بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا”
السلطان مراد الرابع هو السلطان العثماني السابع عشر وخليفة المسلمين الثاني والثمانين وتاسع من حمل لقب الخليفة مع لقب السلطان وهو إبن السلطان أحمد الأول بن محمد الثالث بن مراد الثالث بن سليم الثاني بن سليمان القانوني بن سليم الأول بن بايزيد الثاني بن محمد الفاتح بن مراد الثاني بن محمد الأول جلبي بن بايزيد الأول بن مراد الأول بن أورخان غازي بن عثمان بن أرطغرل مؤسس الدولة العثمانية وكان قد تقلد منصب السلطان في عام 1623م وذلك بعد عزل عمه السلطان مصطفي الأول والذى تولي السلطنة مرتين الأولي بين عام 1617م وعام 1618م والثانية بين عام 1622م وعام 1623م وكان السلطان مراد الرابع حينما تولي السلطنة صبيا صغيرا في سن 11 عاما ولذا فقد إستلمت أمه كوسم سلطان منصب وصية العرش بشكل رسمي بصفتها والدة السلطان وأحيانا كان يعرف هذا المنصب بنائب السلطان مما يعني أن لصاحبه صلاحيات السلطان كلها وتعتبر فترة حكم السلطان مراد الرابع والتي إمتدت إلي سبعة عشر عاما من الفترات الصعبة في التاريخ العثماني من ناحية الفهم والتحليل وكانت تفتقر تماما إلى التجانس حيث إنقسمت إلى مرحلتين الأولى تسع سنوات من عام 1623م إلى عام 1632م والثانية ثماني سنوات من عام 1632م إلى عام 1640م وعلى قدر الفوضى التي كانت في المرحلة الأولى كان النظام في الثانية وعلى قدر الميوعة والإنحلال في إدارة الدولة في الفترة الأولى كانت الشدة والصرامة في الثانية وكذلك على قدر الهزائم في المرحلة الأولى كانت الإنتصارات في الثانية وكان السر في هذا الإختلاف هو تبدل الإدارة الفعلية للبلاد في عام 1632م من السلطانة الوالدة كوسم سلطان إلى إبنها السلطان مراد الرابع بعد أن بلغ العشرين عاما من عمره وفي واقع الأمر لم يكن سهلا أن يعرف الجميع أن الدولة العثمانية الكبيرة التي تميزت بطابعٍ عسكرى بحت منذ نشأتها في عام 1299م والتي تلتصق حدودها بإمبراطوريات مهيبة وقوية والتي كانت تدار في المعتاد برجال أشداء ينتمون في الأساس للجيش العثماني وكانوا يشغلون مناصب الوزارة وقيادة الولايات العثمانية المختلفة وبالتالي لم يكن سهلا أن يعرف الجميع أن دولة بهذه المواصفات تديرها بشكل رسمي إمرأة مهما أوتيت من عقل وحكمة حيث أن هؤلاء الرجال الأقوياء المسلحين سواء من رجال الدولة المخلصين أو الأعداء الخارجيين أو من المتمردين يحتاجون إلى رمز قوى لكي يسيطر عليهم ويرغمهم على الطاعة والنظام ومما يذكر أنه ليس من فراغ أن يرفض رسول الله ﷺ إعطاء الإمارة لرجل تقي عظيم كأبي ذر الغفارى لأنه كان يراه رجلا ضعيفا وبالتالي فهو غير جدير بالإمارة وقال رسول الله ﷺ له يا أبا ذر إِنك ضعيف وإِنها أمانة والخلاصة أن كل صفات الصلاح والتقوى والورع والحكمة لن تنفع في الحكم إذا إرتبطت بضعف الحاكم وهكذا أدرك الجميع في الداخل والخارج أن قيادة الدولة العثمانية ضعيفة عند تولي السلطان مراد الرابع السلطنة فتدهور الوضع جدا خاصة وأن البلاد كانت تعيش فتنةً كبيرة منذ مقتل السلطان عثمان الثاني الذى تولي السلطنة بين عام 1618م وعام 1622م بعدما ثار عليه الجنود الإنكشارية الذين شعروا أن السلطان سيبطش بهم في أول فرصة فإقتحموا القصر الذي تركت بوابته مفتوحة أمامهم نتيجة الخيانة فقتلوا بأيديهم الصدر الأعظم ديلاور باشا ثم حملوا السلطان السابق مصطفى الأول وأجلسوه على العرش بالقوة وطالبوا العلماء بمبايعته تحت ظل السيوف فكان أن هرب السلطان عثمان الثاني في البداية وكان يستهدف الوصول إلى مدينة بورصة لكنه لما شاهد قطع العصاة للطرق قرر اللجوء إلى باب الأغا مقر قائد الجنود الإنكشارية والذين خطب فيهم لكنهم كانوا يقاطعونه بين الحين والأخر بالهتافات المعادية فلم يصل معهم إلى نتيجة وإختلفوا حول مصير السلطان حيث كان قادة الإنكشارية يرون الإكتفاء بعزله والإبقاء على حياته إلا أنهم لم ينجحوا في إملاء رغبتهم تلك على تابعيهم من صغار الجنود الإنكشارية والذين قاموا بنقل السلطان إلى سجن الأبراج السبع وهناك حمل عليه عشرة جلادين ورغم أنه كان أعزل إلا أنه قتل ثلاثة منهم قبل أن يتمكن الباقون من الإجهاز عليه وإعدامه خنقا بوتر قوس وهي طريقة تركية قديمة كانت تستخدم في تنفيذ الإعدام بحق النبلاء الأتراك .
