بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا”
السلطان محمود الثاني هو السلطان الثلاثون للدولة العثمانية والثاني العشرين من سلاطين آل عثمان الذين جمعوا بين السلطنة والخلافة وخليفة المسلمين الثاني بعد المائة وهو والد السلطان عبد المجيد الأول والسلطان عبد العزيز الأول وشقيق السلطان مصطفي الرابع وهو إبن السلطان عبد الحميد الأول بن أحمد الثالث بن محمد الرابع بن إبراهيم الأول بن أحمد الأول بن محمد الثالث بن مراد الثالث بن سليم الثاني بن سليمان القانوني بن سليم الأول بن بايزيد الثاني بن محمد الفاتح بن مراد الثاني بن محمد الأول جلبي بن بايزيد الأول بن مراد الأول بن أورخان غازي بن عثمان بن أرطغرل مؤسس الدولة العثمانية وقد شهد عصره خطوات إصلاح واسعة علاوة علي أنه حاول أن يوقظ الدولة العثمانية وأن يدفعها إلى إسترداد عزها ومجدها القديم وما تستحقه من مكانة وتقدير ومن ثم كانت حياته سلسلة من الكفاح الشاق لإنجاز شئ لبلاده فكان جل همه العمل بما يعود على السلطنة بالمنفعة والقوة ولذا فقد أدخل الكثير من الإصلاحات في الولايات العثمانية كافة على الرغم من أنه لم تخل سنة من سنين سلطنته من الإضطرابات والفتن الداخلية والخارجية إلا أنه كان يتغلب عليها جميعا لسمو إدراكه وهمته وذكائه وحسن تصرفه ومما يذكر أن من أهم ما قام به السلطان محمود الثاني هو القضاء علي الإنكشارية وكان مدركا تماما أن إشتداد نفوذ الإنكشارية قد حطم جهود كل من حاول الإصلاح من السلاطين السابقين قبله وأن سر نجاح محمد علي باشا في حركته الإصلاحية في مصر كان يكمن في أنه تمكن من إزالة عقبة مشابهة كانت تناوئه الحكم وهي المماليك عندما تخلص منهم في الحادثة المعروفة بإسم مذبحة القلعة في عام 1226 هجرية الموافق عام 1811م وبالفعل كما سنرى في السطور القادمة فقد تخلص السلطان العثماني محمود الثاني من الإنكشارية تماما في عام 1240 هجرية الموافق عام 1826م وعلى الرغم من أن إلغاء الإنكشارية كان أمرا ضروريا إلا أنه ترك الدولة العثمانية في وضع ضعيف ومكشوف لأنه لم يكن قد تم إعداد الجيش البديل ولذا فعلي الرغم من محاولاته الإصلاحية وما أنجزه من منجزات كبيرة إلا أن عهده قد إتسم بالهزائم الكبرى أمام الدولة الصفوية وأمام محمد علي باشا بعد صراع عنيف بينهما في بلاد الشام مما هدد الدولة العثمانية بالسقوط لولا تدخل دول أوروبا الإستعمارية الكبرى وعلي رأسها بريطانيا وفرنسا وروسيا والتي خشيت من تنامي قوة ونفوذ محمد علي باشا مما يهدد مصالحها وأطماعها في وراثة ممتلكات الدولة العثمانية ومن جانب آخر فقد تراجعت سلطة العثمانيين في البلقان وإحتلت فرنسا الجزائر في عام 1830م .
