الخميس, 5 ديسمبر 2024

abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
الرئيسية
بانوراما
فرعونيات
بلاد وشركات
الحدث السياحي
سحر الشرق
سياحة وإستشفاء
أم الدنيا
حج وعمرة
أعمدة ثابتة
درجات الحرارة
اسعار العملات
abou-alhool

عدنان مندريس

عدنان مندريس
عدد : 10-2022
بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا”

عدنان إرتكين مندريس سياسي تركي ورجل دولة وحقوقي وهو من مؤسسي الحزب الديموقراطي رابع حزب معارض ينشأ بصفة قانونية في تركيا في شهر ديسمبر عام 1945م وذلك بعد خروجه من حزب الشعب الجمهورى الذى كان قد أسسه مصطفي كمال أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة وأول رئيس لها بعد خلاف شديد مع خليفته عصمت إينونو رئيس مجلس الوزراء آنذاك وكان مندريس هو أول زعيم سياسي منتخب إنتخابا حرا ديمقراطيا في تاريخ تركيا الحديثة ومن ثم تقلد منصب رئيس مجلس الوزراء التركي خلال الفترة من عام 1950م وحتي عام 1960م وذلك خلال عهد الرئيس التركي الثالث محمود جلال الدين بيار وخلال توليه منصبه خرج من معطف مصطفى كمال أتاتورك ليتحدى تشريعاته العلمانية وعلى الرغم من أنه أدخل تركيا فى حلف شمال الأطلسي وجعلها رأس حربة الغرب فى مواجهة دولة الإتحاد السوفيتي فإن ذلك لم يشفع له حينما تحرك الجيش ضده فى أول إنقلاب فى تاريخ تركيا المعاصر حيث تم إزاحته عن السلطة بإنقلاب عسكري في عام 1960م نفذه الجيش التركي وقاده الجنرال جمال جورسيل رئيس الأركان والذى تولي أولا رئاسة مجلس الوزراء حتي شهر نوفمبر عام 1961م ثم تولي منصب رئيس الجمهورية حتي شهر فبراير عام 1966م وتم إلقاء القبض علي عدنان مندريس مع إثنين من أعضاء مجلس وزرائه هما وزير المالية حسن بولاتكان ووزير الخارجية فطين رشدي زورلو بتهمة التخطيط لقلب النظام العلماني وتأسيس دولة دينية وحوكم الثلاثة محاكمة عسكرية سريعة لم تتوافر لها أي ضمانات للعدالة وحكم عليهم بالإعدام وتم تنفيذ الحكم عليه في يوم 17 سبتمبر عام 1961م وبعد أيام قليلة نفذ الحكم أيضا علي الوزيرين المذكورين كما تم القبض أيضا علي الرئيس التركي محمود جلال الدين بيار وحوكم محاكمة عسكرية أيضا وحكم عليه بالإعدام ثم تم تخفيف الحكم ليكون السجن مدى الحياة ثم أفرج عنه عام 1964م بعد تدهور حالته الصحية وكان عدنان مندريس أول رئيس وزراء يعدم في تركيا وبعد سنوات عديدة أعاد البرلمان التركي الإعتبار لشخصه مع الذين أعدموا معه بقانون صدر في عام 1990م وأقيم له ضريح خاص به فكان بذلك واحد من ثلاثة سياسيين أتراك يقام لهم ضريح تكريما لذكراهم وكان الإثنان الآخران هما السياسيان مصطفي كمال أتاتورك والذى تولي منصب رئيس الجمهورية من عام 1923م وحتي وفاته في عام 1938م وتورجوت أوزال الذى شغل منصب رئيس الوزراء خلال الفترة من 13 ديسمبر عام 1983م حتي يوم 31 أكتوبر عام 1989م ثم شغل منصب رئيس الجمهورية التركية من يوم 9 نوفمبر عام 1989م وحتي وفاته في يوم 17 أبريل عام 1993م .