وكان مولد السلطان مراد الرابع في يوم 26 يوليو عام 1612م بالعاصمة العثمانية إسطنبول وتعلم في صغره اللغتين العربية والفارسية وأجادهما إلي جانب اللغة التركية كما أنه برزت موهبته الشعرية فكان يكتب القصائد تحت إسم مرادى كما كان موسيقيا متميزا وفضلا عن ذلك فقد كان السلطان مراد الرابع ضخم البنية حيث إشتهر بقوته الجسدية وقدرة تحمله المشاق ولما كان مولعا بالرياضة فقد شيد العرش الحجرى حيث كان يجلس ويشاهد المبارايات الرياضية وكان أيضا يشارك في الألعاب الرياضية من حين لآخر وتسجل اللوحة الموجودة خلف العرش الرخامي أن السلطان نجح في رمي هراوة من البلوط لمسافة 263 قدم أى حوالي 80 متر تقريبا وهو يجري بفرسه بسرعة قصوى وهو ما يدل على قوته البدنية المذهلة ومن بين الأمثلة الأخرى على قوته أنه رفع صولجانا وزنه 565 رطلا أي حوالي 256 كيلو جرام وأنه صارع بعض المصارعين المحترفين في ذلك الوقت وروى أيضا عنه أنه في إحدى المرات رفع شخصا سمينا وحمله ودار به حول الحجرة السلطانية في القصر عدة مرات كما كان السلطان مراد الرابع فارسا مميزا وراميا موهوبا يتقن إستعمال أنواع كثيرة من البنادق وكان مرتبطا بأحصنته بشكل كبير ويهتم إهتماما خاصا بالإسطبلات السلطانية وقد تقلد السلطان مراد الرابع السلطنة وهو في عمر 11 عاما في عام 1623م بعد عزل عمه السلطان مصطفي الأول وتسلمت أمه كوسم سلطان وصاية العرش كما ذكرنا في السطور السابقة وكانت آنذاك الإضطرابات تعم أنحاء الدولة العثمانية حيث تجاوزت عاصمة الخلافة إلى أطرافها حيث أشهر والي طرابلس الشام إستقلاله وطرد الجنود الإنكشارية من ولايته وفعل الشئ نفسه أباظة باشا والي إرضروم وإستولى على مدينة أنقرة وصادر إقطاعيات الإنكشارية وكان يتحرك تحت دعوى المطالبة بثأر السلطان عثمان الثاني المقتول ومن جانب آخر فبعد تولي السلطان مراد الرابع السلطنة بأقل من شهرين إنتهز الشاه عباس الصفوى حاكم الدولة الصفوية الشيعية ومكانها في إيران الحالية الفرصة وأخرج جيشه لحصار بغداد لتشتعل الحرب العثمانية الصفوية من جديد وفي هذه المرة ستستمر قرابة الستة عشر عاما أى حتي عام 1639م وفي يوم 12 يناير عام 1624م سقطت بغداد في يد الصفويين وذُبحت الحامية العثمانية هناك ولم يكتف الشاه عباس بذلك بل قتل معظم السنة من الرجال وساق النساء إلى إيران وكان الشاه يريد أن يحول بغداد لتصبح شيعية خالصة وكان هذا الحدث ضربةً كبيرةً موجعةً للدولة العثمانية وبعد ذلك بقليل سقطت مدن كركوك والموصل والنجف وكربلاء في يد الصفويين وفي غضون شهور قليلة أكمل الشاه عباس الصفوى سيطرته على النصف الشمالي من العراق وحاول العثمانيون في عام 1625م إسترداد بغداد وقاموا بمحاصرتها وضيقوا عليها الخناق لكنهم لم يتمكنوا من إقتحامها فتذمر الإنكشارية وأجبروا الصدر الأعظم حافظ أحمد باشا على رفع الحصار عنها والعودة إلى الموصل ومنها إلى ديار بكر وهناك إزدادت ثورة الإنكشارية عليه فعزله السلطان حتى تهدأ الأوضاع وعين مكانه خليل باشا الذي سبق أن تولى هذا المنصب قبل ذلك لكنه لم يستمر طويلا وخلفه خسرو باشا في عام 1627م وعلى المستوى الداخلي كان الوضع مترديا حيث كانت فرق الجنود الإنكشارية قد سيطرت على السياسة العثمانية وكانوا يجبرون السلطانة كوسم سلطان على تعيين وعزل مَن يريدون وكان السلطان مراد الرابع إثناء كل هذه الأحداث بعيدا تماما عن الصورة وفي غضون الفترة من عام 1623م وحتي عام 1632م تغير منصب الصدارة العظمى ست مرات مما يشير إلى عدم الإستقرار في الإدارة وخلال هذه الفترة تأثرت مالية الدولة جدا وإنخفض المخزون الإحتياطي من الذهب ولم تهدأ الثورات والتمردات وحركات العصيان هنا وكانت النتيجة ضياع هيبة الجيش العثماني وإفتقاره إلي النظام والوحدة .
