بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا”
كانت أولي زيارات السلطان عبد العزيز إلي مصر في شهر أبريل عام 1863م في عهد الخديوي إسماعيل والذى كان قد تولي حكم مصر خلفا لعمه محمد سعيد باشا في شهر يناير من العام المذكور 1863م وسافر إلى إسطنبول شخصيا وعمل على نسج علاقات طيبة مع السلطان عبد العزيز وقدم له فروض الولاء والطاعة ووجه إليه الدعوة خلال هذه الزيارة لزيارة مصر وكان آخر سلطان عثماني قد زارها هو السلطان العثماني التاسع سليم الأول عام 1517م فوعده السلطان عبد العزيز بتحقيق طلبه وبالفعل غادر السلطان إسطنبول عن طريق البحر في يوم 3 أبريل عام 1863م على متن اليخت السلطاني فيض جهاد بعد أن أناب صدره الأعظم محمد أمين عالي باشا بإدارة شئون البلاد خلال غيابه وإصطحب معه محمد فؤاد باشا وإبنه يوسف عز الدين وشقيقه وولي عهده مراد الخامس وأخيه عبد الحميد الثاني ورست سفينة السلطان في ميناء الإسكندرية يوم 7 أبريل عام 1867م وإستقبله الخديوى إسماعيل على متن اليخت الملكي في ميناء الإسكندرية ثم إصطحبه بعد يومين أى في يوم 9 أبريل عام 1863م في رحلة بالقطار قاطعا دلتا النيل الخضراء حتى القاهرة وقد أعجبه جدا القطار كما أعجب بالمدن المصرية الغربية النسق ولما وصل إلي القاهرة أقام في قصر الجوهرة داخل أسوار قلعة الجبل والذى كان قد بناه محمد علي باشا وعموما فقد كانت مصر آنذاك تحوي من المؤسسات الزراعية والصناعية والمؤسسات التجارية ومن وسائل النقل بما فيها القطار والطرق المعبدة ما لم يكن موجودا في إسطنبول نفسها لذلك فقد كانت إحدى أهداف الزيارة محاولة الإقتباس من الإصلاح في مصر ومحاولة تطبيقه على سائر أنحاء الدولة وكان مما زاره السلطان عبد العزيز خلال زيارته لمصر مناطق شبرا والجيزة وقبر محمد علي باشا وأهرامات الجيزة وفي يوم 14 أبريل عام 1863م ترأس حفل محمل الحج إلى مكة المكرمة وختم الزيارة في يوم 16 أبريل عام 1863م وقد خلع على إسماعيل باشا سيف الشرف العثماني وعلى أمه خوشيار هانم قادين أكبر وسام عثماني فأصبح لقبها الوالدة باشا وكان لهذه الزيارة أثرها الكبير في أن قامت صداقة متينة بين السلطان عبد العزيز وإسماعيل باشا توجت بصدور مرسوم الخديوية المصرية عام 1867م وبعد ذلك وفي عام 1867م زار السلطان عبد العزيز مدن لندن وباريس وڤيينا وفي المقابل إستقبل في إسطنبول في عام 1869م الإمبراطورة أوچيني زوجة الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث وكذلك أمير ويلز إدوارد الذي سيصبح ملك إنجلترا لاحقا تحت إسم إدوارد السابع وأيضا فرانز چوزيف إمبراطور النمسا وعموما فقد كان السلطان عبد العزيز يهدف كما ذكرنا في السطور السابقة من وراء هذه الزيارات المتبادلة إلي الإطلاع على أفضل ما يمكن نقله إلى إسطنبول والدولة العثمانية بشكل عام .
وبخصوص مرسوم الخديوية المصرية المشار إليه في السطور السابقة فقد كانت الدولة العثمانية قد إعترفت إثر معاهدة لندن عام 1840م بمحمد علي باشا واليا على مصر وبأن تكون ولاية مصر محصورة في ورثته وذلك بموجب الفرمان السلطاني الصادر في العام المذكور من جانب السلطان العثماني عبد المجيد الأول وعادت بذلك مصر إلى تبعية الدولة العثمانية بعد محاولة محمد علي باشا الإستقلال بها وكان ضغط القوى الأوروبية كبيرا على محمد علي باشا الذي إضطر حينذاك أن يقبل بالتبعية الكاملة للعثمانيين وأداء الضريبة السنوية للباب العالي وتقليص عدد جنود الجيش المصري وتحديد تسليحه وإعتباره جزءا من الجيش العثماني وأيضا تحديد حجم الأسطول المصرى وتطبيق القوانين العثمانية في مصر كما تم بموجب الفرمان المشار إليه أيضا تقييد قدرة مصر على إجراء المباحثات الدبلوماسية منفردة ووضعت مراقبةً على سياستها المالية وفي الجملة كان الهدف هو الحد من قدرات محمد علي باشا ومنعه من التطور مستقبلا وفيما بعد وفي عهد عباس باشا الأول ومحمد سعيد باشا لم يلتزما بالكثير من هذه القيود خاصة فيما يتعلق بحجم وتسليح الجيش المصرى ولما تولي الخديوى إسماعيل الحكم وكنتيجة للعلاقة المتميزة بين السلطان عبد العزيز وبينه منذ أن زار إسطنبول عندما تولي حكم مصر في شهر يناير عام 1863م كما تقدم فقد صدر خلال عهد السلطان عبد العزيز ثلاثة فرمانات متعلقة بمصر أولها كان في عام 1866م حصرت خلالها وراثة البلاد في أكبر أولاد إسماعيل باشا والثاني كان في يوم 7 يوليو عام 1867م والذى منح به حاكم مصر لقب خديوي المشتق من اللغة الفارسية بمعنى أمير والذى لم يستعمل في الدولة العثمانية إلا لحاكم مصر كدلالة على رفعة موقعه وأخيرا كان الفرمان الشامل الذى صدر في يوم 10 يونيو عام 1873م والذى نظم مختلف نواحي الإمتيازات فأعاد التأكيد علي أن أكبر أولاد خديوي مصر هو من يرث العرش فإن لم يوجد فأكبر إخوته الذكور ثم أكبر أولاد إخوته ثم يعاد حصر المنصب من جديد في أكبر أولاد الخديوي الجديد وأعلن في الفرمان ذاته أيضا عن إمكانية تعيين مجلس وصاية أو وصي على الخديوى إن كان قاصرا وحدد سن البلوغ بثمانية عشر سنة هجرية كذلك فقد منحت مصر حكم سواكن ومصوع على البحر الأحمر في بلاد السودان ومنحت حكومتها حق إصدار القوانين واللوائح التنفيذية لها حسب حاجة البلاد وكذلك صلاحية سن الضرائب وتحديد الرسوم الجمركية وإحتكار بعض أوجه التجارة وعقد المعاهدات الداخلية والخارجية وسائر أوجه المعاملات المالية وفي مقابل ذلك نص الفرمان المشار إليه في السطور السابقة علي حصول الدولة العثمانية سنويا على 150 ألف كيس من الليرات الذهبية وبلا شك فقد جعلت هذه الفرمانات من مصر في الحقيقة دولةً مستقلة وأصبح عندها القدرة على التفوق والتقدم وكان هذا بطبيعة الحال علي غير هوى القوى الأوروبية الإستعمارية وخاصة بريطانيا وفرنسا وسيكون لذلك شأن كبير مع مصر فيما بعد وخاصةً مع الخديوي الطموح إسماعيل باشا ومما يذكر أيضا أنه في عام 1875م منحت مصر أيضا حكم زيلع والتي تقع في بلاد الصومال حاليا وتكريما للسلطان العثماني عبد العزيز أطلق الخديوى إسماعيل إسمه علي الشارع الجديد الذى تم شقه آنذاك بوسط مدينة القاهرة والواصل بين ميدانين من أكبر ميادين القاهرة وهما ميدان عابدين وميدان العتبة .
