بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا”
السلطان ألب أرسلان هو ثاني حكام الأتراك السلاجقة ضياء الدنيا والدين عضد الدولة أبو شجاع محمد ألب أرسلان بن داوود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقاق التركماني وهو أحد أهم قادة المسلمين وكبار رجال التاريخ وصاحب الإنتصار الخالد على الروم في معركة ملاذكرد الشهيرة في شهر أغسطس عام 1071م وقد عرف بإسم ألب أرسلان ومعناها بالتركية الأسد الباسل وقد لقب بسلطان العالم أو بالسلطان الكبير أو الملك العادل وقد بلغ حدود حكمه من أقاصي بلاد الشام إلي أقاصي بلاد ما وراء النهر فيما يعرف اليوم بأفغانستان وأجزاء واسعة من إيران وطاجيكستان وتركمانستان وأوزباكستان وقيرغيزستان وأجزاء من كازاخستان وباكستان ورغم عظم مملكته إلا أنه كان تابعا للخلافة العباسية في بغداد وبعد وفاة ركن الدين طغرل بك بن سلجوق مؤسس دولة السلاجقة في عام 455 هجرية الموافق عام 1063م تولى ألب أرسلان إبن أخيه حكم السلاجقة وكان قبل أن يتولى السلطنة يحكم خراسان وما وراء النهر بعد وفاة أبيه داود عام 1059م وكان يعاونه دوما وزيره أبو علي حسن بن علي بن إسحاق الطوسي المشهور بنظام الملك وإستمر حكمه حتي عام 1072م وفي عهد السلطان ألب أرسلان تم فتح أجزاء كبيرة من بلاد آسيا الصغرى وأرمينيا وجورجيا وكانت الدولة السلجوقية أو دولة بني سلجوق أو دولة السلاجقة العظام ويطلق عليها هذا الإسم لتمييزها عن دول السلاجقة اللاحقة التي ظهرت بعد تفككها وإنهيارها هي واحدة من الدول الكبرى في تاريخ الإسلام وإقليم وسط آسيا والتي لعبت دورا كبيرا في تاريخ الدولة العباسية والحروب الصليبية والصراع الإسلامي البيزنطي وقد تأسست هذه الدولة على يد سلالة السلاجقة وهي سلالة تركية تنحدر من قبيلة قنق التي تنتمي بدورها إلى إحدى العشائر المتزعمة لقبائل الغز التركية والتي دخلت في الإسلام أثناء عهد زعيمها ومؤسس السلالة السلجوقية سلجوق بن دقاق في عام 960م ودخلوا بعدها في خدمة القراخانات وهم سلالة تركية أيضا حكمت بلاد ماوراء النهر ما بين عام 840م وعام 1212م وحازوا نفوذا عاليا في دولتهم وقد تأسست الدولة السلجوقية في عام 429 هجرية الموافق عام 1037م عندما قاد طغرل بك حفيد سلجوق حربا مع الدولة الغزنوية في إقليم خراسان الكبرى وهي معركة داندقان التي وقعت في شهر رجب عام 432 هجرية الموافق شهر مايو عام 1040م وكانت من المعارك الحاسمة والفاصلة في تاريخ كل من الغزنوية والسلاجقة حيث نتج عنها هزيمة الدولة الغزنوية في عهد السلطان مسعود بن محمود الغزنوي على يد السلاجقة الذين كانوا آنذاك يتوسعون في هضبة إيران وكانت الدولة الغزنوية إحدى الدول الإسلامية التي حكمت بلاد ما وراء النهر وشمال الهند وخراسان في الفترة ما بين عام 961م وعام 1187م وقد قام الغزنويون بتسمية عاصمتهم بإسمهم وهي مدينة غزنة التي تقع الآن داخل حدود دولة أفغانستان وقد تمكن السلاجقة على إثر المعركة المشار إليها من إنتزاع مدينتي مرو الشاهجان وهي بدولة تركمانستان حاليا ونيسابور عاصمة إقليم خراسان ومن ثم أحكموا سيطرتهم على هذا الإقليم وعلي بلاد ما وراء النهر وظفروا بإعتراف الخليفة العباسي ومن ثم قيام دولتهم التي كسرت شوكة دولة الغزنويين ومن ثم تحقق الظهور الحقيقي للدولة السلجوقية وقد إستمرت هذه الدولة قائمة حتي عام 552 هجرية الموافق عام 1157م حينما تم قتل السلطان السلجوقي أحمد سنجر الذي تفككت الدولة بعده إلى ولايات منفصلة بعد أن حكمت في أوج إزدهارها كافة إيران وأفغانستان ووسط آسيا وصولا إلى كاشغر في الشرق وهي في الصين حاليا وكانت إحدى أشهر مدن تركستان الشرقية وأهمها وكانت عاصمة لهذا الإقليم ولها مركز عظيم في التجارة مع روسيا وقد إجتاحتها القوات الصينية الشيوعية عام 1949م وإحتلتها وأطلق عليها الصينيون إسم سينكيانج وهي كلمة صينية تعني المستعمرة الجديدة وتبعهم بهذه التسمية الأوروبيون وبعض المصادر العربية الحديثة إلا أن أهل تركستان الشرقية المسلمون يحبون أن تسمى بلادهم بإسمها القديم تركستان الشرقية ولا يحبون تسميتها بالإسم الصيني الجديد وفضلا عن ذلك كانت الدولة السلجوقية تضم أيضا العراق والشام والأناضول غربا وصولا إلى مشارف العاصمة البيزنطية القسطنطينية .
