بقلم الدكتور / محمود رمضان
صادفت في الحياة أنثى الأعذار، فقد اعتادت أنثاي كل صنوف الأعذار، فتقدم العذر على السلام، وألم الظهر عن كيف الحال!
تتوجع مفردات الحديث من فمها، كأن اللغة ثمانية وعشرين عذراً استبدلت فيها الحروف رسماً أعذار، وحين أحدثها تختلق عجائب الأعذار، تغيب في الظلمة العتماء خلف الأدغال وتظهر بلا إنذار..
أقول: صباحك أجمل ثعلبتي
تجيب: كنتُ متعبة!
وعندي لوعة
ملتاعة حبيبي الحمار
حدث تصدع حَلمت به
أحدث شرخاً في الجدار السابع خلف الشجرة الكبيرة حيث يسكن شبيهك الحمار وبنوه الصغار !
بالطبع أي كلام في كلام!
قاموس الأعذار لديها لا يجف مداده والريشة العتيقة كأنها يراع من نار..
أنامل محتالة تنظر بها وعيون في الكلام كالسيوف حين تختال على أنغام الجيتار..
كانت تبحث عن ذاتها في سراديب البرك والمستنقعات وأدغال الطبيعة وطبقاتها وتاريخ بنو الثعالب وأقرانهم من الديكة وأبو منقار بمعول هزيل تناثرت قواه مع الزمن في الغبار..
منحتها الهجاء من الألف للياء!
فمارست أقدم طبقات الدهاء
أقول: يا ثعلبتي الهوجاء
أرضك تبدأ من هنا
تقول حبيبي
أقول: ماذا تقولين
حبيبي!
هذا يا ثعلبتي ليس بترتيب الهجاء الذي علمتك اياه على الأوراق والثمار
تجيب: أعلم
وهذا يأتي في سياق الذكاء
نسجت من العواطف المهترئة غربال ودُف وكورال وزار والحفل كبير وبنو الثعالب في أدغالهم كبار!
إن أصعب حب في الدنيا حب المرهونة كثيرة الأعذار حتى ولو كانت ثعلبة في الأدغال
لا تدري أنت أيها المخدوع!
يا أيها الحمار!
هل تنعم هي بالحب في وكرها وتغرقك طوعاً بالأعذار
تسقي ثعلبها الشهد مذاباً وتدلل مشاعره بحروف الهجاء الأولى
فنانة في التطريز والحياكة والمكر بالخيوط على أرضية من الأنوال والأزهار
ذات مرة..
اعتذرت قبل الحديث دون أن تدري قالت أحبك يا ثعلبي! ذكرت اسمه (شمخان) ثم اعتذرت وقالت كنت أقول أحبك أنت!!
أنت
أنت يا حمار
ألم تسمعني؟!
أقول لك حبيبي وحياتي وسندي حين يجتاح السيل الجارف أدغالنا والحدائق والأنهار..
تحتال بالكلمات وتنسى ما قالت مراراً؛ وإذا انتبهت فلا سبيل إلا الأعذار..
أيقنت أن الزهايمر العاطفي قد أصابها فضيعت عواطفي المجهدة خلف حلم اللقاء المنتظر والمستحيل والحب المرهون إذا غضب ثعلبها في وكره وصال وجال
صادفتُ هذا الثعلب اللدود ذات مرة!
تعرفت إليه وتعمدت أن أذكر اسمها لديه..
فانتبه قائلاً: هذا الاسم مثل اسم حبيبة عمري ثعلبتي التي أعشق وصلها بالليل والنهار!
كذّبتُ ما شاهدت عيناي وما سجلته هي مائة مرة حين تعترف أن شمخان حبيبها ولم أصدق أو لم أحاول أن أصدق كذبها وخداعها أو أتذوق طعمه المر كعلقم الصبار!
كم كشفت عن مراوغتها بالحب كلاعبة على الأحبال والوثب والعزف على الأوتار!
وبنو الحمير لا يطربهم أبداً الطبل والنقر وأصوات ذكور الثعالب ونقيق الضفادع ولا حتى نهيق الحمار!
صدعتني من كثرة الشكوى وكرهها لشمخان، فصنعت منه ثعلباً كثعلب شجيرات البرتقال؛ لا يبرح سيفه الساكن في الغمد، ولم يستل يوماً مهماً كانت الوقائع والوطيس والصهيل وهديل الحمام، وكم كان تذمرها قاسياً وامتعاضها واليأس القادم من وراء الانكسار وما أكثر دموع الثعالب، فالبكاء عندهم آفة في انهمارها كالأمطار!
زرعت في مخيلتي فقدان الأمل في الماضي السخيف وسوء الاختيار، وأن الطموح سيأتي إليّ مهللاً بالفرح ويتحقق بعد طول انتظار!
دمرتني
دمرتني لأنني كنت يوماً لعبة امتلكتها بين يديها تلهو بها كما تلهو إناث الثعالب في الأدغال؛ أو حين يغيب ثعلبها أو في وقت الفراغ بالغابة الموحشة والحاجة لمؤنس في المسار
ضيعتني
دمرتني
جعلت مني بقايا رجل من مخلفات ألف حرب مضت، لم يبق من كياني شيء يمكن أن أتعرف عليه الآن، بل إن مشاعري تفتتت جزيئاتها..
أضحت منكسرة..
متكسرة..
حطام غابات احترقت عمداً
حين جفت ينابيع المياه
ركض السحب بلا أمطار
كشظايا الدمار
انتهت اللعبة الآن..
أُعلن انسحابي المنهزم
ووقف كل إطلاق توسلاتي لكِ
كما أُعلن عدم تحمل
أي غدر
ولا قبول لأي عذر
بل كل الأعذار
إذا صادفك في الحياة حب
فاحذر أن يرتبط بالأعذار
ولو قبلت أدنى عذر وتلى العذر عدة أعذار، فاعلم أيها المسكين -الحمار-أن مصيرك أن تلحق بشراعي المحطم على شاطيء لا مرسى له ولا فنار ..
ألا من أحد يلملم بقاياي برفق!
بلا إهدار
بلا أعذار! |