وغير مصر والتي كانت تتمتع على الدوام بنوع من الإستقلال الذاتي بسبب بعدها عن العاصمة العثمانية إسطنبول كان قد حدث في عام 1859م قرب أواخر عهد السلطان عبد المجيد الأول أن توحدت إمارتا الإفلاق والبغدان وهما بدولة رومانيا حاليا واللتان كانتا تحت الحكم العثماني في كيان واحد تحت زعامة الأمير الكسندر چون كوزا وكان هذا مخالفا لمعاهدة باريس الموقعة عام 1856م ومع ذلك ففي يوم 4 ديسمبر عام 1861م قبل السلطان عبد العزيز بعد أشهر قليلة من توليه السلطنة بهذه الوحدة وبعدها بأقل من ثلاثة أسابيع وفي يوم 23 ديسمبر عام 1861م تكونت حكومةٌ واحدة للإمارتين ثم اصبح لهما برلمانٌ واحد في يوم 4 يناير عام 1862م وأُطلِق إسم رومانيا على هذا الكيان الجديد وتم إعلان مدينة بوخارست عاصمة له وفي عام 1864م أصدر السلطان قرارا بفصل الكنيسة الرومانية عن كنيسة القسطنطينية وجدير بالذكر أنه ستكون هذه الوحدة وهذا الفصل للكنيسة الرومانية هما نواة تكوين دولة رومانيا لاحقا وبالتالي الإستقلال الكامل عن الدولة العثمانية وغني عن البيان أن الدولة العثمانية كانت تقدم هذه التنازلات تدريجيا لعدم قدرتها على السيطرة على الوضع فكان هذا شراءا لرضا الرومانيين لمنع تدخّل القوى الأوروببية في شؤونها على طريقة بيدي لا بيدِ عمرو ومن ناحية أخرى فمنذ أن إحتلت فرنسا الجزائر عام 1830م كانت تتوثب الفرصة لإحتلال تونس أيضا وفي سبيل ذلك إقترح الصدر الأعظم محمد أمين عالي باشا على السلطان عبد العزيز إصدار فرمان يقنن الحكم الذاتي لتونس ويضيف عليه إمتيازات أخرى بهدف تقوية عرى العلاقة معها وقطعا للطريق أمام فرنسا وصدر الفرمان فعلا في يوم 24 أكتوبر عام 1871م وكان من أبرز الإمتيازات التي تم منحها حصر ولاية العهد بورثة باي البلاد والسماح للباى بإستحداث المناصب والهيئات المدنية والعسكرية وفضها وإدارتها كما يراه مناسبا وإصدار القوانين والتشريعات في بلاده طبقا لقواعد العدل وإحتفظ السلطان العثماني لنفسه بالخطبة وسك العملة وببقاء الأعلام والسناجق والمراتب الحربية كما هي في سائر أنحاء الدولة فضلا عن إلزامية إرسال الجيش التونسي عند قيام أي حروب تكون الدولة العثمانية طرفا فيها وذلك للمشاركة في الدفاع عن الدولة إلي جانب مبلغ مالي يتم سداده سنويا للباب العالي في إسطنبول وعموما فإن بعد هذه الامتيازات بعشر سنوات وتحديدا في شهر مايو عام 1881م وفي عهد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني إحتلت فرنسا تونس وفي مجال السياسة الخارجية ففي عام 1870م هزمت روسيا والمانيا فرنسا وطالبت الإمبراطورية الروسية في أعقاب ذلك تعديل معاهدة باريس التي عقدت في أعقاب حرب القرم في عام 1856م بحيث تزال الشروط التي إعتبرت مجحفة في حق روسيا وبمناسبة ذلك إنعقد مؤتمر للحلفاء في المانيا يوم 13 مارس عام 1871م وأقروا منع السفن الحربية غير العثمانية من المرور من مضيق البوسفور مع وجود إستثناء بحيث يمكن للسلطان العثماني تقديم رخصة للسفن الحربية في غير أحوال الحرب كما سمحت التعديلات بملاحة السفن التجارية دون قيود في البحر الأسود ومضيقي البوسفور والدردنيل وقد صدق السلطان على أعمال هذا المؤتمر ومقرراته .
