 1671م فإستنجد بالعثمانيين وشعرت الدولة العثمانية أن هناك خطورة على حدودها الشمالية نتيجة التعديات البولندية علي أوكرانيا ومن ثم أرادت حسم المسألة بضم أوكرانيا عسكريا بدلا من كونها مجرد إقليم تابع للدولة العثمانية ومن ثم تجهزت لحرب كبرى وقد بدأت هذه الحرب في عام 1672م وكان السلطان العثماني محمد الرابع قد بلغ الثلاثين من عمره وقرر أن يخرج بنفسه لتلك الحرب مع الصدر الأعظم أحمد باشا الكوبريللي وكان الجيش العثماني قوامه حوالي 80 ألف مقاتل وكانت بولندا آنذاك تعاني من صراعٍ داخلىٍ بسبب إختلاف ملكها مايكل الأول والنبلاء على دعم إحدى القوتين اللدودتين النمسا أو فرنسا كما كان الجيش البولوني غير مستعد للحرب وقد أدى هذا التصدع الداخلي إلى هزيمتها بسرعة في شهر أغسطس عام 1672م أمام العثمانيين ولخوفها من التعرض للأسوأ قبلت بولونيا توقيع معاهدة بوزاز وتسمي أيضا بوتشاتش مع العثمانيين في يوم 18 أكتوبر عام 1672م وبموجبها سلمت منطقة بودوليا التي تقع في أوكرانيا ومولدوفا حاليا بشكل مباشر للعثمانيين مع الإعتراف بتبعية مناطق براتسلا فا وجنوب كييف للدولة العثمانية تحت إمارة الأمير القوزاقي دوروشينكو الموالي للعثمانيين أصلا وكان هذا يعني أن كل المنطقة المعروفة بالضفة اليمنى أي الغربية لنهر الدنيبر والتابعة للعثمانيين وهذا النهر يعد أهم الأنهار في أوروبا الشرقية وهو ينبع من مرتفعات فالادي في روسيا ثم يعبر روسيا البيضاء ومنها إلى أوكرانيا حيث يصب بالبحر الأسود ويبلغ طوله 2290 كيلو مترا ويعد رابع أطول نهر في قارة أوروبا وكانت الضفة اليسرى منه تابعةً للروس ويضاف إلى هذا موافقة بولندا على دفع 22 ألف دوقية ذهبية كجزية سنوية إلى الدولة العثمانية وكان هذا بلا شك نجاح كبير للدولة العثمانية خاصة وأن الحرب كانت سريعة للغاية ولم تستغرق وقتا طويلا وكان من المؤكد أن وضعا كهذا لن يقبل بسهولة في بولونيا ولم يقر البرلمان البولندي هذه المعاهدة قط خاصة في ظل الإنقسام السياسي في الدولة وما هي إلا شهور وبدأ الإستعداد العسكرى لنقض المعاهدة وحرب العثمانيين وفي عام 1673م هجم الجيش البولندي بقيادة چون سوبيسكي على عدة مواقع عثمانية محققا عدة إنتصارات كان أهمها الإنتصار في معركة خوتين في يوم 11 نوفمبر عام 1673م والتي وقعت قرب المدينة المعروفة بنفس الإسم غربي أوكرانيا كما كان من نتيجة هذه المعارك دخول الجيش البولوني إلى إقليم البغدان التابع للدولة العثمانية والذى يقع أغلبه في منطقة مولدوفا بجمهورية رومانيا حاليا وشاء الله أن يتزامن مع إنتصارات سوبيسكي موت ملك بولندا مايكل الأول في يوم 10 نوفمبر عام 1673م وبعد فترة قصيرة وفي يوم 19 مايو عام 1674م تم إنتخاب چون سوبيسكي ملكا لبولونيا .