وكان ميلاد ألب أرسلان حسب قول الذهبي في يوم 1 محرم عام 425 هجرية الموافق يوم 19 يناير عام 1029م في وسط الأسرة السلجوقية التركمانية التي تعود إلي الأغوز فتبركت به وتيمنوا بطلعته وكانت الأسر التركمانية قد إعتادت السفر والترحال بسبب طبيعة حياتهم البدوية وكثرة حروبهم مع جيرانهم من القبائل البدوية المتنقلة لذا فإن الفرد في هذه الأجواء ينشأ نشأة قاسية ويتعلم تحمل المسؤولية منذ الصغر بسبب تلك الطبيعة وكان ألب أرسلان من أولئك الأفراد الذين نشأوا نشأة قاسية متحملين المهام الجسام وكانت نشأته في خراسان حيث كان والده حاكما عليها وتعلم الفروسية وإستخدام أسلحة عصرة بكفاءة ومهارة ولذا فقد أُسندت إليه قيادة الجيوش في سن مبكرة فأظهر شجاعة نادرة في كل المعارك التي خاض غمارها وقد ساند السلاجقة الخلافة العباسية في بغداد وناصروا أهل السنة والجماعة بعد أن أوشكت دولة الخلافة على الإنهيار بين النفوذ البويهي الشيعي في إيران والعراق وبين النفوذ الفاطمي في مصر والشام فقضى السلاجقة على النفوذ البويهي تماماً وتصدوا للخلافة الفاطمية فقد كان النفوذ البويهي الشيعي مسيطرا على بغداد والخليفة العباسي وكان السلطان السلجوقي طغرل بك عم ألب أرسلان قد وصل إلي منصب السلطنة عام 1037م وبعد وفاة أبيه تولى هو إمارة خراسان خلفا له وظل في هذه الإمارة حتي عام 1063م وهي السنة التي توفي فيها السلطان السلجوقي طغرل بك فيها دون أن يترك ولدا يخلفه على سدة الحكم فشب صراع على من يتقلد منصب السلطنة حسمه إبن أخيه ألب أرسلان لصالحه بمعونة وزيره نظام الملك الذى كان معروفا ومشهورا بعلمه وحنكته السياسية وبالذكاء وقوة النفوذ وسعة الحيلة وتنوع الثقافة وقد تولى ألب أرسلان الحكم في يوم 8 رمضان عام 455 هجرية الموافق يوم 4 سبتمبر عام 1063م ولم يكد يتسلم منصب السلطان حتى دبت خلافات طارئة داخل البيت السلجوقي حيث ثار عليه بعض أقربائه كان منهم أخوه سليمان وشهال الدولة قتلمش الذى كان بمثابة عمه فإضطر ألب أرسلان بداية من أوائل عام 456 هجرية الموافق عام 1064م إلى قتال الخارجين عليه لوأد الفتن التي أطلت برأسها وقد تمكن من الإنتصار عليهم وذلك بعد أن دخل في نزاع مع وزير عمه طغرل بك أبي نصر الكندري الذي أراد أن يكون سليمان الأخ الأصغر غير الشقيق لألب أرسلان هو من يتقلد منصب السلطان لكي يتحكم من خلاله في الدولة الأمر الذي جعل ألب أرسلان يسرع في السير من خراسان إلى عاصمة السلاجقة الري والتي تقع جنوب شرق طهران العاصمة الإيرانية الحالية للسيطرة عليها ويجبر الوزير الكندري وأخيه الصغير سليمان على مبايعته سلطانا للسلاجقة وماكاد أن ينتهي من هذا الأمر حتي ظهر ثائر جديد من السلاجقة هو عمه شهاب الدولة قتلمش السلجوقي والذى خرج على طاعة ألب أرسلان معلنا نفسه سلطانا وهكذا إلتحم الفريقان في معركة قُرب الري تم الظفر فيها لألب أرسلان وإنتهى الأمر بمقتل قتلمش في شهر المحرم عام 456 هجرية الموافق شهر يناير عام 1064م وبعد ذلك إنشغل ألب أرسلان في القضاء على الفتن الداخلية التي قام بها بعض حكام الأقاليم فلقد خرج عليه حاكم إقليم كرمان بوسط الأناضول وغيره وعانى أيضا من غارات القبائل التركمانية التي تعيش على السلب والنهب وإستطاع أن يخمد هذه الفتنة أيضا وفضلا عن ذلك فقد أحبط ألب أرسلان أيضا محاولة من عمه بيجو للإستقلال بإقليم هراة عام 457 هجرية الموافق عام 1065م وبذلك فقد نجح في المحافظة على دولته وتوسيعها وكان قد ورث دولة واسعة الأرجاء تمتد من سهول تركستان إلى ضفاف نهر دجلة والتي حكمها بمساعدة وزيره نظام الملك وكان ألب أرسلان كعمه طغرل بك قائدا ماهرا مقداما وإتخذ سياسة خاصة تعتمد على تثبيت أركان حكمه في البلاد الخاضعة لنفوذ السلاجقة قبل التطلع إلى إخضاع أقاليم جديدة وضمها إلى دولته كما كان مشتاقا إلى الجهاد في سبيل الله ونشر دعوة الإسلام في داخل الأراضي التي تحكمها الدولة البيزنطية المجاورة له كبلاد الأرمن وبلاد الروم وكانت روح الجهاد الإسلامي هي المحركة لحركة الفتوحات التي قام بها ألب أرسلان وأكسبتها صبغة دينية ومن ثم فقد أصبح قائد السلاجقة زعيما للجهاد وحريصا على نصرة الإسلام ونشره في تلك الديار ورفْع راية الإسلام خفاقة على مناطق كثيرة من أراضي الدولة البيزنطية ولقد بقي سبع سنوات يتفقَّد أجزاء دولته المترامية الأطراف قبل أن يقوم بأي توسع خارجي .
