بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا”
السلطان سليم الثاني هو السلطان الحادى عشر للدولة العثمانية وخليفة المسلمين السادس والسبعون وثالث من حمل لقب أمير المؤمنين من آل عثمان بعد جده السلطان سليم الأول وأبيه السلطان سليمان القانوني وهو الإبن الثاني للسلطان سليمان القانوني بن سليم الأول بن بايزيد الثاني بن محمد الفاتح بن مراد الثاني بن محمد الأول جلبي بن بايزيد الأول بن مراد الأول بن أورخان غازى بن عثمان بن أرطغرل مؤسس الدولة العثمانية وكان قد تقلد السلطنة بعد وفاة أبيه السلطان سليمان القانوني وورث عنه دولة عظمي كبرى كانت قد بلغت أقصى إتساع لها حتى أصبحت قوة عظمي وأقوى دولة في العالم في ذلك الوقت ولذا فقد كان أبوه قد أصبح بحق حاكما بارزا في قارة أوروبا في القرن السادس عشر الميلادى بصفته كان يتزعم قمة سلطة الدولة العثمانية الإسلامية العسكرية والسياسية والإقتصادية كما أنه كان يقود الجيوش العثمانية لغزو المعاقل والحصون المسيحية في بلجراد وجزيرة رودس وأغلب أراضي مملكة المجر ثم قيامه بحصار مدينة فيينا عاصمة النمسا حاليا في عام 1529م ثم في عام 1532م وفضلا عن ذلك فقد إستطاع أن يضم أغلب مناطق الشرق الأوسط في صراعه مع الصفويين الشيعة ومناطق شاسعة من شمال قارة أفريقيا حتى الجزائر تحت حكمه وأيضا سيطرت الأساطيل العثمانية في عهده على بحار المنطقة من البحر الأبيض المتوسط إلى البحر الأحمر حتى الخليج العربي وبإختصار فقد ورث السلطان سليم الثاني دولة مستقرة سياسيا وقوية عسكريا وثرية لأقصي درجات الثراء وبلا شك فقد إستفاد السلطان سليم الثاني من كونه نجل السلطان سليمان القانوني أحد أعظم السلاطين العثمانيين وتعلم منه وكان هو أول السلاطين العثمانيين الذين لم يخرجوا علي رؤوس جيوشهم كقادة لغزواتهم وفتوحاتهم ولذا فلم يحصل على لقب غازى والذي كان لا يمنح في البروتوكول العثماني إلا إلى السلطان الذى كان يجاهد بنفسه في المعارك وإن كان قد شارك في بعض غزوات وحروب والده العظيم السلطان سليمان القانوني وإعتمد كثيرا علي من شغلوا منصب الصدر الأعظم والوزرات في عهده ومنحهم الكثير من سلطاته وفضلا عن ذلك فقد أخذت في عصره سلطة وسلطان الحرملك في التزايد وأصبحت واضحة للعيان وأمرا معترفا به داخل أروقة القصر العثماني بل في الدول الأوروبية التي بدأت تتصل بالحرملك لمخاطبة السلطانات لمناقشة الأمور الدولية وكان هذا النفوذ قد أرست دعائمه السلطانة خرم أيام السلطان سليمان القانوني ثم جاءت السلطانة نوربانو زوجة السلطان سليم الثاني بن سليمان القانوني لتسير علي دربها وتعتبرها مثلها الأعلى وتبني عليه مجدها وتستحوذ علي فكر السلطان سليم الثاني وتلعب الدور الأبرز في توجيه السياسة العثمانية لعدة سنوات وبالإضافة إلي زيادة نفوذ الحرملك زيادة كبيرة في عهد السلطان سليم الثاني بدأ أيضا في عهده زيادة نفوذ وتدخل الجنود الإنكشارية في شؤون السياسة والحكم بعدما كانوا لا يجرؤون علي ذلك في عهد السلاطين العثمانيين العشرة الأول الأقوياء وهو الأمر الذى تزايد تدريجيا بداية من عهد السلطان سليم الثاني ومن خلفوه حتي أنهم أصبحوا يقومون بعزل بعض السلاطين الذين يتصدون لهم وأحيانا قتلهم وأيضا في عزل الصدور العظام والوزراء وكبار رجال الدولة أو قتلهم أيضا وكانت البداية عندما لم يقم السلطان سليم الثاني بأى رد فعل مناسب عندما منعوه من دخول إسطنبول بعد إعتلائه للعرش إلا بعد أن زاد في أعطياتهم ورواتبهم وكانت هذه سابقة خطيرة للغاية كان لها تبعات جسيمة ليس على فترة حكم السلطان سليم الثاني فقط ولكن على التاريخ العثماني كله ومن هذا التاريخ ستصبح الإنكشارية التي كانت أحد أهم أسباب تفوق الدولة العثمانية أحد أكبر معاول هدم الدولة ذاتها وهو الأمر الذى أدى في النهاية إلي إنهيار الدولة العثمانية وسقوطها .