وبالنظر إلى إنتصاراته الأخيرة على العثمانيين وقبلها على الروس وأيضا لكونه كان معارضا للملك البولوني الراحل مايكل الأول بسبب عقده لمعاهدة بوزاز مع العثمانيين والتي لم تكن في صالح بولونيا فقد كان إنتخاب هذا الملك نقطةً فارقةً في تاريخ بولونيا بصفة خاصة وأوروبا بصفة عامة في هذه المرحلة نظرا لكفاءته العسكرية والسياسية ولسمعته الطيبة التي حققها من خلال الإنتصارات التي حققها علي الدولة العثمانية وسعيه لتوحيد بولونيا من جديد وأخيرا وكانت هذه نقطةٌ مهمةٌ للغاية كونه قد نذر حياته لهدف واحد وهو إخراج العثمانيين من قارة أوروبا كلها وكان هذا الأمر معلنا من جانبه بشكل واضح كأنه المشروع الإنتخابي له والذى عاش عمره كله مجاهدا من أجل تحقيقه ولذا فقد تم إعتباره أحد الأبطال المعدودين في تاريخ بولونيا مما أثر على معنويات العثمانيين سلبيا بينما أثر إيجابيا علي معنويات البولونيين وقضي سوبيسكي ما تبقى من عام 1674م في إعداد جيشه وعاد مرة أخرى للإنتصار على العثمانيين في موقعة لڤوڤ في يوم 24 أغسطس عام 1675م وفي خريف عام 1676م أخرج العثمانيون جيشا كبيرا لحصار مدينة زوراونو المهمة والتي كان يدافع عنها الملك سوبيسكي بنفسه وقد بدأ الحصار في الأسبوع الأخير من شهر سبتمبر عام 1676م وإستمر حوالي ثلاثة أسابيع لكن لم يحدث قتال مفتوح بين الطرفين وفي يوم 14 أكتوبر عام 1676م إتفق الطرفان على هدنة تمهيدا للتوصل إلى حل دبلوماسي ومن ثم وقعت في يوم 17 أكتوبر عام 1676م معاهدةٌ بين الطرفين عرفت بإسم معاهدة زوراونو وبموجب هذه المعاهدة قبلت الدولة العثمانية إعادة ثلث الأراضي التي أخذتها من بولونيا في معاهدة بوزاز مع الإحتفاظ بإقليم بودوليا كما قبلت التنازل عن الجزية المفروضة في المعاهدة السابقة مما يعني أن هذه المعاهدة الجديدة كانت في صالح بولونيا حيث أنها أعادت الوضع إلى ما كان عليه تقريبا قبل الحرب بإستثناء حيازة الدولة العثمانية لإقليم بودوليا الأوكراني والتي لن تستمر طويلا ومن الجدير بالذكر أن هذه المعاهدة كانت برعاية فرنسية وذلك لرغبتها في وضع الحرب بين الطرفين لتكثيف جهدهما ضد العدو الرئيسي لفرنسا وهي مملكة النمسا وفي هذه الحرب التي دامت أكثر من أربع سنوات تحقق الهدف العثماني من الإحتفاظ بقسم من أوكرانيا ولكنها من جانب آخر خسرت جهدا ورجالا ومالا وحليفا كان من الممكن أن يكون مفيدا فضلا عن تأزم موقفها بولاية چون سوبيسكي المتحفز لإقصائها عن قارة أوروبا بأسرها والذى سيكون له دور كبير فيما بعد في الصراع العثماني الأوروبي وجدير بالذكر أن بعض المؤرخين يرون أن هذا الصراع العثماني البولوني لم يكن له داعٍ وأنه قد تسبب في نتائج سلبية كبرى علي الدولة العثمانية على الرغم من تحقيق بعض النجاحات والمكاسب العسكرية والسياسية وكانت الدولة العثمانية ترى عداءها الرئيسي للنصارى هو عداء ضد النصارى الكاثوليك حيث أن النصارى الأرثوذكس كانوا جزء أساسي وأصيل من الشعب العثماني وكانوا قد إندمجوا مع الحكومة العثمانية بشكل كبير منذ قرون عديدة وتقلدوا فيها أعلي المناصب أما النصارى الكاثوليك بداية من المجر ومرورا بالنمسا وإنتهاءا بإيطاليا وأسبانيا والبرتغال فقد كانوا أعداء تقليديون للدولة العثمانية حتى دولة فرنسا الكاثوليكية التي كانت تلبس ثوب الصديق للعثمانيين نجدها قد إنقلبت عليهم فحاربتهم في سان جوتار مع النمساويين عام 1664م ودعمت البنادقة ضدهم بشكل سافر في جزيرة كريت وهكذا إعتبرت الدولة العثمانية دولة بولونيا عدوا لدودا لكونها دولة كاثوليكية كالغرب فكان التصعيد العسكرى هو الحل الأمثل عندها عند