بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا”
السلطان سليم الثالث هو السلطان الثامن والعشرون للدولة العثمانية والعشرون من سلاطين آل عثمان الذين جمعوا بين السلطنة والخلافة وخليفة المسلمين المائة وهو إبن السلطان العثماني السادس والعشرين مصطفى الثالث بن أحمد الثالث بن محمد الرابع بن إبراهيم الأول بن أحمد الأول بن محمد الثالث بن مراد الثالث بن سليم الثاني بن سليمان القانوني بن سليم الأول بن بايزيد الثاني بن محمد الفاتح بن مراد الثاني بن محمد الأول جلبي بن بايزيد الأول بن مراد الأول بن أورخان غازي بن عثمان بن أرطغرل مؤسس الدولة العثمانية وقد تولى السلطنة بعد وفاة عمه السلطان عبد الحميد الأول في عام 1203 هجرية الموافق عام 1789م والذى كان قد تولي السلطنة في عام 1774م بسبب إصابته بنزيف دماعي علي إثر سماعه أخبار هزيمة جيوشه وأوضاعها السيئة علي مختلف الجبهات التي تحارب فيها وكانت آنذاك المعارك الحربية مستمرة علي عدة جبهات ضد عدة جيوش والتي كان أهمها وأشرسها الجيشين الروسي والنمساوى وكانت هذه المعارك قد بدأت في عام 1787م قبل سنتين تقريبا من تولي السلطان سليم الثالث الحكم ولذا فقد كانت فترة حكمه صاخبة للغاية حيث تعددت خلالها الأحداث الكبرى سواء في الدولة العثمانية أم في العالم بصورة لا تتكرر كثيرا في التاريخ وعندما تولي الحكم أعطى وقته وجهده للقتال وتقوية جيوشه التي كانت تقاتل في أكثر من جبهة ومدها بالعتاد والسلاح والمؤن وفي الحقيقة كان السلطان سليم الثالث من ألمع السلاطين العثمانيِين ومن أعظمهم جرأة في الحق ومن أكثرهم رغبةً في الإصلاح والتغيير وكان يملك حكمةً كبيرة تفوق بكثير سنوات عمره القليلة عندما تولي الحكم ومما يذكر أيضا أنه بخلاف الحروب التي كانت تخوضها الدولة العثمانية في عهد السلطان سليم الثالث كانت أيضا الحملة الفرنسية علي مصر بقيادة الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت بين عام 1798م وعام 1801م دون إعلان الحرب على الدولة العثمانية وكانت مصر آنذاك ولاية تابعة لها وكان الهدف الرئيسي من هذه الحملة السيطرة على طريق التجارة الإنجليزية الذي كان يربط بريطانيا بمستعمراتها في قارة آسيا خاصة في الهند ولم يكن في مقدور السلطان العثماني سليم الثالث أن يتصدى لهذه الحملة وأن يرسل جيشا يتولي طرد الفرنسيين من مصر ولولا تدخل بريطانيا في الأمر وعرضها مساعدة الدولة العثمانية على إخراج الفرنسيين من مصر لا رغبة في حفظ أملاك هذه الدولة بل من أجل حماية مصالحها وخوفا على طريق الهند من أن يكون في قبضة دولة قوية يمكنها معاكستها فقبلت الدولة العثمانية هذه المساعدة بكل إرتياح مما أدى في النهاية إلي خروج الفرنسيين من مصر وفي عهد السلطان سليم الثالث أيضا كان تولي محمد علي باشا ولاية مصر في شهر مايو عام 1805م ومن ثم بداية حكم الأسرة العلوية نسبة إليه لمصر والذى إستمر حتي عام 1952م بعد أن أجمع المشايخ والعلماء والوجهاء علي عزل الوالي خورشيد باشا وتعيين محمد علي باشا واليا على مصر بدلا منه فتمنع محمد علي في البداية حتي لا يتهم بأنه وراء الثورة علي خورشيد باشا وأنه يعمل لمصلحته الشخصية طامعا أن يكون واليا على مصر ولكن المشايخ والعلماء والوجهاء وعلي رأسهم عمر مكرم باشا نقيب الأشراف قلدوه خلعة الولاية وتم إقرار ذلك بموجب فرمان سلطاني صدر من الباب العالي بإسطنبول عاصمة الخلافة العثمانية في يوم 9 يوليو عام 1805م وبعد ذلك بحوالي سنتين كانت أيضا في أواخر عهد السلطان سليم الثالث بداية حملة فريزر البريطانية علي مصر والتي بدأت في شهر مارس عام 1807م وإحتلت الإسكندرية قبل حوالي شهرين من خلع السلطان سليم الثالث وعلاوة علي ذلك فقد كان السلطان سليم الثالث من أصحاب الهمة العالية والمصلحين في عصره الذين بذلوا جهدا كبيرا لتحقيق العديد من الإصلاحات في المجال العسكرى البرى والبحرى وفي مجال التعليم والطب وفي المجالات الإدارية والعمرانية إلا أنه تعرض لثورات فرق الجنود الإنكشارية مما أفشل هذه المحاولات وكانت النتيجة أن أصبح عهده للأسف الشديد فاتحة لعصر التدهور الطويل الذي لن ينتهي إلا بإنهيار الدولة العثمانية نفسها في بواكير القرن العشرين الماضي كما كان في عهده أيضا بداية فقدان أقاليم الإمبراطورية العثمانية تدريجيا لصالح القوى الأوروبية التي تكتلت وحشدت قواها من أجل إسقاط الدولة العثمانية مما أدى إلي تحول آل عثمان إلى ألعوبة في أيدى تلك الأخيرة.
