السبت , 21 يونيو 2025

abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
الرئيسية
بانوراما
فرعونيات
بلاد وشركات
الحدث السياحي
سحر الشرق
سياحة وإستشفاء
أم الدنيا
حج وعمرة
أعمدة ثابتة
درجات الحرارة
اسعار العملات
abou-alhool

السلطان سليم الثالث
-2-

 السلطان سليم الثالث 
-2-
عدد : 11-2022
بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا”


وفي يوم 14 يونيو عام 1800م تمكن طالب سوري أزهري إسمه سليمان الحلبي من طعن الجنرال كليبر عدة طعنات أثناء وجوده في حديقة الأزبكية أدت إلى وفاته فتسلم الجنرال جاك فرانسوا مينو قيادة الجيش الفرنسي في مصر بعده وجدير بالذكر أن مينو كان قد تحول إلى الإسلام قبل شهور وتزوج من فتاة مصرية مسلمة والتي عرفت في التاريخ بإسم غادة رشيد ورغب في البقاء في مصر وهذا جعل بينه وبين الفرنسيين حاجزا نفسيا فقد كانوا جميعا يرغبون في العودة إلى فرنسا بعد هذه الحملة الطويلة وتم إعدام سليمان الحلبي بعد محاكمة سريعة وهدأت الأوضاع نسبيا في القاهرة وكان من الواضح أن أمور الجيش الفرنسي في مصر تتجه إلى الأسوأ وأن المسألة مسألة وقت وهذا شجع الجيشين العثماني والإنجليزى على القيام بعملية مشتركة فقاموا بإنزالٍ برى في أبي قير في شهر مارس عام 1801م فخرج مينو لمحاربتهم ولكنه هزم منهم في يوم 21 مارس عام 1801م وإرتد إلي الإسكندرية متحصنا بها وتوجه الجيشان العثماني والإنجليزي إلى القاهرة وبعد حصارها ومفاوضات طويلة قبل قائد الحامية الفرنسية بليار الإستسلام على شروط معاهدة العريش فقبل منه الإنجليز والعثمانيون ذلك وسقطت القاهرة في أيديهم في يوم 10 يوليو عام 1801م ثم رجعوا إلي الإسكندرية وحاصروها وفيها مينو من يوم 17 أغسطس إلى يوم 2 سبتمبر عام 1801م وقبل هذا الأخير الإستسلام ورحل هو وباقي رجال الحملة الفرنسية بعد أن سلموا نفائس كثيرة كانوا قد إستولوا عليها من مصر وكان من بينها الحجر الذي لا يقدر بثمن والمعروف بإسم حجر رشيد والذى كان قد عثر عليه أحد الضباط الفرنسيين في قلعة رشيد والذى وصل إلى العاصمة البريطانية لندن في عام 1802م ثم تم نقله إلى المتحف البريطاني بلندن منذ عام 1803م وما زال به حتى الآن وبذلك إنتهت الحملة الفرنسية علي مصر والشام وأغلقت صفحة مؤلمة من صفحات التاريخ المصرى والعثماني والإسلامي بشكل عام وعادت مصر ولاية عثمانية من جديد وكان أشد الأمور إيلاما فيها أن المسلمين لم يتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم بأنفسهم إنما إحتاجوا إلى الإنجليز والروس وهذه كانت طامةٌ كبرى وبليةٌ عظمى أشد من إراقة الدماء وضياع الأموال ومما يذكر أنه بعد خروج الحملة الفرنسية من مصر راسل نابليون دار الخلافة عبر السفير العثماني في فرنسا لإعادة المودة بين البلدين كما كانت قبيل الحملة علي مصر فوافق السلطان سليم الثالث حيث رأى في ذلك ضمانا لعدم بقاء الإنجليز في مصر وأيضا نظرا لقوة فرنسا العسكرية آنذاك وإنتهى الأمر بعقد معاهدة صلحٍ بين فرنسا والدولة العثمانية في يوم 25 يونيو عام 1802م عرفت بمعاهدة باريس وبموجبها إستمرت الدولة العثمانية في إستقدام الضباط الفرنسيين لتحديث جيشها أما الفرنسيين فقد تحصلوا على تجديد إمتيازاتهم التجارية بعد أن كانت قد ألغيت خلال الإحتلال الفرنسي لمصر كما سمح الباب العالي للسفن الفرنسية بمشاركة السفن الروسية الإبحار في البحر الأسود .