وكان ميلاد السلطان محمود الثاني في عام 1199 هجرية الموافق عام 1785م بقصر طوب كابي بالعاصمة العثمانية إسطنبول وتولي السلطنة في عام 1808م وكان عمره 23 عاما خلفا لشقيقه السلطان مصطفي الرابع الذى كان قد ثار عليه الإنكشارية بعد أن ظل سلطانا مدة 13 شهر تقريبا بعد مقتل السلطان المعزول سليم الثالث في عام 1807م والذى كان قد تولي السلطنة في عام 1789م وكان من أصحاب الهمة العالية والمصلحين في عصره وإستقر عزم السلطان محمود الثاني على أن يمضي في طريق الإصلاح الذي سلكه بعض أسلافه من الخلفاء العثمانيين والذين كان آخرهم السلطان سليم الثالث كما ذكرنا في السطور السابقة والذى تأثر به وبأفكاره الإصلاحية والتي كان مقتنعا بها تمام الإقتناع ورأى أن يبدأ بالإصلاح الحربي فكلف الصدر الأعظم مصطفى البيرقدار بتنظيم الإنكشارية وإصلاح أحوالهم وإجبارهم على إتباع التنظيمات القديمة الموضوعة منذ عهد السلطان العثماني العاشر سليمان القانوني وأُهملت شيئا فشيئا حيث كان الجنود الإنكشاريون يتميزون حتي العهد المذكور بالشجاعة الفائقة والصبر في القتال والولاء التام للسلطان العثماني بإعتباره إمام المسلمين وكان هؤلاء الجنود يختارون في سن صغيرة من أبناء المسلمين الذين تربوا تربية صوفية جهادية أو من أولاد الذين أسروا في الحروب أو تم شراؤهم بالمال وكان هؤلاء الصغار يتم تربيتهم في معسكرات خاصة بهم ويتعلمون بها اللغة والعادات والتقاليد العثمانية ومبادئ الدين الإسلامي وكانوا في أثناء تعليمهم يقسمون إلى ثلاث مجموعات الأولى تعد للعمل في القصور السلطانية والثانية تعد لشغل الوظائف المدنية الكبرى في الدولة والثالثة تعد لتشكيل فرق المشاة في الجيش العثماني ويطلق على أفرادها الإنكشارية أي الجنود الجدد وكانت هذه المجموعة هي أكبر المجموعات الثلاث وأكثرها عددا ولكن للأسف كانت أحوالهم قد تغيرت حيث تحولوا مع مرور الزمن إلي مركز قوة نغص حياة الدولة العثمانية وعرضها لكثير من الفتن والقلاقل وبدلا من أن ينصرف زعماء الإنكشارية إلى حياة الجندية التي طبعوا عليها راحوا يتدخلون في شؤون الدولة ويزجون بأنفسهم في السياسة العليا لها وفيما لا يعنيهم من أمور الحكم والسلطنة ووصل بهم الحال أنهم كانوا أحيانا يطالبون بخلع السلطان الموجود في الحكم وتولية غيره كما كانوا يأخذون العطايا عند تولي كل سلطان جديد وإعتبروا هذا حقا مكتسبا لا يمكن لأى سلطان مهما أوتي من قوة أن يتجاهله وإلا تعرض للمهانة أو العزل أو القتل على أيديهم .
وعندما بدأ الصدر الأعظم مصطفي البيرقدار ينفذ تعليمات وتوجيهات السلطان محمود الثاني بشأن إعادة تنظيم وتحديث نظام فرق الإنكشارية فوجئ بإعتراض شرس وعنيف منهم وثاروا في العاصمة إسطنبول ثورة عارمة في شهر رمضان عام 1223 هجرية الموافق شهر أكتوبر عام 1808م وحاولوا أن يعيدوا السلطان السابق مصطفى الرابع إلي الحكم ليكون ألعوبة في أيديهم وأضرموا النيران في السرايا الحكومية وقتل الصدر الأعظم في هذه الفتنة محترقا وهو يحاول أن يقضي على تلك الفتنة ولذا فقد إضطر السلطان محمود الثاني أن يخضع لهم مؤقتا بعد أن أضرموا النار في العاصمة بعد ذلك وكادت النيران أن تقضي عليها مؤجلا فكرة التخلص منهم إلى وقت آخر للتفرغ للقضايا الخارجية التي كانت تهدد البلاد الإسلامية ووجه عنايته إلى بناء فرق عسكرية تأخذ بالنظم الحديثة فأنشأ قوة من سلاح المدفعية على يد ضباط أوروبيين وكان نجاح هذه القوة في تعلم الفنون العسكرية الحديثة حافزا له في تنظيم قوة أخرى من المشاة على نفس الطريقة وبدأ يعمل على إيجاد رأى عام يؤيد ما يتجه إليه من إصلاحات بإقامة الحفلات الكبرى لأى إنجاز تقوم به قواته وقام بإستصدار فتوى من كبار مشايخ الدولة بوجوب تعليم فنون الحرب وضرورة إصلاح الجندية وإدخال النظام العسكري الحديث في فرق الإنكشارية التي لا يمكنها بما هي عليه آنذاك الوقوف أمام الجيوش الأوروبية الحديثة وعقد إجتماعا في يوم 19 من شهر شوال عام 1241هجرية الموافق يوم 27 من شهر مايو عام 1826م في دار شيخ الإسلام حضره قادة أسلحة الجيش بما فيهم كبار ضباط فيالق الإنكشارية ورجال الهيئة الدينية وكبار الموظفين ونوقش في هذا الإجتماع ضرورة الأخذ بالنظم العسكرية الحديثة في الفيالق الإنكشارية ووافق جميع المجتمعين على ذلك وتلي مشروع بإعادة تنظيم القوات الإنكشارية وأصدر شيخ الإسلام فتوى جديدة بوجوب تنفيذ التعديلات الجديدة ومعاقبة كل شخص تسول له نفسه الإعتراض عليها غير أن الإنكشارية لم يلتزموا بما وافق عليه الحاضرون في هذا الإجتماع فأعلنوا تمردهم