حدوث أي نزاعٍ بين الطرفين والواقع كما يرى بعض المؤرخين أن هذه كانت سياسةً خاطئة وليس فيها تقدير صحيح لموازين القوى كما أنها كانت تتعامل مع خلفيات القتال بصورة سطحية لا تتناسب مع دولة عملاقة كالدولة العثمانية ويجب علينا ملاحظة أن المرحلة التاريخية التي كانت تدور فيها هذه الأحداث كانت لا تعتبر بالخلفيات الدينية إلا كشكليات تدعم الصراع الدائر بين القوى المختلفة وقد رأينا في هذه المرحلة فرنسا الكاثوليكية قد دعمت البروتستانت في المانيا لأنهم يحاربون النمسا عدوة فرنسا مع أن النمسا كانت كاثوليكية أيضا ورأينا أيضا فرنسا الكاثوليكية تتحالف كثيرا مع الدولة العثمانية المسلمة ضد النمسا وأسبانيا الكاثوليكيتين ورأينا أيضا إنجلترا البروتستانتية تدافع عن هولندا البروتستانتية أيضا ضد أسبانيا الكاثوليكية وبعد تحرير هولندا إذا بإنجلترا تتصارع معها عسكريا من أجل السيطرة على الشرق ولم يجد نفعا كونهما ينتسبان معا إلى المذهب البروتستانتي ونستطيع القول بأن السياسة الأوروبية كانت تعتمد إعتمادا شبه كامل على المصالح ولا ترى الدين إلا ستارا خفيفا تتحرك من ورائه خاصة في المرحلة التاريخية التي كانت تمر بها دول أوروبا بعد إنزواء دور الكنيسة الكاثوليكية وإنتشار المذهب البروتستانتي .
وعلاوة علي ذلك فقد نشبت حرب أخرى بين الدولة العثمانية وبين روسيا بسبب الصراع حول الأراضي الأوروبية الشرقية الواقعة في أوكرانيا حاليا وكانت القوارب العثمانية تجول في نهر الدنيبر مستهدفة فرض هيمنتها علي المنطقة التي تحت حكمها وهي الأراضي الواقعة على الضفة اليمنى للنهر المذكور وكان الأوكرانيون القوزاق في ذلك الوقت يشعرون بعدم الرضا إزاء الدولة العثمانية وقاموا بإنتخاب أحد نبلائهم كي يجمعهم في جبهه موحدة ضد العثمانيين وكان هذا النبيل المنتخب هو ايفان سامولفيج والذي قرر إعلان الحرب بمساعدة الروس ضد الدولة العثمانية في عام 1676م وقرر دورو شينكو حليف الدولة العثمانية الرد علي هؤلاء الأوكرانيين القوزاق وإتجه الى قلعة شيهيرين الهامة والتي كانت تعد العاصمة التقليدية للقوزاق ومن أحصن مدن أوكرانيا وكانت تقع علي الضفة اليمني من نهر الدنيبر ودخلها بصحبة 12 ألف مقاتل معتمدا على وصول الدعم العثماني من حامية القرم إليه إلا إن الأوكرانيين والروس مدعومين بقوزاق شرق أوكرانيا تمكنوا من عبور نهر الدنيبر غربا إلى قلعة شيهيرين المهمة وتمكنوا من إحتلالها مما أجبر دورو شينكو علي الإستسلام والتراجع وترك الروس بها حامية من الجنود وكان هذا بمثابة إعلان حرب روسية على العثمانيين وعند وصول هذه الأخبار إلى السلطان العثماني محمد الرابع أمر في شهر يوليو عام 1677م بتجهيز جيش قوامه 45 ألف مقاتل بقيادة إبراهيم باشا وعين حاكما جديدا للمنطقة الأوكرانية يمين نهر الدنيبر وإنطلقت القوات لإستعادة قلعة شيهيرين وكانت هذه هي الحملة الأولى لسلطان عثماني على روسيا ووصل إبراهيم باشا الى يمين النهر في يوم 4 أغسطس عام 1677م مما أتاح الفرصة للقوات الأوكرانية الروسية إلي إزالة مواقع المراقبة العثمانية المتواجدة على ضفاف النهر وتمكنوا من عبور النهر الى الضفة اليمني وقاموا بهجوم مباغت علي القوات العثمانية في يوم 28 أغسطس عام 1677م وتكبدت القوات العثمانية خسائر كبيرة بلغت 20 ألف جندى وإنسحب إبراهيم باشا من موقع المعركة حتي نهر الفولجا الذى يقع في الجزء الغربي الأوروبي من روسيا ويعد أطول أنهار قارة أوروبا وأغزرها وفي يوم 5 سبتمبر عام 1677م رجع القائد إبراهيم باشا إلى العاصمة العثمانية إسطنبول وأمر السلطان بحبسه لقلة بلاءه في المعركة .