وقبل أن نتحدث عن حركات التمرد والعصيان ومحاولات الإنفصال عن الدولة العثمانية لا يفوتنا أن نتحدث عن الأمور الخاصة بنظام ولاية العهد الذى حاول السلطان عبد العزيز تعديله أثناء ولايته وفي البداية نقول إنه لم تكن علاقة السلطان عبد العزيز بشقيقه الأمير مراد الخامس ولي عهده جيدة وفي زياراته الخارجية كان يصطحبه معه وكان الأمير مراد الخامس قد ذاع صيته في قارة أوروبا لكونه كان متعلما تعليما عاليا وكان يجيد اللغة الفرنسية إجادة تامة وكان يجيد أيضا العزف على الآلات الموسيقية حتى أن نابليون الثالث إمبراطور فرنسا وفيليم إمبراطور المانيا قد إحتفوا به أشد إحتفاء مما اثار غيظ وغيرة السلطان وفي إسطنبول كان السلطان عبد العزيز يضيق علي ولي عهده ويشدد عليه المراقبة وكان يمنعه من التجول خارج القصر سيرا وسمح له من حين إلى آخر بالتنزه في مركبة مغلقة لا يراه فيها الناس بشرط أن يحصل على أمر منه في كل مرة يود الخروج فيها ثم عمد إلى تخفيض نفقاته فإضطر الأمير للجوء إلى المرابين وقد كتب لأحد أصدقاءه إن الجهل منتشر ويا للأسف بين نسائنا إنتشارا شنيعا وربما ترتاب في صحة قولي لو شرحت لك ما يعتيرني من الحزن والإنقباض والكره في أثناء وجودي في دائرة الحريم وإن الأوقات التي أقضيها هناك هي عبارة عن عذاب أليم بالنسبة لي وضجر عظيم يكاد يقتل النفس وعلى العكس من ذلك فإن علاقة السلطان بشقيقه الآخر عبد الحميد الثاني كانت قوية للغاية وربما يعود السبب في ذلك لكون والدة السلطان عبد الحميد توفيت وهو صغير فإعتنت به وربته والدة السلطان عبد العزيز بروتونيال خانم ولذلك تمتع عبد الحميد بالحرية وبثقة السلطان وظل يستقبله في قصره في أكثر الأوقات ويباحثه في مختلف شؤون الدولة وكان العرش آنذاك ينتقل إلى أكبر أفراد أسرة آل عثمان الذكور ومنذ أن أصدر السلطان عبد العزيز الفرمان القاضي بتطبيق ولاية العهد بأكبر أولاد الخديوي إسماعيل وخلفاءه في مصر وحتى خلعه وهو يحاول بدعم من صدره الأعظم محمود نديم باشا تحقيق القاعدة نفسها لتولية إبنه يوسف عز الدين الحكم إلا أن هذه الحركة قد قوبلت بمعارضة قوية في أوساط علماء الدين وأيضا داخل أسرة آل عثمان غير أن ما أعاق تطبيقها فعليا هو الخلافات الروسية البريطانية حول القضية إذ كانت الإمبراطورية الروسية تعضد فكرة ولاية العهد ليوسف عز الدين أما بريطانيا فكانت تود المحافظة على قانون الوراثة كما هو خصوصا أن الأمير مراد الخامس ولي العهد كان مدعوما من قبل حركة الأحرار العثمانيين المطالبين بالإصلاح وقد وصل التوتر لدرجة أن أرسلت بريطانيا أسطولها من البحر الأبيض المتوسط نحو الدردنيل بعد أن أشيع في إسطنبول أن روسيا على وشك إرسال أربعين ألف جندى روسي من ميناء أوديسا عبر البحر الأسود لإرغام المعارضين على قبول ولاية العهد ليوسف عز الدين وكان من بين مقدمات تولية يوسف عز الدين أنه إرتقى حتى رتبة مشير وهو لم يتجاوز العشرين من العمر ويضع المؤرخون إصرار عبد العزيز على تعديل أصول الوراثة حتى أواخر أيام عهده سببا رئيسيا من أسباب خلعه .
والآن نأتي إلي الحديث عن الثورات والقلاقل الأمنية التي حدثت خلال عهد السلطان عبد العزيز فعلي عكس سلفيه السلطانين محمود الثاني وعبد المجيد الأول وخلفيه مراد الخامس وعبد الحميد الثاني لم تشهد الدولة العثمانية خلال عهده حروبا خارجية ولعل معاهدة باريس المبرمة عام 1856م في عهد السلطان عبد المجيد الأول كانت قد ضبطت إيقاع السياسة الخارجية لدول قارة أوروبا وجنبتها حروبا جديدة كذلك فلم تشهد سلطنته فقدانا لأراضي الدولة وتقلصا في مساحتها كما حدث في سائر عهود عصر إنحلال الدولة بل إستطاع السلطان عبد العزيز الحفاظ على أملاك دولته أما المناطق التي شهدت ثورات فقد إستطاعت الدولة العثمانية التعامل معها بالحزم والسياسة بحيث لم تؤد لفقدان أملاك وأراض وكان من الثورات التي حدثت في عهد السلطان عبد العزيز ثورة إقليم الجبل الأسود وفي الحقيقة فمنذ أن فتح العثمانيون الجبل الأسود الذي يقع إلى الشمال من ألبانيا لم يتمكنوا من فرض سيطرتهم سوى على المدن الكبرى فيه أما الجبال والقرى المحيطة فقد ظلت شبه مستقلة وذات إدارة محلية بسبب وعورة المسالك وصعوبة المفارز وكان الجبل الأسود قد أعلن عام 1853م خلال عهد السلطان عبد المجيد الأول ثورة ضد الباب العالي وتمكن القائد العثماني عمر باشا والذى إشتهر فيما بعد شهرة واسعة بعد ما حققه من إنتصارات خلال حرب القرم من سحقها وفيما بعد وفي أعقاب حرب القرم ومؤتمر باريس لعام 1856م طالب حاكم الجبل المحلي الأمير دانييل الإعتراف بإستقلال الجبل فلم يلق ذلك قبولا لدى الدول الأوروبية التي نصحته بعقد سلام مع الدولة العثمانية والإعتراف بسيادتها مقابل منحه رتبة مشير مع مبلغ سنوى من المال وتوسيع حدود دولته لتشمل أجزاء من البوسنة والهرسك أيضا فقبل الأمير بعرض دول أوروبا وفي عام 1860م توفي الأمير دانييل وآل الحكم لإبن أخيه الأمير نيكولا الذي شجع حركات ثورية ضد الباب العالي في الجبل الأسود وفي البوسنة والهرسك أيضا وأخذ يجمع جيوشا لإعلان التمرد والعصيان ضد الدولة العثمانية فأغار القائد العثماني عمر باشا على أراضي الجبل الأسود وحاصرها من ثلاث جهات ثم دخلت قواته الإمارة وإضطر الأمير نيكولا إلى توقيع إتفاقية إستسلام في يوم 30 أغسطس عام 1862م والتي نصت على بقاء نيكولا حاكما للجبل الأسود بشرط السماح للعثمانيين بناء ما يحلو لهم من حصون لتأمين وضمان السيادة داخل أراضي الإمارة ولاحقا سعت الإمبراطورية الروسية وفرنسا لدى الباب العالي للتنازل عن حق بناء الحصون والقلاع داخل أراضي الإمارة فقبل السلطان عبد العزيز بذلك وأصدر فرمانا في يوم 2 مارس عام 1864م إنسحب بموجبه الجيش العثماني من الإمارة وهدم القلاع التي كان قد شرع في إستحداثها وأنهى إنسحابه في شهر يونيو عام 1864 م .