وكان من الممكن أن يكون الموقف أسوأ من ذلك لولا حدوث أزمات كبرى في الجبهات المناهضة للدولة العثمانية أدت إلى تقليص الخسائر ففي الدولة الصفوية مات الشاه الكبير عباس الأول أقوى حكام الصفويين في يوم 19 يناير عام 1629م وخلفه حفيده الشاه صافي الذي كان لا يملك قدرات الشاه الراحل وهذا كان دون شك في مصلحة الدولة العثمانية وأيضا كانت النمسا مطحونة في حرب الثلاثين عاما والتي كانت عبارة عن سلسلة صراعات دامية مزقت دول قارة أوروبا بين عام 1618م وعام 1648م ووقعت معاركها بدايةً وبشكل عام في أراضي أوروبا الوسطى خاصة أراضي النمسا والمانيا الحالية العائدة إلى الإمبراطورية الرومانية المقدسة لكن إشتركت فيها تباعا معظم القوى الأوروبية الموجودة في ذاك العصر فيما عدا إنجلترا وروسيا ثم إمتدت المعارك إلى فرنسا والأراضي المنخفضة وشمال إيطاليا وكتالونيا ولهذا سعت النمسا في عام 1627م وعام 1629م لتجديد معاهدة زيتڤاتوروك المنتهية منذ عام 1626م فقبلت الدولة العثمانية وكان هذا التجديد الأخير للمعاهدة لمدة خمسة وعشرين عاما وفي عام 1629م إتجه الجيش العثماني بقيادة الصدر الأعظم خسرو باشا بعد توليه الصدارة العظمي إلى إرضروم ونجح في إجبار واليها أباظة باشا الذى كان قد أعلن إستقلاله بها على التسليم والدخول في طاعة الدولة وتقدم في الأراضي الإيرانية واحتل همدان في غرب إيران عام 1630م ولكنه لم يكن إنتصارا ذا قيمة إستراتيجية وحاول الجيش العثماني مرة أخرى في أواخر عام 1630م أن يعيد الكرة على بغداد فقام بحصارها ولكنه فشل كذلك في إقتحامها وإضطر إلى رفع الحصار عنها في عام 1631م وكان من الواضح أن ضياع بغداد يمثل هزيمة وعقبةً كبيرة أمام الدولة العثمانية وفي طريق عودته منها عزله السلطان مراد الرابع وأعاد حافظ أحمد باشا إلى منصب الصدارة العظمي مرة أخرى .
وفي حقيقة الأمر كان السبب الأساسي لعزل خسرو باشا من منصب الصدارة العظمي أنه كان فاسدا وإشترك في السابق هو وأحد كبار الوزراء وهو طوبال رجب باشا في أعمال بطش وظلم كان الغرض منها فرض سيطرتهما على البلاد دون النظر مطلقا إلى مكانة السلطان مع أنهما كانا متزوجين من العائلة العثمانية فالأول خسرو باشا هو زوج عمة السلطان مراد الرابع عائشة بنت السلطان محمد الثالث والثاني رجب باشا زوج أخت السلطان مراد الرابع جوهر خان بنت السلطان أحمد الأول وكان السلطان مراد الرابع قد بلغ في عام 1631م عامه التاسع عشر فشعر أنه من الواجب الآن أن يتحرك لقيادة الدولة بنفسه فضغط على أمه للموافقة على عزل خسرو باشا عن الصدارة العظمى وأتى بصدر أعظم جديد موال له وهو حافظ أحمد باشا كما ذكرنا في السطور السابقة وهو أيضا زوج أخته الكبرى عائشة وذلك في يوم 25 أكتوبر عام 1631م وكان خسرو باشا يستند في سلطانه على جماعة الإنكشارية في العاصمة العثمانية إسطنبول والتي كان يوجهها كما يشاء لأنه كان أغا الإنكشارية سابقا فلما عزله السلطان أراد أن يكيد له فأوعز إلى رؤساء الإنكشارية هو وساعده الأيمن رجب باشا أن السلطان لم يعزله إلا لوقوفه إلى جانبهم وتعاطفه معهم فثارت الإنكشارية في العاصمة وطالبوا السلطان بإعادة خسرو باشا إلى منصبه لكن السلطان رفض مطلبهم فإشتعلت ثورتهم بداية من يوم 19 رجب عام 1041 هجرية الموافق يوم 10 فبراير عام 1632م وجمعوا عددا كبيرا من المتمردين وحاصروا قصر الحكم ثم إنتهى الأمر بفاجعة حيث قتلوا الصدر الأعظم وزوج أخت السلطان حافظ أحمد باشا بعد ثلاثة أشهر ونصف فقط من تقلده المنصب أمام السلطان والذى لم يستطع أن يبسط حمايته عليه ويدفع عنه أذاهم وأجبر الإنكشارية السلطانة كوسم سلطان والتي كانت حتي هذه اللحظة وصية علي العرش العثماني بطوبال رجب باشا زوج إبنتها الأخرى لمنصب الصدارة العظمى وكان السلطان يسميه رئيس الأشقياء لأنه كان الساعد الأيمن لخسرو باشا وقد كانت هذه الحادثة فارقةً في حياة السلطان مراد الرابع بل فارقةً في التاريخ العثماني كله إذ أن التغيير الذي سينتج عنها سيحفظ الدولة العثمانية في مستوى ثابت لقرابة نصف قرن من الزمان ورب ضارة نافعة فقد أدرك السلطان مراد الرابع أن مصيره سيكون مثل مصير أخيه الشهيد عثمان الثاني إن لم يأخذ موقفا صلبا واضحا وأدرك أيضا أن المفاسد في الدولة كانت بسبب إستهتار كل من القادة والأعداء والشعب بمنصب الحاكم وفي حقيقة الأمر كانت فترة حكم السلطانة كوسم كوصية علي العرش تطبيقًا عمليا لحديث رسول الله ﷺ لن يفلح قوم ولوا أَمرهم إمرأة حيث لم تفلح الدولة العثمانية قط تحت قيادة هذه المرأة ولما بلغت الأمور إلي هذه الدرجة من الإنهيار عنف السلطان مراد الرابع أمه تعنيفا شديدا على إدارتها للبلاد وأمر بعزلها تماما عن شؤون الحكم والسياسة وأقصاها في القصر القديم وأمسك هو فجأة بزمام الأمور وكان من الواضح أنه لم يكن غافلا في السنوات الأولى من ولايته لكنه كان يراقب ويدرس ويجمع الأنصار والأعوان ويرتب الخطوات المستقبلية ويتضح لنا ذلك لأن خطوات السلطان مراد الرابع خلال الفترة الثانية من حكمه والتي بدأت ببلوغه العشرين من عمره في عام 1632م لم تكن خطوات شخص يحاول تبين الطريق إنما كانت خطوات مدروسة ومنطقية بشكل واضح لكل ذى عينين .