وعاود السلطان العثماني محمد الرابع إرسال حملة أخرى لإستعادة قلعة شيهيرين في العام التالي عام 1678م خرجت من العاصمة العثمانية إسطنبول متجهة إلي أوكرانيا في شهر يوليو عام 1678م وكان قوامها 80 ألف مقاتل ورافقها السلطان العثماني محمد الرابع حتي مدينة سيلسترا بشمال بلغاريا وكان يقودها الصدر الأعظم قرة مصطفى باشا الذى كان قد تولي منصب الصدر الأعظم بعد وفاة أحمد باشا الكوبريللي وفي يوم 8 ربيع الأول عام 1089 هجرية الموافق يوم 30 مارس عام 1678م بلغ العثمانيون قلعة شيهيرين في أوكرانيا حاليا فضربوا حولها حصارا وكان يدافع عنها جيش روسي ضخم قوامه 200 ألف جندي وقتل من الجيش الروسي 20 ألف جندي بعد أن هجم العثمانيون على القوات الروسية وتتبعوا أثرهم ولم يتركوهم حتى دحروهم الى الضفة المقابلة لنهر الدنيبر وفي يوم 11 أغسطس عام 1678م وبعد عدة معارك كبيرة تمكن الجيش العثماني من تحقيق النصر وإستطاع فتح قلعة شيهيرين في يوم 21 أغسطس عام 1678م ولكنه لم يكمل طريقه شمالا لملاقاة الجيش الروسي الرئيسي المتمركز في مدينة كييف وما بين عام 1679م وعام 1680م قام العثمانيون بهجوم مفاجئ علي القوات الروسية عند نهر الدنيبر إلا أن هذا الهجوم باء بالفشل مما أدى الي توقيع معاهدة السلام المعروفة بإسم معاهدة باخشي سراي بخانية القرم بأوكرانيا بين الطرفين وهي تعرف أيضا بإسم معاهدة رادزين وبموجبها تم الإتفاق على هدنة بين الطرفين مدتها 20 عاما وقبول نهر الدنيبر كخط ترسيم الحدود بين الدولة العثمانية ونطاق روسيا كما تم الإتفاق أيضا علي عدم تسوية الأراضي الواقعة بين نهري الدنيبر والبوك الجنوبي وهو الرافد الأيسر لنهر ناريف الذي يتدفق من وسط أوكرانيا إلى الغرب ويمر على طول الحدود بين أوكرانيا وبولندا وبيلاروسيا والحدود البولندية في بولندا حاليا وبعد توقيع هذه المعاهدة إحتفظت القبائل التترية بحقها في المعيشة كرحل في السهول الجنوبية لأوكرانيا بينما إحتفظ القوزاق الذين كانوا يقطنون السهول الجنوبية في شرق أوروبا وروسيا وكازاخستان وسيبيريا بحقهم في الصيد في نهر الدنيبر وروافده مع إمكانية الحصول على الملح من الجنوب والإبحار في نهر الدنيبر والبحر الأسود وبعد ذلك إعترف السلطان العثماني بسيادة روسيا في منطقة أوكرانيا علي الأراضي التي تقع علي الضفة اليسرى لنهر الدنيبر بينما يكون الجزء الجنوبي من منطقة كييف ومنطقة براتسلاڤا وپادوليا تحت إدارة الدولة العثمانية وعلي الرغم من هذه المعاهدة فقد إنضمت روسيا إلى التحالف الأوروپي ضد الدولة العثمانية عام 1686م .