وكان ميلاد عدنان مندريس في عام 1899م في آيدين بجنوب غرب تركيا وتوفي أبوه وهو في سن 9 سنوات وتلقى تعليمه في مدرسة الإتحاد والترقي بإزمير المعروفة بتوجهها الليبرالي والتي كانت نواة لحركة تركيا الفتاة صاحبة الدور الأبرز في إنهيار وسقوط الخلافة العثمانية وتأليب الشعب على السلاطين العثمانيين المتعاقبين بداية من السلطان عبد الحميد الثاني ومن تلاه من السلاطين وبعد أن أنهي دراسته الثانوية أكمل تعليمه في كلية الحقوق في أنقرة ليتخرج منها في عام 1935م وكان عدنان مندريس قد ورث مزرعة متوسطة في آيدين عن والده وعندما أتم تعليمه كان الكماليون نسبة إلي مصطفي كمال أتاتورك يسيطرون سيطرة كاملة علي الحياة التعليمية والثقافية في الجمهورية الجديدة وكان من المثير للإهتمام أن النضال الأول لمندريس من أجل الحياة السياسية بدأ داخل الأسرة فبينما كان عدنان مندريس مترددا في دخول السياسة بسبب رغبته في الإهتمام بمشاريعه الزراعية في المزرعة التي ورثها عن والده كانت زوجته السيدة بيرين سليلة العائلة السياسية الكبيرة راغبة في إدخال مندريس المعترك السياسي فكان القرار بإنخراط مندريس في الحزب الجمهوري الحر والذى أسس مندريس فرعا له في آيدين وقرر ممارسة السياسة من خلاله لكن الحزب سريعا ما ضربته الخلافات وإتخذ أعضاؤه قرارا بحله لينتقل مندريس إلى حزب الشعب الجمهوري وهو الحزب الذي كان قد أسسه أتاتورك ولكفاءته إنتخب نائبا عن آيدين على قوائم الحزب قبل أن يقال منه بسبب معارضته لقانون طرحه عصمت إينونو رئيس الوزراء والحزب حينئذ لتأميم جميع وسائل الإنتاج ومنها الأراضي الزراعية مؤكدا أن الحفاظ على الملكية الخاصة والإبقاء على حيازة الفلاحين سيؤمن إنتاجية أفضل في حين أن الدولة ورئيس الوزراء عصمت إينونو يمتلكون بالفعل ما يزيد على 70% من الأراضي في تركيا وبالتالي فإن هذا القانون ما هو إلا محاولة لترسيخ إستفادة كبار المستثمرين على حساب المنتج الصغير وفي يوم 7 ديسمبر عام 1945م قام عدنان مندريس بتأسيس الحزب الديموقراطي مع أصدقائه الذين خرجوا من حزب الشعب الجمهورى والذين كان منهم فؤاد كوبرولو ورفيق كورالتان وجلال الدين بيار الذي أصبح رئيسا للجمهورية التركية بعد ذلك كما ذكرنا في السطور السابقة ليدخل عدنان مندريس مرحلة جديدة من حياته السياسية فيها كثير من النجاحات وشئ لا بأس به من الإخفاقات وجدير بالذكر أنه قبل أن يؤسس مندريس هو ورفاقه الحزب الديموقراطي كانوا قد نشروا ما أطلق عليه التقرير الرباعي وطالبوا من خلاله إزالة المواد المناهضة للديموقراطية في النظام الأساسي لحزب الشعب الجمهورى ومن ثم من الحياة السياسية تمهيدا لتعديل الدستور ومن ثم فقد كانت حيثيات قرار إقالة عدنان مندريس ورفاقه من الحزب مبنية على دعواتهم للدفاع عن الديموقراطية وعن حرية الصحافة في البلاد .


ويمكننا القول بأن مندريس كان في هذه الفترة من حياته مدافعا شرسا عن حرية الصحافة وقاتل من أجل تعديل المادة رقم 17 والمادة رقم 50 المقيدتين لحرية الصحافة وهو ما رآه حزب الشعب الجمهورى إنقلابا على متخذى القرار ومن ثم علي الجمهورية الجديدة التي يرون أنها ملك لهم ولا يجوز التعرض لما يسطرونه من قرارات أو إنتقاد ما يتخذونه من تصرفات ولعل هذا السلاح الذي بقي في أيديهم من سيطرة على الصحافة وحرية الكلمة هو ما أوصل مندريس ورفاقه فيما بعد إلى منصة المحكمة الصورية التي قررت أن يطلق الجنود الذين خانوا الشعب وإنقلبوا على إرادته رصاصاتهم على صدر مندريس ورفاقه وعموما فقد شارك الحزب الجديد الذى أسسه مندريس ورفاقه في الإنتخابات العامة التي أجريت في عام 1946م وحصل على 62 مقعدا فقط وظل مندريس يناضل على مستوى حزبه وكان البرنامج الذى سار عليه هذا الحزب هو إقرار الحرية وضرورة التخلص من إرث دولة رأى الحزب أن ثلة من السياسيين والعسكريين يسيطرون على مقدراتها ومن ثم لم يكن صدامه مع حزب الشعب الجمهوري إلا بداية لسلسلة من الصدامات مع تلك القوة المتجذرة والمسيطرة على مفاصل الجمهورية الجديدة التي كانوا قد فصلوها على مقاسهم وكان هذا المقاس لا يسع الشعب أو أى قوى أخرى وفي عام 