وكان السلطان مراد الرابع يدرك أن خسرو باشا وهو الأكبر والأدهى هو الذى وراء الأحداث وأنه هو الذى يدفع رجب باشا إلى الحركة ويخطط له ولذلك أمر أحد رجاله ويدعي مرتضى باشا بأن يلقي القبض على خسرو باشا والذى رفض الأمر فقصف مرتضى باشا قصره وبأمر السلطان مراد الرابع تم قتله وقطع رأسه وعرض السلطان بنفسه الرأس على الشعب في يوم 11 مارس عام 1632م وكان قد مر شهر واحد فقط من قتل حافظ أحمد باشا وكانت الرسالة قويةً للإنكشارية ولرجب باشا وكان رد فعلهم عنيفا إذ قاموا بثورة جديدة ولكن السلطان مراد الرابع رد عليها ردا قويا بإعدام زوج أخته الصدر الأعظم رجب باشا في يوم 18 مايو من العام نفسه 1632م وقام بتعيين طابانياسي محمد باشا والذى كان من السياسيين المخضرمين والمتمكنين صدرا أعظم مكانه وبعد هذا الإجراء الحاسم جمع السلطان مراد الرابع رجال الديوان والعلماء وخطب فيهم خطبةً طويلة ناقش فيها الفساد الذي إستشرى في مفاصل الدولة والحالة السيئة التي كان قد وصل إليها الجيش والمخاطر التي تتعرض لها الدولة في ضوء ذلك كله وهدد بأنه سيضرب بيد من حديد على كل من سيخرج عن نظام الدولة أو يهدد أمنها وحمل رجال من أتباع السلطان الكلمات إلى جموع الشعب فخرجوا يهتفون بحياة السلطان بعد أن أرهقتهم الإضطرابات التي شملت الدولة في العقد الأخير خاصة وأن التهديد الصفوي من جهة الشرق كان ما يزال مستمرا وقد أعطى هذا الدعم الشعبي قوة جديدة للسلطان مراد الرابع فبدأ في خطواته الإصلاحية بهمة ونشاط وجدير بالذكر أننا لا يمكن أن نصف خطوات السلطان الإصلاحية التي بدأ فيها تباعا بأنها كانت عادلة أو صالحة إنما يمكن أن نصفها بوضوح بأنها كانت صارمة وشديدة حيث كان السلطان عنيفا إلى أقصى درجة في تطبيق العقوبات وإنزال الغضب على المخالفين له فكانت عقوبة الإعدام أمرا عاديا متكررا وتذكر بعض الإحصائيات أن عدد الذين أُعدموا في غضون ثماني سنوات من عام 1632م وحتي عام 1640م وصل إلى عشرين ألف شخص كان من بينهم صدور عظام ووزراء وقادة جيوش وحكام ولايات وجنود بل كان منهم ثلاثة من إخوة السلطان شخصيا وهم بايزيد وسليمان وسليم ولم يترك من إخوته حيا إلا أخيه الأصغر إبراهيم والذى كان مشكوكا في صحة قواه العقلية وكان السلطان يرى أن مراكز القوى المسلحة في الدولة قد صارت كثيرة ومتعددة وفاجرة ولا يردعها شئ وأنه لن تسكن هذه القوى بالنصح والإرشاد ولا بالعقل والمنطق إنما الأمر يحتاج إلى إخافة وردع حقيقي ووأد صريح ومباشر لكل المؤامرات السرية ومحاولات العصيان والتمرد ولا يمكننا في الواقع تأييد هذا المنهج العنيف ولكن من جانب آخر يمكننا تفهم منطقه خاصة وأنه آنذاك كانت الدولة تمر بفتن شديدة كان علي السلطان مراد الرابع مواجهتها وعموما فقد فرض السلطان مراد الرابع نظاما صارما على الدولة كلها يهدف إلى دفع الجميع إلى الإنصياع للقانون بكل حذافيره وحرص علي أن يكون القانون المفروض مرتبطا بالشريعة الإسلامية حتى يحصل من ناحية علي دعم العلماء ومن ناحية أخرى لا يفقد الدعم الشعبي حين يقيم العقاب على المخالفين وكان من هذا مثلا أنه منع تماما شرب الخمور في الدولة لا في الأماكن العامة ولا في البيوت ومنع كذلك تدخين التبغ في الأماكن العامة وكان تجار هولندا قد أدخلوه البلاد منذ عقود طويلة ولكنه لم يمنعه في البيوت نظرا لإختلاف العلماء في تحريمه آنذاك وهدم السلطان المقاهي الكثيرة التي كانت قد إنتشرت في المدن الكبرى وكان الإنكشارية يستخدمونها للإجتماعات ونشر الشائعات والأقاويل من خلالها وكان السلطان ينزل بنفسه إلى شوارع المدن بعد التنكر في ملابس عادية ويقوم بمراقبة الأسواق والأوضاع فإذا وجد مخالفةً عاقب مرتكبيها فورا وكان العقاب يصل أحيانا إلي قطع الرأس وكان ينفذه بنفسه .