وكان ميلاد السلطان سليم الثاني في يوم 28 مايو عام 1524م في العاصمة العثمانية إسطنبول وكان أول السلاطين العثمانيين الذين ولدوا بها وتربي في كنف أبيه السلطان سليمان القانوني وحصل على تربية متميزة قلما حصل عليها أى أمير عثماني آخر فقد تعلم اللغات والعلوم الإسلامية وآداب الإسلام والقتال والعسكرية على أيدي جنرالات وبشوات مقتدرين قادوا دفة الإمبراطورية العثمانية في أزهى عصورها وأجاد إستخدام كافة أنواع الأسلحة حيث كان مقاتل جيد ورامي سهام جيد وصياد جيد كما أجاد الأقواس وفضلا عن ذلك كان أديبا وشاعرا وكتب القصائد باللغتين التركية والفارسية وقبل توليه السلطنة تولى حكم العديد من السناجق وأظهر نبوغا وتفوقا وعطفا على الرعية وكان يعد أحد الأمراء القلائل الذين جابوا كافة أرجاء الدولة وشارك في حملات أبيه في قارة أوروبا وفي إقليم الأناضول والقوقاز وفي إحدى السنوات قضى الشتاء في مدينة حلب شمالي سوريا وشاهد مظاهر الحياة والديار العربية وفي الفترة ما بين يوم الخامس من شهر أغسطس والثامن من شهر سبتمبر من عام 1566م وقع حصار من جانب العثمانيين لحصن ومدينة سيكتوار بجنوب المجر وهو حصار فرضه العثمانيون على هذا الحصن والذي شكل عقبةً في طريق السلطان سليمان القانوني نحو فتح مدينة فيينا ووقعت معركة بين قوات ملكية هابسبورج النمساوية التي كانت تدافع عن حصنها بقيادة الكرواتي الكونت نيقولا سوبيك زرنسكي وبين القوات العثمانية والتي كانت بقيادة إسمية من السلطان سليمان القانوني والذى كان قد تجاوز السبعين عاما ونصحه الأطباء بعدم الخروج والبقاء في إسطنبول محافظة علي صحته خاصة أنه كان يعاني من داء النقرس لكنه رفض وأصر علي الخروج قائلا أحب أن أموت غازيا في سبيل الله وبالفعل توفي السلطان سليمان القانوني في خيمته أثناء المعركة والتي إنتصر فيها العثمانيون وقام الصدر الأعظم محمد باشا الصقلي بإخفاء موت الخليفة القانوني خوفا من ثورة الإنكشارية وذلك حتي يتسلم ولي العهد سليم الثاني الحكم وبذل كل من حوله جهدا عظيما في إبقاء أمر الوفاة سرا ولم يعلم برحيله سوى أقرب المقربين إليه وتم إرسال رسول من ساحة المعركة حاملا رسالة للشاهزاده سليم الثاني خليفة السلطان سليمان القانوني ومن الممكن أن الرسول نفسه لم يكن على علم بفحوى الرسالة التي حملها ثمانية أيام حتى وصل آسيا الصغرى وقابل الشاهزاده سليم الثاني وسلمها له وقد تم دفن أحشاء السلطان العثماني في الخيمة التي كان متمركزا بها لكي يمكن حفظ جسده من التعفن والتلف حتى العودة إلى العاصمة العثمانية إسطنبول لدفنه بالمسجد المعروف بإسمه وقد قام السلطان سليم الثاني ببناء ضريح ومجمع للتعليم الديني في المكان الذي دفنت فيه أعضاء والده وظلت مباني الضريح والمجمع قائمة لمدة 150 عاما إلى أن خرجت المنطقة عن سيطرة العثمانيين ومن ثم تعرضت للتخريب ومن ثم إندثرت معالم هذه المباني ومما يذكر أنه في شهر سبتمبر عام 2016م وبعد مرور 450 عاما علي وفاة السلطان العثماني سليمان القانوني أعلن نائب رئيس الوزراء التركي أن علماء أتراك ومجريين قد إكتشفوا مكان دفن أحشاء وأعضاء السلطان العثماني الراحل .
وبعد أن تسلم الشاهزادة سليم الأول الرسالة التي تفيد بوفاة أبيه السلطان سليمان القانوني توجه فورا إلي العاصمة إسطنبول وجلس على العرش العثماني ثم خرج لكي يلتقي بالجيش العثماني العائد من إنتصاره على النمساويين وكان يتقدمه نعش العاهل العظيم السلطان سليمان القانوني وسلم الصدر الأعظم محمد باشا الصقلي على السلطان سليم الثاني بسلام السلطنة وفي صحراء سيرم خارج العاصمة الصربية بلجراد بايع الجيش العثماني وريث العرش ونادى خواجة سلطاني عطاء الله أفندى مربي سليم الثاني في الجيش قائلا الصلاة للميت فأدى السلطان الجديد وخلفه الجيش صلاة الجنازة علي جثمان السلطان الراحل وبعد أن رجع الجيش العثماني بجثمان قائدهم السلطان سليمان القانوني إلى العاصمة العثمانية إسطنبول وفيها أقيمت مراسم جنائزية ضخمة تليق بالسلطان الراحل وكان لافتا للنظر إشتراك الآلاف من أهالي مدينة إسطنبول في حمل جثمان السلطان وعندما حان وقت دفن الجثمان بالقبر الذى كان قد تم إعداده للسلطان الراحل بالمسجد المعروف بإسمه وهو مسجد السليمانية فوجئ الجميع بأن السلطان العثماني سليمان القانوني قد أوصى بدفن صندوق معه في قبره وتحير العلماء ورجال الدين وعلي رأسهم المفتي شيخ الإسلام أبو السعود أفندى بشأن هذا الصندوق فمن الممكن أن يكون به مال فلا يصح دفنه تحت التراب فقرروا فتح الصندوق فصدم العلماء وشيخ الإسلام المذكور إذ وجدوا بالصندوق فتاويهم فبكى أبو السعود أفندى من الموقف وراح يقول لقد أنقذت نفسك يا سليمان فأى سماء تظلنا وأى أرض تقلنا إن كنا مخطئين في فتاوينا ومما يذكر أنه كان من أقوال السلطان سليمان القانوني لمن حوله قبل موته عندما أموت أخرجوا يدى من التابوت لكي يرى الناس أنه حتى السلطان خرج من هذه الدنيا ويده فارغة ومما يذكر أنه بعد إنتهاء معركة سيكتوار بأقل من عام أرسل الإمبراطور الروماني ماكسيميليان الثاني إلى العثمانيين سفيرين أحدهما كرواتي والآخر نمساوى ووصل السفيران إلى العاصمة العثمانية إسطنبول في يوم 26 أغسطس عام 1567م وتم إستقبالهما إستقبالا حسنا من جانب السلطان العثماني سليم الثاني وأجريت مفاوضات بين الطرفين إستمرت حوالي خمسة شهور مثل العثمانيين فيها الصدر الأعظم العثماني محمد باشا الصقلي وتوصل الطرفان إلى إتفاقية أنهت حالة الحرب بين الإمبراطوريتين العثمانية والنمساوية إلي حين وتم توقيعها في يوم 17 فبراير عام 1568م في مدينة إدرنة وتضمنت موافقة السلطان العثماني سليم الثاني على عقد هدنة بين الطرفين لمدة ثماني سنوات وعلي الرغم من أن هذه الإتفاقية قد جلبت سلاما نسبيا ساد 25 عاما بين الإمبراطوريتين حتى حلول معركة فيينا في عام 1583م في عهد السلطان العثماني مراد الثالث ثم الحرب الطويلة بينهما والتي بدأت في عهد السلطان العثماني مراد الثالث أيضا في عام 1591م والتي إستمرت 15 عاما حيث إمتدت خلال عهد السلطان المذكور وخلال عهد خليفتيه السلطان محمد الثالث والسلطان أحمد الأول حتي إنتهت عام 1606م كما كانت هذه الهدنة مشروطةً بموافقة ماكسيميليان على دفع جزية سنوية مقدارها 30 ألف دوقية ذهبية للدولة العثمانية .