1950م شارك الحزب الديموقراطي في الانتخابات التي أجريت في العام المذكور ليفوز بأغلبية ساحقة شكل على إثرها مندريس حكومة جديدة وضعت حدا لهيمنة حزب أتاتورك وفي نفس الوقت شغل صديقه جلال الدين بيار منصب رئيس الجمهورية وكان مندريس قد خاض حملته الإنتخابية على أساس عدم تدخل الحكومة في شئون القطاعات الخاصة كما كان يحدث في السابق ووعود بتخفيف الإجراءات العلمانية الصارمة وإعطاء المزيد من حرية الإعتقاد والديموقراطية وبعد الفوز قام مندريس بإدخال التكنولوجيا الزراعية إلى الأرياف فأرسل الجرارات والحاصدات إلى الفلاحين كما وزع عليهم الأسمدة الكيمياوية وأرسل إليهم مرشدين زراعيين كما أنشأ مندريس العديد من السدود الكبيرة بمعدل سد في كل منطقة تقريبا حتى أخذت تركيا تتصدر الدول الأوروبية والشرق الأوسط في إنتاج القمح والبندق والتين المجفف والعنب والقطن والشاي ومختلف أنواع الخضر والفاكهة وأنشأ العديد من مخازن الحبوب كما ربط جميع القرى بشبكات طرق وأنشأ معامل النسيج ومعامل عصير الفواكه ومعامل الأسمنت ولوازم البناء ومصانع الأحذية ودباغة الجلود ومعامل الصابون والأدوية كما أنه وفي بما تعهد به أثناء حملته الانتخابية وإتخذ قرارا في بداية عهده في يوم أول رمضان عام 1369 هجرية الموافق يوم 16 يونيو عام 1950م بأن يكون الأذان باللغة العربية بعد أن كان أتاتورك قد قرر رفعه باللغة التركية وأدخل الدروس الدينية إلى المدارس العامة وفتح أول معهد ديني عال بالإضافة إلي عدد 22 معهد ديني بالأناضول من أجل تخريج الوعاظ والخطباء وأساتذة الدين إلى جانب إنشاء العديد من مراكز تعليم القرآن الكريم بلغ عددها 25 ألف مركز وإعادة السماح للأتراك بأداء الحج والعمرة وإلغاء تدخل الدولة في لباس المرأة حيث كانت سياسة حزب اتاتورك تفرض حظر على الحجاب والتضييق على من يرتدونه وعلاوة علي ذلك فقد سمح بإصدار مجلات وكتب تدعو إلى التمسك بالإسلام والسير على هديه وأخلى المساجد التي كانت الحكومات السابقة تستعملها مخازن للحبوب وأعادها أماكن للعبادة وجدير بالذكر أن مندريس لم يعلن في أى من هذه الإجراءات أنه كان إسلاميا أو مؤيدا للإسلاميين وهي التهم التي وجهت له فيما بعد .

وعموما فقد كان لهذه الأعمال أثرها الكبير في تطوير الحياة الإقتصادية في تركيا حيث تقلصت البطالة وتحررت التجارة وعاش الناس فترة إستقرار سياسي إلى جانب تراجع حدة التوتر الذي كان سائدا بين السكان والدولة بسبب الإجراءات المناهضة للإسلام ومظاهر التدين والعبادات وبذلك كسبت حكومة مندريس ثقة الشعب التركي خلال أربع سنوات من الحكم مما جعل حزبه يفوز بأغلبية ساحقة بلغت 93% من مقاعد البرلمان في الإنتخابات التي أجريت في عام 1954م وإستمرت حكومته في الإصلاحات التي بدأتها وبدأ التركيز على تقوية السياسة الخارجية لبلاده حيث إتبع عدنان مندريس المبدأ الذي يهدف إلى إندماج تركيا مع الغرب والإرتباط بالقوة العظمي الجديدة التي برزت مع إنتهاء الحرب العالمية الثانية بداية من منتصف الأربعينيات من القرن العشرين الماضي وهي الولايات المتحدة الأميريكية وكان النظام الدولي الجديد قد بدأ في التشكل وإختارت تركيا الوقوف إلى جانب دول العالم الحر الغربية ضد الكتلة الشيوعية التي تتزعمها دولة الإتحاد السوفيتي وعلى مدار السنين أصبحت تركيا حليفا قويا ضد الشيوعية وقام مندريس بتقديم الضمانات الكافية للأمريكان بأن تركيا تريد التعاون الوثيق مع الولايات المتحدة في كل المجالات وبنشوب الحرب الكورية عام 1950م والتي إستمرت حتي عام 1953م وجدت تركيا فيها فرصة ذهبية لإظهار رغبتها في القتال ضد العدوان الأحمر الشيوعي حسب مصطلحات السياسيين الأتراك في ذلك الوقت وأرسلت بالفعل فرقا للقتال هناك إلي جوار الجنود الأمريكان وبالفعل فقد سارعت الحرب الكورية في إدخال تركيا في حلف شمال الأطلسي حيث أصبحت الإدارة الأميريكية على قناعة الآن بالكفاءة القتالية للجنود الأتراك وفي العشر السنوات التالية لتسلم مندريس الحكم كانت العلاقات الأميريكية التركية قد وصلت إلي عصرها الذهبي حيث أيدت تركيا سياساتها وتعاونت معها في مجالات عديدة .