وكانت سياسة السلطان ألب أرسلان ذات إستراتيجية واضحة المعالم وقد تمثلت هذه الإستراتيجية في ثلاثة محاور بارزة أولها إنهاء المشاكل السياسية مع الدولة العباسية صاحبة الشرعية الدينية والسياسية في العالم الإسلامي وثانيا نشر الثقافة المعرفية التي ترسخ من الوجود السلجوقي دينيا وثقافيا وثالثا تحويل فائض القوة العسكرية السلجوقية إلى الخارج وتوسيع رقعة الدولة ونشر الإسلام في الممالك والمناطق المتاخمة للدولة الإسلامية شمالا وغربا لاسيما بلاد الأرمن والأناضول الأمر الذي أكسب السلاجقة وحروبهم صبغة وطابع الجهاد الديني وهذا ما يشير إليه إبن الأثير في تاريخه بذكر فتح ألب أرسلان مدينة آني وهي مدينة أرمينية تقع قرب الحدود التركية الأرمينية حاليا وغيرها من البلاد النصرانية ويسرد أيضا مجموعة من المشاهد والقصص التي تدل على كون الجهاد السلجوقي كان إستراتيجية واضحة المعالم آنذاك ويقول إبن الأثير أيضا سار السلطان ألب أرسلان من العاصمة السلجوقية الرى إلى أذربيجان عازما على قتال الروم وغزوهم فلما كان بمرند وهي منطقة تقع في المنطقة المركزية في إيران حاليا أتاه أمير من أمراء التركمان كان يكثر غزو الروم إسمه طغدكين ومعه من عشيرته خلق كثير كانوا عازمين علي الجهاد وكانوا يعرفون تلك البلاد وحثوه على قصد بلادهم وضمنوا له سلوك الطريق المستقيم إليها فسلك بالعساكر في مضايق تلك الأرض وهذا الخبر يؤكد أن التوسع السلجوقي لم يتوقف عند أذربيجان وإنما طال منطقة آني وقرص وهما العاصمتان القديمتان لأرمينية والمركزان الأساسيان لقوة البيزنطيين ونفوذهم في الأقاليم الشمالية الشرقية من آسيا الصغرى والأناضول ولم تتوقف إستراتيجية السلاجقة على فتح مناطق الدولة الرومية البيزنطية في بلاد الأناضول وحسب وإنما إمتدت في أقصى الشرق في وسط آسيا ففي عام 457هجرية الموافق عام 1065م سار ألب أرسلان إلى مدينة جند والتي تقع في جمهورية كازاخستان حاليا معقل الأسرة السلجوقية كما أنها بينها وبين مدينة بخارى بدولة أوزبكستان حاليا مسافة قصيرة فإستقبله أميرها وهاداه ودان إليه حكمها وكانت هذه المدينة ذات أهمية خاصة عند السلاجقة قبيل قيام دولتهم لأن الجد الأكبر للسلاجقة كان قد تم دفنه بها .
وكان السلطان ألب أرسلان بعد أن إطمأن على إستتباب الأمن في جميع الأقاليم والبلدان الخاضعة له أخذ يخطط لتحقيق أهدافه البعيدة وهي فتح البلاد المسيحية المجاورة لدولته وإسقاط الخلافة الفاطمية الشيعية في مصر وتوحيد العالم الإسلامي تحت راية الخلافة العباسية السنية ونفوذ السلاجقة فأعد جيشا كبيرا إتجه به نحو ارمينية وجورجيا فإفتتحها وضمها إلى مملكته كما عمل على نشر الإسلام في تلك المناطق وأغار على شمال بلاد الشام وحاصر الدولة المرداسية في حلب والتي أسسها صالح بن مرداس على المذهب الشيعي في عام 414 هجرية الموافق عام 1023م وأجبر أميرها محمود بن صالح بن مرداس على إقامة الدعوة للخليفة العباسي بدلا من الخليفة الفاطمي في عام 462 هجرية الموافق عام 1070م وكان يستهدف من ذلك أن يتأكد من صحة طاعة المرداسيين في حلب للسلاجقة وذلك بتغيير سياستهم الدينية والثقافية في المدينة للمذهب السني لكن هذا الأمر لم يقبله محمود المرداسي فحاصر السلطان السلجوقي ألب أرسلان حلب وحين إشتد الحصار وعظُم الأمر على محمود المرداسي خرج ليلا ومعه والدته منيعة بنت وثاب النميري فدخلا على السلطان ألب أرسلان وقالت له والدته هذا ولدي فإفعل به ما تحب فتلقاهما بالجميل وأهدى المرداسي وأعاده إلى بلده فأنفذ إلى السلطان مالا جزيلا وبعد ذلك أرسل ألب أرسلان قائده التركي أتنسز بن أوق الخوارزمي في حملة إلى جنوب الشام فإنتزع بيت المقدس والرملة التي تقع علي بعد حوالي 38 كيلو متر شمال غرب القدس الشريف من يد الفاطميين لكنه لم يستطعِ الإستيلاء على مدينة عسقلان والتي تقع غربي القدس بحوالي 65 كيلو متر شمال شرق غزة علي مسافة حوالي 25 كيلو متر منها وكانت تعتبر بوابة الدخول إلى مصر وفي نفس العام المذكور 462 هجرية الموافق عام 1070م ورد رسول صاحب مكة محمد بن أبي هاشم إلى السلطان ألب أرسلان يخبره بإقامة الخطبة للخليفة العباسي القائم وله وإسقاط خطبة صاحب مصر الفاطمي وترك الأذان بحي على العمل فمنحه السلطان ألب أرسلان ثلاثين ألف دينار وقال له إذا فعل أمير المدينة كذلك أعطيناه عشرين ألف دينار ومن جانب آخر فقد تمكن السلطان ألب أرسلان من السيطرة على مناطق واسعة من بلاد الشام فضلا عن العراق وأذربيجان وأرمينية الكبرى وهذه الجهات كانت بمثابة الطوق الذي يحيط ويخنق الدولة البيزنطية الأمر الذي رآه الإمبراطور البيزنطي رومانوس الرابع تحديا كبيرا يجب مواجهته سريعا وهو ما نتج عنه المعركة الأشهر التي قادها ألب أرسلان ضد البيزنطيين وهي معركة ملاذكرد .