وفي بداية عهد السلطان سليم الثاني أيضا قام بعمل نبيل للغاية حيث إستجاب لإستغاثة سلطان المسلمين في إقليم آتشيه الإندونيسي والذي طلب العون قبل ذلك من السلطان سليمان القانوني وجدده في عهد السلطان سليم الثاني وكان الهدف هو مقاومة الإعتداء البرتغالي على هذه الأقاليم الإسلامية فأرسلت الدولة العثمانية حملةً عسكريةً إلى جزيرة سومطرة الإندونيسية في عام 1567م مكونةً من خمس عشرة سفينةً حربية بالإضافة إلى سفينتي نقل وكانت تحت قيادة الصدر الأعظم محمد باشا الصقلي وقدمت الدعم النافع للمملكة الإسلامية في هذه البلاد وكان من نتيجة هذا العمل أن عقد سلطان آتشيه معاهدة مع الدولة العثمانية أقر فيها بالتبعية للسلطان العثماني كما حمت هذه المساعدات تلك المناطق من الغزو البرتغالي لفترة وغير هذا العمل النبيل قام السلطان سليم الثاني بمقاومة الإضطرابات في بلاد اليمن ما بين عام 1567م وعام 1570م حيث كانت اليمن على عهدها في الإضطرابات المستمرة والثورات الدائمة ولم تخضع قط للسلطة العثمانية وبعد وفاة السلطان سليمان القانوني تجددت القلاقل وإنقلب المطهر بن يحيى إمام الزيديِين على الدولة العثمانية وسيطر على صنعاء في يوم 9 أغسطس عام 1567م وبعدها سيطر على مدن مخا وتعز وعدن ولم يبقَ في يد العثمانيين من الولاية الجنوبية إلا زبيد فإضطر العثمانيون بعد أن تقلصت أملاكهم في اليمن إلى حد كبير إلى توحيد ولايتي اليمن في ولاية واحدة وأرسل السلطان سليم الثاني في عام 976 هجرية الموافق عام 1568م واليا جديدا على اليمن الموحد هو يوسف عثمان باشا أحد أشهر القادة العسكريين في الدولة العثمانية خلال القرن السادس عشر الميلادى وأمده بجيش كبير والذى إستطاع أن يستعيد مدينتي مخا وتعز وأن يثبت سيطرة الدولة العثمانية نسبيا علي بلاد اليمن غير أنه إحتاج إلى مدد جديد فأمده السلطان سليم الثاني بوزير الحرب ووالي مصر القوى ما بين عام 1569م وعام 1574م سنان باشا والذى دعم جيشه بما إستطاع جمعه من الأفراد والمواطنين المسلمين في مصر وإستطاع إستعادة ميناء عدن الهام وفي شهر مايو عام 1569م ثم صنعاء في شهر يوليو من العام المذكور وإضطر الإمام الزيدي إلى الرضوخ للصلح والإقرار بسيادة الدولة العثمانية علي اليمن وكان هذا في آخر عام 1570م وليتم بذلك القضاء علي هذه الثورة ولتهدأ أزمة اليمن ولو بشكل مؤقت وجدير بالذكر أن بلاد اليمن كانت من الأهمية لدى الدولة العثمانية لأنها كانت بمثابة درع أمام تقدم البرتغاليين إلى بلاد الحجاز وقاعدة لضرب نفوذ البرتغاليين في البحر الأحمر والمحيط الهندى وعلي الجبهة الشرقية للدولة العثمانية حيث الدولة الصفوية الشيعية تم تجديد الهدنة مع تلك الدولة في شتاء عام 1567م وهي الإتفاقية التي كانت قد أبرمت بين الدولتين العثمانية والصفوية في عام 1555م في عهد السلطان سليمان القانوني مما يعني أن الشاه الصفوى طهماسب الأول لم يرَ ضعفًا في الجانب العثماني بعد وفاة السلطان سليمان القانوني وعموما لم تتحدث أى مصادر تاريخية عن أى إضطرابات أو مناوشات على الجبهة العثمانية الصفوية طوال فترة حكم السلطان سليم الثاني .