وكان من أهم الإصلاحات التي قام بها السلطان مراد الرابع قيامه بتنظيم الجيش بدقة حيث قام بتغيير الكثير من القيادات وألزم الجنود بالتدريبات والطاعة وكان لذلك تأثيره الإيجابي الكبير حيث تغيرت أحوال الجيش إلي الأفضل في غضون شهور قليلة حيث كانت نبتة الجيش طيبة ولكن أرهقها فساد القادة وأصحاب الأهواء وفضلا عن ذلك فقد تواصل السلطان مع العلماء وتعاون معهم ومع ذلك لم يستثنِ أحدهم من العقاب عند المخالفة فأعدم أحد المخالفين منهم وكان العلماء يستثنون من عقوبة الإعدام عرفا ولكنه أراد أن يوصل لهم رسالةً مفادها أن تساهلهم في الفتوى أيام السلطان عثمان الثاني هو الذي سمح للفتنة أن تزيد وأن طاعة بعضهم لقادة الإنقلاب العسكرى هي التي أفضت بالسلطان الشهيد إلى القتل وكان السلطان مراد الرابع لم ينس إستشهاد أخيه عثمان الثاني عام 1622م وبحث عن كل من كانت له علاقة بقتله وأعدمه علنا فسكنت النفوس بعد هذه الإجراءات الشديدة وهدأت الدولة وتوقفت طموحات العصاة والمتمردين عن النمو وكان من هؤلاء المتمردين أمير الدروز فخر الدين المعني الثاني الذى كان قد أعلن إستقلاله عن الدولة العثمانية فأراد السلطان مراد الرابع أن يستأصل شأفته قبل أن يستفحل أمره ويوقع البلاد والعباد في ما لا تحمد عقباه فأوعز إلى والي دمشق فتقدم ذلك الأخير مع جيش فاق جيش الأمير فخر الدين عددا وعدة وخبرة فوقع في الأسر مع إبنيه وعند وصوله إلى إسطنبول حاول مراد الرابع الإبقاء على حياة أمير الدروز للمنجزات الحضارية التي كان قد خلفها في ولايته والخدمات السياسية التي أداها للدولة العثمانية إلا أن قيام ثورة حفيد فخر الدين جعلت السلطان العثماني يأمر بقتله مع ولديه ومن جانب آخر فقد إحتاج السلطان إلى سنوات ثلاث حتى يجهز جيشا قادرا على غزو الأراضي الصفوية وإسترداد بغداد من بين أيديهم ولما أعد العدة وجهز الجيش قرر الخروج بنفسه في ربيع عام 1635م على رأس الجيش في حملة كبرى كان عدد الجنود فيها مائةً وخمسين ألفا وقيل مائتي ألف وكانت وجهة الجيش الأولى إلى أريڤان بأرمينيا وتمكن الجيش العثماني من فتح المدينة في يوم 10 أغسطس عام 1635م وبعدها توجه جنوبا مباشرة إلى تبريز والتي دخلها فاتحا في يوم 10 سبتمبر عام 1635م وكانت هذه الحملةً حملة ناجحةً ألقت الرهبة في قلوب الصفويين وعاد السلطان الغازى إلى عاصمته إسطنبول لكي يستكمل إصلاحاته وفي طريق ذهابه وعودته كان يمر على المدن في الأناضول فيتوقف ليراقب الأوضاع بنفسه وليقيم أحكام الإعدام على المسلحين والفاسدين الذين فرضوا سطوتهم على الناس خلال السنوات السابقة وفي العام التالي 1636م تمكن الصفويون من إسترداد أريڤان وتبريز فكان هذا داعيا للسلطان مراد الرابع لتجهيز حملة جديدة أقوى يحسم بها الأمور وقرر أن يخرج بنفسه مرة أخرى عام 1638م لحرب الصفويين وجعل الوجهة في هذه المرة إلى العراق وبعد توقفات في مدن الشمال وصل السلطان إلى بغداد وضرب عليها الحصار في يوم 15 نوفمبر عام 1638م وبعد تسعة وثلاثين يوما وفي يوم 25 ديسمبر عام 1638م سقطت المدينة في يده وحاز بعدها لقب فاتح بغداد وأدرك الصفويون أن المقاومة مستحيلةٌ فطلبوا الصلح ووافق السلطان وجرت المباحثات بين الفريقين وإنتهى الأمر إلى توقيع معاهدة مهمة جدا في تاريخ المنطقة هي معاهدة قصر شيرين نسبةً إلى البلدة التي وقعت فيها وهي بلدة إيرانية تاريخية شهيرة تقع علي مقربة من مدينة كركوك العراقية قرب الحدود العراقية الإيرانية وتعرف أيضا بإسم معاهدة ذهاب وتم توقيعها في يوم 17 مايو عام 1639م وكان وجه أهميتها أنها رسمت الحدود بين الدولتين الصفوية والعثمانية ولثبات موازين القوى بعد ذلك بينهما ظلت هذه الحدود ثابتةً إلى نهاية الدولتين وهي نفس الحدود التي توجد حتي اليوم بين دولة إيران من ناحية ودولتي تركيا والعراق من ناحية أخرى وبموجب هذه المعاهدة إسترجع الصفويون كامل الأراضي الإيرانية وكذلك أذربيچان بينما أخذت الدولة العثمانية كل أراضي إقليم الأناضول بالإضافة إلى كامل بلاد العراق أما دولتي چورچيا وأرمينيا فقد قسمَتا إلى نصفين شرقي وغربي أخد الصفويون الأقسام الشرقية بينما حاز العثمانيون غربي القطرين وهكذا وضعت هذه المعاهدة الحرب بين الدولتين إلى قبيل نهاية الدولة الصفوية في عام 1736م حيث لم تحدث حرب بينهما إلا قرب نهايتها في عام 1723م في عهد السلطان العثماني أحمد الثالث والشاه طهماسب الثاني الصفوى .