وقبل أن نتناول معركة ملاذكرد المشار إليها والتي كتب الله النصر فيها للسلاجقة المسلمين كانت لألب أرسلان جولة في بلاد الكرج وهي جمهورية جورجيا حاليا من أجل التوسعات في أملاك الدولة السلجوقية وتعود خلفية هذه الجولة قبل تولي ألب أرسلان الحكم في عام 1048م وعام 1049م حينما قام السلاجقة الأتراك بقيادة إبراهيم ينال بأول توغل لهم في منطقة الحدود البيزنطية في أيبيريا فطلب الإمبراطور البيزنطي قسطنطين التاسع المساعدة من الدوق الجورجي ليباريت الرابع من كلديكاري التي تقع بحنوب شرق جورجيا والذي كان قد ساعده البيزنطيون في صراعه ضد الملك الجورجي باجرات الرابع وقام السلاجقة بأسر ليباريت الذي كان يقاتل في الجانب البيزنطي في معركة كابترون والتي كانت معركة نشبت بين جيش السلاجقة الأتراك والجيش البيزنطي الجورجي في منتصف شهر سبتمبر عام 1048م وكانت هذه المعركة هي بداية فتوحات إبراهيم ينال وشهاب الدولة قتلمش إبن عم السلطان طغرل بك في الاناضول حيث تمكن السلاجقة من الحصول علي عدد كبير من الغنائم والأسرى كان من بينهم القائد الجورجي ليباريت الرابع دوق كلديكاري كما ذكرنا في السطور السابقة كما إعتبرت العديد من مصادر العصور الوسطى بأنها هزيمة بيزنطية وقد إستفاد باجرات من ذلك وإستحوذ على ممتلكاته وعلى الرغم من أن الإمبراطورية البيزنطية وجورجيا كانت لهما روابط ثقافية ودينية على مدى قرون عديدة وأن السلاجقة كانوا يشكلون تهديدا كبيرا للإمبراطورية نفسها إلا أن إعتداءات القسطنطينية على المشهد السياسي القوقازي ساهمت في خلق جو من عدم الثقة والإتهامات بين الشعبين المسيحيين مع التأكيد على أن الهيمنة الجورجية البجراتية في القوقاز هي حجر الزاوية في عهد باجرات ويمكن فهم سياسته على أنها محاولة للعب ضد السلاجقة والبيزنطيين ضد بعضهم البعض وقد تميز النصف الثاني من القرن الحادي عشر الميلادى بالغزو الإستراتيجي المهم من قبل السلاجقة الأتراك المسلمين الذين كانوا قد نجحوا بحلول نهاية الأربعينيات من القرن الحادى عشر الميلادى في بناء إمبراطورية شاسعة تضم معظم آسيا الوسطى وبلاد فارس وظهر السلاجقة لأول مرة في جورجيا في ستينيات القرن الحادى عشر الميلادى عندما دمر السلطان ألب أرسلان المقاطعات الجنوبية الغربية للمملكة الجورجية وقلص كاخيتي وعلى الرغم من أن الجورجيين كانوا قادرين على التعافي من غزو ألب أرسلان بمساعدة الحاكم البيزنطي ذو الأصل الجورجي جريجوري وقد دفع التوسع السلجوقي الحكومتين الجورجية والبيزنطية إلى السعي لتعاون أوثق ولتأمين التحالف تزوجت ماريا إبنة باجرات من الإمبراطور البيزنطي مايكل السابع دوكاس وكان إختيار أميرة جورجية غير مسبوق وكان ينظر إليه في جورجيا على أنه نجاح دبلوماسي من جانب باجرات وفي يوم 10 ديسمبر عام 1068م إستاء السلطان السلجوقي ألب أرسلان من تصرف آخر ملوك القوقاز لعدم الخضوع للسلاجقة بعد برفقة ملوك إقليمي لوري وكاخيتي بجورجيا وكذلك أمير تبليسي فزحف ضد باجرات وغزا مقاطعات كارتلي وأرجفيتي في جورجيا أيضا وغنم منهما غنائم ضخمة .
ولننتقل الآن إلي معركة ملاذكرد الشهيرة والتي دارت بين الإمبراطورية البيزنطية والسلاجقة المسلمين في يوم 26 أغسطس عام 1071م بالقرب من مدينة ملاذكرد والتي تقع في محافظة موش بشرقي تركيا حاليا وكان النصر فيها من نصيب السلاجقة المسلمين وكانت للهزيمة الساحقة التي لحقت بالجيش البيزنطي وأَسر الإمبراطور البيزنطي رومانوس الرابع ديوجينيس دورا مهما في إضعاف وضعضعة الحكم البيزنطي في إقليم الأناضول وأرمينية ومن ثم تمكن السلاجقة من مد نفوذهم في إتجاه إقليم الأناضول وبالعودة إلي الوراء قليلا سنتعرف علي الخلفيات التي أدت إلي هذه المعركة ففي عام 1068م تولى الإمبراطور رومانوس الرابع العرش البيزنطي ووضع بعض الإصلاحات العسكرية السريعة وعهد إلى مانويل كومنينوس بقيادة حملة ضد السلاجقة وإستطاع أن يستولى فيها على أجزاء من سوريا ثم أحبط هجوما سلجوقيا على مدينة قونية بوسط الأناضول بهجوم مضاد لكنه تعرض للهزيمة بعد ذلك علي يد السلطان السلجوقي ألب أرسلان والذى على الرغم من نجاحه في صد الإعتداءات البيزنطية إلا أنه سعي إلى إبرام معاهدة سلام مع البيزنطيين والتي تم توقيعها بالفعل في عام 1069م وبعد حوالي عامين وفي شهر فبراير عام 1071م أرسل الإمبراطور رومانوس مبعوثين إلى السلطان ألب أرسلان لتجديد المعاهدة المشار إليها في السطور السابقة وحرصا على تأمين جناحه الشمالي ضد الإعتداءات البيزنطية وافق ألب أرسلان وبعد تخليه عن حصار مدينة الرها التي تقع في الجزيرة الفراتية بعث إبنه ملكشاه على رأس قوة من جيشه لإسترداد حلب التي كانت خاضعة لسيطرة الفاطميين الذين كانوا يحكمون مصر آنذاك ومن ثم يمكنه تأمين الحدود الشمالية لبلاد الشام ونجح هذا الجيش في مهمته وإستولى بالفعل على حلب وأصبحت تابعة للسلاجقة وفضلا عن ذلك فقد ضم القدس الشريف أيضا وأجزاء من بلاد الشام ومع تزايد قوة ونفوذ السلاجقة قرر الإمبراطور البيزنطي رومانوس نقض المعاهدة بينه وبين السلاجقة وإعتبرها إلهاءا متعمدا وغلا ليده وقاد جيشا كبيرا إلى أرمينية لإستعادة القلاع المفقودة منه قبل أن يتمكن السلاجقة من الرد عليهم وكان هذا الجيش قوامه مائتي ألف مقاتل مدججين بالسلاح والعتاد وكان يضم العديد من القوميات حيث كان يضم قوات من الروم والروس والكرج والأرمن والخزر والفرنجة والبلغاريين كما كان يضم أيضا البابا وعدد كبير من البطاركة وتحرك بهم من القسطنطينية عاصمة دولته وإتجه إلى ملاذكرد حيث يعسكر الجيش السلجوقي وأدرك السلطان ألب أرسلان حرج موقفه حيث كان أمامه جيش بالغ الضخامة كثير السلاح والعتاد في حين أن قواته لا يتجاوز عددها عشرين ألفا فبادر بالهجوم على مقدمة جيش الروم ونجح في تحقيق نصر سريع خاطف منحه فرصة التفاوض العادل مع الإمبراطور البيزنطي رومانوس الرابع لأنه كان يدرك صعوبة أن يدخل معركة ضد الجيش البيزنطي الضخم في حين أن عدد قواته كان صغيرا ولا قبل لها بمواجهة غير متكافئة وغير مضمونة العواقب مع البيزنطيين .