وكان من علامات قوة الدولة العثمانية في فترة حكم السلطان سليم الثاني سعي فرنسا لتجديد المعاهدة والتحالف مع العثمانيين وكانت المعاهدة السابقة بين الدولتين قد أُبرمت عام 1535م في زمن السلطان العثماني سليمان القانوني وفرانسوا الأول ملك فرنسا لكن بموت هذا الأخير والذي كان مهتما بالتعاون مع الدولة العثمانية في عام 1547م فترت العلاقة بين الدولتين وفي عام 1560م تولى شارل التاسع حكم فرنسا وهو في العاشرة من عمره تحت وصاية أمه وكانت فرنسا في ذلك الوقت في صدام شديد مع أسبانيا وإنجلترا وكذلك مع البابا فلم يجد شارل التاسع بدا من تجديد أواصر الصداقة والتحالف مع الحليف القوى آنذاك الدولة العثمانية وبعد مفاوضات مطولة في إسطنبول تم توقيع معاهدة صداقة بين الدولتين في عام 1569م وبموجب هذه المعاهدة أعطت الدولة العثمانية عدة إمتيازات لفرنسا كان منها بعض الحقوق التجارية ومنها إعفاء الرعايا الفرنسيين في الدولة العثمانية من الضرائب ومنها السماح لفرنسا بالتواصل مع المسيحيين في الأقطار العثمانية ومنها إعطاء فرنسا الحق في منح رايتها لبعض السفن الأوروبية لتدخل إلى البحر الأبيض المتوسط فتعامل من قبل السلطات العثمانية كسفن فرنسية ومنها دفاع البحرية العثمانية عن السفن الفرنسية في البحر الأبيض المتوسط ولم تكن كل هذه المنح والإمتيازات في ذلك الوقت تمثل عبئا على الدولة العثمانية بل كانت هي في الموقف الأقوى الذى يحمي فرنسا من القوى المختلفة في البحر الأبيض المتوسط وفي قارة أوروبا وعلاوة علي ذلك إتفق الطرفان العثماني والفرنسي على ترشيح هنرى شقيق ملك فرنسا شارل التاسع لولاية عرش إتحاد بولندا وليتوانيا وسوف يقر هذا الملك الجديد بتبعيته للدولة العثمانية وذلك لتقوية هذه الجبهة ضد النمساويين أعداء العثمانيين والفرنسيين معا وكان هذا في صالح الدولة العثمانية آنذاك بلا شك وكان هناك عيب واضح في هذه المعاهدة وهي أنها لم تكن مرهونةً بحياة الزعماء الذين وقعوها ولا مرهونة بفترة زمنية معينة ولم يظهر أثر لهذا العيب في المستقبل القريب ولكن مع مرور الوقت وضعف الدولة العثمانية لاحقا ونمو قوة الدولة الفرنسية المتزايد إستغلت فرنسا هذه البنود في التغلغل في الكيان العثماني والتدخل في الشؤون الداخلية للدولة والتواصل المباشر مع نصارى الدولة العثمانية وخاصة في بلاد الشام مما أدى في النهاية إلي إنهيار الدولة العثمانية بعد ذلك ولم يكن هذا الخطأ فادحا وقت توقيع المعاهدة نظرا لقوة الدولة العثمانية ولكنه كان خطأً دبلوماسي في حرفية كتابة وصياغة المعاهدات وكان من الممكن ألا يكون له أثر يذكر لولا تغيير موازين القوى بعد هذه المعاهدة بعشرات السنين وهذا في الواقع يعد أمر طبيعي في حياة الأمم .
وكانت إمارة أستراخان التترية المسلمة والتي تقع بحوض نهر الفولجا بدولة روسيا الإتحادية حاليا قد وقعت في يد الروس عام 1556م ولم يكن آنذاك للسلطان سليمان القانوني جنود في هذه المناطق الشرقية ولكنه كان يعتمد على الجنود القرميين في مواجهة روسيا ولما كانت الإمارات التتريية بشكل عام تعيش في فترات ضعفها الأخيرة لم يستطع أحد أن يقدم الدعم لهذه الإمارة فضاعت لصالح الروس ولم يكن ضياعها مؤثرا على سكانها فقط بل أثر ذلك أيضا على بقاعٍ إسلامية كثيرة تقع شرق أستراخان حيث مثلت هذه الإمارة بعد إحتلالها حاجزا يحول بين مسلمي وسط آسيا في خوارزم وبخارى وسمرقند مما أعاق طرق التجارة فيما بينها وكذلك منع الحجاج المسلمين الآسيويين من الوصول إلى الأماكن الإسلامية المقدسة في بلاد الحجاز ولذا قرر السلطان سليم الثاني إرسال حملة عسكرية لفتح مدينة أستراخان والسيطرة على المناطق المحيطة بها خاصة بعد أن وصلته إستغاثات من أمراء بخارى وسمرقند تشتكي من إختطاف الحجاج المسلمين من جانب الشاه الصفوى طهماسب الأول وكذلك من القيصر الروسي إيڤان الرابع وكان هدف هذه الحملة العسكرية مزدوجا حيث كانت تهدف إلى السيطرة العسكرية على أستراخان وكذلك إلى حفر قناة تصل نهرى الدون الذى يصب في البحر الأسود والڤولجا الذي يصب في بحر قزوين ومن ثم تصل بحر قزوين بالبحر الأسود وهذا بلا شك كان سيسهل حركة إنتقال التجار وكذلك الحجاج من وسط آسيا إلى الدولة العثمانية وبلا شك كان الهدف طموحا وجهز له السلطان سليم الثاني جيشا من ثمانية وعشرين ألف مقاتل ومعهم ثلاثون ألفا من القوات التترية القرمية المساعدة بالإضافة إلى جيش من عمال الحفر لتنفيذ مشروع القناة ومن جانب آخر أيضا حاصر الأسطول العثماني ميناء آزوڤ الذى يقع علي البحر الأسود لتسهيل عملية نقل الجنود والعمال وكان هذا هو الصدام العسكرى الأول بين الدولة العثمانية والإمبراطورية الروسية وهو ما عرفَ في التاريخ بالحرب التركية الروسية الأولى وكانت حرب مهمة تاريخيا علي الرغم من صغر حجمها لأنها كانت مقدمة وبداية لسلسلة طويلة من الحروب بين الدولتين والتي بلغ عددها 12 حربا كبيرة والتي لم تنته إلا في أوائل القرن العشرين الماضي بقيام الحرب العالمية الأولى أى أن هذه الحروب قد إستمرت ما يزيد على ثلاثة قرون والحق أن معظم هذه الحروب كانت نتائجها لصالح الروس وبذلك يعتبر الروس من أشد القوى ضراوة التي ساهمت في إسقاط الدولة العثمانية ولم يكن هذا عمل أحد القياصرة بمفرده أو أثناء حقبة معينة من التاريخ إنما كان منظومةً متكاملةً من الصراع إستمرت ثلاثمائة وخمسين سنةً متصلة من عام 1569م وحتي عام 1918م ولم تختلف هذه الحرب الأولى التي حدثت في عام 1569م عن الحروب التي تلتها كثيرا فقد حقق فيها الروس النصر على العثمانيين وكان ذلك نتيجة عدة عوامل منها بعد جبهات القتال عن القواعد الأساسية للدولة العثمانية ومنها الإختلافات العسكرية والإدارية التي قامت بين الجيش العثماني وقوات القرم التتريين وكان منها أيضا ضعف شخصية قائد الجيش أحيانا وكان القائد في هذه الحرب الأولي قاسم باشا وهو أصلا كان وزيرا للمالية وليس عسكريا إحترافيا هذا بالإضافة إلي ظروف برودة الطقس الشديدة التي كانت تؤدى إلي تجمد عدد كبير من أفراد الجيش العثماني أثناء مواجهتهم للروس أو حصارهم لإحدى القلاع أو أثناء إنسحابهم .