وللأسف الشديد فقد أغرى الضعف العثماني الذى ظهر جليا في مواجهة الحملة الفرنسية علي مصر بعض الولايات بالخروج عن تبعيتها للدولة العثمانية كما كان سببا في طمع الدول الأوروبية في ممتلكات الدولة العثمانية حيث كان من الواضح أن قبضة الدولة العثمانية قد ضعفت على ولايات البلقان بشكل عام مع بدايات القرن التاسع عشر الميلادى وظهر ذلك في عدة تمردات ومحاولات للخروج من التبعية للدولة العثمانية وكان تعامل الدولة مع هذه الإضطرابات مهزوزا نظرا لعدم وجود قوة رادعة لديها يمكن أن تحسم الأمر لصالحها وعلاوة علي ذلك كان الفساد في الإدارة العثمانية يضع الدولة في حرج نتيجة الأخطاء الحقيقية التي تمارَس تجاه شعوب الولايات وكانت الدولة العثمانية والسلطان سليم الثالث علي إدراك تام بحقيقة ضعف الدولة لذلك كانت تغض الطرف أحيانا عن بعض التمردات وكانت أحيانا تتواصل مع من يقود التمرد وتحاول ترضيته بمنحه ولاية أو مال وفي أحيان أخرى كانت تضرب هذا بذاك وأحيانا كانت تستخدم القمع في ردع التمردات التي تراها شديدة الخطورة وفي الواقع كانت كل هذه الوسائل غير ناجعة لأنها لم تكن تعالج الأسباب الداعية إلي التمرد بشكل جذرى وكان ما تقوم به الدولة يعد علاجا مؤقتا يؤجل الإنفجار ولا يمنعه وخلال الفترة من عام 1802م وحتي عام 1806م حدثت عدة تمردات في بلغاريا وصربيا ومقدونيا واليونان وألبانيا والجبل الأسود وكان من أهم تلك التمردات الإنتفاضة الثورية من الصرب بغية الخروج من التبعية للدولة العثمانية وكان السبب المباشر لهذه الإنتفاضة هو سيطرة بعض الإنكشارية الهاربين من الدولة العثمانية والذين أصبحوا صداعا في رأس الدولة على الحكم في صربيا بعد قتلهم لوالي بلجراد العثماني حاچي مصطفى باشا عام 1801م الذي كان عادلا ومحبوبا بشدة من أهل بلاد الصرب وفرض هؤلاء الإنكشارية ضرائب باهظة على الشعب الصربي بالإضافة إلى العنف في المعاملة وفي واقع الأمر كانت هذه شرارة فقط لإحتقانٍ شديد في الإقليم كله وقد رأينا قبل ذلك محاولات الصرب للخروج من التبعية العثمانية عن طريق الإنضمام إلى دولة النمسا في حربها مع العثمانيين ما بين عام 1788م وعام 1791م وكانت هذه الإنتفاضة قد قامت في شهر فبراير عام 1804م بقيادة الصربي چورچ بتروڤيتش الشهير بچورچ الأسود وبعد مفاوضات فاشلة حاولت الدولة العثمانية قمع الثورة بالجيش لكنها فشلت مرتين الأولي في عام 1805م والثانية في عام 1806م وقد إستمرت هذه الإنتفاضة إلى عام 1812م أي حتي عهد السلطان محمود الثاني وستتعاون بشكل رسمي مع الروس ضد الدولة العثمانية في الحرب التي دارت بينهما ما بين عام 1806م وعام 1812م وكانت هذه هي البداية لإنفصال صربيا الكامل الذي سيحدث لاحقا في عهد السلطان عبد الحميد الثاني في عام 1878م وفضلا عن التمرد الذى حدث في بلاد الصرب حدث أيضا تمرد أخر قاده علي باشا اليانيني في بلاد اليونان وألبانيا حيث توجد ولاية يانينا العثمانية في غرب الدولة وكانت تشمل قطاعات كبيرةً من ألبانيا وغرب اليونان ومقدونيا الشمالية حاليا وكان علي باشا وهو من الألبان قد تسلم حكم هذه الولاية عام 1788م في عهد السلطان عبد الحميد الأول وقبل حوالي عام واحد من تولي السلطان سليم الثالث الحكم ولكن مع مرور الوقت إستقل بها ووسعها جدا وحارب الدولة وصادق معظم أعدائها وإستمر إستقلاله بهذه الولاية مدة طويلة ولم ينته إلا في عام 1822م وبخلاف هذين التمردين إستمر أيضا تمرد عثمان بازوند أوغلي في ولاية فيدين الذى جاء ذكره في السطور السابقة علي الرغم من مصالحة الدولة العثمانية له وتثبيته علي حكم الولاية وكما ذكرنا لم يتوقف عن تحديه وإظهار قوته للدولة العثمانية وعن ضم الأراضي المجاورة لولايته إليها ووصل في إستقلاله عن الدولة إلى حد أنه أمر بسك العملات بإسمه وإلى إقامة علاقات دبلوماسية مباشرة مع عدد من دول أوروبا الكبرى كفرنسا وروسيا والنمسا ولم تنته هذه الفتنة وهذا التمرد إلا بموته في عام 1807م .


ولم تتوقف حركات التمرد علي الدولة العثمانية علي الولايات الأوروبية بإقليم البلقان بل إمتدت حركات التمرد إلي بلاد الحجاز وكانت قد حدثت مناوشات متكررةٌ بين الدولة السعودية الأولى التي تأسست في شرق شبه الجزيرة العربية وبين العثمانيين نتيجة تجاور الحدود بينهما وكانت البداية في العراق في شهر أبريل عام 1802م حيث إخترقت القوات السعودية حدود البلد العثماني وهاجمت مدينة كربلاء ذات الكثافة الشيعية وهدمت قباب الأضرحة هناك وإستولت على أموال وهبات هذه الأضرحة وقتلت عددا كبيرا من السكان وتطور الأمر لوضعٍ أخطر وهو غزو الحجاز نفسه حيث إستولت الدولة السعودية على مدينة الطائف في شهر مارس عام 1803م وفي يوم 30 أبريل من العام نفسه تفاقم الأمر بشكل أكبر عندما هاجمت قوات الدولة السعودية مدينة مكة المكرمة وسيطرت عليها لعدة أشهر حيث تمكنت الدولة العثمانية من إستردادها في يوم 6 أغسطس عام 1803م وفي العام التالي 1804م هاجمت القوات السعودية مدينة البصرة العثمانية بجنوب العراق ولكنها لم تتمكن من إحتلالها وكان الحجاز يمثل أهمية كبيرة للسعوديين فعادوا وهاجموا المدينة المنورة في عام 1805م وتمكنوا من أخذها من الدولة العثمانية وإستولوا حينها على كل النفائس والمجوهرات المهداة من العثمانيين إلى المسجد النبوي الشريف على مدار سنين طويلة وقد وصف بعض هذه النفائس والمجوهرات الرحالة الشامي فتح الله الصايغ الحلبي في رحلته إلى مدينة الدرعية عاصمة الدولة السعودية الأولي عام 1810م وكان من هذه النفائس جوهرة الكوكب الدرى المشهورة شديدة النفاسة التي تزن بمفردها مائةً وثلاثةً وأربعين قيراطا من الماس وبعد ذلك عادت الدولة السعودية لاحقا وتسيطر على مكة المكرمة في عام 1806م وفي الحقيقة كان الإقتراب من مدينتي مكة المكرمة والمدينة المنورة يمثل خطا أحمر للدولة العثمانية خاصة في هذا الوقت الذى تعاني فيه من الضعف الشديد وتحاول أن تجمع المسلمين حولها حيث أن وجود كل من مدينتي مكة المكرمة والمدينة المنورة في حوزتها يمثل قيادتها للعالم الإسلامي وذلك الأمر يعد في غاية الأهمية وفقدانهما وإستيلاء الدولة السعودية عليهما سيؤثر سلبا دون جدال على مستقبل الدولة وهيبتها ومكانتها ولم يتمكن السلطان سليم الثالث خلال عهده من حل هذه المعضلة وإمتدت المشكلة إلى زمن السلطان محمود الثاني .


