بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا”
السلطان عبد المجيد الأول هو السلطان العثماني الحادى والثلاثين والثالث والعشرين من آل عثمان الذين جمعوا بين السلطنة والخلافة وخليفة المسلمين المسلمين الثالث بعد المائة وهو إبن السلطان محمود الثاني بن السلطان عبد الحميد الأول بن السلطان أحمد الثالث بن السلطان محمد الرابع بن السلطان إبراهيم الأول بن السلطان أحمد الأول بن السلطان محمد الثالث بن السلطان مراد الثالث بن السلطان سليم الثاني بن السلطان سليمان القانوني بن السلطان سليم الأول بن السلطان بايزيد الثاني بن السلطان محمد الفاتح بن السلطان مراد الثاني بن السلطان محمد الأول بن السلطان بايزيد الأول بن السلطان مراد الأول بن السلطان أورخان غازي بن السلطان عثمان بن أرطغرل مؤسس الدولة العثمانية وقد تولى السلطنة في يو م 1 يوليو عام 1839م وله من العمر 16 عاما وثلاثة أشهر بعد وفاة والده السلطان محمود الثاني وقد تمكنت الدولة العثمانية في عهده من الإنتصار في حرب القرم ضد مملكة روسيا وهي الحرب التي نشبت في يوم 4 أكتوبر عام 1853م وإستمرت حتى عام 1856م ودخلت فيها مصر وتونس وبريطانيا وفرنسا إلى جانب الدولة العثمانية كما تم في عهده إستعادة سوريا العثمانية أو ما يعرف ببلاد الشام من يد والي مصر آنذاك محمد علي باشا والتي كان قد ضمها إليه بموجب صلح كوتاهية الذى تم توقيعه في يوم 4 مايو عام 1833م بين محمد علي باشا والدولة العثمانية تحت رعاية الدول الأوروبية والتي كان علي رأسها مملكة روسيا والتي كانت تساند الدولة العثمانية خوفا من زيادة قوة وسلطان محمد علي باشا والذى عين إبنه القائد العسكرى الفذ إبراهيم باشا حاكما عاما لبلاد الشام بناءا علي الإتفاقية المشار إليها وعلاوة علي ذلك فقد أدخل السلطان عبد المجيد الأول إصلاحات عديدة في القوانين العثمانية وقوى سلطة الحكومة المركزية مقابل إنحلال الولاة السابق مقتديا وسائرا علي نهج أسلافه بداية من السلطان العثماني الثامن والعشرين سليم الثالث الإصلاحي الذى تولي الحكم عام 1789م وحتي عام 1807م كما كان السلطان عبد المجيد الأول هو من شيد قصر ضولمة بهجة بمنطقة بشكطاش بإسطنبول على الساحل الأوروبي من مضيق البوسفور وإتخذه مقرا لحكمه وأصبح منذ تشييده في عام 1856م حتى عام 1922م بمثابة المركز الإداري الرئيسي للإمبراطورية العثمانية كما كان من أهم أعماله أيضا قيامه بترميم المسجد النبوى الشريف في المدينة المنورة .