وفي إقليم البوسنة والهرسك وعلى الرغم من الأغلبية المسلمة لهذا الإقليم فإنه كغيره من أقاليم البلقان فقد شهد هذا الإقليم في عهد السلطان عبد العزيز ثورات وحركات تمرد وعصيان عنيفةً بغية الخروج من التبعية للدولة العثمانية وقد بدأت هذه الثورات في عام 1852م خلال عهد السلطان عبد المجيد الأول وعلى الرغم من طول مدة هذه الثورات فإنها لم تكن قويةً بالدرجة التي تزعج الدولة العثمانية وإنتهى الأمر بقمعها في عام 1862م في بدايات عهد السلطان عبد العزيز وفيما بعد كانت الثورة الأكبر تلك التي حدثت في إقليم البوسنة والهرسك والتي بدأت في عام 1873م ولكنها إشتدت بقوة في شهر يوليو عام 1875م قرب نهاية عهد السلطان عبد العزيز وكانت الأسباب الرئيسية لهذه الثورة إقتصادية وعرقية في الأساس فقد ضربت إقليم البوسنة والهرسك مجاعةٌ كبرى في عام 1874م نتيجة عواملَ الطقس السئ والتي أدت إلى فساد المحاصيل الزراعية وكان هذا متزامنا مع الإنهيار الإقتصادي الذي كانت تشهده الدولة العثمانية آنذاك فلم يقبل المواطنون هناك بالحلول القاصرة والمؤقتة التي قدمتها الحكومة العثمانية وتطور الأمر إلى الثورة المسلحة وقد زاد من شدة هذه الثورة تزكية الروح العرقية وإهتمام كل إقليم بعرقه بصرف النظر عن دينه ومِن ثم أراد البوسنيون من المسلمين والنصارى أن يأخذ إقليمهم حكما ذاتيا مثل أقاليم صربيا والأفلاق والبغدان ودعمت النمسا هذه الثورة وكذلك الصربيون على الرغم من العداء التاريخي بين أهل البوسنة والصرب وذلك نكاية في الدولة العثمانية عدوهما اللدود وإضطر السلطان عبد العزيز في شهرى أكتوبر وديسمبر عام 1875م إلى إصدار فرماناتٍ تهدف إلى تهدئة الأوضاع في البوسنة والهرسك وكانت هذه الفرمانات تتضمن تخفيضا في الضرائب وفصلا للسلطة القضائية عن التنفيذية وتعيين قضاة من السكان بالإنتخاب والمساواة بين المسلمين والنصارى وتشكيل لجان لمراقبة الأوضاع في الإقليم ومع ذلك لم تتمكن هذه التسهيلات من تهدئة سكان الإقليم الذين إستمروا في ثورتهم إلى آخر عهد السلطان عبد العزيز وقد تدخلت الحكومة النمساوية في هذه الأزمة بقوة وكأنها حامية لحقوق إقليم البوسنة والهرسك حيث قدم وزير خارجيتها چيولا أندراسي مذكرةً مطولة يطالب فيها بتنفيذ عدد من الإصلاحات المطلوبة في هذا الإقليم تشمل بنودا خاصة بالحريات الدينية ونظام الضرائب وآليات تحسين الزراعة وطرق إنفاق الأموال المحصلة من الشعب البوسني وقبلت الحكومة العثمانية بعض هذه البنود ورفضت أخرى ولكن في كل الأحوال لم تهدأ الثورة وظلت مشتعلة إلى آخر عهد السلطان عبد العزيز .
وكما كانت ثورة البوسنة والهرسك صادمةً للأوساط العثمانية بسبب غالبيَّتهم المسلمة كانت الثورة البلغارية صادمةً كذلك بسبب هدوء البلغار في معظم فترات إنضمام إقليم بلغاريا للدولة العثمانية وكان هذا الإقليم يعتبر من أوائل الدول الأوروبية التي دخلت تحت حكم الدولة العثمانية وظلت كذلك لفترة طويلة زادت علي الخمسة قرون لم يشهد خلالها الإقليم أي إضطرابات تذكر ويرجع ذلك إلى قربها النسبي من العاصمة العثمانية إسطنبول وإدارتها بشكل مباشر من جانب العثمانيين وكثرة إستيطان المسلمين فيها وإهتمام الدولة ببنيتها التحتية وطرقها ومدنها كما كان وجودها في عمق الدولة العثمانية حاميا لها من أن تكون موطن معارك مستمرة وبالتالي حفظت أرضها وأمن الفلاحون فيها بعكس بلاد اليونان والصرب والمجر وعلى الرغم من ذلك فقد شهدت بلغاريا كغيرها من أقاليم البلقان ثورة ضد العثمانيِين خلال عهد السلطان عبد العزيز وفي الواقع فقد كانت بداية ثورة البلغار في عهد سلفه السلطان عبد المجيد الأول بدعم روسيٍ لها ولم يفلح الروس آنذاك في إستخدام الديانة المسيحية الأرثوذكسية وحدها في إستمالة الشعوب البلقانية فلجأوا إلى عنصرٍ آخر للتجميع كان فعالا في هذه الحقبة التاريخية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادى وهو عنصر القومية والعرقية فإهتم الروس بتحفيز طوائف من البلقانيين للإتحاد والتعاون بسبب عرقهم السلاڤي وهم أكبر مجموعة عرقية لغوية في قارة أوروبا وأسسوا ما عرِف بالجامعة السلاڤية وكانت عبارة عن رابطة تجمع السلاڤ تحت راية واحدة ولم تكن كيانا له مكان معروف إنما كانت عبارة عن أفكار وقيم ومبادئ تهتم بجمع كل السلاڤيين بسبب إشتراكهم في العرق وجدير بالذكر أن السلاڤيين ينقسمون جغرافيا إلى شرقيِين وهؤلاء يقطنون في روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا وفنلندا وغربيين وهؤلاء يعيشون في بولندا والتشيك وسلوڤينيا وأخيرا جنوبيِّين وهم أهل بلغاريا وصربيا والبوسنة والهرسك ومقدونيا وكرواتيا والجبل الأسود وفي الواقع ليس شرق قارة أوروبا مقصورا على السلاڤيين إنما تعيش فيه عرقيات أخرى كالأتراك واليونانيين والجرمانيين وفي عام 1848م عقد الروس مؤتمرا كبيرا في التشيك عرضوا فيه أفكار الجامعة السلاڤية وهذا كان له أثر كبير في