وكان ميلاد السلطان سليم الثالث في يوم 28 من شهر جمادى الأولي عام 1175 هجرية الموافق يوم ٢٤ ديسمبر عام ١٧٦١م في العاصمة العثمانية إسطنبول لوالده السلطان مصطفى الثالث وأمه مهرشاه سلطانة وتلقى تعليمه في القصر السلطاني وأحسن الخط والأدب وكان على قدر كبير من العلم والثقافة وكان يتحدث بطلاقة اللغة العربية والفارسية بجانب التركية وكان ينظم الشعر وأحسنه وإهتم أيضا بالموسيقى والفنون التشكيلية وكان رجلا يعفو عند مقدرته فأكثر العفو على من كان يثور على بابه العالي بعد توليه السلطنة كما كان يكره الظلم حتى وإن كان علي غير المسلمين ويحارب أهله وفي عام 1203 هجرية الموافق عام 1789م تولي السلطنة خلفا لعمه السلطان عبد الحميد الأول كما ذكرنا في السطور السابقة وكان يبلغ من العمر آنذاك 28 عاما تقريبا وكانت رحي الحرب بين الدولة العثمانية وبين كل من روسيا وحليفتها النمسا مستعرة وكانت روسيا آنذاك قد تمكنت من الإستيلاء على عدة مناطق عثمانية منها الأفلاق والبغدان وهما في المجر ورومانيا حاليا وغيرهما فضلا عن إحتلال بلاد الصرب وكان ذلك في عام 1205 هجرية الموافق عام 1790م كما تمكنت روسيا أيضا من الإستيلاء على العديد من المدن العثمانية هذا فضلا عن العديد من الجرائم التي إرتكبتها وهنا أصبحت الدولة العثمانية في خطر عظيم وكان لو إستمر تحالف النمسا وروسيا لفقدت الدولة العثمانية أغلب أملاكها في القارة الأوروبية لكن من حسن حظها أن توفي الإمبراطور النمساوى جوزيف في يوم ٢٠ فبراير عام 1790م وخلفه ليوبولد الثاني والذى أشغلته الثورة الفرنسية التي قامت على الملك لويس السادس عشر خوفا من إمتداد لهيبها إلي باقي دول أوروبا وسعت في مصالحة الدولة العثمانية بوساطة بعض الدول المعادية لفرنسا وأمضى معها في شهر سبتمبر عام ١٧٩٠م شروط صلح إبتدائية صارت نهائية بمقتضى معاهدة أبرمت بينهما في يوم ٢٢ ذي الحجة عام ١٢٠٥م الموافق يوم ٤ أغسطس عام ١٧٩١م بمدينة ستووا التي تسمى في الكتب التركية زشتوي ولم تترك الدولة العثمانية بمقتضاها إلا ما لا يذكر من بلادها وردت إليها النمسا بلاد الصرب وعاصمتها مدينة بلجراد وجميع ما كانت قد إستولت عليه من الأقاليم والأراضي والمدن والقلاع والحصون التي احتلتها جيوش النمسا أثناء الحرب بينها وبين الدولة العثمانية بما فيها إمارة الأفلاق والأجزاء المحتلة من بلاد البغدان حتى تعود الحالة وحدود الدولتين إلى ما كانت عليه يوم ٩ فبراير عام ١٧٨٨م كما إتفقت الدولتان أيضا علي إقامة علاقات دبلوماسية وعلي تبادل السفراء وإحياء الحركة التجارية فيما بينهما .
ولم تتبع روسيا حليفتها النمسا في طريق الصلح بل إستمرت فى محاربة الدولة العثمانية بمفردها وفي يوم ١٦ من شهر ربيع الآخر عام ١٢٠٥م الموافق يوم ٢٣ ديسمبر عام ١٧٩٠م إستولى القائد الروسي سوواروف على مدينة إسماعيل عنوة والتي تقع علي ضفاف نهر الدانوب بجنوب غرب أوكرانيا وإرتكبت فيها من الأعمال الوحشية ما تقشعر منه الأبدان من قتل وفتك وسبي ولم يرحموا حتي النساء ولا الشيوخ ولا الأطفال ولما وصل خبر سقوط هذه المدينة إلى العاصمة العثمانية إسطنبول هاج الشعب ضد حسن باشا البحرى الذى كان مكلفا بحمايتها وطلبوا من السلطان سليم الثالث قتله وبالفعل أمر بذلك وحدث آنذاك أن توسطت بريطانيا وألمانيا وهولندا بين الدولة العثمانية وروسيا ودارت المفاوضات بين جميع الأطراف لمدة ثم تم التوصل إلي معاهدة للصلح بين الدولة العثمانية وروسيا في يوم ١٥ جمادى الأولى عام ١٢٠٦ هجرية الموافق يوم ٩ يناير عام ١٧٩٢م وبموجب هذه المعاهدة إمتلكت روسيا بلاد القرم نهائيا وجزءا من بلاد القوقاز والأقاليم الواقعة بين نهرى بوج والدنستير وهما بدولة أوكرانيا حاليا وأيضا إقليم بسارابيا وهو المنطقة الجغرافية التي تقع في أوروبا الشرقية ويحدها من الشرق نهر الدنستير ومن الغرب نهر بروت وهي المنطقة التي سمتها الإمبراطورية الروسية شرق مولدوفا بحيث يكون نهر الدنستير فاصلا بين المملكتين العثمانية والروسية من ناحية الحدود الأوروبية بينما ظل نهر كوبان بشمال بلاد القوقاز كما كان هو الحد الفاصل بين الدولتين من ناحية الحدود الآسيوية وأيضا تنازلت الدولة العثمانية لروسيا عن مدينة أوزي أو أوتشاكوف وهي بدولة أوكرانيا حاليا وبذلك سيطرت روسيا سيطرة كاملة علي المناطق المطلة علي البحر الأسود وقد تم توقيع هذه المعاهدة في مدينة ياش وهي تقع في دولة رومانيا حاليا وأطلق علي هذه المعاهدة إسم هذه المدينة ووقعها عن الجانب العثماني الصدر الأعظم خوجة يوسف باشا وعن الجانب الروسي الأمير بيزبورودكو وجدير بالذكر أن هذه المعاهدة كانت دليلا دامغا علي أن روسيا قد أصبحت أخطر وأقوى أعداء الدولة العثمانية كما أنها كانت البداية لتنازع النفوذ في إقليم البلقان بين روسيا والنمسا .
وبعد إنتهاء الحرب العثمانية النمساوية والحرب العثمانية الروسية وخلال الست سنوات التالية والتي كانت ما بين عام 1792م وعام 1798م إجتهد السلطان سليم الثالث في وضع خططه الإصلاحية وسعى بقوة في تنفيذها إلا أنه واجه مشاكل داخلية بذل جهدا خارقا في مواجهتها وكانت بداية محاولاته في الإصلاح والتغيير تعيينه أحد الشبان المدعو كوشك حسين باشا قبودانا عاما والذى كان ملما ودارسا لأحوال دول قارة أوروبا فبذل جهده بإخلاص لتنقية الطرق التجارية البحرية من القراصنة وأصلح الثغور وأنشأ القلاع عليها وبنى عدة مراكب حربية على أحدث الأنماط الفرنسية والإنجليزية وجلب العديد من المهندسين السويديين والفرنسيين المهرة لصب معظم قوالب المدفعية في طوبخانات الدولة كما قام السلطان سليم الثالث بإنشاء سفارات دائمة لدى دول قارة أوروبا الكبرى وإستغل إنشغال الأوروبيين بمحاربة حكومة الثورة الفرنسية التي قامت في عام 1789م وأسقطت النظام الملكي والتي كانت تحاول نشر مبادئ هذه الثورة في كل أنحاء قارة أوروبا لتحديث دولته وجيشه فإستقدم العديد من الخبراء والضباط الفرنسيين لتدريب وتحسين العساكر العثمانية ووضع نظاما للجنود المشاة وشرع في تنسيق فرق جديدة وتدريبها على النظام الأوروبي الحديث فأنشأ أول فرقة منتظمة في عام ١٧٩٦م وجعل عددها ١٦٠٠ جندى وجعلها تحت قيادة ضابط إنجليزى دخل في الدين الإسلامي وتسمي بإسم مصطفى وعمل كوشك حسين باشا أيضا على إصلاح مدارس البحرية والمدفعية وجهز مكتبة لمدرسة المدفعية وضع فيها أحدث ما سطر عن فن الحرب والرياضيات كما كان يترجم كتب المهندس العسكري الفرنسي الشهير فوبان عن فنون التحصين وكانت هذه التحديثات في المجال العسكرى تلقى ردود فعل سلبية جدا من فرق الجنود الإنكشارية وعلاوة علي ذلك عمل السلطان سليم الثالث على وضع خطة جادة لتوسيع رقعة التعليم في كافة أنحاء الدولة فقام بإفتتاح العديد من المدارس والمعاهد في كافة الولايات ورفع من مستوى العناية الطبية في الدولة بشكل عام وفي مؤسسات الجيش بشكل خاص وهو الذي أمر بإنشاء مستشفى القوات البحرية الذي قام على إدارته عدد من الأطباء الإيطاليين كما قام بوضع خطة للتنمية العمرانية في كافة المدن العثمانية الكبرى شملت بناء ثكنات واسعة النطاق مع مرافق المدينة ذات الصلة مثل المساجد والحمامات وحاليا تشكل هذه المباني الإرث المعماري الرئيسي للسلطان سليم الثالث كما أعاد السلطان تقسيم الولايات وراجع طرق إدارتها بحيث يعطيها شيئا من الذاتية في محاولة أولية لتخفيف عبء المركزية الذى كان يضع الجهد كله على عاتق الحكومة المركزية في العاصمة إسطنبول .