وقرب نهاية عهد السلطان محمد الرابع كانت الدول الأوروبية قد تألبت على الدولة العثمانية وأفزعها ما بلغته من قوة ونفوذ فأخذت تتحرش بها وكانت مملكة النمسا تقف في مقدمة الدول المناوئة لها فإتخذت الدولة العثمانية قرارها بضرورة توجيه ضربة قوية لها حتى تكف يدها عن التدخل في شئون بلاد المجر التي كانت خاضعة للدولة العثمانية وتم حشد جيش ضخم وجمع الصدر الأعظم قرة مصطفى باشا مجلس الحرب في جيشه وأعلن أنه سيستولي على فيينا وأنه سيملي شروطه على المانيا في هذه المدينة العنيدة فيينا لأن الإستيلاء على يانق قلعة المدينة التي تعتبر مفتاح فيينا وتقع على بعد 80 كيلو متر جنوب شرق فيينا على الضفة الغربية لنهر راب والتي كان مخططا الإستيلاء عليها أولا لا يمكن أن يخضع المانيا ويجعلها تكف يدها عن شئون المجر وقد أثار قرار قرة مصطفى باشا حيرة الوزراء وجدلهم وإعترض عليه الوزير إبراهيم باشا الذي أكد أن رغبة السلطان محمد الرابع هي الإستيلاء على يانق قلعة ومناوشة أوروبا الوسطى بواسطة كتائب الصاعقة العثمانية وأن الحملة على فيينا يحتمل أن تكون في العام المقبل فأجابه قرة مصطفى باشا بأنه من الصعب أن يتجمع جيش مرة ثانية بمثل هذه الكثافة والقوة وهذا الأمر يقتضي إنزال ضربة قوية قاضية بالألمان وإلا فإن الحرب ستطول معهم خاصة أن المانيا عقدت صلحا مع فرنسا وأصبحت آمنة من الجانب الغربي وأن إمبراطور الإمبراطورية المقدسة ليوبولد الأول إتفق مع الملك البولوني سوبيسكي على إستعادة منطقة بادوليا وأن البندقية لا بد أن تكون ضمن هذا الإتفاق وبالتالي ستنضم روسيا وبقية الدول الأوروبية لهذا التحالف المسيحي إلى جانب المانيا وهذا يقتضي كسره وتحطيم هذا التحالف الوليد في ذلك العام وإلا فإن الحرب ستطول إلى أجل غير معلوم وفي يوم 19 رجب عام 1094 هجرية الموافق يوم 14 يوليو عام 1683م وصل الجيش العثماني بقيادة قرة مصطفى باشا إلى فيينا وضرب عليها حصارا شديدا إستمر لمدة شهرين تهدمت في أثنائه أسوار المدينة المنيعة وإستشهد آلاف العثمانيين الطامعين في نيل شرف الفتح وإنزعج البابا بعد أن أدرك خطورة الموقف وتحركت كل دول أوروبا لنداءاته وجاءت الإمدادات والمساعدات إلى فيينا وإستطاعت أن تعبر جسر الدونة المقام علي نهر الدانوب إلى المدينة المحاصرة وكان الإقدام على هذا العمل فيه خطورة ويعد مغامرة ومجازفة كبيرة لأن الجسر كان تحت سيطرة العثمانيين وكان قرة مصطفى باشا قد كلف مراد كيراى حاكم القرم بمهمة حراسة الجسر ونسفه عند الضرورة وعدم السماح للأوروبيين بعبوره مهما كانت الأمور ومهما كان الثمن وكان قرة مصطفى باشا يكره مراد كيراى ويعامله معاملة سيئة أما مراد فكان يعتقد أن فشل قرة مصطفى باشا في فيينا سيسقطه من السلطة ومن منصب الصدارة العظمي لذلك قرر مراد أن يظل متفرجا على عبور القوات الأوروبية جسر الدونة ليفكوا الحصار المفروض على فيينا دون أن يحرك ساكنا ولم يخطر ببال هذا القائد الخائن أن خسارة العثمانيين أمام مدينة فيينا ستغير مجرى التاريخ الأوروبي والعالمي ويضاف إلى ذلك أنه كان هناك وزراء وقادة وبكوات في الجيش العثماني لا يرغبون في أن يكون قرة مصطفى باشا هو فاتح فيينا التي فشل أمامها السلطان العثماني سليمان القانوني قبل ذلك منذ عدة سنوات .