وفي مجال العلاقات والسياسة الخارجية لتركيا في عهد مندريس فقد إنضمت إلي حلف بغداد الذى تم توقيع ميثاقه في يوم 24 فبراير عام 1955م وقد عرف هذا الحلف في بادئ الأمر بإسم منظمة حلف الشرق الأوسط وكانت الولايات المتحدة الأميريكية هي صاحبة فكرة إنشاء هذا الحلف ولكن لم تشارك فيه بشكل مباشر وإنما وكلت بريطانيا في تأسيسه وكان الهدف من تأسيس هذا الحلف الوقوف في وجه المد الشيوعي في الشرق الأوسط الذى إزداد خطره علي دول الغرب خلال حقبة الخمسينيات من القرن العشرين الماضي وكان يتكون من العراق وتركيا وإيران وباكستان وبريطانيا بينما رفضت مصر كل محاولة من الغرب لضمها إلى هذا الحلف ونادت علي لسان الرئيس جمال عبد الناصر بإتباع سياسة عدم الإنحياز والحياد الإيجابي التي تعارض التكتلات والأحلاف العسكرية الإستعمارية ثنائية كانت أم جماعية وتزعمت بالمشاركة مع الهند ويوغوسلافيا هذه السياسة هذا وكان للسياسي ورئيس مجلس الوزراء العراقي آنذاك نوري السعيد دور كبير في إنشاء هذا الحلف حيث قام بزيارة العاصمة التركية أنقرة في يوم 10 أكتوبر عام 1954م وعقد سلسلة من المحادثات مع رئيس الوزراء عدنان مندريس ومن هناك أعلن أن أمن العراق وسلامته مرتبطان بأمن جارتيه تركيا وإيران وسلامتهما أما نظيره التركي فأعلن أن تركيا عازمة كل العزم على تأمين الدفاع عن المنطقة التي توجد فيها دول الجامعة العربية وإنشاء تعاون تركي عربي فيها وإختتمت الزيارة بصدور بيان مشترك في يوم 15 أكتوبر عام 1954م يوضح أن المباحثات بين الطرفين تناولت تنظيم الأمن في الشرق الأوسط وعقد إتفاق يتضمن تعهدا يقضي بالتعاون على صد أي إعتداء قد يقع عليهما من داخل المنطقة أو من خارجها وتأسيس جبهة أمن مشتركة ومتماسكة في مواجهة أولئك الذين يهدفون إلى الإستيلاء على المنطقة والتحكم في شؤونها وهو ما كان يعد إتفاقا ضمنيا بتأسيس حلف بغداد كما إتفق الطرفان علي بذل مزيد من الجهد من أجل إقناع مصر للإنضمام إلي الحلف المقترح وفي يوم 12 يناير عام 1955م وصل عدنان مندريس رئيس وزراء تركيا فجأة إلى العاصمة العراقية بغداد حيث أعلن أن تركيا والعراق قررا عقد إتفاق عسكري بينهما يرمي إلى تحقيق التعاون وكفالة الإستقرار والأمن في الشرق الأوسط ويدعو الحكومات العربية للدخول فيه ومما يذكر أن هذا الحلف لم يعمر طويلا حيث تم حله بعد إنسحاب العراق منه إبان إعلان ثورة 14 تموز عام 1958م بقيادة عبد الكريم قاسم والتي إنقلب فيها على النظام الملكي وأعلن قيام الجمهورية العراقية ولم يكن موقف تركيا عند تأسيس هذا الحلف بأقل تأييدا من موقف العراق وليس أدل على ذلك من البرقية التي تلقاها الملك العراقي فيصل من جلال الدين بيار رئيس الجمهورية التركية الذي كان يزور آنذاك باكستان والتي كان مفادها إن هذا الميثاق لا يقتصر نفعه على شعبكم فقط وإنما سيكون في مصلحة السلم العالمي وقد زاد الموقف التركي وضوحا على أثر إنضمام بريطانيا إلى الحلف حين أعلن عدنان مندريس إن الشرق الأوسط سيتحرر من كابوس القلق والإستقرار وسيصبح منطقة تقوم سلامتها على أساس متين وإن إنضمام بريطانيا صديقتنا الحميمة والحليفة إلي حلف بغداد هو أعز شئ إلى نفوسنا .