وللأسف الشديد لم يجد السلطان سليم الثالث تعاونا يذكر من الأنظمة البالية في دولته في المؤسسات المختلفة حيث قاوم القائمون عليها إصلاحاته وحاربوه حربا شعواء مما عرقل جهوده بشكل محزن وبإختصار كانت الدولة العميقة شديدة الإعاقة لجهوده الإصلاحية وكانت تلك الدولة متمثلة في قادة فرق الجنود الإنكشارية وحكام الولايات والموظفين الكبار والقضاة والعلماء الشرعيين بل والموظفين الصغار أيضا الذين نشأوا على النظام البالي الرتيب والفاسد في الوقت نفسه ومن ثم كان الأمر يحتاج إلى إصلاحٍ جذرى شامل وثورات تربوية وتعليمية وإجتماعية ولا يخفى على أحد صعوبة تطبيق هذه الإصلاحات خاصةً مع الضغوط الخارجية التي كانت تتعرض لها الدولة العثمانية والتي بلغت ذروتها في الحرب الروسية النمساوية التي إشتعلت في آخر سنتين من فترة حكم السلطان العثماني الراحل عبد الحميد الأول وإستمرت لمدة 3 سنوات في عهد خليفته السلطان سليم الثالث وجدير بالذكر أن الهدف من ترتيب العساكر النظامية كان الإستغناء بهم عن جنود الإنكشارية الذين صاروا عالة على الدولة العثمانية ومن عوامل تأخرها بعد أن كانوا من أهم عوامل تقدمها وقت الفتوحات المستمرة التي كانوا يعودون منها بكثير من الغنائم فصاروا لما لم يجدوا بلادا مفتتحة حديثا يحصلون منها علي الأسلاب والغنائم يتعدون على أهالي العاصمة العثمانية إسطنبول والعواصم الأخرى بالسلب والنهب فضلا عن عصيانهم المرة بعد الأخرى وعزلهم الصدور والوزراء وتعديهم على السلاطين بالعزل أو القتل إذا رأوا منهم معارضا لفسادهم أو ضعفا في معاقبتهم وعلاوة علي ذلك فبلا شك كانت الدولة العثمانية في أشد الحاجة والإفتقار للعديد من الإصلاحات والتغييرات الداخلية حيث كانت روابط الولاء بين الولاة والعاصمة قد ضعفت وسعى كل منهم في الإستقلال أو في عدم دفع الأموال الأميرية إلى الخزينة السلطانية مع نضوبها بسبب الحروب وإحتفاظهم بها لأنفسهم وفضلا عن ذلك كان المماليك في مصر والتي كانت ولاية عثمانية آنذاك قد إستبدوا بالحكم برئاسة أمرائهم والذين كان من أشهرهم الأمير مراد بك والأمير إبراهيم بك والأمير عثمان بك البرديسي وغيرهم وبذلك أصبحت مصر خارج سيطرة العثمانيين ومما زاد الطين بلة أنه ظهرت في هذه الأثناء أيضا فتنة عثمان باشا والي ولاية فيدين والتي تقع في أقصي غرب بلغاريا حاليا والملقب ببازوند أوغلي والذى حاول الإستقلال بولايته عن الدولة العثمانية كما قام بضم مساحات كبيرة من الأراضي المجاورة والمحيطة بولايته إليها وإنضم إليه الكثير من أهل بلاد الصرب وإستطاع أن يقف في وجه جنود الدولة العثمانية التي أرسلت لقمع هذه الفتنة وأخيرا سافر إليه كوشك حسين باشا بنفسه وبعد عدة مناوشات بينه وبين بازوند أوغلي كانت الحرب فيها سجالا بينهما خشي كوشك باشا من الدسائس والمؤامرات من جانب أرباب الغايات والتي من الممكن أن تتسبب في عصيان وتمرد كافة ولايات إقليم البلقان ولذا فقد إضطر إلي تدارك الأمر ومنح بازوند أوغلي ولاية فيدين طول حياته وبذلك تم حسم هذه الفتنة في عام 1212 هجرية الموافق عام 1797م ومع ذلك كان هذا الرجل يثير الذعر في المدن المجاورة ويفرض سيطرته عليها بالقوة الغاشمة وبعنف ظاهر ووصل في محاولاته للإستقلال عن الدولة العثمانية إلى أنه أمر بسك العملات بإسمه وإلى إقامة العلاقات الدبلوماسية مباشرة مع بعض دول قارة أوروبا كفرنسا وإنجلترا وروسيا والنمسا .