وفي مصر لم يكن الوضع أفضل حالا بالنسبة للدولة العثمانية فبعد خروج الحملة الفرنسية من مصر في شهر سبتمبر عام 1801م عادت مصر إلى حكم الدولة العثمانية وفي شهر يناير عام 1802م تم تعيين خسرو باشا واليا عليها وبقيت معه فرقةٌ من الإنكشاريَّة ومن الجيش العثماني ولم يترك الإنجليز البلد إلا بعد توقيعهم معاهدة إميان للسلام مع فرنسا في يوم 25 مارس عام 1802م وبذلك صارت القوة الوحيدة المناهضة للعثمانيين في مصر هي قوة المماليك الذين كانوا يسيطرون على الصعيد تحت قيادة محمد بك الألفي الموالي للإنجليز وكذلك عثمان بك البرديسي وذلك بعد موت زعيمهم الأكبر مراد بك وهنا بدأت الصراعات فورا بين العثمانيين والمماليك ورتب خسرو باشا جنوده في مناطق القاهرة والإسكندرية والدلتا وإكتشف في جيشه قائدا ذكيا مقداما إسمه محمد علي والذى كان من أصول ألبانية وكان يقود فرقةً صغيرة مكونةً من ثلاثمائة جندى ألباني فرفعه إلى رتبة أعلى وصار قائدا لأربعة آلاف جندى وكان محمد علي من الشخصيات النادرة في التاريخ وكان يملك قدرات سياسية وعسكرية فريدة بالإضافة إلى ملكات ومواهب قيادية متميزة كما أنه كان جريئا ذا قدرة على التحليل بعمق ومولعا بترتيب وإبتكار الخطط والمكائد وذا ثقافة واسعة وتفكير علمي منطقي منظم وكان محمد علي في الثانية والثلاثين من عمره فقط يوم جاء إلى مصر في عام 1801م حيث أنه من مواليد عام 1769م ومع صغر سنه إلا أن طموحه بلغ عنان السماء حيث قرر أن يعتلي عرش مصر كلها ثم يؤسس بعد ذلك إمبراطوريَّةً في الشرق وبدأ محمد علي في إستمالة الجنود إلى فرقته لتزداد حجما وقوة وتواصل مع بعض قوى المماليك بغية تحقيق توازن قوى يخدم مصالحه وحدث النفور بينه وبين خسرو باشا نتيجة ذلك ولذا فقد أراد خسرو باشا عزله لكنه لم يتمكن لتمسك الجند به ومن جانب آخر لم يهدأ الصراع مع المماليك وثارت علي خسرو باشا طائفة الألبانيين بقيادة طاهر باشا أرناؤوط وعمت الفوضي البلاد وإضطربت أحوالها وكان المماليك مسؤولين عن الوجه القبلي من الديار المصرية وعلى معظم مناطق الوجه البحرى فوجه إليهم خسرو باشا فرقتين من الجند إحداهما بقيادة يوسف بك والثانية بقيادة محمد علي فنازل المماليك فرقة يوسف بك وهزموها شر هزيمة قبل أن يصل محمد علي بفرقته إلى ساحة القتال وقد تم توجيه الإتهام لمحمد علي بأنه السبب في إنكسار فرقة يوسف بك نظرا لتعمده التأخر في نجدتها فإستدعاه خسرو باشا لكي يلقاه ليلا في مقره في القلعة زاعما أنه يرغب في مفاوضته في أمر هام بينما كان في نيته الإيقاع به وقد أدرك محمد علي قصد خسرو باشا ولذا فقد رد عليه بأنه سيحضر لمقابلته نهارا على رأس فرقته وعلى أثر ذلك ثار الجنود على الوالي طالبين بمرتباتهم المتأخرة ولم يستطع الوالي دفع المتأخر لهم فرغب طاهر باشا أرناؤوط كبير قواد الجيش التوسط بينه وبين الجنود الثائرين فرفض خسرو باشا مفاوضته فإنحاز طاهر باشا إلى الجند وسار بهم إلى القلعة مما أجبر خسرو باشا إلى الفرار إلي الإسكندرية .