وفي مجال السياسة الخارجية أيضا كانت وقعت أزمة دبلوماسية حادة بين تركيا وسوريا بدأت في يوم 18 أغسطس عام 1957م عندما أقدمت الحكومة السورية بقيادة شكري القواتلي علي إجراء سلسلة من التغييرات المؤسسية الإستفزازية لدول الغرب مثل تعيين العقيد عفيف البيزري قائدا أعلى للجيش السوري والذي إدعت الحكومات الغربية تعاطفه مع السوڤييت مما أدى إلي زيادة الشك في إستيلاء الشيوعيين على الحكم في دمشق مما دفع العراق والأردن ولبنان إلى النظر في دعم التدخل العسكري العربي أو الغربي لإسقاط الحكومة السورية كما بادرت تركيا بالتحرك ونشرت آلاف القوات على إمتداد الحدود التركية السورية وهدد الزعيم السوفيتي نيكيتا خروشوڤ بأنه سيطلق صواريخ على تركيا لو قامت بمهاجمة سوريا بينما أعلنت الولايات المتحدة إنها لو وقع هذا الهجوم فإنها ستهاجم الإتحاد السوڤيتي ردا عليه وبحلول نهاية شهر أغسطس عام 1957م كانت كل من واشنطن ولندن على قناعة بأن سوريا لم تعد في معسكر عدم الإنحياز وأن هناك شئ ما يجب فعله لمنع تخريب بلدان الجوار وفي رسالة بتاريخ 28 أغسطس عام 1957م لوزير الخارجية الأميريكي دالاس وصف رئيس الوزراء البريطاني هارولد مكميلان القائد السوڤيتي نيكيتا خروشوڤ على أنه أكثر خطرا من ستالين نفسه وشدد على أهمية التحرك لمنع سقوط لبنان والأردن وفي النهاية العراق تحت السيطرة السوڤيتية وفي اليوم نفسه قال السفير البريطاني لدى الأردن تشارلز جونستون بأن الحكومة الأردنية كانت على معرفة بأن الخلايا المناهضة للحكومة داخل سوريا كانت مسلحة لكنها عدلت عن الفكرة وقررت إنتظار المزيد من التطورات وبناءا عليه أرسل الرئيس الأميريكي أيزنهاور مبعوثا خاصا للشرق الأوسط للعمل على حل الأزمة بالتشاور مع الحكومات ذات العلاقة فيما عدا الحكومة السورية وفي يوم 2 سبتمبر عام 1957م صرح دالاس وزير الخارجية الأميريكي في مؤتمر صحفي عقد بواشنطن بأن جميع البلدان المحيطة بسوريا كان رأيها بأن سوريا ستصبح دولة شيوعية إذا لم يحدث شئ في غضون الشهرين القادمين وجاء هذا بعد أن سلم المبعوث الأميريكي لأيزنهاور تقريرا مفصلا عن زيارته للشرق الأوسط وجاء هذا أيضا في أعقاب سلسلة من المشاورات الدبلوماسية بين مسئولين من بلدان مختلفة والتي تبين أثنائها أن إسرائيل لديها النية بالقيام بإجراء عسكرى الأمر الذي تم مناقشته خلال الأيام الأولي من شهر سبتمبر عام 1957م خلال اجتماع عقد بأنقرة بين رئيس الوزراء التركي عدنان مندريس وولي العهد العراقي عبد الإله بن علي الهاشمي والسفير الأميريكي في تركيا وفي يوم 13 أكتوبر عام 1957م نزلت قوات مصرية في ميناء اللاذقية لدعم سوريا في مواجهة التهديدات التركية وكان التوتر حينذاك قد بلغ ذروته بين تركيا وسوريا بعد أن حشدت تركيا قواتها على الحدود بينهما وقد نتج عن هذه الأزمة تقارب كبير بين سوريا والإتحاد السوڤيتي والذي إعتبرته الدول الغربية ودول حلف بغداد تهديدا شيوعيا في منطقة الشرق الأوسط ولعل التحرش التركي بسوريا كان أحد الأسباب الرئيسية لوحدة مصر وسوريا في شهر فبراير عام 1958م وفي النهاية رضخت إسرائيل لضغوط من الغرب لإظهار ضبط النفس وعدم التحرك وكان عبد الإله حذرا حيث أراد إستشارة الأردن قبل القيام بأي تحرك حيث كان إختراق الأراضي السورية من جهة الحدود الأردنية يبدو خطة أكثر سهولة له من إختراقعها عبر الحدود العراقية السورية وفي كل الأحوال كانت تركيا على إستعداد لإتخاذ تدابير عسكرية لأنها كانت ترى الوضع على أنه أمر يمس أمنها القومي وعموما فقد إنتهت هذه الأزمة في أواخر شهر أكتوبر عام 1957م عندما وافقت تركيا على وقف عملياتها الحدودية في أعقاب الضغط الأميريكي وعندما قام خروشوڤ بزيارة غير متوقعة للسفارة التركية في العاصمة السوفيتية موسكو وقد وصفت هذه الأحداث بأنها كانت فشلا ذريعا لمبدأ أيزنهاور والذي أكد على أن الولايات المتحدة قد تتدخل عسكريا لصالح تركيا حليفتها الشرق أوسطية لقتال الشيوعية الدولية .