وبينما كانت الدولة العثمانية منشغلةً بإصلاحاتها الداخلية والخارجية وبينما كانت تحاول أن تجد طريقة لإحكام قبضتها على ولاياتها المتناثرة بلا رابط هنا وهناك في عدد 3 قارات هي آسيا وأوروبا وأفريقيا فوجئت وفجعت بإحتلال غير متوقعٍ لجزء مهم من أراضيها وهو الإحتلال الفرنسي لمصر وفلسطين وكان ذلك إحتلالٌ من دولة كانت تدعي الصداقة مع العثمانيين عدة قرون كما أن هذا الإحتلال حدث بلا توترات سابقة بين الدولتين بل علي العكس فقد جاء بعد ثلاث سنوات فقط من تجديد الدولة العثمانية لإمتيازات الفرنسيين التجارية في الدولة مما جعل المفاجأة ذات وقع ثقيل هذا وتبقى دوافع الحملة الفرنسية على مصر وفلسطين مثار جدل كبير بين المؤرخين ولم تعلن فرنسا إعلانا صريحا من جانبها يفسر هذه الحملة وإن كان السبب الأكبر في الأغلب أنها كانت حلقة في الصراع البريطاني الفرنسي القائم في ذلك الوقت بين الدولتين بهدف السيطرة علي المناطق الحيوية خارج قارة أوروبا وكانت فرنسا بالتأكيد ترغب في قطع طريق التجارة الإنجليزية التي كانت تتخذ من مصر نقطة وسيطة بينها وبين كبرى وأهم مستعمراتها في قارة آسيا وهي الهند وكانت هذه التجارة شريان حياة إقتصادى بالنسبة إلى الإنجليز ومصدرا في غاية الأهمية للمواد الخام التي زادت قيمتها بعد الثورة الصناعية الكبرى التي قامت في بريطانيا في هذه الفترة ولما كانت بريطانيا هي الدولة التي تتزعم قتال فرنسا في قارة أوروبا فإن حربها في النقاط الحيوية لها في العالم ومنها مصر كان هدفا فرنسيا مهما لذلك لم يكن عداء الدولة العثمانية مقصودا في هذه الحملة إنما جاء كأضرار جانبية للصراع الفرنسي الإنجليزى وهذا الأمر عادة ما يحدث بشكل متكرر مع الشعوب الضعيفة وكانت النتيجة أن عاني الشعب المصري من جراء هذا الصراع على أرضه وقاد هذه الحملة ألمع القادة الأوروبيين في العصر الحديث وهو الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت وجاء مسبوقا بأخبار إنتصاراته الساحقة التي حققها على النمساويين والإيطاليين في عام 1796م وعام 1797م قبيل الحملة على مصر بسنوات قليلة وكان قد إستطاع في هذه الحروب الأوروبية أن يحتل شمال إيطاليا وأن يحقق طموحات فرنسيةً لم تتحقق على مدار قرون إلا علي يديه وفضلا عن ذلك فقد تمكن في عام 1797م قبل عام واحد من غزو مصر من ضم جمهورية البندقية الإيطالية العتيدة إلى فرنسا منهيا وجودها إلي الأبد وكان نابليون في هذا الوقت أحد قادة الجيش الفرنسي الجمهوري المنقلب على الملكية وهذا أعطاه مكانةً كبيرةً في الجيش خاصة في ظل إقصاء عدد كبير من كبار قيادات الجيش الملكي القديم ثم جاءت إنتصاراته لتجعله بطلا قوميا في بلاده وقد أضاف إلى شهرته إنشاؤه لجريدتين عسكريتين تنشران أخبار المعارك كان لهما الأثر الكبير في تسويق إسمه في فرنسا وفي قارة أوروبا عموما وفي الحقيقة كان نابليون عبقريا وله عقل في غاية الفطنة وكان محبا للعلوم وتمتع إلى جوار ذلك بملكات إدارية فائقة وبثقافة واسعة وبكاريزما قيادية ملفتة للنظر وبهمة عالية لكنه كان كما يرى الكثيرون بلا قلب حيث كان وحشيا إلي أقصي حد في معاركه ومغرورا متكبرا كما أنه كان في سبيل مصلحته يطأ كل خلقٍ نبيل وجدير بالذكر أن نابليون وقت حملته على مصر والشام كان في التاسعة والعشرين فقط من العمر حيث أنه كان من مواليد 15 أغسطس عام 1769م .
وكان نابليون في شهر مايو عام 1798م قد إنتخب عضوا في الجمعية الفرنسية للعلوم وهي جمعيةٌ علميةٌ عظيمةٌ أسسها الملك الفرنسي لويس الرابع عشر عام 1666م بهدف دعم البحوث العلمية في كافة المجالات وكنتيجة لإرتباط نابليون بهذه الجمعية فقد إصطحب معه في حملته على مصر مائةً وسبعةً وستين عالما في مجالات متعددة كالتاريخ والرياضيات والأحياء والجغرافيا والإجتماع والفنون كما أحضر معه إلى مصر مطبعةً رائعةً كانت من أسرع المطابع في قارة أوروبا آنذاك وكانت تطبع باللغات الفرنسية والعربية واليونانية ولذا فإن الحملة الفرنسية على مصر كانت من الحملات الحربية النادرة في التاريخ التي كانت تحمل أهدافا علميةً حقيقية إلى جوار أهدافها السياسية والعسكرية وفي الجملة كانت البعثة العلمية المصاحبة للحملة شديدة التميز وإليها يرجع الفضل في إكتشاف حجر رشيد الذي فتح الباب على مصراعيه لمعرفة التاريخ المصرى القديم ولفهم اللغة الهيروغليفية للمرة الأولى في التاريخ ولتأسيس علم المصريات وإليهم يرجع الفضل كذلك في تأليف الكتاب القيم وصف مصر في أربعة وعشرين مجلدا والذى يعد من أروع ما كتب في وصف مصر في هذه الفترة التاريخية وغني عن البيان أن هذه الأهداف العلمية لم تكن ترمي إلى نفع البلاد المحتلة ولكن كان نابليون يؤمن بأن تأسيس إمبراطورية قوية لا يكون إلا بالعلم الراسخ في كل المجالات ولذلك إصطحب معه هذا الفريق العلمي الكبير ليتمكن من ترسيخ أقدامه في الشرق بشكل سليم وهذه في الواقع صفات عبقرية لا بد من الإشارة إليها وقد أبحر نابليون من ميناء تولون الفرنسي في يوم 19 مايو عام 1798م وكان أسطوله يضم حوالي خمس وخمسين سفينةً حربيةً حديثة بالإضافة إلى مائة وثلاثين سفينة نقل وكان معه ثمانيةٌ وثلاثون ألف مقاتل غير البحارة والعمال وكانت وجهة الحملة غير معروفة إلا لنابليون وذلك إمعانا في تضليل الأسطول الإنجليزى القوي الذي كان يراقب الموقف فخرج مسرعا ليحاول إكتشاف الهدف الذي يتحرك إليه الأسطول الفرنسي الكبير وأراد نابليون قبل أن يصل مصر أن يجعل له قاعدة صلبةً في البحر المتوسط فداهم جزيرة مالطة وإستطاع إحتلالها يوم 9 يونيو عام 1798م بعد يوم واحد فقط من الحصار وكانت مصر في ذلك الوقت تحت حكم الأميرين المملوكيين مراد بك وإبراهيم بك واللذان كانا منشقين عن الدولة العثمانية وكان نابليون يدرك ذلك ويعلم أن لا وجود لأى من وحدات الجيش العثماني بمصر وظهر الأسطول الفرنسي فجأة أمام الإسكندرية في أول يوليو عام 1798م ولم يكن ظهوره متوقعا ولذا فقد سيطر على المدينة في لحظات وعلم الأسطول الإنجليزى بوجهة الفرنسيين فتوجه إلى الإسكندرية وأدرك نابليون أن الإنجليز قد إكتشفوا مكانه فأمر قائد البحرية الفرنسية بأن يأخذ الأسطول الفرنسي فورا إلى جزيرة كورفو باليونان بعد إفراغ حمولته من الجنود والمؤن في مصر وذلك ليجنبه موقعةً خاسرةً أمام الأسطول الإنجليزى القوى لكن الفرنسيين لم يتمكنوا من الحركة السريعة فإضطرَ قائد البحرية الفرنسية إلى الإختفاء بأسطوله في ميناء أبي قير القريب لكيلا يصطدم بالإنجليز وترك نابليون نائبه الجنرال جان باتيست كليبر في الإسكندرية وتوجه بالجيش الرئيسي جنوبا في إتجاه القاهرة وعلى الرغم من المفاجأة فإن مراد بك إستطاع تكوين فرقة مملوكية بسرعة وقابل الجيش الفرنسي عند مدينة شبراخيت شرقي دمنهور في يوم 13 يوليو عام 1798م لكنه تعرض لهزيمة كبيرة سريعة حيث كان الجيش المملوكي يقاتل بأسلوب العصور الوسطي وبلا خطة أو تشكيلات محددة بينما الجيش الفرنسي كان جيشا حديثا مزود بالبنادق والمدافع وبعد هزيمة مراد بك أكمل الجيش الفرنسي طريقه إلى القاهرة .