وكنتيجة لهذا الموقف ففي يوم 6 مايو عام 1803م أعلن العلماء والمشايخ والأعيان عزل خسرو باشا من ولاية مصر وتولية طاهر باشا أرناؤوط بدلا منه إلا أنه لم يلبث طويلا وتم إغتياله وكان في مصر حينئذ أحد وزراء الدولة العثمانية المدعو أحمد باشا قاصدا إلى المدينة المنورة التي عين واليا عليها فأراد الإنكشارية إجلاسه على كرسي ولاية مصر غير أن محمد علي لم يوافقهم على ذلك وبالإتفاق مع المماليك طردوا أحمد باشا من القاهرة ثم بطش الألبانيون بالجنود الإنكشارية بتشجيع ودعم من محمد علي ولم يبق في مصر من الرجال المنتمين إلى الحكومة العثمانية الذين يخشى محمد علي شرهم سوى خسرو باشا الوالي السابق الذي كان مقيما آنذاك في مدينة دمياط فهاجمه محمد علي وعثمان بك البرديسي برجالهما وأحضراه إلى القاهرة وهكذا لم يبق لمحمد علي خصم ظاهر من العثمانيين كما أن عثمان بك البرديسي صارت إليه السلطة العليا بين المماليك لأن نظيره محمد بك الألفي كان قد ذهب إلى إنجلترا طامعا في الإستقلال بالحكم في مصر بمساعدة إنجلترا وفي عام 1804م جاء علي الجزايرلي واليا على مصر وبعد عدة مناورات إعترضه الجنود الألبان وهو في طريقه من الإسكندرية إلى القاهرة ففتكت بجنوده وقادته أسيرا إلى القاهرة ثم وجهوه إلى سوريا لكنهم قتلوه في الطريق ومن بعده جاء أحمد باشا والذى تحالف ضده محمد علي مع عثمان بك البرديسي وتمكنا فعلا من التخلص منه وفي أوائل عام 1804م عاد محمد بك الألفي من إنجلترا حاملا الكثير من التحف والأموال وتوجه نحو القاهرة عبر نهر النيل ولما كان وجوده في مصر يهدد محمد علي وعثمان بك البرديسي على حد السواء إتفقا على مقاومته فإعترضه رجالهما في النيل ونهبوا الأموال والتحف التي جاء بها أما هو فبادر إلى النزول إلى البر ونجا بنفسه وإختبأ عند أحد قبائل العرب في صعيد مصر وهنا بدأت سلطة محمد علي في الظهور وبدأت تظهر شخصيته القيادية وذكاؤه الحاد ومالبث بعد فترة وجيزة أن دب الخلاف بينه وبين حليفه عثمان بك البرديسي والذى كان قد قام بفرض ضرائب باهظة علي أفراد الشعب لكي يتمكن من دفع مرتبات الجنود المتأخرة حيث كان قد ثار عليه الألبانيون وطالبوه بها فأغضب ذلك الأهالي فتدخل محمد علي في الأمر وإنتهز الفرصة لمصلحته وأظهر عطفا شديدا عليهم ووعدهم بالمساعدة لرفع هذه المظلمة عنهم وإنضم إلى المشايخ والعلماء والأعيان وإكتسب بذلك عطف الشعب ووده وكان المماليك قد أخذوا يشعرون أن محمد علي يبطن لهم العداء والحقيقة أنه كان حينئذ في غنى عنهم بل صار إضعافهم خيرا له ومن ثم بدأت المشادة بين الفريقين وأمر جنوده بمهاجمة المماليك ففروا إلي الصعيد وتمكن من تعيين خورشيد باشا واليا على مصر وكان خامس من تولى ولاية مصر في خلال سنتين وذلك بعد أن إتفق المشايخ والعلماء والأعيان وزعماء الجند على تعيينه واليا وتعيين محمد علي نائبا له ووافق الباب العالي على ذلك في عام 1804م .