وعلي الرغم مما حققته حكومة مندريس فإنه لم يسلم من مكائد حزب الشعب الجمهورى والعسكر من ورائه والتي أدت إلي فشل تطبيق خطط الحكومة في تحقيق مزيد من الإنفتاح الإقتصادى وتوزيع الثروة وتأسيس قواعد إقتصادية تفتح مجالات أرحب للمستثمرين الوطنيين ومن ثم الأجانب من أجل ضخ الإستثمارات في شرايين الإقتصاد التركي الضعيف في ذلك الوقت وحاول رئيس الجمهورية جلال الدين بيار من جانبه تهدئة الأجواء مع الدولة العميقة المدعومة من العسكر بتصريح قلب عليه وعلى حزبه الطاولة فقد صرح بأنه لن يحاسب على أخطاء الحقبة الماضية لكن تصريحه لم يهدئ أنصار الدولة العميقة وزعيم حزب الشعب الجمهورى عصمت إينونو والعسكر من خلفهم كما أن التصريح قلب عليه شركاءه في الحزب الديموقراطي فتوالت الإستقالات وقام هؤلاء المنشقون عنه بتأسيس حزب جديد سموه حزب الأمة لتزيد ساحة المعارضة بدلا من أن تنقص وفي واقع الأمر فإنه بداية من عام 1955م بدأ خصوم عدنان مندريس في إختلاق مشاكل من أجل إسقاط حكومته بداية من الإعتداء على الأقليات المتواجدة بتركيا مثل حرق الكنائس والإعتداء على الأقلية اليونانية والأرمن واليهود كما تم إتهام الحكومة بأنها تحاول تشتيت إنتباه الشعب بعيدا عن الأزمة الإقتصادية التي كانت تمر بها البلاد ومن ثم قامت بتصعيد الخلافات مع اليونان في القضية القبرصية وقد أدى هذا الشحن إلي وقوع مذابح اسطنبول في عام 1955م ضد الأقلية اليونانية وكان لهذه الأحداث المؤسفة أثر كبير في تراجع حزب مندريس في إنتخابات عام 1957م ومع نهاية الخمسينيات كانت إجراءات مندريس الداخلية أيضا قد إستفزت القوى العلمانية والتي إستمرت في تأليب الشارع التركي ضد سياساته من خلال المظاهرات وأعمال الشغب التي أحدثوها في البلاد خاصة في مدينتي أنقرة وإسطنبول وهكذا إستمرت مكائد خصوم مندريس بعدما كسبوا الإعلام إلى صفهم ووجه المعارضون العلمانيون من أنصار أتاتورك إلى مندريس تهما عديدة منها إهتمامه بإرضاء مشاعر الفلاحين الدينية مما أدى إلى ظهور تيار ديني مطالب بخلط الدين بالسياسة وعودة الخلافة وتطبيق الشريعة الإسلامية مما هدد بالإطاحة بالأتاتوركية وعلي الرغم من تصريحات مندريس المتكررة بالإلتزام بالنظام العلماني وعدم قبول إلغائه أو إستبداله وفضلا عن ذلك فقد إتهم مندريس بأن إعتماده النظام الليبرالي في القطاعين الزراعي والصناعي قد أدى إلى فوضى إقتصادية ومالية فكان أول المستفيدين من الإصلاح الزراعي هم كبار ملاك الأراضي الزراعية والفلاحين من أصحاب الملكيات الزراعية المتوسطة أما الفلاحين الفقراء فقد ظلوا كما هم لعجزهم عن شراء الأسمدة ودفع أجور الجرارات الزراعية كما أن إعطاء الحرية الكاملة للقطاع الصناعي قد أوقع تركيا في حالة تضخم نقدى ففي عام 1955م أصبحت الخزينة التركية خالية الوفاض من النقد الأجنبي ولم تتمكن الدولة الوفاء بديونها الخارجية التي بلغت عام 1960م حوالي مليارى دولار مما تسبب في إرتفاع أسعار السلع الضرورية إلى حد كبير .