وإنطلقوا في شوارع إسطنبول العاصمة يشعلون النار في مبانيها ويهاجمون المنازل ويحطمون المحلات التجارية بعد أن تنبهوا لنية السلطان محمود الثاني إنشاء جيش نظامي حديث وجرت هذه الثورة في يوم 14 ويوم 15 يونيو عام 1826م فكان أن دعا السلطان الشعب إلى قتال الإنكشارية ووقف إلي جانبه معظم الجيش والأهالي ضدهم وإستدعى السلطان عدة فرق عسكرية من بينها فرق السباهية وهي وحدات الفرسان الموالية للسلطان والتي أجبرت فرق الإنكشارية على التراجع إلى ثكناتهم كما إستدعي السلطان أيضا فرق من سلاح المدفعية الذي كان قد أعيد تنظيمه وتدريبه وفي صباح يوم 9 من شهر ذي القعدة عام 1240هجرية الموافق يوم 15 من شهر يونيو عام 1826م خرجت قوات السلطان إلى ميدان الخيل بإسطنبول وكانت تطل عليه ثكنات الإنكشارية وتحتشد فيه الفيالق الإنكشارية المتمردة ولم يمض وقت طويل حتى أحاط رجال المدفعية بالميدان وسلطوا مدافعهم على الإنكشارية من كل الجهات فحصدتهم حصدا بعد أن عجزوا عن المقاومة وسقط منهم حوالي ستة آلاف جندي وفي اليوم الثاني من هذه المعركة التي سميت بالواقعة الخيرية أصدر السلطان محمود الثاني قرارا بإلغاء الفيالق الإنكشارية إلغاءا تاما شمل تنظيماتهم العسكرية وأسماء فيالقهم وشاراتهم وإنتهى بذلك تاريخ هذه الفرقة التي كانت في بدء أمرها شوكة في حلوق أعداء الدولة العثمانية وتم إعدام أو عزل الناجين وبعد سنتين وفي عام 1828م قام السلطان محمود الثاني بمصادرة آخر ممتلكات الإنكشارية وبذلك تخلص السلطان العثماني محمود الثاني من فرق الجنود الإنكشارية الذين كانوا سببا في قوة الدولة العثمانية في بداية عهدها وأيضا كانت من أسباب إنهيارها فيما بعد .
وبعد أن تخلص السلطان محمود الثاني من فرق الإنكشارية بدأ يعمل علي تنظيم الجيش على النظام الأوروبى الحديث وفضلا عن ذلك فقد أحيا السلطان محمود الثاني ما أقامه السلطان مصطفى الثالث من مدارس للطوبجية والبحرية والهندسة وأنشأ مدرسة حربية جديدة لتخريج الضباط على غرار المدارس الحربية الأوروبية ومدارس لتعليم الجند وتدريبهم على نسق مدارس الجيش البريطاني في إنجلترا وأخذ السلطان محمود الثاني بنظام التجنيد الإجباري لأبناء المسلمين وجعل مدة التجنيد عشر سنوات وأرسل الضباط في بعثات للخارج على نطاق واسع وإستدعى عددا من الضباط من المانيا لتدريب القوات الجديدة وكان من أهم إصلاحات السلطان محمود الثاني في المجال الحربي أيضا إتجاهه إلى العناية بالبحرية العثمانية وإصلاحها فأعاد فتح مدرسة البحرية التي كان قد أنشأها السلطان مصطفى الثالث في عام 1208 هجرية الموافق عام 1793م وشرع في بناء ثكنات خاصة لرجال البحرية الذين سموا أحيانا بجنود البحر وبنى دارا جديدة للمدرسة البحرية ووجه عنايته إلي تلاميذها ومدرسيها وزودها بالأدوات والمكتبة والأجهزة اللازمة ثم بنى مدرسة بحرية أخرى قصرها على الطلاب المتفوقين من المدرسة القديمة وبعد الهزيمة القاسية للأسطول العثماني في معركة نافارين البحرية أمام الأساطيل الأوروبية المتحالفة والتي وقعت في يوم 20 أكتوبر عام 1827م خلال حرب الإستقلال اليونانية في خليج نافارينو على الساحل الغربي لشبه جزيرة البيلوبونز في البحر الأيوني أعاد بناء الأسطول العثماني بالترسانة العثمانية بخليج القرن الذهبي المتفرع من البوسفور بإسطنبول وكانت هذه الترسانة هي القاعدة الرئيسية وحوض بناء السفن البحرية في الدولة العثمانية منذ القرن السادس عشر الميلادى حيث أنشأها السلطان العثماني السابع محمد الفاتح ثم تم تطويرها مرتين أولها في عهد السلطان العثماني التاسع سليم الأول وثانيها في عهد إبنه السلطان العثماني العاشر سليمان القانوني وفي عهد السلطان محمود الثاني تم بها بناء أول سفينة حربية تعمل بالبخار في عام 1828م كما أمر نخبة مهندسيه في العام التالي 1829م ببناء سفينة المحمودية ذات المائة وثمانية وعشرين مدفعا موزعين على ثلاثة طوابق وبلغ عدد بحارتها عدد 1280 بحارا والتي إعتبرت فخر البحرية العثمانية في تلك الفترة وشاركت فيما بعد في حرب القرم التي قامت بين الدولة العثمانية وروسيا ما بين عام 1853م وعام 1856م حيث تم إستخدامها في حصار مدينة سيفاتوبول تحت إمرة العميد بحري العثماني أحمد باشا وهناك مجسم معروض لها في المتحف البحري العسكري في إسطنبول وقد بقيت هذه السفينة هي الأضخم في العالم لسنوات عديدة وكان كلما إنتهى العمل في بناء قطعة بحرية أُنزلت للبحر في إحتفال عظيم ومما يذكر أن السلطان محمود الثاني كان يسر لإنشاء السفن الجديدة سرورا عظيما ويخلع على طاقمها هباته وهداياه .