وفي يوم 21 يوليو عام 1798م وصل الجيش الفرنسي إلى منطقة إمبابة شمال الجيزة على بعد حوالي 25 كيلومترا من الأهرام وإلتقى الفرنسيون في هذا المكان بجيش المماليك الرئيسي بقيادة مراد بك وإبراهيم بك معا وحقق نابليون نصرا حاسما عليهما حيث قتل من المماليك ألفان بينما لم يفقد الفرنسيون سوى تسعة وعشرين جنديا وعرفت هذه المعركة بمعركة إمبابة وعرفت أيضا بمعركة الأهرام وعلى الرغم من بعدها النسبي عنها ولكن كانت الأهرامات الثلاثة هي المعلم الأشهر الذي يعرفه الفرنسيون في الجيزة وقد ورد عن نابليون أنه قال لجنوده بعد هذه المعركة وهو ينظر تجاه الأهرام تقدموا وتذكروا أن أربعين قرنا من الزمان ينظرون إليكم وبعد المعركة فر مراد بك إلى الصعيد جنوب مصر بينما فر إبراهيم بك إلى إتجاه سيناء وجاء وجهاء القاهرة إلى نابليون وسلموه المدينة ليدخلها في يوم 23 يوليو عام 1798م دون مقاومة وبدأ نابليون في تنفيذ خطة ماكرة لكي يستميل إليه الأهالي ولكي لا يتعرض لمقاومتهم فإتبع طرقا دبلوماسيةً لتهدئة الشعب المصرى وتجنب المفاجآت فأعلن للعلماء والشعب أنه صديق للإسلام وأنه حليف للدولة العثمانية وأنه جاء لمصر لتخليصها من المماليك المغتصبين لها من الدولة العثمانية وبعد أن دخل نابليون القاهرة وثبت أقدامه فيها علم بقيام إبراهيم بك بتجميع لبعض القوات في منطقة الصالحية شرقي القاهرة فتحرك إليه بنفسه تاركا على قيادة القاهرة الجنرال لويس دوسيه وتمكن نابليون من الانتصار على إبراهيم بك في الصالحية فإضطر إلى الهروب إلى سيناء ومنها إلى بلاد الشام ولم يظهر في الصورة بعد ذلك وعاد نابليون إلى القاهرة ومنها أرسل فرقةً عسكريةً بقيادة الجنرال دوسيه لمطاردة مراد بك في الصعيد فتتبعته بإصرار من مدينة إلى مدينة بداية من الفيوم ومرورا بأسيوط، وجرجا والأقصر وإنتهاءا بأسوان في أقصى الجنوب في رحلة إستغرقت أكثر من تسعة شهور وفي النهاية لم يتمكن دوسيه من الإمساك بمراد بك دائم الفرار لكنه تمكن من السيطرة بقواته على جنوب مصر بشكل تام ومما يذكر أن نابليون كان في غاية الحذر وعلى الرغم من قلة عدد جنوده بالقياس إلى حجم دولة كبيرة كمصر فإنه كان متابعا لكل شاردة وواردة ولقد أدركت مخابراته وصول فرقة من مسلمي الحجاز سمعت بنبأ الحملة وأتت عن طريق البحر الأحمر إلى ميناء القصير على بعد أكثر من خمسمائة كيلو متر من القاهرة لمساعدة المصريين في التصدي للحملة الفرنسية فأرسل من القاهرة فرقةً إحتلت الميناء وسيطرت على الموقف وكانت عملية إحتلال البلاد تسير بشكل أسهل بكثير من المتوقَع وكان نابليون يمني نفسه بعد هذا الفتح السهل بتأسيس إمبراطورية سريعة كبيرة في الشرق .
ومع كل ذلك فليس كل ما يتمناه المرء يدركه حيث إكتشف الأسطول الإنجليزي القدير بقيادة الأدميرال البحرى الشهير هوارشيو نلسون مكان إختباء الأسطول الفرنسي في خليج أبي قير فقام بعد معركة إستغرقت يوم وليلة في الأول من شهر أغسطس عام 1798م بحرقه بالكامل إلا سفينتين فقط تمكنتا من الفرار وهكذا صار نابليون وجنوده محبوسين في مصر وعندما وصل الخبر إلى نابليون لم تبد عليه أى علامات إمتعاض وأبرز لجنوده تفاهة الحدث مع أن الأمر كان جللا وحقا كان الرجل رابط الجأش بصورة لا تتكرر في التاريخ كثيرا ووصلت كل هذه الأخبار المزلزلة إلى العاصمة العثمانية إسطنبول وكانت مفاجأةً كبرى للسلطان العثماني سليم الثالث لأن فرنسا لم تبد أى بادرة عداء للدولة العثمانية في السنوات السابقة وكرد فعل أعلن السلطان العثماني الحرب على فرنسا في يوم 2 سبتمبر عام 1798م وبدأ يفكر في إعداد الجيش العثماني لمهمة تحرير مصر وإن كان من المؤكد أنه في قرارة نفسه كان يعلم أن البون شاسع بين القوتين وأن إمكاناته العسكرية لا تسمح مطلقا بالدخول في حرب ضد الجيش الفرنسي وخاصة تحت قيادة نجمه الأشهر نابليون وفي نفس الوقت تلقي نابليون مفاجأة أخرى جديدة في مصر بعد مفاجأة حرق السفن الفرنسية في أبي قير حيث قامت ضد الجيش الفرنسي ثورةٌ شعبية كبرى في القاهرة منطلقةً من الجامع الأزهر وذلك في يوم 21 ويوم 22 أكتوبر عام 1798م ولم يكن الشعب المصري يشارك عادة في الخلافات السياسية التي تنشب بين القوى التي تحكم مصر على مدار القرون الماضية فلم يتدخل الشعب المصرى على سبيل المثال في الحرب بين الطولونيين والإخشيديين أو بين الإخشيديين والعبيديين الفاطميين أو بين المماليك البحرية والبرجية أو بين المماليك والعثمانيين لكنه في هذه المرة ثار وإنتفض وكان السر في ذلك يرجع إلى أن الغزاة نصارى وليسوا مسلمين ومن ثم فقد كانت القضية إذن قتالا في سبيل الله والمشاعر كانت مختلفةً تماما عن تلك التي كانوا يشعرون بها تجاه القوى الأخرى المسلمة التي تحكم مصر وبإختصار لم يكن المصريون يعبأون كثيرا بكون القائد مملوكيا أو عثمانيا ما دام مسلما ولكنهم في حالة الحملة الفرنسية كانوا يرفضون تماما أن يكون القائد فرنسيا نصرانيا وقابل نابليون ثورة أهالي القاهرة بعنف مفرط وضرب المساجد وخاصة الأزهر بالمدافع وأعدم عددا من محركي الثورة وتمكن من قمعها بعد أن قتل ألفي مصرى بينما قتل من الفرنسيين ثلاثمائة وعادت السيطرة الفرنسية محكمة على القاهرة ومصر وعموما ولم يكن الوضع آنذاك جيدا في إسطنبول حيث كانت الخطوات تسير بمعدل لا يوازى الحدث فكان السلطان قلقا من تعرض جيوشه لهزيمة فادحة من الفرنسيين وفي الحقيقة كان السلطان واقعيا ويدرك أنه لم يكن قادرا على إستخلاص مصر من أيدى المماليك الضعفاء المنشقين عنه فكيف بإستخلاصها من الجيش الفرنسي وقد سحق المماليك بكل سهولة وفي ظل هذه الصورة القاتمة أتته نجدتان الأولى متوقعة جدا والثانية غير متوقَّعة بالمرة أما الأولى فمن الإنجليز عدو الفرنسيين التقليدى والبلد الذى ليس له حتى هذه اللحظة تاريخ عداء مع العثمانيين وأما الثانية فمن الروس العدو الأكبر للعثمانيين والمهدد الأعظم لحدود الدولة العثمانية بل لوجودها .