ومن جانب آخر فقد كانت لإجراءات مندريس التي إضطر للجوء إليها بهدف السيطرة علي زمام الأمور بالتضييق على الحريات السياسية مغبتها ووجهت العديد من الإنتقادات لحكومته حيث قام عصمت إينونو زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض بحشد أنصاره في الجامعات والجيش فوقعت أحداث شغب ومظاهرات في شوارع المدن الكبرى كما قام طلاب مدرسة القوات البرية بمسيرة صامتة إلى مجلس الشعب في أنقرة إحتجاجا على سياسات مندريس وفي إحدى المظاهرات الطلابية بجامعة إسطنبول والتي قتل خلالها طالب برصاص الشرطة سارعت وسائل الإعلام لنشر أنباء كاذبة تفيد بأن رئيس الوزراء جمع طلاب الجامعة وقام بفرمهم وإلقائهم على قارعة الطرقات وهي أخبار كانت كافية لتأليب الرأى العام ضده وإضطر مندريس إلى النزول بنفسه وسط هيجان الطلاب ليوضح الأمر بعد أن إفتقد أداة تبين موقفه وتنقل الحقيقة ويذكر مرافقون أن طالبا من الغاضبين شاهد مندريس فأسرع إليه ولف يده حول عنقه محاولا خنقه فسأله مندريس ماذا تريد فأجاب الشاب أريد حرية فرد مندريس أنت الآن تلف يدك حول عنق رئيس الوزراء فهل توجد حرية أفضل من هذا . وكانت كل هذه الأحداث سببا في منح الفرصة لخصوم مندريس للإنقلاب عليه صباح يوم 27 مايو عام 1960م وكان هذا هو أول إنقلاب عسكرى في عهد الجمهورية التركية الحديثة وهو الأمر الذى تكرر بعد ذلك عدة مرات في عام 1971م ثم في عام 1980م وقد وقع هذا الإنقلاب في وقت كانت تسود فيه الإضطرابات الإجتماعية والسياسية والمصاعب الإقتصادية حيث كانت المساعدات الأميريكية حسب مبدأ ترومان ومشروع مارشال قد نفدت وهي المساعدات التي كانت قد خصصتها حكومة الولايات المتحدة الأميريكية بناءا علي إقتراح من وزير خارجيتها جورج مارشال خلال عهد الرئيس هارى ترومان للدول التي تضررت وإنهارت إقتصادياتها بسبب الحرب العالمية الثانية وبالتالي فقد إنكمش الإقتصاد التركي بنسبة 11% ومن ثم كان رئيس الوزراء عدنان مندريس يعد لزيارة إلى العاصمة السوفيتية موسكو أملا في فتح مجالات جديد للإستثمار مع السوفييت في تركيا وكان العقيد ألب أرسلان ترك الذي أعلن نبأ الإنقلاب في الإذاعة من بين أول ستة عشر ضابطا جرى تدريبهم في عام 1948م من قبل الولايات المتحدة لتشكيل المنظمة المقاومة المعادية للشيوعية ومكافحة التمرد وهكذا فقد أكد صراحة في خطابه القصير إلى الأمة الإخلاص والولاء لمنظمة حلف شمال الأطلسي وحلف بغداد وحتى لحظة إذاعته البيان كانت أسباب الإنقلاب لاتزال غامضة وقام قادة الإنقلاب بإجبار عدد 235 قائدا عسكريا وأكثر من ثلاثة آلاف ضابط مكلف على التقاعد وقمع أكثر من خمسمائة قاض ونائب عام وعدد 1400 من أعضاء هيئة التدريس بالجامعات وإعتقال رئيس هيئة الأركان العامة التركية ورئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وغيرهم من أعضاء الإدارة وأرسلوا إلى سجن جزيرة يصي أدا وتبع ذلك تعيين الجنرال جمال جورسيل الذى جاء به الإنقلاب رئيسا لأركان حرب القوات المسلحة التركية كرئيس للدولة ورئيس للوزراء ووزير للدفاع .