وفي مجال التعليم أولي السلطان محمود الثاني عنايته بتنظيم التعليم حيث أنشأ المدارس الإبتدائية التي كانت تسمي صبيان مكتبي لتعليم الهجاء التركي وقراءة القرآن الكريم ومبادئ اللغة العربية والمدارس الثانوية التي عرفت بإسم مكتب رشدية لتعليم الرياضيات والتاريخ والجغرافيا إلى جانب المدارس الملحقة بالمساجد كما أنشئت مدارس كانت تعد طلابها للإلتحاق بمدارس البحرية والطب والزراعة والهندسة والمدفعية وكانت المدرسة الإعدادية لمدرسة الطب ملحقة بها وعلاوة علي ذلك فقد إعتنى السلطان محمود الثاني بمدرسة تعليم اللغات التي أنشئت في عصر السلطان مصطفى الرابع لتخريج المترجمين وكان يلتحق خريجو هذه المدارس بالسفارات المختلفة كما أكثر السلطان محمود الثاني من إرسال البعثات العلمية إلى لندن وباريس لتحصيل الفنون والعلوم الحديثة وكلف سفيره في باريس أحمد باشا بمرافقتهم وكتابة تقارير عنهم وذلك إلي جانب إهتمامه بالمكتبات حيث قام بتجديد المكتبة المحمودية بالمدينة المنورة وفي المجال الإدارى حاول السلطان محمود الثاني إصلاح أجهزة الدولة المركزية بالطريقة الأوروبية فوضع الأوقاف تحت إشرافه وألغى الأوقاف الصغيرة وضمها إلى أملاك السلطان وأجرى أول إحصاء للأراضي الزراعية التركية في العصر الحديث وأدخل تحسينات على شبكة المواصلات وأنشأ طرقا جديدة وأدخل البرق وخطوط السكك الحديدية في البلاد كما أنشأ جريدة رسمية للدولة وفي المجال العمراني شهد عصر السلطان محمود الثاني نشاطا كبيرا في حركة التعمير وصيانة المرافق القديمة التي أصابها الإهمال فأنشأ في عام 1241 هجرية الموافق عام 1825م جامع نصرت أي جامع النصر في إسطنبول وأعاد تعمير مسجد آيا صوفيا ومعظم مساجد العاصمة كما شيد جسر أونقاباني والمعروف حاليا بإسم جسر أتاتورك على خليج القرن الذهبي إلى الشمال من جسر جالاتا وأنشئت في عهده أيضا المدرسة الشرعية الإسلامية في مكة المكرمة كما عمل السلطان محمود الثاني على إصلاح الملابس حيث إستحدث لباسا يشبه اللباس الأوروبي وإستبدل العمامة بالطربوش الذى كان يرتديه الرعايا العثمانيون في ولايات الأفلاق والبغدان والذى كان بمثابة قبعة رومانية وأجبر موظفي الحكومة المدنيين والعسكريين على إرتداء اللباس الجديد في أماكن عملهم ومن الطريف أنه قد تعرض لهجوم شديد بسبب ذلك وإتهم بالكفر والزندقة وأخيرا فقد قام بزيارة الولايات العثمانية الأوروبية للوقوف على حالها وأخذ على عاتقه تحديث الدولة العثمانية لكي تجارى الدول الكبرى من جديد .
|