وفي ظل هذه الأجواء السلبية قبل السلطان سليم الثالث مضطرا بالنجدتين حيث أن أسوأ شئٍ بالنسبة إلى أى دولة أن تكون إحتياجاتها في أيدي أعدائها خاصة إذا كانت هذه الإحتياجات متعلقةً بمسألة الطعام والشراب أو بمسألة الأمن والأمان وهي هنا كانت متعلقة بهذا الأمر الأخير وكان السلطان العثماني مدركا تمام الإدراك أن فرنسا كانت قد إحتلت مصر كلها في غضون شهر واحد فقط وهي قادرة أيضا على إحتلال الشام أيضا والخطوة القادمة قد تكون العاصمة العثمانية إسطنبول نفسها وفي يوم 3 يناير عام 1799م وقع السلطان العثماني سليم الثالث إتفاقيَّة دفاع مع الروس وبعد يومين وفي يوم 5 يناير عام 1799م وقع إتفاقية مماثلة مع الإنجليز وبعدها مباشرةً بدأ تجميع الجيوش العثمانية والروسية والإنجليزية في دمشق وفي جزيرة رودس في أول عملية عسكرية في التاريخ تجمع هذه القوات المتناقضة وبالطبع فقد وصلت الأخبار إلى نابليون في مصر وأدرك أنه لو إنتظر في مكانه فستباغته هذه القوات كلها في مصر وحيث أنه كان قد أصبح لا يملك سفنا للعودة فإن هلاكه سوف يكون محققا وهنا قرر نابليون أن يمتلك زمام المبادرة فإنطلق بسرعة لإحتلال فلسطين بغية الوصول إلى الشام وذلك ليقطع الطريق على الجيوش البرية التي ستتوجه إليه في مصر ولينقل المعركة إلى أرض أخرى أبعد من مصر بحيث يعطي لنفسه الفرصة للإنسحاب إليها في حال الهزيمة وفوق كل ذلك فهو سيستفيد من عنصر المباغتة وترك نابليون أكثر من نصف جيشه في مصر وإنطلق بثلاثة عشر ألف جندى إلى فلسطين عبر سيناء وفي يوم 12 فبراير عام 1799م إحتل العريش وفي يوم 25 فبراير عام 1799م إحتل غزة وفي يوم 3 مارس عام 1799م وصل نابليون إلى يافا وفيها إرتكب واحدةً من أبشع جرائمه حيث حاصر المدينة مدة أربعة أيام وبعد تواصلٍ مع الحامية العثمانية بالداخل قبلت الحامية بالإستسلام في مقابل تأمين أرواحها وفي يوم 7 مارس عام 1799م دخل الجيش الفرنسي المدينة ولم يلتزم نابليون بوعده وقتل الأسرى جميعا وليس هذا فقط بل إنقلب على المدنيين من أهل المدينة وقتل عددا كبيرا من الرجال والنساء والأطفال ووصل عدد القتلى إلى أربعة آلاف وستمائة قتيل منهم ألفين وأربعمائة وواحد وأربعين واحدا تم قتلهم طعنا بالحراب توفيرا للطلقات النارية والباقي تم قتله رميا بالرصاص ويعلق المؤرخ الإنجليزي فرانك ماكلين على هذا الحدث بقوله إن ما فعله نابليون في يافا كان مجزرة فاحشة وجريمة حرب بكل المقاييس أما المؤرخ الأميريكي چين كريستوفر هيرولد فينقل شهادة أحد القادة الفرنسيين الذين شاهدوا المجزرة وهو الميچور ديتروي الذي قال خلال مساء هذا اليوم وصباح اليوم التالي قتل الجنود الفرنسيون الهائجون الرجال والنساء والأطفال من المسيحيين والمسلمين وأى جسم يحمل وجه إنسان كان يقع ضحيةً لغضب الجنود الفرنسيين ثم يعلق المؤرخ هيرولد على هذه الشهادة بقوله هذه شهادة عيان تصف المشهد المقرف وما زالت الصفحات ترتعش من الصدمة والخجل ثم ينقل هيرولد عدة مشاهد مفجعة لحوادث قتل شرسة أو إغتصاب لفتيات صغيرات معلقات بأجساد أمهاتهن المقتولات كما ينقل إستمتاع الجنود الفرنسيين بقتل الرجل أو المرأة بعد سماع كلمات التوسل والإسترحام حيث يقول هيرولد إن هذه التصرفات من الجنود الفرنسيين تحتاج إلى دراسة من الأطباء النفسيين لا من المؤرخين وجدير بالذكر أن هيرولد أطلق على الفصل الذي شرح فيه حملة نابليون على الشام هذا العنوان الجزارون في الأرض المقدسة وإن التاريخ العثماني ليفخر أنه على مدار ستمائة سنة وأكثر لا يحوي صورة مثل هذه ولا قريبة منها وذلك على الرغم من مئات المعارك الضارية التي قادتها الدولة ضد أعداء شرسين على جبهات متعددة ولم يدفع العداء للأمم المحاربة العثمانيين قط إلى التخلي عن إنسانيتهم ولم يشهد تاريخهم قائدا مريضا كنابليون ولا جيشا وحشيا كجيش الفرنسيين وما كان يحدث أحيانا من تجاوزات كان بتصرف فردى من بعض الجنود العثمانيين ومن كان يثبت عليه إرتكاب أى أعمال سلب أو نهب غير مشروعة كان ينال عقابه فورا والذى كان يصل أحيانا إلي الحكم عليه بالإعدام .