وبعد محاكمة صورية وكما ذكرنا في صدر هذا المقال صدر الحكم بالإعدام على عدنان مندريس ووزير خارجيته فطين رشدي زورلو ووزير ماليته حسن بولاتكان وكانت تهمة مندريس ورفاقه هي إعتزامهم قلب النظام العلماني وتأسيس دولة دينية وتم تنفيذ الحكم علي مندريس في يوم 17 سبتمبر عام 1961م وبعد أيام نفذ حكم الإعدام بوزيريه وتم دفنهم في جزيرة يصي أدا وكان إحساس الكثير من الأتراك أن مندريس ورفيقيه قتلا ظلما وإستمر هذا الإحساس يتصاعد شهرا بعد شهر وعاما بعد عام حتى حلول عام 1990م عندما إلتقط الرئيس تورجوت أوزال نبض شعبه فإتخذ قرارا جريئا بإعادة الإعتبار لمندريس ورفيقيه زورلو وبولاتكان وأوعز إلى نواب حزبه الوطن الأم الذين كانوا يمثلون الأغلبية في المجلس الوطني الكبير وهو مجلس النواب بإصدار قانون يرد الاعتبار لمندريس ورفيقيه وهذا ما قام به البرلمان التركي بالفعل والذي أصدر في يوم 11 أبريل عام 1990م القانون رقم 3623 الذي قضى بإعادة الإعتبار لعدنان مندريس وزملائه الذين أعدموا في نفس القضية وسارع الرئيس تورجوت أوزال إلى إصدار مرسوم جمهورى بالقانون ثم أصدر أمرا بنقل رفاتهم من جزيرة يصي أدا حيث دفنوا بعد إعدامهم إلى مقبرة خاصة أقامتها بلدية إسطنبول على تلة مطلة على أحد أوسع شوارع منطقة طوب كابي وفي يوم 17 سبتمبر عام 1990م في الذكرى التاسعة والعشرين لإعدامه شارك أوزال بنفسه مع أركان الدولة وقادة الجيش ورؤساء الأحزاب وجماهير غفيرة من الشعب في إستقبال الرفات بنفسه وحضر مراسيم إعادة دفن رفاتهم في القبور الجديدة وقرأ الفاتحة على أرواحهم ووصفهم في كلمة تأبينية خلال الحفل بشهداء الوطن وخرجت الصحف في اليوم التالي لتصف عدنان مندريس وفطين زورلو وحسن بولاتكان بشهداء الوطن والديموقراطية وتكريما لعدنان مندريس فقد تم تسمية مطار مدينة إزمير بإسمه كما تم تسمية العديد من الشوارع والجامعات والمدارس في العديد من المدن التركية الكبرى بإسمه إمتنانا لدوره في الحياة المدنية التركية وفي عام 2010م جاءت نتيجة الإستفتاء على التعديلات الدستورية التي تجرم الإنقلابات العسكرية ليعاقب عليها القانون بأثر رجعي بمثابة إعادة إعتبار شعبي لمندريس بعد خمسين عاما من الإنقلاب العسكرى الذي أطاح به وفي عام 2012م إشتكى عدد من نواب البرلمان التركي من إهمال قضية إعادة الإعتبار لرئيس الوزراء الأسبق عدنان مندريس وفي نهاية العام المذكور تقدم برهان كوزو رئيس اللجنة الدستورية بالبرلمان التركي بطلب للبرلمان بإعادة الإعتبار إلى رئيس الوزراء التركي الأسبق عدنان مندريس وفي إحدى خطب الرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان وصف مندريس ورفاقه بأنهم في مصاف الأجداد العثمانيين الفاتحين حيث قال إننا نسير على خطى أجدادنا الفاتحين مثل السلطان ألب أرسلان والسلطان محمد الفاتح والسلطان سليمان القانوني وعلى خطى قادتنا العظماء أمثال عدنان مندريس وتورجوت اوزال ونجم الدين أربكان وفي يوم 27 مايو عام 2020م إفتتح الرئيس التركي جزيرة يصي أدا التي غير إسمها إلى جزيرة الديموقراطية والحريات بعد إعمارها وتحويلها إلى رمز ومنارة للحريات والديموقراطية وجاء ذلك تزامنا مع الذكرى الستين لإنقلاب يوم 27 مايو عام 1960م وألقى الرئيس التركي كلمة في حفل إفتتاح الجزيرة قال فيها إن يوم انقلاب 27 مايو عام 1960م كان أحد أسوأ الأيام في تاريخ تركيا إذ تعرضت قيادات الدولة في حينها لأسوأ التصرفات والإنتهاكات غير الإنسانية مضيفا أن محاكمة مندريس كانت غير شرعية وكانت محاكمة لشعبنا وتاريخه ولأمتنا وتلك خطوط سوداء سجلت كوصمة عار في تاريخ تركيا لن تمحى من جبين الذين أصدروا قرار الإعدام على مندريس وزملائه والذين كانوا ممثلين للإرادة الوطنية والذين تعرضوا للظلم والإضطهاد جراء الإنقلاب العسكري .
 
 
الصور :
عدنان مندريس في لقاء جماهيرى عدنان مندريس والرئيس التركي جلال الدين بيار والرئيس الأميريكي أيزنهاور عدنان مندريس مع أعضاء الحزب الجمهوري الليبرالي عدنان مندريس يدلي بصوته في الإنتخابات الجنرال جمال جورسيل جلال الدين بيار عصمت إينونو