وطلب خورشيد باشا من الحكومة العثمانية في إسطنبول إمداده بجنود لمقاومة المماليك فأرسلوا له جيشا من الأكراد المشهورين بالعنف والتهور وكان هذا الجيش وبالا على المصريين أكثر من المماليك وضج الناس من تعدياته عليهم وإستمر الصراع بين المماليك من ناحية وبين محمد علي وجنود الوالي خورشيد باشا من ناحية أخرى وتجددت الثورة من جديد في القاهرة على المماليك بإتفاق الأهالي والألبان وحدث قتال عنيف بين الفريقين وبرز محمد علي نفسه إلى ميدان القتال فتغلب على المماليك وألجأ جميع أمرائهم إلى الفرار من القاهرة مرة أخرى إلي الصعيد وحينذاك أصبح محمد علي صاحب العقد والحل في القاهرة لأن زمام الجند والشعب كان في يده غير أنه لم يتسرع في طلب الولاية لنفسه ولعله حاول في ذلك الوقت إثبات إخلاصه للدولة العثمانية حتى لا تناوئه متى آن أوان ترشيحه أما خورشيد باشا فقد لقى ما لقيه أسلافه من الصعوبات في الحصول على الأموال وفي دفع مرتبات الجنود ففرض الضرائب الطائلة على أهل القاهرة وإبتز كثيرا من الأموال من بعض الأفراد وخصوصا من المنتسبين إلى المماليك فشمل الإستياء منه جميع الطبقات وكان في الوقت نفسه يشعر بعدم إخلاص محمد علي وبشدة وطأته وظن أنه يستطيع أن يتخلص منه بإشغاله بمحاربة المماليك غير أن الإنتصارات التي حققها محمد علي عليهم وشدة عطفه على الأهالي والجند زاده رفعة في عيون الجميع ووطدت مكانته في البلاد لدى العلماء والأعيان ومن هنا بدأ يدب الخلاف بينه وبين خورشيد باشا وعمل محمد علي حينذاك علي توطيد صلاته بشكل أكبر بالمشايخ والعلماء والأعيان وكسب ودهم وتأييدهم خاصة نقيب الأشراف عمر مكرم باشا وما أن علموا بوصول فرمان عثماني يقضي بعودة الألبانيين وقوادهم إلى بلادهم حتي طلبوا من محمد علي البقاء في مصر وعدم مغادرتها لما عهدوه فيه من العدل والإستقامة والذكاء ومواهب القيادة وفي الوقت نفسه كان خورشيد باشا يسعي جاهدا ويعمل علي إبعاد محمد علي عن مصر بأى وسيلة وفي يوم الإثنين 13 مايو عام 1805م أجمع المشايخ والعلماء والأعيان والوجهاء علي عزل الوالي خورشيد باشا وتعيين محمد علي واليا على مصر بدلا منه فتمنع محمد علي في البداية حتي لا يتهم بأنه وراء الثورة علي خورشيد باشا وأنه يعمل لمصلحته الشخصية طامعا أن يكون واليا على مصر ولكن المشايخ والعلماء والأعيان والوجهاء وعلي رأسهم عمر مكرم باشا نقيب الأشراف قلدوه خلعة الولاية فقبل محمد علي أن يكون الوالي كما قبل أن يتشاور مع هؤلاء المشايخ والعلماء قبل إتخاذ أى قرار يتصل بشئون الحكم وبذلك أصبح محمد علي نزولا علي رغبة زعماء الشعب واليا علي مصر يوم الإثنين 13 مايو عام 1805م وتم إقرار ذلك بموجب فرمان سلطاني صدر من الباب العالي بالعاصمة العثمانية إسطنبول في يوم 9 يوليو عام 1805م ولتبدأ بذلك منذ هذا اليوم صفحة جديدة في تاريخ مصر مع حكم أسرة محمد علي والتي حكمت مصر لمدة 147 عاما تعاقب خلالها علي عرش مصر عدد 10 حكام من هذه الأسرة وكانت أكبر فترة لواحد منهم هي فترة حكم رأس الأسرة ومؤسسها محمد علي باشا والتي إستمرت 43 عاما بينما كانت أقصر فترة حكم لإبنه وخليفته القائد إبراهيم باشا والتي إستمرت حوالي 8 شهور .


وبعد تولي محمد علي باشا ولاية مصر حدثت عدة مواجهات بينه وبين المماليك كانت نتيجتها سجالا بين الفريقين ويقال إن الإنجليز خشوا من وجود محمد علي القوى الذي يمكن أن يقف أمام تحقيق طموحاتهم في مصر فسعوا إلى نقله من البلد عن طريق الوشاية به عند السلطان سليم الثالث ووافق ذلك هوى عند السلطان لأنه كان لا يعرف محمد علي من جهة ويتوجس من إزدياد قوته من جهة أخرى فقرر نقله إلى ولاية سالونيك باليونان وكان رد فعل محمد علي أن تواصل مع العلماء ووجهاء مصر وخاصة نقيب الأشراف عمر مكرم باشا الذين راسلوا السلطان سليم الثالث يطلبون إبقاء محمد علي في مصر لإستقرار الأوضاع في وجوده ويذكر أن هذه هي المرة الأولى في تاريخ مصر التي يتدخل فيها الشعب بهذه الطريقة لترجيح كفة حاكم على غيره ويبدو أن هذا كان من أثر الحراك الشعبي الذى حدث أثناء الحملة الفرنسية علي مصر قبل سنوات كذلك يمكن أن يكون السبب هو الضعف الظاهر الذى كان يعاني منه العثمانيين والمماليك معا مما قد يوقع البلاد في قبضة الإنجليز بعد الفرنسيين وهو ما لم يكن مقبولا عند الشعب المصرى لهذا لم يرد الشعب أن يفوت فرصة وجود رجل قوى له طموحات واضحةٌ في تحسين وضع القطر المصرى ووافق السلطان سليم الثالث على المطلب الشعبي وأرسل فرمانا بذلك في أواخر عام 1806م ثم شاء الله أن يثبت أقدام محمد علي في حكم البلاد حيث توفي زعيما المماليك المعاديان له بعد أسابيع من تثبيته في حكم مصر إذ توفي البرديسي في شهر نوفمبر عام 1806م وبعده بشهرين في شهر يناير عام 1807م توفي محمد بك الألفي لتصفو الأجواء كثيرا لمحمد علي باشا الذي تخلص بذلك من أكبر عدوين له وإن كان المماليك ما زالوا منتشرين في القطر وخاصةً في الصعيد وهكذا صار محمد علي باشا واليا مستقرا في حكمه بدعم حقيقي من الشعب المصرى .