وفي يوم السبت 12 سبتمبر عام 1683م تقابل الجيشان العثماني والنمساوى أمام أسوار فيينا وكان الأوروبيون فرحين لعبورهم جسر الدونة دون أن تراق منهم أي قطرة دم واحدة إلا أن هذا الأمر جعلهم على حذر شديد أما العثمانيون فكانوا في حالة من السأم لعدم تمكنهم من فتح فيينا وفي حالة من الذهول لرؤيتهم الأوروبيين أمامهم بعد عبور جسر الدونة بالإضافة إلى إنشغال بعض فرق الجيش بحماية غنائمها وليس القتال لتحقيق النصر مما تسبب في توتر العلاقة بين الصدر الأعظم وبعض قواد جيشه وإنعكس ذلك علي نتائج المعركة التي بدأت بأن شن قرة مصطفى باشا هجوما مضادا مع معظم قواته وأجزاء من النخبة الإنكشارية لغزو المدينة وكان قواد الجيش العثماني ينوون إحتلال فيينا قبل وصول ملك بولونيا سوبيسكي بقواته التي كانت ستمثل مددا للنمساويين ولكن الوقت نفد وفي ذلك الوقت ففي ساحة المعركة بدأت المشاة البولونية الهجوم على الجهة اليمنى من الجيش العثماني والذى كان متعبا ومجهدا بعد فشل محاولاتهم العديدة لإستنزاف قوى القوات النمساوية وفي هذا الوقت وصلت الإمدادات والتعزيزات بالأسلحة للفرسان النمساويين مما حول مجرى المعركة وأجبر العثمانيين علي التراجع والإنسحاب وفي أقل من 3 ساعات بعد هجوم سلاح الفرسان النمساوى علي القوات العثمانية تحقق النصر للقوى المسيحية ونجت مدينة فيينا من الإحتلال وبعد المعركة إقتبس الملك البولوني سوبيسكي وأعاد صياغة عبارة الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر الشهيرة أتيت رأيت غزاها الرب وبسبب هذه الأحداث إنسحب الوزير العثماني إبراهيم باشا بجزء كبير من الجناح الأيمن للجيش وتراجع العثمانيون بعد أن قتل منهم حوالي 15 ألف رجل في القتال بينما قتل من الأوروبيين ما يقرب من عدد 4 آلاف جندي ووضع الصدر الأعظم العثماني قرة مصطفى باشا خطة جيدة للإنسحاب من المعركة حتى لا تتضاعف خسائره وأخذ الجيش العثماني معه أثناء الإنسحاب عدد 81 ألف أسير وبذلك إنتهى حصار مدينة فيينا الذي إستمر 59 يوما في يوم 20 رمضان عام 1094 هجرية الموافق يوم 12 سبتمبر عام 1683م ودقت كنائس فيينا أجراسها فرحة بهذا النصر وحظت حظوها كافة أجراس كنائس العالم المسيحي في قارة أوروبا .
وتلقي السلطان العثماني محمد الرابع أنباء هذه الهزيمة المدوية ولم يفعل شيئا سوى أن بعث بمن قتل الصدر الأعظم الكفء قرة مصطفى باشا تحت تأثير بعض الوشاة والكارهين له والحاقدين عليه إلي الصدر الأعظم الجديد صارى سليمان باشا الذى خلفه في منصبه وذلك في يوم 6 محرم عام 1095 هجرية الموافق يوم 25 ديسمبر عام 1683م لإتخاذ ما يراه حيالهم وبدأ يسعى لإسترداد بعض ما فقدته الدولة العثمانية من أملاكها في المجر حيث كان الوضع الذى وصل إليه العثمانيون صعبا بعد أن عانوا من خسائر كبيرة وفادحة فضلا عن غياب القيادات القادرة على إدارة الموقف الصعب الذى تمر به الدولة العثمانية وقد توجت خسائر العثمانيين بإسترداد قوى التحالف التي عرفت بإسم الرابطة المقدسة وهو حلف نظمه البابا أنوسينت الحادى عشر للعاصمة المجرية بودابست خلال عام 1686م وقد تشكل الحلف المشار إليه من قوات من