وعلى الرغم من هذه الهزيمة العسكرية التي مني بها العثمانيون أثناء محاولة تحرير أستراخان فإن سفراء القيصر الروسي أتوا إلى إسطنبول في أوائل عام 1570م يعرضون إستئناف علاقة الصداقة بين الروس والعثمانيين وتوصل الطرفان إلى عقد إتفاق سلام وكان هذا الإتفاق يقضي بفتح الروس للطريق أمام حجاج شرق آسيا المسلمين كما كان يتضمن تدمير الروس لقلعتهم الإستراتيجية المبنية على نهر تيريك وهو في دولة الشيشان التابعة لدولة روسيا الإتحادية الآن والتي كانت تمثل تهديدا للدولة العثمانية ويبدو أن الروس تباطأوا بعد ذلك في تدمير القلعة أو تعرضوا للحجاج المسلمين فقرر السلطان سليم الثاني دعم حملات إنتقامية لردع الروس ففي ربيع عام 1571م دعم تتار القرم المسلمين بفرقة كبيرة من الجيش العثماني والإنكشارية وإستطاع المسلمون دخول موسكو نفسها في يوم 24 مايو من العام المذكور وتم حرق المدينة بالكامل تقريبا ولم يبق فيها سليما إلا مبنى الكرملين وغنم الجيش المسلم خزينةَ القيصر وفر الجيش الروسي وقتل منه ثمانية آلاف وكرر بعد ذلك القرميون بمساعدة السلطان سليم الثاني الحملة على روسيا في عام 1572م وعبروا نهر أوكا ووصلوا إلى حوالي مائة كيلو متر جنوب موسكو وإنزعج القيصر الروسي لذلك وسعى للصلح مع العثمانيين والذي تم بالفعل مع دفع روسيا جزيةً سنوية وقد إضطرت روسيا أيضا إلى تدمير قلاعها على نهر تيريك ترضية للدولة العثمانية ومن أجل كسب ودها وكان هذا يعني أن روسيا آنذاك كانت ترى الدولة العثمانية قوية بالصورة التي لا تحب إستفزازها في هذه المرحلة من تاريخها ولقد ظلت هذه العلاقة سلميةً ما يزيد على قرن من الزمان بعد هذا الصلح مما أعطى الدولة العثمانية الفرصة للحفاظ على ممتلكاتها في القرن السابع عشر الميلادى كله ويرى المؤرخون أن الهدوء الروسي قد خدع الدولة العثمانية فلم تعط للإمبراطورية الروسية قدرها ولم تقف الدولة وقفةً حاسمةً بعد ذلك تجاه توسعات الروس وتعدياتهم على الإمارات المسلمة في جنوب روسيا وحين إنتبهت الدولة العثمانية لخطر الروس كان الوقت قد فات وصارت الإمبراطورية الروسية من أشرس القوى في العالم ومن أشدها خطرا وفي نفس الوقت كانت الدولة العثمانية قد ضعفت وطمع فيها أعداؤها خاصة روسيا والنمسا وإنجلترا وفرنسا .
وخلال عهد السلطان سليم الثاني كانت هناك في عام 1568م محاولة لإنقاذ بلاد الأندلس وسكانها من المسلمين حيث قام بكلربيك أي سيد أسياد الجزائر قلج علي باشا بإرسال العتاد والسلاح والمؤونة لمسلمي الأندلس وكان يتصل بهم سرا على الرغم من كل التضييق الذى لحق بهم كما رتب معهم للقيام بثورة عارمة في البلاد مستغلا إنشغال قوات الأسبان بالحرب المستعرة في الأراضي المنخفضة أي هولندا وكان قلج علي باشا من أصل إيطالي وإعتنق الإسلام وأصبح من رجال البحر العثمانيين ثم أصبح من رياس البحر العثمانيين ثم قبطان بحرى للأسطولِ العثماني في القرن السادس عشر الميلادى وفي عام 1568م أصدر السلطان سليم الثاني فرمانا بتعيينه بكلربيك الجزائر وعندما تولي هذا المنصب وضع نصب عينيه العديد من المهام والأهداف كان من أهمها تحقيق إستتباب الأمن في البلاد وزيادة رفاهيتها وتصفية بقايا الجيوب الأسبانية في الشمال الأفريقي وضم المغرب للراية العثمانية أو التحالف والتعاون المشترك بينهما ومن ثم إسترداد بلاد الأندلس وفي وقت محدد من العام المذكور إستطاع تجميع عدد 40 مركب جزائرى مقابل السواحل الأسبانية لإمداد أهل الأندلس بالجند والسلاح والمؤن لكن إنكشاف أحد رجال الثورة الأندلسيين جعل الأسبان متيقظين لنقاط الإنزال التي ستتجه إليها السفن العثمانية فصد الأسبان معظم محاولات قلج علي باشا ومما زاد من مشاكل هذا النزاع العواصف والأعاصير التي حدثت في البحر المتوسط في ذلك الوقت من السنة والتي تسببت في غرق عدد 32 سفينة جزائرية وعلى الرغم مما سلف ذكره من الأهوال فقد تمكن قلج علي باشا من إنزال عدد 4000 جندى وكمية كبيرة من السلاح بالإضافة إلى عدد من الخبراء العسكريين العثمانيين لتولي مهمة القيادة البرية على الجبهة الأندلسية وأرسل له دار الخلافة العثمانية برسالة يأمره أن يستمر في دعم مسلمي الأندلس بكل همة فإستمر يرسل كل ما يستطيع من مساعدات إلى الأندلس وعزم على الذهاب بنفسه إليها ولكن دنو موعد معركة ليبانتو الشهيرة التي سيأتي ذكرها في السطور القادمة جعل القيادة العثمانية تأمره بالإمتناع عن ذلك من أجل الإستعداد لها تمهيدا للمشاركة فيها وجدير بالذكر أن مساعدات الدولة العثمانية لمسلمي الأندلس ومحاولات إنقاذهم من بطش الملوك الكاثوليك الأسبان كانت قد بدأت مبكرا منذ أيام السلاطين بايزيد الثاني وسليم الأول وسليمان القانوني وصولا إلي عهد السلطان سليم الثاني .