ولم يكن هذا النجاح الذى حققه العثمانيون ضد الصفويين بلا ثمن ولم يكن الثمن في العراق أو الأناضول إنما كان في اليمن حيث أن إنشغال الدولة العثمانية في هذه الجبهة الشرقية أدى إلى ضعف قبضتها على أماكن عديدة خاصة البعيد عنها كاليمن وهو القطر الذى لم يستقر قط للعثمانيين وكان وراء هذا الإضطراب عوامل كثيرة منها إنتشار المذهب الزيدي الشيعي في اليمن ومنها الطبيعة الجغرافية الصعبة لتلك البلاد ومنها الطبيعة القبلية لعشائر اليمن وغير القابلة للحكم بغيرها ومنها أيضا الطريقة غير الصحيحة التي دخل بها العثمانيون اليمن وإزداد هذا الإضطراب نتيجة المشكلات الداخلية الكثيرة في الدولة العثمانية بعد إنتهاء زمن السلاطين الأقوياء وقام الإمام الزيدي القاسم المنصور بالله بثورة كبرى ضد الحكم العثماني في عام 1597م في عهد السلطان محمد الثالث وإستمرت مع نشاط أحيانا وفتور أحيانا أخرى حتي وفاته عام 1620م وإستكمل إبنه المؤيد بالله محمد الثورةَ ضد العثمانيين وبعد صدامات كثيرة تمكن المؤيد بالله من إخراج العثمانيين بشكل كاملٍ من اليمن في عام 1636م في عهد السلطان مراد الرابع حيث كان إنشغال الدولة العثمانية في حرب الصفويين في هذه الفترة مانعا لهم من إرسال قوات كبيرة لإنقاذ الموقف ولم تعد اليمن لحكم العثمانيين بعد ذلك حتى عام 1872م في عهد السلطان عبد العزيز ومن جانب آخر كانت الجبهات الأوروبية للدولة العثمانية هادئةً في معظم فترة حكم السلطان مراد الرابع وذلك نظرا لإنشغال معظم دول أوروبا بحرب الثلاثين عاما كما ذكرنا في السطور السابقة ولم يحدث تحرش على هذه الجبهات إلا مرتين فقط وفي كلتا المرتين تجنب السلطان الحرب بحكمة لكونه كان منشغلا بملف الحرب مع الدولة الصفوية وكانت المرة الأولى مع بولندا في عام 1633م وعام 1634م وتم تفادي الحرب الحقيقية بتجديد معاهدة خوتين في أواخر عام 1634م والمرة الثانية كانت مع جمهورية البندقية الإيطالية نتيجة تعدى البنادقة على سفن تابعة للدولة العثمانية وفي هذه المرة أظهر السلطان مراد الرابع غضبه الشديد وأعلن أنه سينتقم من كل البنادقة في الدولة العثمانية إن لم يصل إلى ترضية مناسبة مع جمهورية البندقية والتي رضخت لتهديده وقبلت بدفع مائتين وخمسين ألف دوقية ذهبية كتعويض إلى الدولة العثمانية وقامت بتجديد المعاهدات التجارية بين الدولتين في إسطنبول بتاريخ 16 يوليو عام 1639م وقد رفعت هذه المناوشات التوتر نسبيا مع جمهورية البندقية وسيكون لذلك مردود بعد عدة سنوات وكانت الخسارة الدولية الوحيدة في عصر السلطان مراد الرابع عندما تمكن القوزاق الأوكرانيون عام 1637م من إحتلال ميناء آزوڤ الذى يقع علي البحر الأسود شرق القرم ولم يتمكن السلطان من إسترداده لإنشغاله آنذاك بحرب الصفويين وجدير بالذكر أنه نتيجة هذه الإضطرابات التي شهدتها الدولة العثمانية في العاصمة إسطنبول وفي مناطق الأناضول وأيضا في ولايات الشام والعراق والحروب التي خاضتها مع الدولة الصفوية وقبلها مع النمسا في الفترة الزمنية التي إمتدت منذ عهد السلطان سليم الثاني مرورا بعهد السلاطين مراد الثالث ومحمد الثالث وأحمد الأول وعثمان الثاني ومصطفي الأول إنتهاءا بعهد السلطان مراد الرابع فإن كل ذلك أدى إلى ضعف قبضة الدولة العثمانية على ولاياتها في شمال قارة أفريقيا وخاصة الجزائر مع أن والي الجزائر كان يتم إرساله من قبل السلطان العثماني في إسطنبول إلا أن الجنود الإنكشارية الذين كانوا يمثلون القوة العسكرية الطاغية في الجزائر كانوا ينفلتون عن أوامر الدولة ويعملون لحسابهم الخاص وقد وصل الأمر إلى أن صارت الجزائر مع كونها ولاية عثمانية تعمل بشكل منفرد في سياستها الخارجية ومن ذلك أن البحرية الجزائرية التي كان من المفترض أنها جزء من البحرية العثمانية صارت تهاجم السفن الأوروبية في البحر المتوسط سواء كانت تابعةً لأسبانيا أو لإيطاليا أو حتى لفرنسا صديقة الدولة العثمانية وكانت هذه التحركات تؤدى إلى إضطراب وتوتر في العلاقات العثمانية مع الدول الأوروبية وبالفعل فقد تسببت هذه التحركات والعمليات الجزائرية في توتر العلاقات العثمانية الفرنسية خاصة بعد أن أسرت الجزائر عدد 80 سفينةً فرنسيةً في الفترة من عام 1629م إلى عام 1634م وما كان يحدث في الجزائر كان يحدث أيضا ولكن بصورة أقل في كل من تونس وليبيا وجدير بالذكر أنه بناءا علي كل ما ذكرناه أن أذى وأضرار الجنود الإنكشارية لم يكن محدودا بإسطنبول أو الأناضول فقط بل كان منتشرا في كل أرجاء الدولة العثمانية وكان من الواضح أن الشر المستطير للقوة العسكرية الغير منضبطة التي لا يحكمها قانون ولا دولة ولا خلق ولا دين يمكن أن يحدث آثارا وخيمةً على الأمة .