وواصل نابليون تقدمه شمالا فخرج من يافا وحاصر عكا بدايةً من يوم 19 مارس عام 1799م وكانت المدينة الحصينة تحت قيادة واليها أحمد باشا الجزار حاكم فلسطين القوى وكان لديه جيش قوى وكانت قد أتته أيضا فرقةٌ عثمانيةٌ من النظام الجديد الذي كان قد أسسه السلطان سليم الثالث وهي فرقةٌ كانت على درجة عالية من الكفاءة وأيضا كان الأسطول الإنجليزى قد وصل إلى ميناء المدينة تحت قيادة الأميرال البحري القدير السير سيدني سميث وأمد حاميتها بالمؤن والسلاح ولهذه الأمور مجتمعة صمدت المدينة أمام الحصار وبقي نابليون محاصرا للمدينة وأرسل كليبر لملاقاة جيش عثماني قادم من دمشق وفي يوم 16 أبريل عام 1799م إلتقى الجيشان عند جبل طابور غرب بحيرة طبرية وكانت المعركة سجالا لأكثر من ثماني ساعات إلا أنه في نهاية اليوم جاء نابليون بنفسه يقود فرقةَ إنقاذ غيرت الموقف تماما فكان النصر حاسما للفرنسيين حيث قتل من العثمانيين عدة آلاف وتشتت الباقون ولم يفقد الفرنسيون سوى جنديين هذا على الرغم من أن الجيش العثماني كان يبلغ خمسةً وثلاثين ألفا بينما كان الفرنسيون ألفين فقط وفي الواقع كان فارق التسليح والتخطيط كبيرا بين الطرفين وأمر نابليون بحرق القرى المحيطة بأرض المعركة وقتل عدد كبير من سكانها عقابا لهم على الإنضمام للعثمانيين ثم عاد بعد ذلك إلى حصار عكا وأعيت الحيل نابليون ولم يتمكن من إسقاطها وبعد شهرين من الحصار ومع خوف نابليون من دخول الجيش الإنجليزى في المعركة بشكل مباشر ومع علمه بتوجه الأسطول العثماني إلى مصر ومع إشاعات بخسائر فرنسية في حروب أوروبية ومع تفشي الطاعون في جيش الفرنسيين ومع إحتمال حدوث ثورة شعبية في مصر إضطر نابليون لهذه العوامل مجتمعة أن يرفع الحصار عن عكا في يوم 20 مايو عام 1799م وإضطر إلى العودة إلى مصر دون تحقيق أى مكسب حقيقي من حملته في الشام علاوة علي أن الخسائر الفرنسية كانت كبيرة وقدر المؤرخ الفرنسي لا چونكير بناءا على دراسة أرشيف وزارة الحربية الفرنسية الخسائر في معارك الشام فقط بأنه قتل في تلك الحروب ألف ومائتان ومات من الطاعون ألف آخرون وأصيب إصابةً بالغةً تمنع من إستمرار القتال أو مرض مرضا شديدا ألفان وثلاثمائة وهذا يعني أن الجيش الفرنسي كان قد فقد حوالي ثلثه في هذه الحملة الفاشلة وكان معظمهم من قوات النخبة حيث كان نابليون قد أخذ معه من مصر إلى الشام أفضل العناصر في جيشه وكانت خسائر أهل الشام المسلمين أيضا فادحة حيث إقترب عدد القتلى من الجنود والمدنيين في غضون الشهور الثلاثة التي قضاها نابليون في الشام من عشرة آلاف شخص هذا غير ألفين وثلاثمائة أسير .
وكان نابليون يحلم أن ينتهي من أمر الشام في غضون أيام قليلة وبعدها ينطلق إلى العاصمة العثمانية إسطنبول فيسقطها ومنها ينطلق نحو إيران والهند ليؤسس إمبراطورية فرنسية شرقية غير مسبوقة ولكن أحلامه توقفت عند عكا وأرجع هو السبب في ذلك إلى وجود السير سيدني سميث قائد الأسطول الإنجليزى ولهذا كان يقول هذا الرجل هو الذي أفقدني قدرى يعني قدره في أن يكون إمبراطورا على بلاد الشرق وبمجرد وصول نابليون إلى مصر عَلِم بوصول العثمانيين إلى الإسكندرية فتوجه قسم من الجيش الفرنسي مباشرة إلى أبي قير حيث أنزل الأسطول العثماني عشرين ألف جندى بقيادة مصطفى كوسا باشا ولم يكن الجيش العثماني مقداما بالقدر الكافي وإختار المنهج الدفاعي على الرغم من أن الظروف العسكرية كانت في صالحه تماما فقد جاء مبكرا ومعه مدافع ثقيلة وعدده كبير وأهل البلد متعاونون معه في حين كان الجيش الفرنسي مرهق من رحلة الشام لكنه تباطأ بشكل غير مفهوم وبدأ في تحصين قلعة أبي قير وحفر الخنادق حولها لينتظر الجيش الفرنسي وبينما هو في تثاقله العجيب وصل إليه نابليون في سبعة آلاف وسبعمائة مقاتل فرنسي وتم اللقاء بين الجيشين في يوم 25 يوليو عام 1799م وفي غضون ساعات قليلة حقق نابليون النصر الحاسم على الجيش العثماني وتعتبر هذه المعركة واحدة من أسوأ المعارك في التاريخ العثماني كله حيث تلاشى الجيش العثماني كله بعدها حيث مات خلالها عدد 13 ألفا منهم ألفان قتلا وأحد عشر ألفا غرقا كما تم أُسر خمسة آلاف منهم القائد مصطفى كوسا باشا وإختفى ألفان يحتمل أن يكونوا قد فروا عن طريق البحر وكان هؤلاء هم العشرون ألف جندى وبعد هذه المعركة أجرى السير سيدني سميث مباحثات مع نابليون لإطلاق سراح حلفائه الأسرى العثمانيين وفي أثنائها أهدى لنابليون بعض أعداد الجريدة الإنجليزية الشهيرة لندن تايمز وفيها أخبار عن الهزائم المتكررة التي تعرضت لها فرنسا في الأيام السابقة وضياع كل المكاسب التي كان قد حققها نابليون قبل قدومه لمصر حيث كانت الأخبار منقطعةً بين باريس ومصر بسبب تدمير الأسطول الفرنسي وعدم قدرة أى سفن فرنسية أخرى على المغامرة بإختراق البحر الأبيض المتوسط في وجود الأسطول الإنجليزى العتيد وقد هزت هذه الأخبار نابليون من الداخل وكانت خطوة بارعةً من سيدني سميث لا تقل مهارة عن خطواته العسكرية البارعة وعلى الرغم من إنتصار الفرنسيين علي العثمانيين في أبي قير وتأمين وجودهم في مصر على الأقل بصورة ولو مؤقتة فإن نابليون رجع إلى القاهرة وهو في حالة من الإحباط الشديد فهزيمة فرنسا أمام الحلفاء الأوروبيين لن تجعل لبقائه في مصر معنى وفي لحظات أخذ القرار المفاجئ بالعودة سريعا ومنفردا إلى فرنسا حيث كان الجيش الفرنسي آنذاك بلا أسطول ولا يستطيع العودة بكامله إلي بلاده أما نابليون فطموحاته النهائية ليست في مصر إنما مصر كانت بالنسبة له مجرد محطة أو خطوة في طريقه وكانت أحلامه تصل إلى العرش الفرنسي ذاته بل تصل إلى تربعه علي عرش إمبراطورية أوروبية وعالمية كبيرة يكون هو على قمتها ومن ثم غادر نابليون القاهرة خفية دون أن يخبر جيشه في شهر أغسطس عام 1799م إلى الإسكندرية ومنها إلى فرنسا مستخلفا الجنرال جان باتيست كليبر على مصر ووصل نابليون إلى سواحل فرنسا في يوم 9 أكتوبر عام 1799م وعملت الدعاية الكاذبة في فرنسا على تصوير حملته على مصر والشام بأنها كانت ناجحة وأنه قد حقق إنتصارات باهرة خلالها فإستقبل إستقبال الفاتحين وإعتبر بطلا قوميا ولم يمر في قرية ولا مدينة من مكان نزوله على الساحل الجنوبي لفرنسا حتى باريس في الشمال إلا أقام له الشعب الإحتفالات والترحيب هذا على الرغم من الفشل الكبير الذي حدث لحملته فقد غرق أسطولها بالكامل ولم تتمكن من فتح عكا وإنسحبت خاسرةً من بلاد الشام وخسرت حتى ذلك الحين ثلث جنودها وكان المستقبل الذي ينتظر الجنود المحصورين في مصر بلا أسطول لو حاولوا الانسحاب مستقبل مجهول خاصةً في ضوء تدخل جيوش الإنجليز والروس والعثمانيين .