وقبل أن نتحدث عن معركة ليبانتو نبدا بالخلفيات التي أدت إلي قيام هذه المعركة حيث كان من الإنجازات الهامة في عهد السلطان سليم الثاني فتح جزيرة قبرص والتي كانت تابعة لجمهورية البندقية الإيطالية منذ عام 1489م وكانت تمثل دائما خطرا كبيرا على الملاحة العثمانية لقرب قبرص من الشواطئ الأناضولية والشامية وكذلك المصرية فكان وجودها في يد أحد أكبر أعداء العثمانيين في التاريخ وهم البنادقة الإيطاليين أمرا غير مقبول من الناحية العسكرية والإستراتيجية وكان الصدر الأعظم محمد باشا الصقلي معارضا لفكرة فتح قبرص لأنه كان يخشى من تهييج القوى الأوروبية ضد الدولة العثمانية وهذا قد يؤدى إلى فشل عملية الفتح لكن قراءة السلطان سليم الثاني ومعه أميرالات الجيش البحرى كانت أفضل حيث رأوا أن الفرصة مواتيةٌ نظرا إلى إنشغال الأطراف الأوروبية بأنفسها في هذا التوقيت ومن ثم لا يتوقع منهم مساعدة البندقية حيث كانت النمسا قد عقدت إتفاقية صلحٍ مع العثمانيين ولا ترغب في نقضها وكانت فرنسا كذلك متحالفةً مع العثمانيين ولن تدعم البندقية حليفة النمسا وكانت إنجلترا البروتستانتية لا ترغب في دعم البنادقة الكاثوليك أما الأسبان فلا شك في أنهم سيرغبون في حرب الدولة العثمانية ومع ذلك فالبندقية نفسها لن ترغب في إستقدامهم لمساعدتها لخشيتها من التواجد الأسباني في شرق البحر الأبيض المتوسط مما سيمثل منافسةً تجاريةً للبندقية لا ترغب فيها والوحيد الذي كان متوقعا أن يتحمس لعون البندقية كان البابا بيوس الخامس ومع ذلك فهو بمفرده لن يقوى في الأغلب على فعل شئ وقد شجعت هذه القياسات السلطان سليم الثاني على إخراج جيش كبير لفتح جزيرة قبرص حيث خرج أسطول عثماني عظيم تحت إمرة بيالي باشا ومعه جيش برى كبير تحت إمرة مصطفى لالا باشا وكان مجموع الجيشين مائة ألف مقاتل ودخل الأسطول العثماني ميناء لارناكا القبرصي الهام في يوم 3 يوليو عام 1570م وفي يوم 25 يوليو عام 1570 بدأ العثمانيون في حصار العاصمة نيقوسيا وهي المركز الرئيسي لجزيرة قبرص وكانت عمليات القصف والقتال قد بدأت منذ اللحظات الأولى لوصول الجيش العثماني وفي يوم 9 سبتمبر عام 1570م سقطت نيقوسيا في يد العثمانيين وبعدها بأيام فتحت ليماسول ولارناكا ولم يبقَ في قبرص إلا أحصن قلاعها وهي فاماجوستا والتي لم يستطع العثمانيون فتحها في هذه الحملة وإن ظل مصطفى لالا باشا محاصرا لها وعاد معظم الجيش العثماني بعد هذا الجزء من العملية إلى إسطنبول لقضاء الشتاء وفي أوائل عام 1571م خرج الأسطول العثماني إلى المياه الإيطالية لمنع وصول المدد منها إلى قبرص وإستأنف الجيش العثماني قصفه وحصاره لفاماجوستا وسقطت هذه القلعة الحصينة في يد الجيش العثماني أخيرا في أول أغسطس عام 1571م ولم يكن الثمن يسيرا إذ تقدر بعض المصادر شهداء العثمانيين وجرحاهم في هذا الفتح بخمسين ألف جندى ومع أن الرقم يبدو مبالغا فيه إلا أنه من المؤكد أن الخسائر كانت كبيرة وعموما فقد فتحت بذلك جزيرة قبرص بكاملها وتحولت إلى الحكم العثماني وسيستمر هذا الوضع إلى عام 1878م أى ما يزيد على ثلاثمائة عام وكان الشعب القبرصي في معظمه أرثوذكسيا وكان يعامل بطريقة فظة من حكامه الكاثوليك ن والذين حكموا الجزيرة عدة قرون وهم حكام بيت المقدس ثم البنادقة ومن ثم كان الفتح العثماني نجدة لهم إذ أعطاهم العثمانيون كامل الحقوق الدينية والمدنية وعاشوا فيما عرف في هذا الزمن بالسلم العثماني وقامت الدولة العثمانية بتهجيرعدد كبير من الأتراك المسلمين إلى الجزيرة لتغيير التركيبة السكانية بها بما يسمح بتوفير الأمن القومي والإستراتيجي لها ولم تستطع جمهورية البندقية بمفردها أن تسترد قبرص وإن كانت هذه الكارثة الكبيرة ونقصد بها سقوط قبرص في يد العثمانيين سببا كما توقع الصدر الأعظم محمد باشا الصقلي في تجمع عدة قوى أوروبية لمواجهة الدولة العثمانية وهذا ما نتج عنه قيام معركة ليبانتو البحرية الشهيرة .