نشاط الحركات القومية السلاڤية في الدولة العثمانية في هذه الفترة وفيما بعد وفي عام 1870م في عهد السلطان عبد العزيز صعد الروس من وتيرة الإعتزاز بالسلافية عند البلغار بتزكية فكرة إقامة كنيسة سلاڤية يكون بطريركها بلغارى سلاڤي ترعى شئون الأرثوذكس السلاڤيين بدلا من البطريرك اليوناني الحالي القاطن في إسطنبول وكان الأرثوذكس قبل ذلك يتجمعون تحت راية الدين فقط أمَا الآن فالراية القومية أقوى وقد دعم الروس هذا الطلب عند السلطان عبد العزيز الذي وافق من منطلق التسامح الديني ونبذ التعصب وتأكيد مبدأ الحرية الدينية على إنشاء الكنيسة السلاڤية وأصدر فرمانا في شهر مارس عام 1870م يقضي بإستقلالية هذه الكنيسة عن كنيسة إسطنبول وتبعية الأرثوذكس البلغار لها لا للبطريرك اليوناني ولعل السلطان كان يقصد بذلك تفتيت الأرثوذكس وبالتالي إضعافهم أو يقصد حرمان اليونانيين من الهيمنة على البلقان لئلا تتكرر ثورة جزيرة كريت ولكن أيا كان مقصد السلطان فقد أتى القرار بنتائج عكسية إذ تحقق ما أراده الروس من إشتعال روح القومية عند البلغار وبدأوا في البحث عن كينونتهم المفقودة منذ قرون وفي غضون سنوات قليلة جدا من إنشاء كنيستهم قامت ثورتهم وكانت بدايات هذه الثورة في شهر نوفمبر عام 1875م قبل أشهر قليلة من خلع السلطان عبد العزيز وسرعان ما إشتد لهيبها حتى أخذت في شهر أبريل عام 1876م في أواخر أيام السلطان عبد العزيز شكلا عنيفا للغاية وكانت بداية الثورة في مدينة كوبريڤشتيتزا التي تقع في شمال غرب بلغاريا ولكنها سرعان ما إنتشرت في عدة مدن وقد شملت الثورة تنفيذ عدة مذابح للمسلمين مما إضطر السلطات العثمانية إلى الرد بعنف مماثل مما أسهم في نشر أخبار الثورة في دول قارة أوروبا كلها وتفاعلت القنصليات الغربية والروسية لصالح البلغار بالطبع وأرسلت بريطانيا رسالة تحذيرية إلى الحكومة العثمانية تطالب فيها بمعاقبة الموظفين المسئولين عن قمع الثورة وتعويض الثائرين وكذلك بتغيير نظام الحكم في ولاية بلغاريا وتعيين وال عثماني نصراني أو مسلم بمستشارين نصارى ولم يقف حد التفاعل الأوروبي عند الساسة إنما تجاوزهم إلى الأدباء والعلماء والإعلاميِين وصارت الثورة البلغارية حديث الشعوب والحكومات وتصدرت أخبارها الصفحات الأولى من الصحف وهذا سيكون له أثر كبير على الأحداث المستقبلية في الدولة العثمانية وكان من الواضح أن الغرب يستغلون كل حدث يستجد داخل أراضي وأملاك الدولة العثمانية لإملاء شروط جديدة مجحفة ومذلة عليها ولم تعد هناك حدود أو قيود لهذه الشروط وكان ذلك من سمات غياب الهيبة وعلامات مبكرة تنذر بإنهيار الدولة .
أما بلاد الصرب والتي فتحها العثمانيون عام 1389م وظلوا يحكمونها حكما مباشرا حتى عام 1815م ثم أبرم عام 1830م إتفاق يقضي بتحويلها لإمارة مستقلة تحت سيادة الباب العالي ثم جاءت معاهدة باريس في يوم 30 مارس عام 1856م بعد حرب القرم لتنظم العلاقة بشكل أكبر فنصت أنه من حق الدولة العثمانية أن يكون لها في بلاد الصرب ست قلاع بما فيها قلعة بلجراد عاصمة الإمارة وفي أعقاب إندلاع ثورة الجبل الأسود حشد العثمانيون جيشا شعبيا غير مدرب تدريبا جيدا بهدف ضبط الأمن في صربيا ونظرا لكونه جيش غير مدرب فقد وقعت عدة مشاجرات بين أهالي الصرب والجيش الشعبي تحولت إلى مواجهات دامية بلغت ذروتها بعد مقتل جندي عثماني في يوم 10 يونيو عام 1862م وما تبعه من قصف لبلجراد بالمدفعية لمدة أربع ساعات متواليات وتدخل قناصل الدول المختلفة لإيقاف القصف وتمت عدة مشاورات بين القناصل والسلطان عبد العزيز والذى قبل بتخفيض عدد القلاع من ستة إلى أربعة مع إحتفاظه بقلعة بلجراد وتعهد أيضا بعدم السماح للقواد العثمانيين بالتدخل في الشؤون الداخلية للإدارة مطلقا وأصدر فرمانا بذلك في يوم 6 سبتمبر عام 1862م لكن كان إندلاع ثورة آنذالك في جزيرة كريت وأحوال خزينة الدولة الناضبة مع ضغوط الدول الأوروبية سببا في أن إنتهي الأمر في شهر مارس عام 1867م بقبول السلطان عبد العزيز لإتفاق جديد يقضي بتخلي الدولة العثمانية عن القلاع الأربعة في بلاد الصرب وجلاء كافة القوات العثمانية عنها وبذلك لم يبق سوى لقب ملك على أمير الصرب يفصلها عن الإستقلال الكامل في أعقاب هذا الفرمان.