الولايات البابوية والإمبراطورية الرومانية المقدسة تحت حكم آل هابسبورج والكومنولث البولندي الليتواني وجمهورية البندقية الإيطالية كما إنضمت أيضا روسيا القيصرية للحلف وكان يدافع عن المدينة المحاصرة قوات الدولة العثمانية بقيادة والي المدينة عبد الرحمن عبدى باشا الألباني وإستمر الحصار من يوم 18 يونيو عام 1686م وحتي يوم 9 سبتمبر عام 1686م وإنتهى الحصار بإنتصار الرابطة المقدسة وسقوط العاصمة المجرية بودابست في أيديهم ومقتل قائد حاميتها الوزير عبد الرحمن عبدي باشا ووقوع مذبحة عظيمة بحق مسلمي ويهود المدينة وكان الصدر الأعظم صارى سليمان باشا قد حاول نجدة المدينة وفك الحصار عنها لكنه فشل ورفض الأوروبيون عرضا للصلح قدمته الدولة العثمانية إذ إستشعروا ضعفهم ومن ثم بقدرتهم على السيطرة على المزيد من أراضيها وقد دفع ذلك الصدر الأعظم صاري سليمان باشا إلي أن يخطط من أجل جر العدو لمعركة يقضي فيها على قوته الرئيسية بحيث يكون إسترداد بودابست ن بعد ذلك من الأمور البسيطة وكان الأوروبيون آنذاك على علم بسعي العثمانيين لمعركة فاصلة لذلك تقدموا تحت قيادة شارل الخامس دوق اللورين نحو قلعة شيكلوش حيث الأرضية صلبة ومناسبة لعمل المدافع وفي أثناء سيرهم في صحراء موهاكس بالقرب من سلسلة من الغابات كان الجيش العثماني مختبئا ومنتظرا فيها وأدرك سليمان باشا أن الفرصة للهجوم قد واتته فبدأ عدد 8 آلاف من الفرسان السباهية الهجوم على الجناح الأيسر لجيش التحالف رغبة في أخذه على حين غرة وبرغم ذلك كان رد فعل الأوروبيين سريعا وفعالا وتمكنوا من الحفاظ على مواقعهم وتشتيت الهجوم العثماني فقرر سليمان باشا شن هجوم أخر بالإنكشارية بدعم من سباهيته لكن الهجوم فشل أيضا وبدأ في المقابل جنود التحالف بالهجوم على مواقع الجيش العثماني الغير متمركز جيدا وفشل السباهية في مواجهة الهجوم نتيجة الأرض الزلقة التي تقف عليها خيولهم فإنسحبوا في ذعر شديد وفوضي عارمة وعدم إنتظام فأوقع فيهم الأوروبيون خسائر فادحة وكان ذلك في يوم 3 شوال عام 1098 هجرية الموافق يوم 12 أغسطس عام 1686م وكانت النتيجة أنه في مقابل خسارة 600 جندى فقط لقوات التحالف خسر العثمانيون أكثر من 10 آلاف جندى وفقدوا 66 مدفع وهي أغلب مدفعيتهم ومعسكرهم وأسر الأوروبيون 160 راية عثمانية وقد عرفت هذه المعركة في التاريخ بإسم معركة موهاكس الثانية وأيضا بإسم معركة جبل هارساني وكان من نتائج هذه المعركة تثبيت سيطرة التحالف الأوروبي على العاصمة المجرية بودابست ومهدت الطريق للإستيلاء علي الكثير من أملاك الدولة العثمانية في قارة أوروبا وفي المقابل فقد مثل ذلك فاتحة كوارث عديدة ومصائب متتالية على العثمانيين ودولتهم وقد ألقى الإنكشارية بكامل اللوم على الصدر الأعظم صاري سليمان باشا وحملوه مسئولية الفشل والهزيمة الساحقة التي مني بها الجيش العثماني في المعركة المشار إليها فترك الجيش وهرب للعاصمة العثمانية إسطنبول وقدم إستقالته للسلطان محمد الرابع خوفا من بطش الجنود به لكن السلطان العثماني حكم عليه بالإعدام لفراره وتركه لجنوده ولميدان المعركة وهو الأمر الذى يعد خيانة عظمي .