وبعد عودة السلطان مراد الرابع إلي العاصمة إسطنبول بعد إنهاء الصراع العثماني الصفوى وتوقيع معاهدة قصر شيرين مع الدولة الصفوية كانت وفاته في يوم 8 فبراير عام 1640م وهو في ريعان الشباب حيث كان في السابعة والعشرين من عمره ويبدو أنه قد كتب على آل عثمان أن يموت أغلبهم في سن مبكرة وكان الله قد شاء أنه كلما ولد إبن ذكر للسلطان مراد الرابع توفي بعد فترة فلم يعش له أى أمير من أولاده حتى يجعله وليا للعهد فخلفه أخاه الوحيد الذى كان علي قيد الحياة الأمير إبراهيم وكان يبلغ من العمر 25 عاما وليصبح السلطان إبراهيم الأول والذى إشتهر بأنه كان عصبيا ومضطربا لا يستقر على شئ كما أنه لم يكمل تحصيله العلمي ولم تتوافر له المهارة العسكرية بسبب العزلة التي فرضت عليه قبل توليه السلطنة وفي بداية حكمه حاول أن يكون مثل أخيه الأكبر السلطان مراد الرابع ولكن لم تكن له صفاته فإضطربت أمور الدولة وتوالى عزل الصدور العظام أو قتلهم ولولا أن الدولة كانت قد إستعادت هيبتها في عهد سلفه السلطان مراد الرابع فإن قصور إمكانات السلطان الجديد وضعف سياسته لم تؤثر تأثيرا قويا في جسد الدولة الكبير هذا وكانت وفاة السلطان مراد الرابع مفاجئة للجميع وتوقع البعض أن يحدث إنفلات كبير في الدولة نتيجة الخروج من قبضة السلطان القوى لكن هذا في الواقع لم يحدث حيث في حقيقة الأمر كان السلطان مراد الرابع قد وضع نظاما راسخا صارما ظل صامدا أمام التحديات التي واجهتها الدولة قرابة نصف قرن من الزمان بعد وفاته هذا على الرغم من الضعف الظاهر للسلاطين الذين جاءوا بعده ونعم حدثت إضطرابات في الدولة في بعض الظروف لكن بنيانها كان قد صار مقاوما للإنهيار حيث ترك السلطان مراد الرابع جيشه قويا وإدارة بلاده منظمة كما ترك خزانة الدولة ثرية بعد أن كانت قد تعرضت للنضوب في خلال العقد الذى حدثت فيه الفتن ما بين عام 1622م وعام 1632م وفضلا عن ذلك فقد ترك السلطان مراد الرابع حدود دولته آمنة فلا خوف من الصفويين ولا بولندا ولا روسيا ولا النمسا ولا غيرهم ونعم لم تكن قبضته ظاهرة على ولايات الشمال الأفريقي ولا على اليمن لكن لم تكن المشكلات الكبرى قد ظهرت في هذه الأماكن بعد ونقلا عن مصطفى نعيمة مؤرخ الدولة العثمانية في القرن السابع عشر الميلادى نجده قد شبه السلطان مراد الرابع بالسلطان سليم الأول وكان وجه الشبه هو القوة التي تصل إلى البطش والحزم الذى يصل إلى الظلم وحقا كانت نتائج السلطان سليم الأول على أرض الواقع أكبر بكثير من نتائج السلطان مراد الرابع فقد تضاعفت الدولة في حياة السلطان سليم الأول ثلاث مرات بينما لم يزد فيها السلطان مراد الرابع شبرا لكن ينبغي النظر إلى الأمر من زاوية أخرى فزمن السلطان سليم الأول بجيشه القوى وشعبه المنضبط وروح الفتح والتوسع التي كانت عليها الدولة مختلف عن زمن الفتن الذى عاشه السلطان مراد الرابع وبينما كان السلطان سليم الأول يجني ما زرع السلطان محمد الفاتح وأسلافه كان السلطان مراد الرابع يصلح ما إقترفه السلطان محمد الثالث وأسلافه وأيضا كان إلتزام السلطان مراد الرابع بالضوابط الشرعية أعلى من إلتزام السلطان سليم الأول وإن كانت هناك مخالفات عديدة من كليهما دون شك وأخيرا كان مما قيل في حق السلطان مراد الرابع إنه لو كان قد عاش في زمن السلاطين العثمانيين الأولين لكان له ذكر كبير في التاريخ ولكان له شأن أعلى من بعض مشاهير السلاطين العثمانيين لكن يمكن أن يقال أيضا إنه من رحمة الله بالدولة العثمانية أن أرسل لها مثل هذا الرجل في التوقيت الذى جاء فيه ليطيل في أجلها عدة عقود والأمور تجرى بالمقادير وذلك قبل أن تتناوشها دول أوروبا بحروبها المتصلة بهدف إسقاطها وكان يستخدم لهذا الغرض جواسيس وعيون نشرهم في كافة بقاع الدولة ليخبروه عن الفاسدين في كل الولايات وكان السلطان أثناء مروره على الولايات المختلفة خلال خروجه مع الجيش ينادى على الفاسدين والعصاة في كل ولاية بأسمائهم ويطلب مثولهم أمامه ثم يأمر بقطع رؤوسهم .