ولننتقل الآن إلي ثورة جزيرة كريت المذكورة في السطور السابقة ففي أواخر عام 1866م إنلعت ثورة في تلك الجزيرة لرغبة أهلها وكان أغلبهم من اليونان الأرثوذكس الإنضمام إلى مملكة اليونان وقد حاولت المملكة المذكورة دعم الثائرين إلا أن هذا الدعم ظل محدودا للغاية في إطار تقاعس الدول الأوروبية عن الموافقة على سلخ الجزيرة من أملاك الدولة العثمانية وأرسل السلطان عبد العزيز موفدا شخصيا إلي سكان الجزيرة إسمه كريدلي محمد باشا إلا أنه فشل في مهمته ولم يتمكن من تقريب وجهات النظر بين الدولة والثوار وفي أعقاب إستقالة محمد رشدي باشا من الصدارة العظمى وإسنادها إلى محمد أمين عالي باشا في يوم 11 فبراير عام 1867م أنهت الدولة مهمة كريدلي باشا وأرسلت عوضا عنه جيشا كبيرا بقيادة عمر باشا كما أرسل الخديوي إسماعيل بناءا على طلب السلطان عبد العزيز جيشا ليساعد في قمع التمرد فقمع الجيشان المحتجين وأخمدا ثورتهم وبعد هذا الحسم العسكري أرسل السلطان صدره الأعظم عالي باشا شخصيا كمندوب سياسي عنه في يوم 14 أكتوبر عام 1867م وسعى إلى تهدئة خاطر الأعيان بمنحهم رتبا ونياشين وبعد أن إستتب الأمن أوائل عام 1868م بالجزيرة قفل عائدا إلى إسطنبول وكنتيجة لهذه الثورة إنعقد في عام 1869م مؤتمر خاص في باريس للدول الموقعة على إتفاق عام 1856م للتباحث حول وضع الجزيرة وكنتيجة لهذا المؤتمر أصدر السلطان في يوم 19 سبتمبر عام 1869م فرمانا يقضي بمنح الجزيرة إمتيازات تجارية وإعفاءً من الضرائب لمدة سنتين وإعفاء أيضا من الخدمة العسكرية ولم تقف الأحداث المؤسفة والثورات والتظاهرات في عهد السلطان عبد العزيز عند هذا الحد فمع إنخفاض واردات الدولة العثمانية المالية وتزايد النفقات خاصة النفقات الحربية إبان الحروب مع محمد علي باشا في بلاد الشام خلال عهد السلطان محمود الثاني ثم الحرب مع مملكة اليونان وحرب القرم مما أدى إلي أنه بداية من عام 1854م خلال عهد السلطان عبد المجيد الأول أخذت الدولة العثمانية تقترض من الخارج وإستمرت في هذه السياسة خلال عهد السلطان عبد العزيز أيضا وتزامن ذلك مع إنخفاض قيمة النقد العثماني وإرتفاع عجز موازنة الدولة حتى قدرت بمبلغ 35 مليون لدى بداية عهد السلطان عبد العزيز لحكمه وأخذت الدولة تعمد إلى الإستدانة لدفع أقساط قروضها السنوية وحاول السلطان عبد العزيز إصلاح الوضع عن طريق إختصار نفقات بلاطه وإلغاء نظام الحريم إلا أن الشق كان أوسع من أن يستطيع رتقه بتلك الوسائل فقط وفي يوم 11 يناير عام 1862م أصدر فرمانا يقضي بإستحداث موازنة سنوية للدولة وفق القواعد المحاسبية الحديثة لمقابلة المصروفات بالإيرادات ثم أصدر فرمانا آخر في يوم 17 يونيو عام 1862م يقضي بسحب سندات الديون ودفع 40% من قيمتها وتوزيع سندات جديدة بقيمة 60% منها وإقترضت الدولة العثمانية 8 ملايين جنيه إسترليني لإتمام هذه العملية ثم إقترضت 8 ملايين أخرى من البنك العثماني بما يشبه الديون الداخلية لإتمام عملية الدفع وقد شكلت عملية تخفيض قيمة السندات بنسبة 40% مع إختصار السلطان نفقات القصر ما يكفي من الأموال لسداد الفوائد المترتبة على القروض وبالتالي نجح نجاحا نسبيا في حل الأزمة لكن في شهر ديسمبر عام 1865م إستحقت السندات ولم يكن لدى الخزينة ما يكفي من الأموال لسداد فوائدها فحاولت الدولة الإقتراض من الخارج ففشلت فإقترضت من البنك العثماني مقابل ضمانات الضرائب وقسطت عملية الدفع كل ثلاثة أشهر وبذلك إستقرت مالية الدولة مؤقتا غير أن الإنتكاسة عادت مع إستمرار الإقتراض فمنذ حرب القرم وحتى إعلان الدولة لإفلاسها عام 1875م كانت الدولة قد أبرمت أحد عشر قرضا أغلبهم في عهد السلطان عبد العزيز ولذلك فقد وصف من قبل المؤرخين بالمبذر وقد بلغت قيمة القروض 5300 مليون فرنك فرنسي لم تستلم الدولة منهم سوى 3012 مليون أى 57% من القيمة الإسمية إذ إحتسبت البنوك الفرنسية والإنجليزية الفوائد وخصمتها من القروض سلفا لضعف الثقة بالإقتصاد العثماني كما كان مما ساهم في تفاقم الأزمة رهن الدولة لإيراداتها الثابتة كضمان لسداد القروض فخصصت الأتاوة السنوية من مصر ضمانا للقرض المبرم عام 1854م ومداخيل جمارك ولاية سوريا وإزمير ضمانا للقرض المبرم عام 1855م وفي النهاية إعترف الصدر الأعظم محمود نديم باشا في يوم 5 نوفمبر عام 1875م بإفلاس الدولة مع عجزها عن سداد القروض فمنحها الدائنون قرضا جديدا طويل الأجل مقابل ضمان الضرائب غير المباشرة وضرائب الأغنام وأتاوة مصر ومع نهاية عهد السلطان عبد العزيز في عام 1876م بلغ دخل الدولة 380 مليون فرنك يتحتم إقتطاع مبلغ 300 مليون فرنك منه أقساطا للضرائب ليتبقى 80 مليون فقط لكافة مصاريف الدولة لعام كامل لذلك كانت الدولة مضطرة للعودة إلى الإستدانة بعد حل قضية إفلاسها الأول فحصلت في عام 1876م علي قرض قيمته 30 مليون ليرة بفائدة عالية جدا قدرها 24% ثم إستمرت في هذه السياسة خلال عهد السلطان عبد الحميد الثاني فأبرمت إثني عشر قرضا وأعلنت إفلاسها في عهده مرتين الأولي عام 1879م والثانية في عام 1881م وهو ما دفع السلطان لإصدار مرسوم محرم الذي وحد ديون الدولة ونقل إدارتها من وزارة المالية العثمانية إلى مجلس إدارة الدين العام العثماني المكون من أصحاب السندات في مصارف دول قارة أوروبا ويذكر للسلطان عبد الحميد الثاني أنه قد تمكن من تخفيض ديون الدولة العثمانية إلى حوالي 107 مليون ليرة عثمانية بعد أن كانت قد وصلت في بداية عهده إلي حوالي 2530 مليون ليرة عثمانية وذلك بإستقدام خبراء ماليين أوروبيين قاموا بإعادة هيكلة إيرادات ومصروفات الدولة ومن ثم أمكنهم سداد نسبة كبيرة من ديونها .