وكان ميلاد السلطان عبد المجيد الأول في قصر الباب العالي يوم 25 أبريل عام 1822م وكان أكبر أولاد أبيه السلطان محمود الثاني وتلقى تعليمه في القصر السلطاني مثل معظم الأمراء في ذلك الوقت وكان تعليمه أوروبيا راقيا واجاد اللغة الفرنسية إجادة تامة ويعد أول سلطان عثماني يجيد هذه اللغة وعلاوة علي ذلك فقد كان السلطان عبد المجيد الأول مهتما بالأدب والموسيقى الكلاسيكية ولذلك فقد توقع معلموه أنه سيسير علي درب أبيه وأسلافه في تبني حركة إصلاح وإتجاه نحو الحداثة الغربية إذا ما تولي السلطنة وشاءت له الأقدار أن يتولى السلطنة وهو في سن صغيرة بعد وفاة والده السلطان محمود الثاني في يوم 1 يوليو عام 1839م كما ذكرنا في السطور السابقة حيث كان هو الإبن الأكبر لأبيه ولم يكن له إخوة ذكور سوى أخ واحد فقط كان يصغره وهو عبد العزيز والذى تولي السلطنة بعد ذلك بعد وفاة أخيه الأكبر في عام 1861م وكانت أحوال الدولة العثمانية آنذاك في غاية الإضطراب وذلك بعد إنتصار جيوش محمد علي باشا والي مصر آنذاك والتي كان يقودها إبنه القائد الشهير إبراهيم باشا في معركة نصيبين بحوض نهر الفرات أقصي شمالي سوريا والواقعة قرب عينتاب بجنوب تركيا حاليا وتهديدها للعاصمة العثمانية إسطنبول والتي أصبحت علي وشك السقوط في أيدى الجيوش المصرية يوم 15 يونيو عام 1839م وكاد إبراهيم باشا أن يصل إلى إسطنبول بعد أن سحق الجيش العثماني بعبقريته العسكرية والذى مني بهزيمة فادحة وكاد أن يفني عن آخره وتم أسر حوالي 15 ألف جندى منه كما غنم الجيش المصرى كمية كبيرة من الأسلحة والمؤن وذلك علاوة علي إنضمام الأسطول العثماني بقيادة أحمد باشا إلى محمد علي باشا ورسوه في ميناء الإسكندرية وذلك نطرا لإعتقاده أن محمد على باشا أحق وأجدر بالدفاع عن الدولة العثمانية ومن ثم كانت أولى أعمال السلطان توجيه الصدارة العظمى إلى خسرو باشا والذى كان يشغل منصب والي مصر في السابق والذى كان علي خلاف كبير مع قائد الأسطول العثماني أحمد باشا وقد أدت هذه الأحداث المتلاحقة إلى إثارة مخاوف الدول الأوروبية من عودة القوة للدولة العثمانية إذا تولى أمرها رجل قوى وطموح مثل محمد على باشا والذى كان يمكنه حينذاك أن تتقدم جيوشه وتحتل إسطنبول كما تخوفت الدول الأوروبية وعلي رأسها إنجلترا وفرنسا من تدخل روسيا في شؤون الدولة العثمانية ولذا فقد قامت تلك الدول بالتدخل السريع وقامت بممارسة ضغوطها علي محمد على باشا وإتفقت مع الباب العالي على ضرورة عودة محمد علي باشا إلى حدود مصر مع إحتفاظه بالقسم الجنوبي من بلاد الشام عدا عكا طوال حياته ثم عادت وألغت هذا الإحتفاظ نتيجة رفض محمد علي باشا الإنسحاب سلما من الولايات السورية العثمانية كما إستقرت فرق من جيوش دول النمسا وروسيا وإنجلترا في العاصمة العثمانية إسطنبول لحمايتها في حال هجوم جيش القائد إبراهيم باشا عليها .