وقبل أن نختم مقالنا هذا لا يفوتنا أن نذكر أن السلطان مراد الرابع كان شديد الإهتمام بالأماكن الإسلامية المقدسة فعندما هطلت أمطار شديدة على مكة المكرمة في يوم الأربعاء 19 شعبان عام 1039 هجرية الموافق يوم 2 أبريل عام 1630م وتحولت إلي سيل عظيم وتخربت الدور حول المسجد الحرام وإستخرج الأثاث منها ومات بسبب هذا السيل خلق كثير كما تسبب هذا السيل في إغراق المسجد الحرام بالمياه وإرتفعت المياه داخله بمقدار قامتين وأحدثت أضرارا كبيرة به وحملت جميع ما في المسجد من خزائن الكتب والقناديل والبسط وغيرها ودخلت المياه الكعبة من الداخل وكان في عهد السلطان العثماني أحمد الأول مابين عام 1603م وعام 1617م قد حدث تصدع شديد في جميع جدران الكعبة المشرفة بما فيها جدار الحجر الأسود وكان من رأي السلطان أحمد هدم بناء الكعبة وإعادة بنائها من جديد لكن علماء العثمانيين منعوه من ذلك أما المهندسين فأشاروا عليه بدلا من ذلك بعمل نطاقين من النحاس الأصفر المطلي بالذهب واحد علوى وآخر سفلي وذلك من أجل تدعيم وتقوية الجدران الأربعة للكعبة المشرفة ورغم ذلك لم تصمد هذه التقوية أمام هذا السيل وسقط جدار الكعبة الشامي وجزء من الجدارين الشرقي والغربي وسقط أيضا سقفها لذلك ما أن وصلت أخبار هذا السيل العنيف إلى السلطان مراد الرابع حتى إجتمع بشيخ الإسلام وتسلم فتوى حول كيفية إجراء الإصلاحات والترميمات اللازمة للكعبة المشرفة وأمر بسرعة عمارتها وتجديدها على أيدي مهندسين وعمال مهرة من أهل مكة ومن مصر في عام 1040 هجرية الموافق عام 1630م وعين القاضي محمد أفندي والمعماري الشهير رضوان آغا للإشراف علي عمل الإصلاحات وبالفعل فقد تم البدء في عمل إصلاحات شاملة ببناء الكعبة يوم الأحد 23 جمادى الآخرة عام 1040 هجرية الموافق يوم 26 يناير عام 1631م ومع بداية العمل وزعت الخلع والهدايا وذبحت الذبائح عند باب السلام وباب الصفا وباب الزيادة وباب إبراهيم ووزعت لحومها على الفقراء وقام فريق العمل بفحص البنية الأساسية لها وقاموا بتحصين أساساتها وتم عمل الإصلاحات والترميمات اللازمة بأسلوب فريد حيث تم إحلال وتجديد الأجزاء والحجارة التي وقعت أو فقدت وظيفتها بإحلال أجزاء أخرى محلها أُحضرت من نفس المصدر الأول كما تم إصلاح وترميم المسجد بأكمله وفرشت أرضه بالحصير وتم الإنتهاء من البناء في غرة شهر رمضان من السنة نفسها 1040 هجرية الموافق يوم 2 أبريل عام 1631م حيث ألبست الكعبة المشرفة كسوتها وتم الإحتفال أيضا بهذه المناسبة ووزعت الهدايا والخلع وإستمر العمل بعد ذلك في ملحقات البناء من تجصيص وترخيم ودهان وإصلاح الى أن إنتهت جميع الأعمال المتعلقة بذلك في يوم ٢ ذى الحجة من العام نفسه 1040م الموافق يوم أول يوليو عام 1631م وعلاوة علي ذلك فقد أمر السلطان مراد الرابع بتركيب باب جديد للكعبة وإرسال الباب القديم إليه ومما يذكر أن هذا البناء الذى تم في عهد السلطان مراد الرابع هو البناء الحالي للكعبة وكل ما حدث بعد ذلك كان عبارة عن ترميمات وإصلاحات لبناء الكعبة المشرفة وتوسعة في مساحة المسجد الحرام فقط .
|