ولم يطل الأمر بالسلطان العثماني محمد الرابع طويلا بعد ذلك إذ قامت ثورة عليه إعتراضا على تلك الهزائم وقام الجيش بخلعه في يوم 3 محرم عام 1099 هجرية الموافق يوم 8 نوفمبر عام 1687م بعد أن دامت سلطنته نحو أربعين سنة وبلغة العصر كانت هذه هي المرة الأولي التي يتم فيها خلع سلطان عثماني بما يمكن أن نسميه إنقلاب عسكرى وجدير بالذكر أن هذه الهزيمة التي تعرض لها العثمانيون نقطة فاصلة في تاريخ الدولة العثمانية حيث فقدت الدولة عند خلعه ديناميكية الهجوم والتوسع في قارة أوروبا وترتب علي هذه الهزيمة أيضا أن تحرك جيش التحالف المسيحي لإقتطاع بعض الأجزاء من الأملاك العثمانية في قارة أوروبا وبالفعل فقدت الدولة العثمانية كثيرا من أراضيها للبنادقة والنمساويين وبعد خلع السلطان محمد الرابع تولى أخوه السلطان سليمان الثاني عرش السلطنة ومما يذكر أنه بعد خلع السلطان العثماني محمد الرابع أقام في مدينة إدرنه قرابة 6 سنوات وتوفي بها عام 1104 هجرية الموافق عام 1693م عن عمر يناهز 51 عاما ونقل جثمانه ليدفن في العاصمة العثمانية إسطنبول وفي النهاية لابد وأن نذكر أنه من الناحية التاريخية كان هذا الحدث بداية دخول الدولة العثمانية في عصر توقف الفتوحات ومرورها بالفترة التي أطلق عليها فترة ركود الدولة العثمانية حيث عمّت الفوضى بعد عزل السلطان محمد الرابع وتوالت الهزائم على الدولة العثمانية تباعا حيث إحتلت النمسا بلجراد وأجزاء من بلاد الصرب وإحتلت البندقية أجزاء كثيرة من كرواتيا ودلماسيا وأكثر أجزاء شبه جزيرة المورة ولم ينقذ الدولة من تلك المشاكل إلا مصطفى باشا الكوبريللي الإبن الثاني للصدر الأعظم الأسبق محمد باشا الكوبريللي وشقيق الصدر الأعظم الأسبق أيضا أحمد باشا الكوبريللي الذى بذل جهده في بث روح النظام في الجنود وأحسن للنصارى بشكل كبير حتى إستمال جميع مسيحيي الدولة وإستطاع إستعادة بلجراد وإقليم ترانسيلڤانيا لكن على الرغم من ذلك فإن الدولة العثمانية لم تحقق أي فتوحات أو توسعات جديدة وراء الحدود التي كانت قد وصلت إليها في عهد السلطان العثماني العاشر سليمان القانوني الذى بلغت خلال عهده الدولة العثمانية أوج عظمتها وقوتها وإتساعها حيث كانت حروبها وفتوحاتها بداية من عهد السلطان سليمان الثاني الذى بدأ من عام 1687م لإسترداد ما سلب منها إجمالا ففي عهد السلطان مصطفى الثاني إنتصر العثمانيون على بولندا وأجبروا قيصر الروس بطرس الأكبر على فك الحصار عن مدينة آزوف الروسية وإستعادوا بلاد البوسنة وبعض الجزر في بحر إيجة لكن الروس ما لبثوا أن عادوا لفتح آزوف وإنتصر النمساويون مرة أخرى على العثمانيين في معركة زانطة والتي كانت معركة كبرى من معارك الحرب التركية العظمى والتي وقعت في يوم 11 سبتمبر عام 1697م جنوب مدينة زانطة الصربية التي كانت آنذاك جزءا من الدولة العثمانية وهي تقع على الضفة الشرقية لنهر تيسا الذى يمر بصربيا والمجر وأوكرانيا وسلوفاكيا ورومانيا ويعد أحد روافد نهر الدانوب ويصب به قرب عاصمة الصرب مدينة بلجراد وكانت هذه المعركة واحدة من أكبر الهزائم الحاسمة في تاريخ الدولة العثمانية وأجبروها على توقيع معاهدة كارلوفجي التي تم توقيعها في يوم 26 يناير عام 1699م في مدينة سريمسكي كارلوڤجي وهي مدينة في صربيا المعاصرة والتي إنتهت بها الحرب التركية العظمى والتي إستمرت 16 عاما وهزم فيها العثمانيون وفقدت بموجبها مدينة آزوف لصالح روسيا وما بقي لها من بلاد المجر للنمسا وساحل دلماسيا وبعض جزر بحر إيجة للبندقية وأوكرانيا وبودوليا لبولونيا .
|