وغير إشهار إفلاس الدولة العثمانية في يوم 5 نوفمبر عام 1875م تعرضت الدولة العثمانية لأزمة أخرى ففي يوم 5 مايو عام 1876م وصلت إلى سالونيك ببلاد اليونان والتي كانت تحت الحكم العثماني فتاة بلغارية كانت قد إعتنقت الدين الإسلامي فلما بلغ الأمر مسيحيي المدينة قبضوا عليها وحاول بعض المسلمين إسترجاعها ففشلوا وتحول الأمر إلى فوضى طائفية وإغتيل خلالها قنصلا فرنسا والمانيا وغضبت الدولتان لمقتل قنصليها ورست سفن الأسطول الفرنسي قبالة سالونيك وأمن الجند الألمان موكب جنازة حافل للقنصلين ثم عقد وزراء خارجية روسيا والنمسا والمانيا إجتماعا في برلين وأصدروا بيانا صدقت عليه فرنسا وإيطاليا طالب خلاله المجتمعون بتعيين مجلس دولي لمراقبة تنفيذ فرمان سلطاني كان السلطان عبد العزيز قد أصدره في يوم 12 ديسمبر عام 1875م كان ينص على إصلاح أحوال مسيحيي الدولة العثمانية وطالب البيان أيضا بإستكمال تنفيذ الفرمان خلال مدة لا تتجاوز الشهرين وإلا فإن الدول التي أصدرت البيان ستضطر لإستعمال القوة بهدف تنفيذ أحكام الفرمان السلطاني ولم يقبل السلطان بهذا البيان وإعتبره مجحفا بحقوق دولته وتدخلا في شؤونها ولعلمه أيضا بوجود خلافات بين دول قارة أوروبا حول الحرب وعدم تصديق إنجلترا على البيان كما أنه قام بإعدام عدد من المسلمين بعد محاكمتهم بتهمة القتل العمد وثمة حادث آخر تعرضت له الدولة العثمانية قرب أواخر عهد السلطان عبد العزيز ففي شهر أبريل عام 1876م خرجت في العاصمة العثمانية إسطنبول مظاهرة حاشدة مؤلفة من طلبة العلوم الدينية ورجال الدين والمشايخ بعد أن تجمعت أمام جامع السلطان محمد الفاتح وسارت زاحفة نحو مبنى وزارة الحربية ثم نحو مقر الباب العالي نفسه منادية بإسقاط الصدر الأعظم محمود نديم باشا وشيخ الإسلام حسن فهمي أفندى وفشل رجال الشرطة في تفريق المتظاهرين لعدم علمهم المسبق بالتظاهرة كما فشلوا في منعهم من الوصول إلى مبنى الباب العالي حيث يقيم السلطان شخصيا أما محمود نديم باشا وحسن فهمي أفندى فقد تواريا عن الأنظار ثم غادرا إسطنبول خوفا من الشعب الهائج وقرر المتظاهرون الإعتصام أمام الباب العالي حتى تحقيق مطالبهم وفي مساء ذلك اليوم عقد السلطان إجتماعا شاركت فيه والدته مع وزير الخارجية ومحافظ إسطنبول وقاضي عسكر الروم إيلي وإثنين من كبار علماء الشريعة للبحث في قضية المتظاهرين وأشارت والدة السلطان بإستعمال القوة ضد المتظاهرين وبضرورة إغلاق المعاهد الدينية وطرد طلابها خارج المدينة مع رفض قاطع لمطالبهم غير أن بقية المجتمعين لم يستصوبوا رأيها وإقترحوا على السلطان أخذ الأمور باللين بعد أن شرحوا له الأخطار التي لا بد من وقوعها في حال تحولت الحركة إلى ثورة مسلحة في العاصمة فوافق السلطان علي وجهة نظرهم وقال بأنه يرضى بتحقيق مطالب المتظاهرين لمرة واحدة فقط وأصدر فرمانا بتعيين خير الله أفندي شيخا للإسلام ولم يعين السياسي الإصلاحي أحمد شفيق مدحت باشا صدرا أعظم كما كان يطالب المتظاهرون بل أسند الصدارة العظمى إلى محمد رشدى باشا وقد تفرق الإعتصام في أعقاب ذلك قبل مرور 24 ساعة على بدايته ومما يذكر أن مدحت باشا كان قد نصح السلطان عبد العزيز بالتنازل عن مبلغ 5 ملايين ليرة عثمانية من ثروته الخاصة لإنفاقها على الإصلاحات الضرورية والعزوف عن فكرة تولية إبنه يوسف عز الدين ولاية العهد فلم يرض السلطان بذلك مما مهد لخلعه هذا وتكتسب هذه الحادثة أهمية خاصة لكونها قد وقعت قبل حادثة خلع السلطان عبد العزيز بأربعين يوما فقط .
وعموما فعلي إثر مظاهرات طلاب المعاهد الشرعية في إسطنبول المشار إليها في السطور السابقة نشأ حزب من الوزراء وعلماء الدين وسائر كبار الموظفين من المدنيين والعسكريين وطالب هذا الحزب بخلع السلطان عبد العزيز وكان يتزعم هذا الحزب أحمد شفيق مدحت باشا بالإشتراك مع وزير الحربية حسين عوني باشا صاحب السلطة الواسعة في الجيش ولعل عدم إسناد السلطان منصب الصدر الأعظم لمدحت باشا كما كان يريد المتظاهرون كان من العوامل التي ساهمت في نشوء الحزب ثم نموه وتقويته وعموما فإن بين يوم 12 مايو ويوم 30 مايو عام 1876م إنضم خليل باشا ودرويش باشا وزراء الدولة في الحكومة إلى الحزب المذكور ولما أقيل محمود نديم باشا من الصدارة العظمى رفع إلى السلطان مع كتاب إستقالته نصيحة بنقل ثروته الخاصة إلى خارج العاصمة إسطنبول خوفا من تكرر الإضطرابات الأمنية والإستيلاء عليها مما أثار الإضطراب والريبة في نفس السلطان حتى أنه عين محمود نديم باشا مسؤولا عن نقل ثروته إلى روسيا بالتنسيق مع السفير الروسي إيغانتيف وقد تمت العملية عن طريق بارجة حربية روسية لعدم الثقة في ولاء البوارج العثمانية وبينما كان السلطان مشغولا بإخراج ثروته الخاصة كان مدحت باشا وأعضاء حزبه يقنعون شيخ الإسلام خير الله أفندى بمحاسن خلع السلطان وبعد مفاوضات لم تطل إذ دامت يومين فقط قبل شيخ الإسلام إصدار فتوى بخلع السلطان عبد العزيز وأبلغ الصدر الأعظم قراره فأعلن الصدر الأعظم إنضمامه هو الآخر للحزب الرامي إلي عزل السلطان رغم أنه لم يمض على حلفانه يمين الإخلاص للسلطان سوى أيام قليلة وفي الوقت نفسه عمد الصدر الأعظم لإقناع السلطان بتعيين مدحت باشا وزيرا للدولة بهدف التخلص من معارض قوي فأصدر السلطان فرمانا بذلك ثم طالبه بالتنازل عن جزء من ثروته لدفع رواتب الجيش المتأخرة لعجز الميزانية عن ذلك وقال إنها مطالب محتجي إسطنبول فرفض السلطان وفي اليوم التالي أبلغ الصدر الأعظم أنه ينوي إغلاق المعاهد الدينية ونفي طلابها خارج العاصمة فإستصوب الصدر رأيه فقرر الحزب المنادي بالخلع تقريب موعد تنفيذ العملية وحدد موعدها في يوم 30 مايو عام 1876م وإتفق قادة هذا الإنقلاب مع سفيري إنجلترا والنمسا وأعلم الأسطول الإنجليزي بالتدخل لإنقاذ قادة الإنقلاب في حال حدوث أي طارئ وإنكشاف أمرهم .