وفي يوم 15 يوليو عام 1840م تم توقيع معاهدة لندن بعنوان إتفاقية إعادة السلام إلى بلاد الشام بين الدولة العثمانية وعدد أربع دول أوروبية هي الإمبراطورية الروسية وبروسيا والمملكة المتحدة والإمبراطورية النمساوية بهدف دعم الدولة العثمانية والحد من توسعات محمد علي باشا حاكم مصر على حساب أراضيها والتي كانت أيضا سببا في تقليص صلاحيات محمد علي باشا وكانت هذه الدول قد حصلت علي موافقة السلطان العثماني في يوم 28 يوليو عام 1839م بخصوص ضرورة إيجاد حل مشترك للمسألة المصرية مع الدولة العثمانية والدول الأوروبية غير أن الخلاف بين فرنسا وبريطانيا قد أعاق التوصل لإتفاق سريع وفي بداية شهر أغسطس عام 1840م بدأت ثورات وإنتفاضات ضد حكم إبراهيم باشا بن محمد علي باشا في الشام وحاصر الأسطول الإنجليزي الساحل السورى وفي يوم 14 أغسطس عام 1840م إنسحب المصريون نحو حصون الداخل ووجد إبراهيم باشا نفسه في موقف حرج بين جيوش الحلفاء التي نزلت البر وأهالي لبنان الذين ثاروا عليه وإستسلم الأمير بشير الشهابي حليف محمد علي باشا للحلفاء في صيدا التي إستولى عليها أمير البحر الإنجليزي نابيير كما إستولى على بيروت وعكا وصيدا ويافا ووجهت بريطانيا أسطولها في البحر المتوسط بغية قطع المواصلات البرية والبحرية بين مصر والشام مع ضرب الموانئ في كل منهما مع تحريض أهل الشام ضد الحكم المصرى بواسطة سفيرها في إسطنبول عاصمة الخلافة العثمانية وأخيرا إضطر إبراهيم باشا إلي الانسحاب من بلاد الشام في شهر نوفمبر عام 1840م وغادر القائد إبراهيم باشا العاصمة السورية دمشق مع ما كان باقيا معه من جنده في يوم 29 ديسمبر عام 1840م مرتدا إلى مصر عن طريق غزة وبعث شطرا منها عن طريق العقبة وعين السلطان عبد المجيد الأول سليمان باشا حاكما عسكريا للولايات السورية منعا للإنفلات الأمني والإقتتال الطائفي وهجمات البدو على الحضر كما تم إجبار محمد علي باشا على رد الأسطول العثماني الراسي في ميناء الإسكندرية وفي يوم 14 يناير عام 1841م أصدر السلطان العثماني فرمانا بتولية محمد علي باشا على مصر مع منح أكبر شحص من أسرته الحق في خلافته من بعده ثم يخلفه من يليه في السن وهكذا وفرض جزية علي مصر يتم دفعها للباب العالي قيمتها ربع إيرادات مصر مع تعيين لجنة مالية لإدارة الإقتصاد المصري كما تم تحديد سقف عدد الجيش المصري بثمانية عشر ألف جندي دون إمتيازات خاصة في اللباس أو الرتب التي يعين السلطان درجاتها العليا كما أقر الفرمان سلسلة قيود أخرى غير أن السلطان العثماني عاد ومنح محمد علي باشا في يوم 13 فبراير عام 1841م ولاية النوبة ودارفور وكردفان وسنار ببلاد السودان وفي يوم 19 أبريل عام 1841م أصدر فرمانا ثالثا بناءا على وساطة إنجلترا يخفف الشروط السابقة ومنها التنازل عن ربع الإيرادات مقابل خراج معلوم وبعد ذلك وبإتفاق الدول الأوروبية وموافقة السلطان العثماني أبرم في يوم 13 يوليو عام 1841م إتفاق المضائق أو إتفاق البوغازات والذي ينظم حركة الملاحة البحرية في بحر مرمرة والبوسفور وقد نص هذا الإتفاق على عدم السماح لأى مركب حربي غير عثماني بالمرور أو الإستقرار في هذه المنطقة وبالتالي ألغيت بنود معاهدة خوانكار آسكله سي والتي كانت قد وقعت بين الدولة العثمانية ومملكة روسيا في عام 1833م تحت الضغط المباشر للحرب المصرية العثمانية التي نشبت ما بين عام 1831م وعام 1833م والتي أعقبت الحرب الروسية التركية التي نشبت ما بين عام 1828م وعام 1929م والتي كانت تقضي بمنح روسيا حق الملاحة البحرية العسكرية في المنطقة .