وأرسل السلطان ألب أرسلان للخليفة العباسي القائم بأمر الله يسأله العون والمدد فلم يجبه معللا له سوء الحال وقلة الجند حيث كانت الخلافة العباسية آنذاك في أسوأ أيامها من فقر وضعف وكانت دار الخلافة لا تضم سوى عدد ثلاثة آلاف جندي كانوا يخرجون في موكب الخليفة الذي لا سلطان له ولا صفة سوى الدعاء له في صلاة الجمعة وحاول ألب أرسلان أن يستثير حماسة المسلمين ويرسل الرسل للأقطار كلها فلم يجبه سوى القليل وأرسل أيضا السلطان ألب أرسلان إلى الإمبراطور البيزنطي رومانوس مبعوثا من قبله ليعرض عليه الصلح والهدنة فأساء الإمبراطور إستقبال المبعوث ورفض عرض السلطان ألب أرسلان وطالبه بكل صلف وغرور بأن يبلغه بأن الصلح لن يتم إلا في مدينة الري عاصمة السلاجقة في إشارة منه أنه سيحقق نصرا ساحقا علي السلاجقة وأنه سيدخل الرى ظافرا وفاتحا وأنه سيفرض شروطه علي السلطان ألب أرسلان حيث أن جيوشه الزاحفة ما جاءت إلا من أجل إبادة المسلمين وهدم مقدساتهم في فلسطين والحجاز ولما عاد المبعوث السلجوقي وأخبر ألب أرسلان برد فعل الإمبراطور البيزنطي أيقن السلطان أنه لا مفر من القتال بعد أن فشل الصلح والمهادنة في دفع شبح الحرب فعمد إلى جنوده يشعل في نفوسهم روح الجهاد وحب الشهادة في سبيل الله وأوقد في قلوبهم جذوة الصبر والثبات ووقف فقيه السلطان وإمامه الشيخ أبو نصر محمد بن عبد الملك البخارى خطيبا في وسط الجيش قائلا هذا يوم من أيام الله لا مكان فيه للفخر أو الغرور وليس لدين الله وحرمة دم المسلمين ومقدساتهم في كل الدنيا سوى سواعدكم وإيمانكم إياه ثم إلتفت إلي السلطان مخاطبا إياه ومقويا من عزمه إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان وأرجو أن يكون الله قد كتب بإسمك هذا الفتح فإلقهم يوم الجمعة بعد الزوال في الساعة التي يكون الخطباء فيها على المنابر فإنهم يدعون للمجاهدين بالنصر والدعاء مقرون بالإجابة وإستجاب أرسلان لنصيحة إمامه والتي تشرح بأقل العبارات أسباب الإنتصار المادية والمعنوية فالمجاهدون يحتاجون تماما للدعاء مثلما يحتاجون إلى السيف والرمح وفي يوم الجمعة 7 من شهر ذي القعدة عام 463 هجرية الموافق يوم 26 أغسطس عام 1071م صلى الإمام أبو نصر بالناس وبكى خشوعا وتأثرا وبكى السلطان فبكى الناس لبكائهما ودعا الإمام الله عز وجل طويلا ودعا السلطان ودعا الناس معه ومرغ السلطان وجهه في التراب تذللا بين يدى الله وإستغاث به ولبس لباسا أبيض اللون وتحنط وقال إن قتلت فهذا كفني ثم قال للجنود من أراد منكم أن يرجع فليرجع فإنه لا سلطان ها هنا إلا الله ثم إمتطى جواده وعقد ذنب فرسه بيديه وفعل الجنود مثله ونادى بأعلى صوته في أرض المعركة إنني أقاتل محتسبا صابرا فإن سلمت فنعمة من الله عز وجل وإن هزمت فإني لا أرجع أبدا فإن ساحة الحرب تغدو قبرى وأكملوا معركتكم تحت قيادة إبني ملكشاه .
وبهذا المشهد الرائع إستطاع السلطان ألب أرسلان بإذن الله أن يحول جنوده إلي أسود ضوارى علي إستعداد أن تفتك بمن يقابلها ووضع السلطان ألب أرسلان خطة بارعة للمعركة حيث قسم قواته ورص الرماة بين جبلين وتقدم بقواته ليستقبل طلائع الرومان البيزنطيين بينما تأخر باقي الجيش من القوميات الأخرى وكان عدد الجيش الرومي المتقدم 60 ألف مقاتل فتقهقر أرسلان وإنسحب إلى الممر بين الجبلين اللذين رص الرماة بينهما ثم خرج من الممر ونشر الجند خلفه وخصص فرقة من قواته لكي تصد المتقدمين من الروم وفرقة أخرى تتقدم وتلتف من جانب أحد الجبلين وتغلق الممر من الأمام وبهذا يغلق الممر تماما ويحاصر الروم في الممر من الأمام والخلف في كمين من أحكم الكمائن في تاريخ الحروب وبالفعل دخلت القوات البيزنطية الممر فإنتظر السلطان حتى إمتلأ بهم الممر وفي اللحظة المناسبة أشار للرماة فإنهالت السهام علي الروم كالمطر وقال احد المؤرخين في هذا المشهد إن الرماة كانوا رماة إستثنائيين وفوق العادة فقد أبادوا ستين ألفا من المحاربين الروم في ظرف ساعتين لدرجة أن فرقتين حاولوا الصعود على جانبي الممر لإجلائهم ولكن السهام ثبتتهم وإخترقت أجسادهم فغطت جثثهم الممر ومن حاول الخروج من فتحتي الممر كانت الفرقتان اللتين خصصهما ألب أرسلان لغلق الممر من الأمام والخلف في إنتظارهم بسيوفهم يذبحونهم أحياء وعلم جنود الجيش البيزنطي من باقي القوميات أي من الروس والكرج والأرمن والخزر والفرنجة والبلغاريين بما أصاب الجيش الرومي فتقدمت قوات أرمينية وجورجيا وروسيا فإستقبلتهم فرقة المقدمة السلجوقية فأبادتهم وإشتد الخلاف بين قادة الجيش من القوميات المختلفة المذكورة في السطور السابقة وتبادلوا الإتهامات عمن يكون المسؤول عن ما حاق بهم من هزيمة