وما حدث وأدى إلي قيام المعركة المشار إليها في السطور السابقة وهي معركة ليبانتو أنه بعد أن فتح العثمانيون جزيرة قبرص التي كانت تابعة لجمهورية البندقية الإيطالية حدث أن غزت البحرية العثمانية عدة جزر في البحر المتوسط بدون أن تحتلها كان أهمها جزيرة كريت وإكتفت بإحتلال مدينتين تقعان على ساحل البحر الأدرياتيكي فتوجس أهل البندقية الخوف على الأراضي الإيطالية ونفوذ البندقية فعقد البابا حلفا بين أسبانيا والبندقية وجنوة ورهبان جزيرة مالطة فشكلوا أسطولا قوامه عدد 231 سفينة هاجم العثمانيين الذين قابلوا هذا الحلف بعدد 300 سفينة في يوم 7 أكتوبر عام 1571م وعلى الرغم من مشورة القادة العثمانيين بالتحصن في خليج إحدى الجزر إلا أن القائد الأعلى مؤذنزادة علي باشا صمم على ملاقاة عدوه في مياه البحر بقرب الساحل وكان هذا قرار خاطئ من جانبه حيث كان يجب خروج السفن للقتال في البحار المفتوحة لأن ذلك يعطي الفرصة لها بأن تقوم بالمناورة وأن تستخدم مدفعيتها القوية بكفاءة عالية وكانت نتيجة المعركة أن إنتصر الحلفاء وقتل مؤذنزادة علي باشا في صراع بين سفينته وسفينة دون جون قائد القوى المتحالفة وغنمت رايته العثمانية المطرزة بالذهب وتم أيضا قتل وأسر العديد من نخبة البحارة المسلمين بالإضافة إلى إستيلاء الحلفاء على عدد 300 مدفع عثماني وخطب بابا الفاتيكان بهذه المناسبة وشكر القائد دون جون على نصره وكان هذا النصر نقطة تحول وتفاؤل لدى الأوروبيين حيث حتي قبل هذه المعركة حظيت القوات البحرية العثمانية بصيت بأنها أقوى قوات بحرية في العالم آنذاك وأنها لا تهزم وعلي الرغم من هزيمة العثمانيين في هذه المعركة إلا أن قائد الميسرة قلج علي باشا لم يخسر أيا من سفنه البالغة 42 سفينة وإستطاع أن يقضي على الأسطول المالطي بالكامل الذي يتكون من ست سفن وإغتنم رايته وعندما رأى أن الهزيمة تقع بالأسطول العثماني وأن تدخله لإنقاذه هو بمثابة إنتحار مؤكد رأى أن من الحكمة الإبتعاد عن الميدان حفاظا على بقية الأسطول والإستعداد لمعركة قادمة وعند عودته إلى إسطنبول لقبه السلطان سليم الثاني بالسيف وكافآه علي أداءه المتميز في المعركة فرقاه إلى منصب قائد القوات البحرية قبودان باشا نظرا لإدراكه لحاجة الدولة لخبرات مثل هذا القائد البحرى المحنك في هذا الوقت وذلك رغم معارضة محمد باشا الصقلي الصدر الأعظم وكلف السلطان هذا الأخير بإعادة بناء الأسطول البحري العثماني فدأب علي تنفيذ ذلك بكل ما أوتي من قوة وهمة مستغلا صعوبة الإبحار في فصل الشتاء وتبرع السلطان سليم الثاني بجزء من حديقة قصره لتحويله إلى مكان تبنى فيه السفن وأنفق بسخاء من ماله الخاص ولم يقم بجمع أية أموال إضافية من مواطني الدولة التي كانت تنعم برخاء عجيب في تلك الفترة ولم ينس السلطان وكبار رجال الدولة تقوية الروح المعنوية لشعبهم وتذكيرهم بأن خسارة معركة لا تعني بحال من الأحوال خسارة الصراع ولذا وفي أقل من عام تم تشييد عدد 250 سفينة جديدة ولم يلبث قلج علي باشا أن غادر العاصمة العثمانية إسطنبول في شهر يونيو عام 1572م للدفاع عن جزيرة قبرص بعدما علم أن أسطول الحلفاء يسعى للإستيلاء عليها وإستعادتها من العثمانيين مرة أخرى وعندما رأى دون جون الأسطول العثماني متجها نحوه أدرك أنه ليس في إستطاعته مقاتلته بعدما تمكن العثمانيون من تعويض خسائرهم فإرتعدت البندقية من الخبر خاصة وأنه كانت قد دبت خلافات بين قادة الحلفاء بعد إنتصارهم علي العثمانيين مما أدى إلي تفرقهم مما جعلها توافق علي عقد معاهدة مع الدولة العثمانية في يوم 7 مارس عام 1573م تكونت من سبعة بنود منها أن تسدد البندقية إلى الدولة العثمانية 300 ألف ليرة ذهبية كغرامة حرب وأن تعترف بالسيادة العثمانية على جزيرة قبرص وبعد أقل من عام قامت 220 سفينة عثمانية بتدمير سواحل إيطاليا الجنوبية ولم تتجرأ أية أمة غربية على منازلة البحرية العثمانية في تلك السنة وجدير بالذكر أنه كان من نتائج معركة ليبانتو تخلي العثمانيين عن مشروع إستعادة الأندلس كما أنه نتيجة فقدان العثمانيين لعدد كبير من خبرائهم وقادتهم البحريين فيها وصعوبة تعويضهم إلا بعد وقت طويل فإنه كان لذلك تأثير سلبي كبير علي السلاح البحرى العثماني وظهر ذلك جليا على البحرية العثمانية لاحقا. وكان من أواخر الأحداث في عهد السلطان سليم الثاني إصداره الأوامر بتخليص تونس من الأسبان الذين كانوا قد إحتلوها في عام 980 هجرية الموافق عام 1573م منتهزين فرصة إنشغال العثمانيين في معركة ليبانتو مع الحلفاء الأوروبيين وما تبعها من عواقب نتيجة هزيمة العثمانيين في تلك المعركة كما صدرت نفس الأوامر والتوجيهات لبقية الأقاليم العثمانية بإعداد الجنود والذخيرة والمؤن والجنود مع مائتين وثلاث وثمانين سفينة مختلفة الأحجام كما أكد على المكلفين بالخدمة في إقليمي الأناضول والروميلي بالإشتراك في السفر بحرا كما إستدعي المجدفين اللازمين للأسطول وأنذر من لا يحضر من المجدفين بالفصل من مناصبهم على أن لا يسند إليهم في