وكان من الأحداث الهامة التي حدثت أيضا في عام 1840م إندلاع إقتتالات طائفية في جبل لبنان بعد تعدي طائفة الدروز على طائفة الموارنة المسيحيين في جبل لبنان والبقاع فأصدر السلطان العثماني عبد المجيد الأول نظاما خاصا عرف بإسم نظام القائم مقاميتين بالتفاهم مع دول الحلفاء لإدارة الجبل ولم يفلح النظام المذكور لا سيما في المناطق المختلطة مثل قضاء الشوف بجبل لبنان فتكررت المجازر والإقتتالات الدامية مرة أخرى عام 1845م فأرسل السلطان العثماني فرقا عسكرية قامت بإخضاع الجبل للحكم العسكرى وأدخل تعديلات على نظام القائم مقاميتين وإستحدث مجلس إدارة الجبل المكون من 12 عضوا ولكن في عام 1860م تكررت المجازر والإقتتالات للمرة الثالثة ووصلت حتى دمشق والجليل وعدة مناطق أخرى وقتل نتيجتها عدد 20 ألف مسيحي فقام السلطان العثماني عبد المجيد الأول بتعيين القائد العسكرى العثماني ورجل السياسة المحنك محمد فؤاد باشا حاكما على الشام مخولا بصلاحيات إستثنائية لرأب الصدع الذي حدث في المجتمع ولتفادي أى تدخل أوروبي وقد قاد محمد فؤاد باشا حملة إعتقالات بحق المتورطين بالمذابح ضد المسيحيين فأعدم رميا بالرصاص عدد 111 شخصا وشنق عدد 57 آخرين وحكم بالأشغال الشاقة على عدد 325 شخصا ونفى عدد 145 وكان بعض المحكوم عليهم من كبار موظفي الدولة في بلاد الشام كما قامت فرنسا بنشر قوة مؤلفة من عدد 6 آلاف جندي لحماية النظام كما تم الإتفاق على أن ترسل دول أخرى قوات إضافية حسب الحاجة وقد وصف التدخل الفرنسي واحدا من التدخلات الإنسانية الأولى في تاريخ العالم وبالرغم من إخماد العثمانيين للإضطرابات قبيل وصول هذه البعثة فقد تمركز فيلق مشاة فرنسي في سوريا من شهر أغسطس عام 1860م إلى شهر يوليو عام 1861م وقد وصف المؤرخون هذا التواجد العسكري بكونه إحدى أول قوات حفظ سلام في التاريخ كما أفضى بروتوكول القسطنطينية عام 1860م لإستحداث نظام سمي متصرفية جبل لبنان وهو نظام حكم أقرته الدولة العثمانية وعمل به من عام 1861م وحتى عام 1918م حتى نهاية الحرب العالمية الأولى في العام المذكور وإعلان الإنتداب الفرنسي علي لبنان وقد جعل هذا النظام جبل لبنان منفصلا من الناحية الإدارية عن باقي بلاد الشام تحت حكم متصرف أجنبي مسيحي عثماني غير تركي وغير لبناني تعينه الدولة العثمانية بموافقة الدول الأوروبية العظمى الست بريطانيا وفرنسا وبروسيا وروسيا والنمسا وإيطاليا وقد جاء هذا النظام في عهد التنظيمات الإدارية التي بدأها السلطان العثماني عبد المجيد الأول في محاولة لإنتشال الدولة العثمانية مما كانت تتخبط فيه من المشاكل الداخلية في ولاياتها المختلفة وقد أٌقر بعد الفتنة الطائفية الكبرى لعام 1860م وما نجم عنها من مذابح مؤلمة في جبل لبنان ودمشق وسهل البقاع وجبل عامل بين المسلمين والمسيحيين بصفة عامة والدروز والموارنة بصفة خاصة وكانت تلك الفتنة سببا إستغلته الدول الأوروبية كي تضغط على السلطان العثماني بشكل يحقق مصالحها الإقتصادية والأيديولوجية في الشرق العربي وقد تميز عهد المتصرفية بإنتشار الوعي والعلم والثقافة بين اللبنانيين وذلك لأسباب عديدة منها إنتشار المدارس في جميع القرى والبلدات والمدن وإفتتاح جامعتين كبيرتين ما تزالان من أقدم جامعات الشرق الأوسط وأعرقها ألا وهي الكلية السورية الإنجيلية التي أصبحت الجامعة الأميريكية في بيروت وجامعة القديس يوسف ويتميز كذلك عهد المتصرفية ببداية الهجرة اللبنانية إلى مصر ودول أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية والجنوبية وتكوين جاليات كبيرة في تلك البلاد حيث حقق عدد من المهاجرين نجاحا كبيرا لم يعرفه في وطنه الأم وقد ساهم كثير من هؤلاء المهاجرين بإحياء اللغة العربية والأدب العربي بعد جمود إستمر سنين طويلة وساهموا في إذكاء الروح القومية العربية والوعي السياسي لدى العرب سواء في لبنان أو في دول الجوار .