وكما ذكرنا في السطور السابقة ففي أثناء الحملة الفرنسية علي مصر كانت قد عرضت روسيا وبريطانيا التحالفَ عسكريا مع الدولة العثمانية لقتال فرنسا ولم يكن هذا يعني رغبة الدولتين في نجدة العثمانيين أو البحث عن سلام طويل معهم إنما كان قرارهم مؤقتا جدا ومرهونا بتحقيق المصلحة الآنية وهي وقف النمو الفرنسي في الشرق وبعد الإطلاع عن قرب على الشئون الداخلية والعسكرية للدولة العثمانية وإدراك الضعف الشديد الذى آلت إليه الدولة ومتابعة الجهود الكبيرة التي يبذلها السلطان سليم الثالث في سبيل تطوير جيشه وعودة العلاقات العثمانية الفرنسية وإحتمال تطورها قررت روسيا وبريطانيا عدم الإنتظار أكثر من ذلك وإستغلال أى فرصة لغزو أراضي الدولة العثمانية قبل أن تقف على أقدامها وكانت المشكلة الأكبر التي تواجه السلطان سليم الثالث هو أن هذا العزم الروسي البريطاني أتى في وقت تعيش فيه البلاد فترة إضطرابات داخلية بسبب الإصلاحات التي يرفضها كثير من أعداء السلطان والذى كان يمضي قدما في بناء جيشه الجديد ولكن هذا لم يكن على هوى كثير من مراكز القوى في الدولة وأهمهم رجال الإنكشارية الذين شعروا بقرب نهايتهم إذا ظهرت جودة هذا النظام الجديد ومن ثم حدثت عدة ثورات وإعتراضات في إقليم البلقان في أوائل عام 1806م مما دفع السلطان إلى إستقدام فرقة من الجيش الجديد من الأناضول لقمع هذه الإضطرابات وجاءت هذه الفرقة إلى إسطنبول في يوم 2 يونيو عام 1806م ومنها إنطلقت إلى إدرنة لتجد أبوابها موصدة وكان قد إشتد فيها تمرد الجنود الإنكشارية وحدثت صداماتٌ بين النظام الجديد والقديم وكاد الأمر أن يتحول إلى حرب أهلية وفي منتصف شهر يوليو عام 1806م قرر السلطان سليم الثالث أن يوقف عمليات تطبيق النظام الجديد في إقليم البلقان ويبدو أنه كان يظن أن هذا الإيقاف سيتقبل منه على أنه تنازل يهدف إلى حفظ الدماء لكن الرافضين للنظام الجديد تلقوا هذا القرار من السلطان على أنه ضعف منه أو قناعةٌ منه بعدم جدوى النظام الجديد فكان الأثر في كل الأحوال سلبيا على الحكومة العثمانية والسلطان العثماني وقد تزامن مع هذه الأحداث تيقن السلطان سليم الثالث من وجود علاقات تعاون بين روسيا وأمير الأفلاق كونستانتين إبسيلانتي وكذلك بين روسيا وأمير البغدان الكسندر موروزيس فقام السلطان سليم الثالث بعزل هذين الأميرين بتأييد من السفارة الفرنسية في يوم 20 أغسطس عام 1806م ومع أن هذا الأمر يعتبر شأنا داخليا إلا أن روسيا إعتبرت هذا عملا عدائيا وأعلنت الحرب على الدولة العثمانية ولم يشأ السلطان أن يدخل الحرب ضد الروس في هذه الأجواء المضطربة نتيجة تمردات الإنكشارية فأراد تهدئة الأوضاع فعزل في يوم 14 نوفمبر عام 1806م الصدرَ الأعظم والمفتي وكانا من أنصار النظام الجديد وولى أغا الإنكشارية إبراهيم حلمي الصدارة وكان بطبيعة الحال من أعداء النظام الجديد كما ولى محمد عبد الله أفندى الإفتاء وكان كذلك من المعارضين بقوة للنظام الجديد وقد إعتبر المؤرخون أن هذه الخطوة كانت غير حكيمة وغير مدروسة جيدا من السلطان فقد إعتبر هؤلاء أن السلطان صار متبعا لهم لا العكس وفي يوم 8 ديسمبر عام 1806م بدأت روسيا الحرب ضد الدولة العثمانية بإحتلالها لقلعة بندر التي تقع علي الساحل الجنوبي لنهر تورلا ومن ثم انساحت في إقليمي البغدان والأفلاق فإحتلا في غضون أسابيع قليلة وسقطت العاصمتان ياسي وبوخارست في أيدى القوات الروسية والتي وصلت إلي نهر الدانوب وتزامن ذلك مع هذا الهجوم الروسي هجوم آخر في صربيا حيث إحتل الثائرون العاصمة بلجراد في يوم 13 ديسمبر عام 1806م وقاموا بذبح عدد كبير من المسلمين هناك وأعلن الصربيون ولاءهم للروس بشكل صريح .