وفي مساء يوم الإثنين 29 مايو عام 1876م توجه سليمان باشا رئيس المدرسة الحربية في إسطنبول ومعه رديف باشا إلى ثكنات الجيش في كموش صوي وطاش قشلة كما توجه أحمد باشا إلى الأسطول العثماني وأصدر سليمان باشا أمرا بإحتلال طريق بشكطاش المؤدية لقصر ضولمة بهجة والحدائق المحيطة به وفي الوقت نفسه أغلق الأسطول حركة القوارب في البحر قطعا للمواصلات بين القصر والبحر وبعد إشتباكات خفيفة مع مخافر الحرس السلطاني سلّم هؤلاء سلاحهم وربما كان التهديد بقصف القصر من البحر عاملا أساسيا في ذلك وعلى هذه الشاكلة اصبح السلطان محاصرا ويذكر أن طلاب المدرسة الحربية الذين إحتلوا الطريق إلى القصر وحدائقه لم يكونوا يعرفون حقيقة ما يقومون بفعله إلى أن خطب فيهم سليمان باشا وبرر الفعل بتبذير السلطان وإطلاقه يد روسيا في شؤون الدولة وفي الساعة الثالثة من فجر اليوم التالي الثلاثاء 30 مايو عام 1876م دخل سليمان باشا ومعه ثلة من الضباط إلى قصر جراغان حيث كان يقيم الأمير مراد الخامس ليخبروه بإرتقائه العرش ونقلوه إلى مبنى وزارة الحربية حيث كان الوزراء في إنتظار الخليفة والسلطان الجديد وبعد وصوله وأمام الوزراء وكبار الضباط ونقيب الأشراف وشريف مكة قرأ شيخ الإسلام فتوى خلع السلطان عبد العزيز وبعد أن تمت قراءة الفتوى أطلقت المدفعية مائة طلقة وطلقة معروفة بإسم مدافع الجلوس وسار المنادون في شوارع العاصمة إسطنبول يخبرون بحادثتي خلع السلطان عبد العزيز وإرتقاء السلطان الجديد مراد الخامس العرش وقيل إن سكان العاصمة إسطنبول قد إبتهجوا بهذا الإنقلاب ولم يأسف أحد على خلع السلطان لا في الداخل ولا في الخارج عدا قيصر روسيا وسفيره في إسطنبول وعموما فإن هذا القول مبالغ فيه إذ كان ما يزال للسلطان عبد العزيز أنصاره في الدولة وقام رديف باشا بإبلاغ السلطان عبد العزيز نبأ خلعه بعد مبايعة مراد الخامس سلطانا خلفا له وكان السلطان عبد العزيز قد إستيقظ من نومه بعد أن سمع مدافع الجلوس وقد إعتراه القلق لظنه أن حربا قد نشبت في إسطنبول وأن المدافع تطلق على العدو وبعد أن رأى السلطان المخلوع الجند يحاصرون القصر لم يبد أي مقاومة غير أن والدته قد إنهالت على رديف باشا بقوارص الكلام وغادر السلطان عبد العزيز القصر إلى قصر الباب العالي بزورق يرافقه إثنان من أولاده هما يوسف عز الدين ومحمود جلال الدين وتبعته زوارق أخرى تحمل أمه ونساءه وجواريه وخدمه وفي أعقاب مغادرته القصر إتجه موكب السلطان الجديد مراد الخامس من مبنى وزارة الحربية إلى قصر ضولمة بهجة .
وقضى السلطان المخلوع عبد العزيز في قصر الباب العالي ثلاثة أيام ثم أرسل إلى شقيقه الأصغر السلطان الجديد مراد الخامس رسالة يطلب فيها نقله لقصر جراغان لكونه لا يحب قصر الباب العالي فأجابه السلطان الجديد لطلبه ويقول الكونت دي كيراتيري في كتابه تاريخ السلطان مراد الخامس أن السلطان المخلوع قد منع من التجول خارج القصر الذي أحيط بثلاث صفوف من الجند ولم يستطع النوم طوال الليلة الرابعة من بعد خلعه فتلاشت قواه مع الفجر فأخذ يطيل التأمل والتفكير مع إطلاق شتائم بحق حسين عوني باشا ثم إستغرق في النوم ولدى إستيقاظه بدت علامات الإرتياح على وجهه وقد طلب قراءة الصحف التركية ثم طلب مقصا ومرآة ليشذب لحيته كما كانت عادته ثم طلب من الخدم ووالدته مغادرة الغرفة وبحسب الرواية الأولى فإن السلطان قطع بالمقص عروق يده اليمنى فنزف الدم لمدة لا تقل عن عشرين دقيقة قبل أن يخر السلطان على الأرض فأحدث سقوط جسمه علي الأرض صوتا سمعه من كان في الطابق السفلي من القصر وعندما قدم الخدم وأمناء القصر شاهدوا السلطان يتخبط في دمائه ولم يكن قد لفظ أنفاسه بعد ولكن وقبل وصول الأطباء كان قد فارق الحياة وترأس حسين عوني باشا التحقيق الذى تقرر إجراؤه لمعرفة حقيقة موت السلطان عبد العزيز وعاونه تسعة عشر طبيبا بينهم أطباء السلطان وأطباء السفراء والقناصل وبعد ساعتين من التحقيق أصدروا بيانا جاء فيه أن سبب الموت هو الإنتحار وهناك رواية ثانية تقول إن حسين عوني باشا ورديف باشا تخوفا من عودة السلطان المخلوع فأرسلا أربع رجال إلى القصر وهو نائم فثبتوه في مكانه ثم قام أحدهم بأخذ مقص كان بالقرب منه وقطع عروق السلطان ثم إتهم مدحت باشا خلال عهد السلطان عبد الحميد الثاني بذلك والذى أمر بقتله فقتل في مدينة الطائف ببلاد الحجاز عام 1883م وأما حسين عوني باشا ومحمد رشدي باشا فقد لقيا مصرعهما في يوم 16 يونيو عام 1876م على يد أحد مرافقي الأمير يوسف عز الدين إبن السلطان المخلوع بسبب تداول إسميهما في صحف إسطنبول علي أنهما متورطان في قتله وقد دفن في قبر قرب والده السلطان محمود الثاني وجدير بالذكر أن حادثة موت السلطان عبد العزيز تعد من النقاط الحاسمة في التاريخ العثماني ولم يختلف المؤرخون في تفاصيل قضية كإختلافهم في دقائق وتفاصيل هذه الحادثة التي لا يزال تأكيدها سواء بالإنتحار أو القتل بشكل قاطع غير ممكن وحتى المؤلفات والوثائق التي نشرت بعد إنهيار الدولة العثمانية في ظل الجمهورية التركية والتي كان يؤمل أن تكشف الستار عما خفي في هذه القضية من أسرار لم تأت بجديد وإن كانت أغلب الروايات تميل إلى رواية الإنتحار حتى أن أهل العاصمة إسطنبول وضعوا أغان وقصائد حزينة لما بلغهم مصرع السلطان عبد العزيز وتعاطفوا معه وكان من أبرز تلك القصائد التي تبنت رواية القتل تلك القصيدة التي نظمها نامق كمال باشا أما الذين إعتقدوا أنه مات منتحرا فقد ألفوا أغنية على لسان السلطان عبد العزيز مفادها إن محن الدنيا لا يجب أن يتحملها إنسان حرصا على نفسه وفيما بعد ألف المؤرخ والكاتب التركي قدير مصر أوغلو كتابا بعنوان السلطان عبد العزيز السلطان المظلوم دافع فيه عن سياسة هذا السلطان البائس في الحكم.
|