ومن جانب آخر فقد أحرزت الدولة العثمانية في عهد السلطان عبد المجيد الأول إصلاحات إدارية وتشريعية هامة حيث عمل على تقوية الحكومة المركزية أمام ظاهرة إنحلال الولاة وهنا يتبين لنا الفرق الكبير بالنسبة لسيطرة الدولة على ولاياتها بين أواخر القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر الميلاديين فمن حكم سطحي لا مركزي متموج إلى حكم مركزي متغلغل حتى أبسط الأمور وكنتيجة لهذه الإصلاحات تحولت الدولة إلى جهاز أقوى وأكثر كفاءة وكانت حين وفاته بوضع أفضل مما كانت عليه حين إستلمها بكل الأحوال فبعد أن إستعاد السلطان عبد المجيد الأول سوريا العثمانية عيّن محمد نجيب باشا ليطوف في الألوية والأقضية ويشرح حقيقة التنظيمات الخيرية فرفع الناس عرائض شكر للسلطان وبهذا الخصوص أصدر فرمانه الخاص بسوريا لضمان أمن الروح والمال بالنسبة للسكان ومما يذكر أن مصطلح التنظيمات الخيرية قد أطلق على عملية تحديث الدولة وتمدنها بمعني إعادة بناء الدولة القروسطية العثمانية الغير قادرة على مواكبة العصر بدولة التنظيمات التي تنظم علاقة الدولة بالمجتمع على أساس القانون وقد صدرت هذه التنظيمات بناءا على ضغط من الموظفين الحكوميين العثمانيين والتجار المحتكين بالسوق التجارية الخارجية وأعد الصدر الأعظم مصطفي رشيد باشا أول نصوصها وهو الفرمان الذى تم تسميته فرمان خط كلخانة الذي نص للمرة الأولى على توصيف مواطنين عثمانيين متساويين في الحقوق والواجبات مساواة تامة ودون تمييز بسبب الدين أو اللغة أو الجنس ومنح الجميع حرية العبادة وحماية أرواحهم وأملاكهم وعدم إنزال عقوبة بأحد إلا بعد محاكمته وإلغاء بيع الوظائف وتعديل السياسة الضريبية والتجنيدية والتنظيم الدقيق في جمع الضرائب المستحقة للدولة وقد وجد دعاة التنظيمات تطبيقها طريقا وحيدا لإيقاف تدهور الدولة وحماية وحدتها وإستقلالها .
وتعود قصة إصدار فرمان خط كلخانة إلي أنه بعد أن أنفق سلاطين الدولة العثمانية منذ مطلع القرن التاسع عشر الميلادى جهدهم في إصلاح الجيش المركزي للدولة إتجه السلطان العثماني عبد المجيد الأول لإدخال إصلاحات مالية وإدارية إلى جانب إصلاحات إجتماعية في حقوق المواطنين العثمانيين وكانت أولى هذه الخطوات الفرمان الذى أطلق عليه خط كلخانة ويتصف بكونه وثيقة حقوق أعلنها السلطان عبد المجيد الأول بعد نحو ثلاثة أشهر من توليه السلطة في يوم 3 نوفمبر عام 1839م وتولى إعداده وإذاعته في حفل رسمي الصدر الأعظم مصطفى رشيد باشا من الساحة القائمة أمام قصر كلخانة وكان الفرمان معنونا بإسم التنظيمات الخيرية وقد وجد بعض المؤرخين أن الإصلاحات التي قامت بها الدولة العثمانية كانت تحت ضغط الغرب وفي محاولة لإستمالته وبكل الأحوال فإن الرغبة في الإصلاح كانت واضحة لدى السلاطين من ناحية كونها حاجة أكثر من كونها إرضاء للغرب كما صرح عدد من