ولم يقف الأمر عند حد عداء روسيا والصرب للدولة العثمانية ولكن أيضا قامت بريطانيا فورا بإعلان مساندتها للروس في حربهم ضد العثمانيين لأن هذا يصب في إضعاف عدوتها فرنسا المتحالفة مع الدولة العثمانية حيث كان الروس والإنجليز يعانون من هزائم فادحة في ذلك الوقت على يد الإمبراطور الفرنسي نابليون مما دفعهم إلى هذا التصعيد وأمام هذه التطورات أغلق السلطان سليم الثالث في شهر ديسمبر عام 1806م مضيق الدردنيل أمام السفن الروسية والإنجليزية وأعلن الحرب عليهما في شهر فبراير عام 1807م وهنا أرسل الإنجليز جزءا صغيرا من أسطولهم بقيادة الأميرال دوكوورث إلى الدردنيل فإلتقى هناك مع الأسطول الروسي وبعث الأميرال الإنجليزي مجموعةً من الطلبات المتعجرفة إلى السلطان العثماني وهدد بقصف إسطنبول إن رفضت وكان من بين هذه الطلبات تحالف الدولة العثمانية رسميا مع بريطانيا ضد فرنسا وتسليم الأسطول العثماني وتنازل الدولة العثمانية عن الأفلاق والبغدان للروس وطرد السفير الفرنسي سيباستياني وكان الرد العثماني علي هذه الطلبات بالرفض الواضح والصريح وبدأت الدولة العثمانية في زيادة التحصينات على المضايق وفي العاصمة إسطنبول ومع ذلك إستطاع الأسطول الإنجليزي دون الروسي إجتياز مضيق الدردنيل في يوم 20 فبراير عام 1807م ليصل إلى بحر مرمرة وطمأن السفير الفرنسي السلطانَ العثماني بأن نابليون سيرسل تعزيزات عسكرية سريعا فتشجع السلطان لزيادة التحصينات وكانت القوة الإنجليزية صغيرة وخشي دوكوورث أن يحاصر في المضايق إذا أغلق عليه الدردنيل فإنسحب بسرعة في أول شهر مارس عام 1807م وأُطلقت مدافع الدردنيل العثمانية على الأسطول الإنجليزي أثناء إنسحابه ومع أن هذه المدافع كانت قديمة وتعود إلي القرن الخامس عشر الميلادى منذ أيام السلطان محمد الفاتح إلا أنها قتلت عدد 188 جنديا إنجليزيا وجرحت عدد 235 وكان إنسحاب الأسطول الإنجليزي مهينا له فأراد أن يحقق نصرا مضمونا فيما يظن وذلك للحفاظ على الهيبة الإنجليزية فترك الأسطول الإنجليزي الأسطولَ الروسي عند الدردنيل وتوجه بسرعة جنوبا إلى الإسكندرية لإحتلال مصر ويذكر المؤرخون أن هذه الخطوة من الإنجليز كانت تعد تهورا غير محسوب وغير مضمون العواقب حيث كانت القوة الإنجليزية صغيرة العدد ولا تزيد عن 5 آلاف جندى ولم يتم الإعداد للحملة بشكل جيد لكن جرح الكبرياء والكرامة كان هو الذى عجل بهذه الخطوة وكانت هذه الحملة تحت قيادة الجنرال الإنجليزى الكسندر ماكينزي فريزر ولذلك إشتهرت تاريخيا باسم حملة فريزر وكان ظهور الأسطول الإنجليزي مفاجئا لحامية الإسكندرية وكان محمد علي باشا آنذاك في أسيوط يقاتل بعض المماليك ولذا تم إحتلال الإسكندرية بسهولة في يوم 20 مارس عام 1807م وظن فريزر أن الأمر سيسير على هذا المنوال فقدم فرقةً من جيشه قوامها ألف وخمسمائة جندى تحت قيادة الجنرالين ووكوب وميد إلى ميناء رشيد القريب وبالطبع وصل الخبر إلى محمد علي باشا وهو في الصعيد فأقبل بسرعة في إتجاه رشيد لكن الجيش الإنجليزي دخل المدينة قبل وصوله ومع ذلك وجد الإنجليز مفاجأة كبيرة حيث كان سكان المدينة بقيادة قائد حاميتها علي بك السلانيكلي قد إستعدوا للقيام بمقاومة شعبية عظيمة لجيش بريطانيا دارت حرب كبيرة بين أهل رشيد وبين الإنجليز في يوم 21 مارس عام 1807م حقق فيها المصريون نصرا مجيدا على الإنجليز الذين إضطروا إلى الإنسحاب بعد مقتل عدد 185 جنديا منهم كان علي رأسهم القائد ووكوب وجرح منهم عدد 281 جنديا كان علي رأسهم القائد الآخر ميد ولم يقف الأمر عند ذلك حيث تعرض الإنجليز لهزيمة أخرى كبرى عند قرية الحماد في محافظة البحيرة في يوم 21 أبريل عام 1807م وفيها قتل من الإنجليز عدد 292 جنديا غير الذين ذبحوا أثناء الفرار فإضطروا إلى الإنسحاب مسرعين إلى الإسكندرية وإنتهي الأمر فيما بعد بخروجهم نهائيا من مصر في يوم 25 سبتمبر عام 1807م دون تحقيق أى نتيجة تذكر وكان هذا النصر نصرا مجيدا للمصريين وطارت أخباره وأخبار محمد علي باشا إلى العاصمة العثمانية إسطنبول وإلي العاصمة البريطانية لندن وإلي دول أوروبا كلها .