وإنكسار وحدث خلل جسيم في صفوفهم فإنسحبوا من ساحة المعركة منهزمين ورجعوا إلي بلادهم يجرون أذيال الخيبة وتركوا الروم البيزنطيين بمفردهم فإنقضّ عليهم السلطان ألب أرسلان بقواته فقضيَ عليهم وأبادهم عن بكرة أبيهم وبذلك تحقق النصر لجند الإسلام وإنقشع غبار المعركة عن جثث الروم تملأ ساحة القتال وفضلا عن ذلك فقد تمكن الجنود المسلمون من أسر الإمبراطور البيزنطي رومانوس الرابع والذى تم حمله لكي يمثل أمام السلطان المسلم ألب أرسلان الذى لم يتصور أن الرجل الملطخ بالدماء والمغطى بالتراب الماثل أمامه هو إمبراطور الرومان الجبار المتغطرس وبعد التأكد من هويته وضع ألب أرسلان حذائه على رقبته وأجبره على تقبيل الأرض كما ورد أن محادثة شهيرة حدثت بينهما حيث سأل السلطان ألب أرسلان الإمبراطور البيزنطي ماذا ستفعل لو أني قدمت أمامك كسجين فرد رومانوس قائلا ربما كنت أقتلك أو أعرضك في شوارع عاصمتي القسطنطينية فرد عليه السلطان ألب أرسلان قائلا إن عقابي أثقل بكثير سأُسامحك وأطلق سراحك وعامل السلطان ألب أرسلان رومانوس بلطف كبير وعرض عليه مرة أخرى شروط السلام التي كان قد عرضها عليه قبل المعركة وتكلم رومانوس ملقيا اللوم على أمير حلب محمود المرداسي على الأراضي البيزنطية وأوضح أنها كانت هي السبب الرئيسي لتدخلاته في الأراضي الإسلامية والتي أدت في النهاية إلى معركة ملاذكرد .
وظل رومانوس أسير السلطان الب أرسلان لمدة أسبوع وخلال هذا الوقت سمح السلطان ألب أرسلان لرومانوس بتناول الطعام على مائدته بينما تم الإتفاق على التنازلات وكان منها إستسلام مناطق أنطاكية وإديسا وهيرابوليس وملاذكرد بإقليم الأناضول وكان هذا من شأنه أن يترك الجوهر الحيوي للأناضول كما هو ودفع 10 ملايين قطعة ذهبية كفدية مقابل فك آسر رومانوس لكن السلطان خفضها بطلب مبلغ 1.5 مليون قطعة ذهبية كدفعة أولية يليها مبلغ سنوي قدره 360 ألف قطعة ذهبية وبالإضافة إلى ذلك تم إعداد تحالف زواج بين إبن ألب أرسلان وإبنة رومانوس ثم قدم السلطان لرومانوس العديد من الهدايا وخصص له سرادقا كبيرا وأعطاه قدرا كبيرا من المال لينفق منه في سفره ورافقه أميران سلجوقيان ومائة مملوك كما أفرج السلطان السلجوقي ألب أرسلان عن عدد من ضباطه ليقوموا بخدمته وهو في طريقه إلى القسطنطينية عاصمته ولم تكد تصل أخباره إلى القسطنطينية حتى أزال رعاياه إسمه من سجلات الملك وقالوا عنه إنه قد سقط من عداد الملوك ووقع إختيارهم علي ميخائيل السابع إمبراطورا وعند وصول رومانوس إلي القسطنطينية ألقى القبض عليه وعلى الرغم من محاولات حشد القوات الموالية له فقد هزم ثلاث مرات في معركة ضد عائلة دوكاس وعزل وأعميت عيناه ونفي إلى جزيرة بروتي وتوفي بعد فترة وجيزة نتيجة جروح خطيرة ناجمة عن إصابته بالعمى وعلي ذلك فقد كانت غزوة رومانوس الأخيرة في قلب الأناضول في ملاذكرد والتي عمل رومانوس بجد للدفاع عنها إهانة علنية وأسوأ خاتمة لمسيرته وكان من نتائج إنتصار السلجوقيين في معركة ملاذكرد أن تغيرت صورة الحياة والحضارة في منطقة الأناضول فإصطبغت بالصبغة الإسلامية بعد إنحسار النفوذ البيزنطي تدريجيا عنها ودخول غالبية سكانها في الإسلام وإلتزامهم به في حياتهم وسلوكهم وقد واصل الأتراك السلاجقة غزوهم لمناطق أخرى بعد معركة ملاذكرد حتى توغلوا في قلب آسيا الصغرى ففتحوا قونية وآق بوسط الأناضول ووصلوا إلى كوتاهية بغرب الأناضول وتم ضم 400 ألف كيلو متر إلي ديار المسلمين ومن ثم تدفقت جموع من الأتراك السلاجقة فدخلت إقليم آسيا الصغرى وإستقرت في شرقها وأنشأت فيها سلطنة سلجوقية عرفت بإسم سلطنة سلاجقة الروم وقد ظل حكام هذه الدولة يتناوبون الحكم أكثر من قرنين من الزمان بعد إنتصار السلاجقة في ملاذكرد وأصبحت هذه المنطقة جزءا من بلاد المسلمين إلى يومنا هذا وعلاوة علي ما سبق كان أيضا من ثمار دخول هذه المنطقة في حوزة السلاجقة إنتشار اللغتين العربية والفارسية وهو ما كان له أثره في مظاهر الحضارة منذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا وبالإضافة إلي ذلك كانت هزيمة الروم في موقعة ملاذكرد قد جعلتهم ينصرفون عن مناطق شرق الأناضول ثم عجزوا فيما بعد عن الإحتفاظ بباقي هذا الإقليم أمام غزوات المسلمين الأتراك من السلاجقة ومن بعدهم العثمانيين وقد توالت هذه الغزوات في القرون الثلاثة التالية لموقعة ملاذكرد وانتهت بالإستيلاء علي جميع الممالك البيزنطية في الأناضول وبالإطاحة بالدولة البيزنطية وإسقاطها والإستيلاء على لقسطنطينية عاصمتها وإتخاذها عاصمة للدولة العثمانية وتسميتها بإسلامبول أو إسطنبول علي يد السلطان العثماني محمد الفاتح عام 1453م .