المستقبل أى عمل وبينما كان الأسطول العثماني يتأهب أخذ حيدر باشا الحاكم العثماني في تونس والذي كان قد إنسحب للقيروان في حشد المجاهدين من الأهالي الذين إلتفوا حوله وإنطلق وزير الحربية سنان باشا بجيشه الذي قدم بحرا من العاصمة إسطنبول مع عدد كبير من القطع البحرية العثمانية التي كان يقودها قلج علي باشا قائد الأسطول العثماني لنجدة أهل تونس في يوم 23 محرم عام 982 هجرية الموافق يوم 14 مايو عام 1574م فخرجوا من المضائق ونشروا أشرعة سفنهم في البحر الأبيض المتوسط وقاموا بضرب ساحل كالابريا وميسينا الإيطاليين وإستطاع العثمانيون أن يستولوا على سفينة مسيحية ومن هناك قطعوا عرض البحر المتوسط في خمسة أيام وفي هذا الوقت كان قد وصل إلي ميدان القتال الحاكم العثماني في تونس حيدر باشا كما وصلت قوة من الجزائريين بقيادة رمضان باشا وقوة من طرابلس الغرب بقيادة الباى التونسي أبي النخبة مصطفى باشا كما وصل متطوعون من مصر وبدأ القتال بين العثمانيين والأسبان في ربيع عام 981 هجرية الموافق ربيع عام 1574م ونجح العثمانيون في الإستيلاء على قلعة حلق الوادى شمالي تونس بعد أن حوصروا حصارا محكما وقامت قوات أخرى بمحاصرة مدينة تونس ففر الأسبان الموجودون فيها ومعهم الملك الحفصي محمد بن الحسن إلى حصن البستيون الذى بالغ الأسبان في تحصينه وجعلوه من أمنع الحصون في الشمال الأفريقي وتوجه العثمانيون بعد تجمع قواتهم إلى حصار البستيون وضيق العثمانيون الخناق على أهل الحصن من كل ناحية وشدد القائد سنان باشا في حصاره على حصن البستيون حتى إستطاع فتحه ولجأ الحفصيون إلى جزيرة صقلية الإيطالية حيث ظلوا يوالون الدسائس والمؤامرات والتضرعات لملوك أسبانيا سعيا لإسترداد ملكهم وإتخذهم الأسبان آلات طيعة تخدم مآربهم السياسية حسبما تمليه الظروف عليهم وعموما فقد قضى سقوط تونس في يد العثمانيين على الآمال الأسبانية في قارة أفريقيا وضعفت سيطرتها تدريجيا في البحر المتوسط حتى إقتصرت على بعض الموانئ مثل مليلة ووهران والمرسى الكبير ومما يذكر أن القائد العثماني سنان باشا كان يشارك جنده في أبسط الأعمال كحمل الأتربة والحجارة أثناء المعارك وحصار حصن البستيون حتى إذا تعرف عليه أحد ضباط الجند قال له ما هذا أيها الوزير نحن إلى رأيك أحوج منا إلى جسمك فيرد عليه قائلا لا تحرمني من الثواب .
وأخيرا كانت وفاة السلطان سليم الثاني كما ذكر المؤرخون المسلمون والأتراك بعد إنزلاق قدمه أثناء إستحمامه في قصر طوب قابي وتوفي بعد ذلك بأيام في يوم 15 ديسمبر عام 1574م عن عمر يناهز الخمسين عاما متأثرا بنزيف دماغي وذلك بعد فترة حكم تعد قصيرة نسبيا بلغت حوالي 8 سنوات وكما كان أول سلطان عثماني يولد في العاصمة العثمانية إسطنبول كذلك كان أول سلطان عثماني يتوفاه الله فيها أيضا وخلفه إبنه السلطان مراد الثالث والذى بلغت مدة سلطنته حوالي 21 عاما ولا يفوتنا في النهاية أن نذكر كلمة أخيرة في حقه فعلي الرغم من إتهام المؤرخين القدامى له بالضعف نظرا لكونه أول سلطان عثماني يتخلف عن ركب أجداده ويتقاعس عن الخروج للحملات العسكرية والغزوات بنفسه يميل المؤرخون المعاصرون إلى نفي هذه التهمة عنه وإعطاؤه حقه حيث أن الحملات التي حدثت على عهده كان معظمها عبر البحار وكان النظام العثماني يحظر على السلاطين قيادة الحملات البحرية وكانت الحملات البحرية التي قادها السلطان محمد الفاتح والسلطان سليمان القانوني إستثناءات نادرة وعلاوة علي ذلك فعلي الرغم من ترك السلطان سليم الأول لمعظم شئون الدولة لصهره ووزيره الأعظم محمد باشا الصقلي إلا أنه كان يتدخل كثيرا بذكاء ضد العديد من قراراته كما عرف عنه أنه كان يحمى خصومه في الديوان أمثال الوزراء لاله مصطفى باشا وعثمان بن أوزديمير باشا ولم يمكنه من إزاحتهم أو التخلص منهم لئلا يستأثر برأيه في الديوان كما أنه كان حريصا علي حماية مصالح الدولة فنجده قد وجه الجيوش لإسترجاع اليمن لدورها في حماية العالم الإسلامي من أخطار البرتغاليين كما كان مدركا لخطر الروس وحاول إيقافهم وقد كانت فكرة قناة الدون فولجا تقدم حلا لربط أراضي الدولة العثمانية بتركستان عبر بحر قزوين كما تجددت في عهده فكرة قناة السويس للربط بين البحرين المتوسط والأحمر وأمر والي مصر بمناقشتها ورسم مخططاتها إلا أن وفاته حالت دون إكمال المشروع وأخيرا فقد كان يتميز بالجدية والحكمة في إدارة الدولة حيث أنه لما إتضحت للعيان النتائج السيئة لمعركة ليبانتو لم يلجأ لفرض ضرائب جديدة على الرعية لمواجهة الخطر وعواقب هزيمة العثمانيين فيها كما هي العادة بل أنفق من خزائنه الخاصة على إعادة إنشاء الأسطول من جديد كما أعطى جزء من الحديقة الخاصة بقصره لغرض إنشاء ثمان سفن جديدة كبيرة وقام بتعيين قلج علي باشا قائدا للبحرية عكس رغبة الصدر الأعظم محمد الصقلي باشا نظرا لإدراكه لحاجة الدولة لخبرات مثل هذا القائد البحرى المتميز في هذا الوقت والذى أثبت فعلا أنه كان جديرا بتولي هذا المنصب الهام عن جدارة وإستحقاق .
|