وللأسف لم يكن الوضع في إسطنبول على هذه الصورة التي رأيناها في مصر حيث كان الأسطول الروسي يحاصر الدردنيل منذ أكثر من شهرين بدايةً من شهر مارس عام 1807م كما ذكرنا في السطور السابقة وقد أدى هذا إلي حالة شديدة من الإحتقان في إسطنبول نتيجة نقص الغذاء الذي يرد إليها عن طريق البحر وإستغل أعداء النظام الجديد الذين يخشون على مصالحهم هذه الظروف وقاموا بإنقلاب في العاصمة في يوم 25 مايو عام 1807م قامت به مجموعات من دعاة الرجعية وأعلام التخلف الذين كانوا ينادون بقتل أولئك الذين يدعون إلى النظام الجديد وكان على قمة هؤلاء الرجعيين قادة الإنكشارية المتضررون من تحديث الجيش وقوى الأعيان المتضررة بالإنفاق الغزير الذى كان يوجهه السلطان سليم الثالث لتنمية هذا الجيش الجديد وجعلوا على قيادتهم رجلا عسكريا إسمه قباقچي مصطفى ولذلك يعرف هذا التمرد التعيس بثورة قباقچي علما بأن هذا الرجل لم يكن من الإنكشارية إنما كان من قوات حراسة مضيق البوسفور وكان الأسوأ من أولئك وهؤلاء ما أفتي به المفتي الجديد ومعه مجموعةٌ من منغلقي الذهن الذين يعتبرون أنفسهم علماء وهم أبعد ما يكون عن ذلك حيث أفتوا بفساد النظام العسكري الجديد لأنه تقليد للغرب الكافر وتشبه بغير المسلمين بل وأمعنوا في تسطيح الأمر حيث ذكروا أن السلطان سليم الثالث يريد أن يرتدى أفراد الجيش لسهولة الحركة ملابس أوروبية مثل البنطلون وهذا حرام ولم ينظر هؤلاء الجهلاء إلى التسليح الحديث الذي يريده السلطان ولا إلى طرق التدريب ولا إلى الخطط الإستراتيجية ولا إلى مناهج تجنيد ولا إلى طرق التعامل المالي التي ستتبع في التعامل مع هؤلاء الجنود ولم ينظروا إلى الجوانب التطبيقية الحديثة في حقِ هذا النظام ومدى تحقيقه للنجاح أكثر من الجيوش التقليدية القديمة على أرض الواقع وإكتفي هؤلاء بالنظر إلى ملابس الجيش فقط ليحكموا بفشل التجربة بل بحرمتها وقام المتمردون بإقتحام عدد من بيوت الوزراء الداعمين للنظام الجديد وقتلوهم وأتوا برؤوسهم في يوم 27 مايو عام 1807م ليعرضوها في أحد ميادين إسطنبول وإزاء هذا التدهور في الأمور رضخ السلطان المصلح سليم الثالث وأعلن في يوم 28 مايو عام 1807م إلغاء النظام الجديد والإكتفاء بنظام القرون الوسطى ولم يكن هذا كافيا ولا مرضيا للثوار المتمردين فلم يقبلوا بذلك فقط إنما أعلن المفتي أن قيادة السلطان سليم الثالث للدولة قد أصبحت غير جائزة لأنه يتشبه بالكفار في نظامه الجديد وفي يوم 29 مايو عام 1807م إنتصرت الرجعية على العلم والحداثة وتغلب الإفساد على الإصلاح وتم عزل السلطان القدير سليم الثالث وصعد إلى العرش العثماني رجل لا وزن له هو ولي العهد الأمير مصطفى إبن السلطان عبد الحميد الأول أي إبن عم السلطان سليم الثالث والذي سيتسمى بالسلطان مصطفى الرابع وجدير بالذكر أنه كان من المحرضين على هذه الفتنة .


ومع تولي السلطان مصطفي الرابع الحكم حدث أن إنشغل الروس بمحاربة نابليون في غرب أوروبا وحدث أن تعرضوا لهزيمة قاسية في معركة فريدلند والتي لولا هزيمة الروس فيها لمني الجيش العثماني بأكبر هزيمة في تاريخه وبعد هذه الهزيمة إضطر القيصر الروسي الكسندر الأول للإجتماع مع نابليون وإتفقا على الصلح وأن على روسيا التوقف عن محاربة العثمانيين وقبول الفرنسيين كوسيط بين الطرفين مع إخلاء ولايتي الأفلاق والبغدان من قبل الروس ويذكر المؤرخ الفرنسي لافاليه أن الروس والفرنسيين إتفقوا سرا على تقسيم الولايات العثمانية الأوروبية بينهما في حال عدم قبول العثمانيين بالوساطة الفرنسية بحيث تحصل فرنسا على اليونان وألبانيا والبوسنة ومقدونيا وروسيا على بلغاريا والأفلاق والبغدان بينما يتم ترضية النمسا بإقليم صربيا ويظهر من خلال هذا الاتفاق جليا غدر نابليون بالعثمانيين بعد أن كانت وعوده للسلطان سليم الثالث بالدعم بكافة أشكاله هي السبب الرئيسي لدخول الدولة العثمانية حربا برية مع روسيا وبحرية مع إنجلترا وقبل العثمانيون بالتوسط الفرنسي وحصلت هدنة مؤقتة بين الطرفين ومع سريان هذه الهدنة وتوقف الحرب بين الدولة العثمانية وروسيا سار مصطفى باشا البيرقدار على رأس عدد 16 ألف عسكرى إلى إسطنبول بهدف إعادة السلطان سليم الثالث لحكم البلاد مرة أخرى مؤيدا من قبل الصدر الأعظم الجديد وغالبية الوزراء وبالفعل نجح في دخول إسطنبول ومعاقبة رؤوس الإنقلاب الذى تم علي السلطان السابق سليم الثالث لكن رجال السلطان الجديد مصطفى الرابع قتلوا السلطان السابق سليم الثالث في يوم 28 يوليو عام 1808م وكان عمره آنذاك يناهز 47 عاما وكادوا أن يقتلوا أيضا شقيقه الأمير محمود وهو الأمر الذى كان سيجعل من السلطان مصطفى الرابع الذكر الوحيد المتبقي من السلالة الحاكمة ومنحيا بذلك أى منافس قانوني له على العرش كما إعتقد إلا أن الأمير محمود فر من رجال السلطان ولجأ إلي الإختباء لكي ينجو بحياته وكان رجال السلطان مصطفي الرابع يظنون أنهم بقتل السلطان السابق سليم الثالث وشقيقه الأمير محمود سيتمكنون من إخماد الثورة عليهم إلا أن الثائرين إشتعلوا غضبا وأحاطوا بالقصر السلطاني فسخر منهم السلطان وحاشيته حتي أنهم عرضوا عليهم جثة السلطان المقتول سليم الثالث وذلك في محاولة لردعهم وإنتهى الأمر في النهاية بعزل وقتل السلطان العثماني مصطفى الرابع في يوم 15 نوفمبر عام 1808م عن عمر يناهز 29 عاما بعد أن ظل في الحكم فترة قصيرة بلغت حوالي 18 شهرا وتم تولية ولي عهده الذى نجا من القتل بأعجوبة الأمير محمود الثاني شقيق السلطان السابق مصطفي الرابع وإبن السلطان عبد الحميد الأول سلطانا للدولة العثمانية .
 
 
الصور :
السلطان مصطفي الرابع خورشيد باشا