ولم يهنأ السلطان ألب أرسلان كثيرا بما حققه من إنتصار ساحق علي البيزنطيين في ملاذكرد ولم يجن ثمار نصره ويواصل فتوحاته فقد قتل بعد عام تقريبا من موقعة ملاذكرد أي في عام 1072م عندما سار في مائتي ألف مقاتل يريد غزو بلاد ما وراء النهر وحدث أنه غضب على رجل من أتباعه يقال له يوسف الخوارزمي كان قد أتي بأشياء أثارت حفيظة السلطان عليه فأوقف بين يديه فشرع يعاتبه في تلك الأشياء التي صدرت منه ثم أمر أن يضرب له أربعة أوتاد ويصلب بينها فقال للسلطان يا مخنث أمثلي يقتل هكذا فغضب السلطان غضبا شديدا من هذا القول وأمر بإرساله وأخذ القوس فرماه بسهم فأخطأه فأقبل يوسف مسرعا نحو السلطان فنهض السلطان عن سرير ملكه ونزل عنه فتعثر ووقع فأدركه يوسف فطعنه بخنجر كان في يده في خاصرته وأدركه بعض الجند فقتلوه وقد جرح السلطان جرحا خطيرا توفي بسببه بتاريخ 10 ربيع الأول عام 465 هجرية الموافق يوم 29 نوفمبر عام 1072م عن عمر يناهز 43 عاما ودفن في مدينة مرو بجوار قبر أبيه وكان السلطان ألب أرسلان بعد أن شعر بدنو أجله علي إثر الجرح الذى أصابه قد أمر القواد بمبايعة إبنه ملكشاه وعين وزيره نظام الملك وصيا عليه وطلب منهم إحترامهما وطاعة أوامرهما وعلي ذلك فبوفاة السلطان السلجوقي ألب أرسلان خلفه إبنه ملكشاه ليصبح ثالث سلاطين الدولة السلجوقية ولما بلغ موته أهل بغداد أقام الناس له العزاء وأغلقت الأسواق والدكاكين وأظهر الخليفة العباسي الجزع عليه وتسلبت إبنته الخاتون زوجة الخليفة ثيابها وجلست على التراب وجاءت الكتب من السلطان الجديد ملكشاه في شهر رجب عام 465 هجرية إلى الخليفة العباسي يتأسف فيها على والده ويسأله أن تقام له الخطبة وإستجاب الخليفة له ومما يذكر في حق السلطان ملكشاه إين السلطان ألب أرسلان أنه كان من أفضل السلاطين سيرة وأن القوافل كانت تعبر من أقصى بلاد المشرق إلى بلاد الشام في عهده آمنة مطمئنة دون التعرض إلى أى هجوم أو أذى وعلاوة علي ذلك فقد عمل علي إستكمال ما بدأه أبوه من الفتوحات وبسط نفوذ دولة السلاجقة حتى تشمل جميع أنحاء العالم الإسلامي فولَّى وجهه أولا شطر بلاد الشام وإستطاع أن يضم إلى دولته معظم تلك البلاد كما قام بإرسال جيشا للإستيلاء على مصر والتي كان يحكمها الفاطميون آنذاك فتوغل في أراضيها حتى بلغ القاهرة وحاصرها غير أنه فشل في فتحها نظرا لإستماتة الفاطميين في الدفاع عنها فإرتد عائدا إلى الشام ولم يفكر في غزو مصر مرة أخرى وحرص على تأمين بلاد الشام فأسند حكمها إلى أخيه تاج الدين تتش في عام 470 هجرية الموافق عام 1077م وفوضه فتح ما يستطيع فتحه من البلاد المجاورة وضمها إلى سلطان السلاجقة كما تمكن سليمان شقيق ملكشاه أيضا من فتح أنطاكية عام 477 هجرية الموافق عام 1084م والتي تعتبر من بلاد الشام لكنها كانت تحت حكم الروم ثم تهيأت الفرصة لملكشاه أن يخضع إقليم ما وراء النهر فإنتهزها على الفور وتجاوزه إلى إقليم كاشغر حيث خضع له واليه وبذلك بلغ ملك السلاجقة أقصى إتساعه فشمل حدود الهند شرقا إلى البحر المتوسط غربا وضم تحت لوائه أيضا أقاليم ما وراء النهر وإيران وآسيا الصغرى والعراق والشام وبلغ من نفوذ الدولة وقوتها أن ظل قياصرة الروم يقدمون الجزية المفروضة عليهم بعد معركة ملاذكرد إلى ملكشاه كل عام دون تأخير أو تسويف .