المؤرخين إنه يستدل على ذلك من خلال تعيين الدولة لموظفين خاصين بالطواف على الولايات العثمانية في الأرياف والمدن على إختلافها لمقابلة السكان مباشرة وإفهامهم فحوى فرمان كلخانة والإصلاحات اللاحقة وهو ما قابله السكان بمنتهى الرضا والسرور وكانت أبرز الإصلاحات التي أدخلت إلى الدولة بموجب الفرمان المشار إليه منح مواطني الدولة العثمانية الأمان على النفس والأملاك والعرض وضمان الحرية الشخصية ومنع المصادرة والسخرة وكان الولاة أو الإقطاع في الريف يلزم السكان بأعمال دون أجر أو يصادر أجزاء من أملاكهم وحسب ما ذكر عبد العزيز عوض تمتع الرعايا بذلك بمن فيهم المسيحيون وأظهروا ما يملكون علنا بعد أن كانوا يضطرون لإخفاء ثرواتهم والتظاهر بالفقر نظرا لتعرضهم للمصادرة والسخرة أكثر من سواهم وعلي الرغم من أن هذه الفقرة لم تطبق بشكل كامل إلا أن وضعها ومحاسبة مخالفيها وتقوية الجهاز الإداري للدولة قد ساهم بشكل مباشر في إصلاح الدولة ورضا الأهالي وقد نص هذا الفرمان أيضا علي ضمان حق مواطني الدولة في المحاكمة قبل تنفيذ أي حكم قضائي وكان من عادة الولاة قتل أو نفي أو تسميم بعض مناوئيهم في السلطة دون محاكمة وهو ما إعتبر من شأنه تقوية لمؤسسة القضاء في وجه الولاة والحكام أو حتى الإقطاع المحلي في أرياف الدولة وعلاوة علي ذلك فقد نص الفرمان أيضا علي تحديد طريقة الجندية الإجبارية وتحديد سقفها بخمس سنوات على أن لا يضر تجنيد الشبان في إقتصاد مناطقهم أو مدنهم من ناحية الزراعة أو التجارة أو إنقراض النسل ولذلك أقر السلطان بإختيار الشباب نسبيا حسب عدد سكان المناطق وبخصوص رواتب الموظفين الحكوميين نص الفرمان علي زيادتها وفي المقابل قرر الفرمان تجريم الرشوة لأنها السبب الأعظم في خراب الملك ومن ثم أدخل السلطان آلية إصلاح إدارية جديدة لجباية الضرائب والشؤون المالية وضبط إنفاقها وهو ما أدى حسب عدد من المؤرخين إلى تطبيق العدالة في جباية الضرائب فجمعت بالتساوي ودون تفريق بين أبناء الرعية بعد أن كان يتهرب من أدائها المتنفذون وأصحاب القبليات ولما أصبحت الضرائب تجبى بالعدل زاد دخل الدولة المالي وأصبحت الأموال تصرف في الأمور النافعة كما أصبحت إيرادات الدولة للمرة الأولى تسجل في سجلات رسمية ولا تنفق إلا بعد إصدار فرمانات همايونية كما تم إستحداث مجلس تمت تسميته مجلس الأحكام العدلية كانت وظيفته إعداد مشاريع الفرمانات ليقوم السلطان بإصدارها بتوقيعه وبالتالي تم إعتبار هذا المجلس الشكل الأول لمجلس النواب العثماني كما عين السلطان العثماني أيضا مراسيم إذاعة الفرمانات من الحجرة الشريفة في قصر السلطنة وبحضور الصدر الأعظم والوزراء وعلماء المذاهب الأربعة وشيخ الإسلام مع وجوب إبلاغها لجميع الولاة وإداريي الدولة للعمل على تنفيذها كما تعهد السلطان بأن تكون موضع التنفيذ ومعاقبة مخالفي أحكامها .