وبعد شهرٍ واحد من وصوله إلى فرنسا وفي يوم 9 نوفمبر عام 1799م قام نابليون بإنقلاب عسكرى على الرئاسة وأسس حكومة القناصل وهي رئاسةٌ مكونةٌ من ثلاثة قناصل كان هو القنصل الأول فيها بينما كان دور القنصلين الآخرين إستشاريا فقط أي صار نابليون بونابرت هو الرئيس الفعلي للبلاد وهو في الثلاثين من عمره وفي مصر أدرك كليبر أن وجوده فيها صار وجودا مؤقتا خاصة أن نابليون صار منشغلا في فرنسا بأعمالٍ كبيرة وليس من المتوقَّع أن يعود قريبا بنجدة وقد دفع ذلك كليبر إلى عقد معاهدة العريش في يوم 24 يناير عام 1800م مع الصدر الأعظم للدولة العثمانية يوسف ضياء الدين باشا وذلك في وجود قائد الأسطول الإنجليزى سيدني سميث وكانت هذه المعاهدة تنص علي رحيل الجيش الفرنسي على سفن إنجليزية بكامل أسلحتهم ولم تدخل بريطانيا طرفًا في هذه المعاهدة إنما كانت مراقبا فقط وعلى الرغم من أن المعاهدة عقدت على متن سفينة سيدني سميث كان هذا الأخير يتشكك في قبول حكومته لهذه النهاية لحملة نابليون وبعد عودة كليبر إلى القاهرة للتجهز للرحيل وصلت رسالة من الحكومة الإنجليزية تطلب من سيدني سميث عدم قبول توقيع معاهدة منفردة بين الدولة العثمانية وفرنسا بل لا بد من أن تكون بريطانيا طرفا فيها كما تطلب أن يتعامل الإنجليز مع الفرنسيين كأسرى حرب وبالتالي عليهم تسليم كامل سلاحهم وما تبقى من سفنهم وما حصلوا عليه من نفائس مالية أو علمية أثناء وجودهم في مصر وأرسل سيدني سميث إلى كليبر في القاهرة يخبره بإلغاء معاهدة العريش وبالشروط الجديدة فغضب كليبر غضبا شديدا ورفض الشروط الإنجليزية كلها وقرر المواجهة العسكرية وفي هذه الأثناء كان العثمانيون قد حركوا جيشا كبيرا بقيادة الصدر الأعظم إلى القاهرة بلغ ستين ألف مقاتل لإستلامها بعد خروج الفرنسيين وأيضا قررت بعض الرموز الشعبية الكبرى في القاهرة مثل عمر مكرم نقيب الأشراف وأحمد المحروقي شيخ التجار ومصطفى البشتيلي أحد كبار تجار الزيوت القيام بتحريك العامة للإنقلاب على الجيش الفرنسي مستغلين خروج الجيش الفرنسي لقتال العثمانيين وفي يوم 20 مارس عام 1800م خرج كليبر لملاقاة الجيش المشترك للعثمانيين والمماليك وذلك في منطقة هليوبوليس شمال شرق القاهرة وهي قريبة من حي المطرية حاليا ولذلك تعرف هذه الموقعة بموقعة المطرية كذلك وهناك على الرغم من التفوق العددى الكاسح للعثمانيين تمكن كليبر من إلحاق هزيمة فادحة بهم مع فرار كامل للجيش العثماني وقد أبرزت هذه الموقعة الحالة المزرية التي وصل إليها الجيش العثماني في هذه الفترة والبون الشاسع بينه وبين الجيوش الحديثة ولو كانت أعدادها قليلة وفي يوم هذه الموقعة نفسه قامت بالقاهرة ثورة كبيرة ضد الفرنسيين إستخدمت فيها الأسلحة والبارود وكان منشأ هذه الثورة من حيِ بولاق وقد شارك في هذه الثورة إبراهيم بك قائد المماليك الذي كان قد فر قبل ذلك إلى الشام وكان قد عاد إلي القاهرة مع دخول الجيش العثماني مصر ويبدو أنه كان قد وصل إلى إتفاق مع الدولة العثمانية وقتل في هذه الثورة عدد كبير من الفرنسيين في أيامها الأولى ثم عاد الجنرال كليبر إلى القاهرة بعد ثمانية أيام من إنتصاره في هليوبوليس ليجدها في حالة هياجٍ قصوى فجمع جنده وهجم على القاهرة وإستخدم المدافع الثقيلة في قصف المدينة وسقط الكثير من الشهداء في كل مكان وفي الوقت نفسه إتفق كليبر مع مراد بك علي أن يمنحه ولاية الصعيد كتابعٍ له في مقابل أن يمده بالمؤن والبارود في قمعه للثورة وفي مقابل أيضا تهدئة الناس للوصول إلى إتفاق وكان قمع كليبر للمتظاهرين شديد القسوة والعنف وتمكن بعد جهد من إعدام مصطفى البشتيلي ومصادرة أملاك أحمد المحروقي وفرض السيطرة الكاملة على المدينة الثائرة كما إستمر القتل في المصريين بشكلٍ بشع مما دفع قادة العثمانيين والمماليك إلى قبول الجلوس للتفاوض مع كليبر وتم الاتفاق في يوم 21 أبريل عام 1800م وبعد شهر من الثورة وكان خلاله قد وافق الجيش العثماني ومماليك إبراهيم بك على الإنسحاب إلى حدود سوريا وعلى أن تتوقف الثورة تماما في مقابل أن يعفو كليبر عن سكان القاهرة وهكذا أخمدت المقاومة تماما وغادر إبراهيم بك مع الجيش العثماني إلى سوريا أما الأمير المملوكي مراد بك فقد أُصيب بالطاعون فإنعزل وبذلك صفا الجو تماما للجنرال كليبر .
|