ولا يفوتنا هنا أن نذكر أن سلالة السلاجقة تعد إحدى سلالات القبائل البدوية التي مرت بعدة مراحل في تاريخ تكوينها لدولة ومن قم فقد كانت تعرف تماما أهمية الوحدة وإزالة عناصر الخلاف والإعداد الجيد للنصر وكسب الحلفاء عبر المصاهرة وبناء المصالح وكل هذا يندرج ضمن الفكر العسكري للسلاجقة عموما الذي تأثر به السلطان ألب أرسلان فالمصادر التاريخية تخبرنا أنه منذ إستلامه للحكم بعد وفاة مؤسس الدولة عمه طغرل بك وهو يحاول توحيد البلاد التي خضعت للسلاجقة من قبل وكان العديد من الأمراء الصغار يريدون الإستقلال بمدنهم وما حولها مستغلين وفاة طغرل بك فما كان من السلطان ألب أرسلان بعد توليه الحكم إلا أن أجبر الجميع على الإنصياع له وقام بتسوية الخلافات العائلية وحالات التمرد والعصيان من خلال أسلوب المهادنة والمحاربة والعفو لكي يجذب هؤلاء إلى طاعته وعن السمات والصفات الشخصية للسلطان ألب أرسلان قيقول إبن الأثير في كتابه الكامل في التاريخ عن أخلاق السلطان ألب أرسلان إنه كان عادلا يسير في الناس سيرة حسنة كريما رحيم القلب شفوقا على الرعية رفيقا بالفقراء بارا بأهله وأصحابه ومماليكه كثير الدعاء بدوام النعم وكان يكثر الصدقة فيتصدق في كل رمضان بخمسة عشر ألف دينار كما أنه كان حريصا على إقامة العدل في رعاياه وحفظ أموالهم وأعراضهم ويقول أيضا إبن الأثير في كتابه البداية والنهاية إن أرسلان كان يقول ما كنت قط في وجه قصدته ولا عدوا أردته إلا توكلت على الله في أمرى وطلبت منه نصرى كما جاء في رواية أخرى قوله أنا ملك الدنيا وما يقدر أحد علي فعجزني الله تعالى بأضعف خلقه وأنا أستغفر الله وأستقيله من ذلك الخاطر وعلى القادة والحكام أن يستشعروا نعم الله عليهم ويتذكروا فضله وإحسانه وينسبوا الفضل لله تعالى صاحب المن والعطاء والإحسان والإكرام وقال أيضا عنه الذهبي في العبر إنه كان أول من قيل له السلطان على منابر بغداد وكان في دولته من أعدل الناس ومن أحسنهم سيرة وأرغبهم في الجهاد وفي نصر الإسلام ومما يذكر عن ألب أرسلان أنه كتب إليه بعض السعاة في شأن وزيره نظام الملك فإستدعاه وأعطاه الرسالة ثم قال له إن كان هذا صحيحا فهذب أخلاقك وأصلح أحوالك وإن كذبوا فإغفر لهم زلتهم وفضلا عن ذلك فقد كان شديد الحرص على حفظ مال الرعية وقد بلغه يوما أن أحد مماليكه قد أخذ إزارا لأحد الناس ظلما فأمر بصلبه فإرتدع باقي المماليك عن الظلم وقيل عنه انه كان كثيرا ما تقرأ عليه تواريخ الملوك وآدابهم وأحكام الشريعة الإسلامية ولما إشتهر بين الملوك بحسن سيرته ومحافظته على عهوده أذعنوا له بالطاعة وحضروا عنده من أقاصي ما وراء النهر إلى أقاصي الشام يعلتون تبعيتهم له ويذكر أنه عبر أعالي نهر الفرات شرق الأناضول فاتحا لمناطقه ومسيطرا على تلك الأراضي فقال له أحد كبار الفقهاء يا مولانا إحمد الله تعالى على ما أنعم به عليك فقال وما هذه النعمة فقال هذا النهر لم يقطعه قط تركي إلا مملوك وأنتم اليوم قد قطعتموه ملوكا قال فمن وقته أرسل لإحضار جماعة من الأمراء والملوك وأمر ذلك الفقيه بإعادة الحديث فأعاده فحمد الله هو وجماعة من حضر عنده حمدا كثيرا على كون الأتراك قد إنتقلوا من المملوكية إلى الملوكية .
ومن جانب آخر فقد شجع ألب أرسلان الآداب والعلوم في زمانه وقد ظهر في عهده العديد من الشخصيات الشهيرة مثل الشاعر والفلكي عمر الخيام كما قام بإنشاء المجامع العلمية في بغداد وأشهرها المدرسة النظامية في عام 1067م التي تخرج منها عماد الدين الأصفهاني وبهاء الدين شداد اللذان خدما السلطان صلاح الدين الأيوبي والسعدى الشاعر الفارسي مؤلف بستان السعدى كما درس بها شيخ الشافعية أبو إسحاق الشيرازى وعبد الله بن تومرت مؤسس دولة الموحدين بالمغرب العربي وأبو حامد الغزالي رائد عصر الإصلاح الديني وعلي بن أبي طالب البلخي سفير السلطان ألب أرسلان والشاعر المعروف وكان الوزير نظام الملك من أكثر الشخصيات تأثيرا أيام السلطان ألب أرسلان ويذكر المؤرخون أنه قد صاحب السلطان في معظم حروبه وفتوحاته وقد ألف نظام الملك كتابا في فنون الحكم يعرف بإسم سياسات نامه / سير الملوك تحدث فيه عن تنظيم الحكم وعن ضرورة قيام العدل وتنظيم أمور الدولة والإستقطاع وتنظيم الإدارة والجيش وتاريخ العلاقة بين السلطة المركزية في عصر السلاجقة ومن الناحية التاريخية لم يكن ألب أرسلان قد تحصل على تفويض بالسلطنة من الخليفة العباسي القائم بأمر الله ولم يرد أن ينال هذا التفويض بالقهر كما فعل عمه طغرل بك الذي تزوج إبنة الخليفة العباسي دون رضا من أبيها ومن ثم فبعد وفاة عمه أمر ألب أرسلان إبنة الخليفة بالعودة من الري إلى بغداد وبعث في خدمتها أميرا ورئيسا حيث إنتهج سياسة جديدة وهي سياسة المهادنة مع الخليفة العباسي والتحالف معه وإعلان إحترامه أمام الكافة فكان رد فعل الخليفة تجاه هذه السياسة الجديدة التي تتسم بالإحترام والتقدير أن أمر بمبايعة ألب أرسلان وقبوله سلطانا جديدا للسلاجقة ويقول إبن الجوزى في هذا الأمر وتقدم الخليفة إلى الخطباء بإقامة الدعوة للسلطان ألب أرسلان فقيل في الدعاء اللهم أصلح السلطان المعظّم عضد الدولة وتاج الملة أبا شجاع ألب أرسلان محمد بن داود وفي المقابل وافق السلطان ألب أرسلان ولبس الخلعة أو الملابس الخاصة التي كانت ترسلها الدولة العباسية للسلاطين والملوك في الدول التي كانت تقوم علي هامش دولة الخلافة العباسية وقام أيضا بمبايعة الخليفة العباسي وأخيرا فقد كان لشخصية السلطان ألب أرسلان السلجوقي العظيم وجود في الدراما التليفزيونية التركية تم إنتاجه في عام 2021م من إخراج سدات إنجي وسيناريو إيمره كونوك وإنتاج أكلي فيلم ويتناول هذا المسلسل تاريخ مسلسل نهضة السلاجقة العظمى وهيكل الدولة السلجوقية والأحداث السياسية وحروبها الكبرى وحياة السلطان ألب أرسلان .
|