وكانت وثيقة الحقوق الثانية التي لا تقل أهمية عن فرمان خط كلخانة والتي أصدرها السلطان عبد المجيد الأول هي الخط الهمايوني الصادر في يوم 18 فبراير عام 1856م وهو وثيقة أو مذكرة مكتوبة بخط اليد كتبت بواسطة السلطان العثماني شخصيا والذي صدر في أعقاب حرب القرم والتي سنتحدث عنها في السطور القادمة بإذن الله وكان محمد علي باشا قد أدخل مواده فعليا إلى مصر وسوريا قبل ذلك بنحو عقدين وقد ساهم الخط الهمايوني بصدور وثائق أخرى في الولايات العثمانية تحمل المغزى نفسه مثل عهد الأمان الصادر عام 1857م في تونس عن الباي محمد حاكم تونس آنذاك وأعاد فيه السلطان التأكيد على ما ورد في خط كلخانة من المساواة في الحقوق المدنية وقال بأن جميع المذاهب والطوائف ترتبط بالروابط القلبية المتساوية الماهية في نظر شخصنا الملوكية ومحافظا على الإمتيازات التقليدية لغير المسلمين وحرية ممارسة الشعائر الدينية في العلن وبناء الكنائس والمعابد والمؤسسات الدينية الأخرى أى المقابر والمدارس والمشافي والأديرة دون العودة إلى الباب العالي في المناطق المسيحية وبموافقة السلطان في حال التجديد أو إستحداث هذه الأبنية في المناطق المختلطة وضمن الخط الهمايوني المساواة في المعاملة بين جميع الطوائف ومنع إستعمال الألفاظ التي تحط من القيمة وأن تمحى وتزال إلى الأبد من المحررات الرسمية كافة التعبيرات والألفاظ المتضمنة تحقير جنس لآخر في اللسان أو الجنسية أو المذهب ويمنع قانونا إستعمال كل وصف أو تعريف يمس الشرف أو يستوجب العار بين الناس والمساواة بين رعايا السلطان في تولي الوظائف العامة والإستفادة من خدمات الدولة التعليمية وإنشاء محاكم للفصل في القضايا الجنائية المختلفة أما القضايا المختصة بالأحوال الشخصية فقد إستمرت إحالتها إلى المحاكم المختصة بكل مذهب كل على حدة ودعا السلطان في الخط الهمايوني لإصلاح السجون ومنع التعذيب أو أي تصرف معادي للإنسانية .
وبخلاف تنظيمات السلطان عبد المجيد الأول كان من الأعمال العمرانية التي تمت في عهده قيامه ببناء قصر ضولمة بهجة والذى إستمر بناؤه من عام 1843م وحتي عام 1856م ليكون مقر حكمه الجديد وقد إستخدم في بنائه الفنون الغربية الحديثة وأشرف فنانون ورسامون من إيطاليا وفرنسا في إتمام العمل وتمتد الواجهة الرئيسية لهذا القصر على مدى ستمائة متر على الساحل الأوروبى لمضيق البوسفور بضاحية بشكطاش وملأ السلطان القصر بتحف نفيسة متنوعة كعاج الفيلة واللوحات والمنحوتات الإيطالية والفرنسية بالإضافة إلى سجاد من فرو الدببة الرمادية الروسية كما أنه إستخدم عشرات الأطنان من الذهب لتزيينه ومنذ إنتهاء تشييد هذا القصر أصبح مقر حكم الخلافة العثمانية حتى نهايتها في عام 1922م ويعتبر هذا القصر حاليا من أهم المعالم الأثرية في إسطنبول وفي تركيا عموما كما قام السلطان عبد المجيد الأول بترميم المسجد النبوى الشريف بالمدينة المنورة وتوسعته بعدما علم بتصدع بناءه قفام بالبدء في أكبر عمارة وتوسعة للمسجد في العهد العثماني وذلك في عام 1265 هجرية الموافق عام 1849م وإنتهت في عام 1277 هجرية الموافق عام 1860م وكانت هذه العمارة من أضخم وأتقن وأجمل العمارات والتوسعات التي تمت للمسجد النبوي الشريف وقد بقي منها بعد العمارة السعودية الحديثة الجزء القبلي الجنوبي ويبدو هذا الجزء حتى الآن قويا متماسكا وقد غطي سقف المسجد كاملا بالقباب المكسوة بألواح الرصاص والتي بلغ عددها 170 قبة أعلاها القبة الخضراء ثم قبة المحراب العثماني ثم قبة باب السلام وباقي القباب على إرتفاع متقارب ولبعضها نوافذ مغطاة بالزجاج الملون وزينت بطون القباب بصور طبيعية ونقوش وكتابات قرآنية وشعرية كما كتبت في جدار المسجد القبلي الجنوبي سور من القرآن الكريم وأسماء النبي محمد صلي الله عليه وسلم وغير ذلك بخط الثلث العربي وذُهبت الحروف بالذهب وبنيت أبوابه بشكل فني وأبواب القسم الجنوبي والباقية حتى الآن وهي باب جبريل وباب الرحمة وباب السلام أما الأبواب الشمالية فقد هدمت وقد زاد السلطان عبد المجيد الأول بعد ذلك في المسجد الكتاتيب لتعليم القرآن الكريم والمستودعات في الجهة الشمالية كما زاد في الشرق نحو 2.6 مترا من المئذنة الرئيسية الجنوبية الشرقية إلى ما يلي باب جبريل وبلغت مساحة التوسعة الكلية 1293 مترا مربعا .
ومن الناحية الإقتصادية فقد أفضت حرب القرم إلى الإنهاك الإقتصادي للدولة العثمانية ففي عام 1854م عقدت الدولة أول قرض خارجي لها لتسديد النفقات العسكرية بقيمة 75 مليون فرنك فرنسي إستلمت منها 60 مليون وتم إحتساب الباقي كفوائد وفي عام 1855م أبرم القرض الثاني وكان مبلغه 125 مليون وخصص أيضا لتسديد النفقات العسكرية وهو ما إستمر في عهدى السلطانين عبد العزيز وعبد الحميد الثاني خليفتي السلطان عبد المجيد الأول وكانت النتيجة أن أعلنت الدولة العثمانية إفلاسها مرتين وكانت سياسة عقد القروض تعني في الواقع إنتقاص السيادة العثمانية وإضطرت لأول مرة في تاريخها لرهن ضرائبها الداخلية لضمان دفع قروضها لدول أوروبا المختلفة فخصصت جزية مصر السنوية ضمانا لقرض عام 1854م ومداخيل جمارك إزمير وسوريا ضمانا لقرض عام 1895م وكان لإتفاقية التجارة الحرة مع دول أوروبا آثار وخيمة على الصناعات العثمانية المحلية من خلال إعفائها من الجمارك وهو ما أدى لكونها أرخص وذات جودة أعلى من نظيرتها المحلية وهو ما أدى إلى ركود إقتصادي بداية من عام 1861م وبلغ عجز الميزانية 35 مليون فرنك عام 1859م وكان تدهور قيمة القرش العثماني قد بدأ من عهد السلطان محمود الثاني إذ فقد القرش 78% من قيمته خلال عهد السلطانين محمود الثاني ثم عبد المجيد الأول ويؤخذ على التنظيمات التي أنجزها السلطان العثماني عبد المجيد الأول والسابق الحديث عنها في السطور السابقة إجمالا إهمالها الشأن الإقتصادي بشكل عام عدا بعض الأمور البارزة كتأسيس السلطان للبنك العثماني ليؤدي دور مصرف مركزي للدولة عام 1856م والذي قام في عهده بإصدار أول عملة ورقية في تاريخ الدولة العثمانية ويعتبر أول من قام بتنظيم الميزانية العامة للدولة عن طريق التقيد بتسجيل إيرادات ومصروفات الدوائر المختلفة بقيود محاسبية وكان من النتائج الإقتصادية المتضمنة خط كلخانة أن تحسنت مالية الدولة عن طريق تعيين أشخاص لهم خبرة واسعة في الشؤون المالية وساهمت العدالة في جمع الضرائب بعد إلغاء طريقة التلزيم والتشدد في التحصيل الضريبي من جميع المكلفين بعد أن كان يهرب منه المتنفذون وأصحاب العصبيات في إزدياد دخل الدولة ومن ثم صرفه في مجالات نافعة لاسيّما مع تنظيم الميزانية وتسجيل الإيرادات والمصروفات في سجل رسمي وعدم صرف أي مبلغ دون إصدار فرمانات همايونية بذلك .
يمكنك متابعة الجزء الثانى من المقال عبر الرابط التالى
https://www.abou-alhool.com/arabic1/details.php?id=52218 |