بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا”
السلطان مراد الثالث هو السلطان الثاني عشر من سلاطين الدولة العثمانية وخليفة المسلمين السابع والسبعين ورابع من حمل لقب أمير المؤمنين من آل عثمان وهو إبن السلطان سليم الثاني بن سليمان القانوني بن سليم الأول بن بايزيد الثاني بن محمد الفاتح بن مراد الثاني بن محمد الأول جلبي بن بايزيد الأول بن مراد الأول بن أورخان غازى بن عثمان بن أرطغرل السلطان الثاني عشر من سلاطين الدولة العثمانية وقد تولي السلطنة في شهر رمضان عام 982 هجرية الموافق شهر ديسمبر عام 1574م بعد وفاة أبيه السلطان سليم الثاني وقد تم وصفه بأنه كان أعلم بني عثمان ذلك لأنه كان شديد الإهتمام بالقراءة والدراسة ومجالسة العلماء وقد وصفه طبيبه اليهودي دومينيكو هيروسوليميتانو بأنه كان يقضي الساعات الطوال يوميا طوال أيام حكمه يطالع الكتب المختلفة ومع أنه كان عالما إلا أن المؤرخين يرون أنه علي الرغم من أنه كان يتعلم ذلك العلم النظري الذي يدخله في زمرة المثقفين إلا أن هذا العلم لم يكن له أثر حقيقي في حياته حيث لم يرشده هذا العلم إلى حسن قيادة دولته ولم يدفعه إلى قيادة جنوده ووزرائه ولم يقده إلى الجهاد ولم يضبط قرارته لتكون موافقةً للشريعة وبذلك فإنه يصلح بهذا العلم أن يكون طالبا في جامعة أو أستاذا فيها لكنه لا يصلح به أن يكون قائدا لدولة عريقة لديها مسئوليات جسام وتحيط بها الأخطار من كل جانب حيث تجابه أعداء شرسين ومتربصين بها من كل أطرافها ونستطيع أن نقول إن السلطان مراد الثالث كان من الشخصيات التي تمثل تناقضا كبيرا في تركيبتها ففي الوقت الذى كان يبرز فيه حبه للعلم وتوقيره للشريعة كان يرتكب مخالفات دينيةً كبيرة وفي الوقت الذي كان يحاول أن يهرب فيه من هيمنة الصدور العظام وكبار رجال الدولة إذا به يرضخ لسلطة النساء فتخضع الدولة في فترة حكمه لآراء أمه وزوجته وأخته وغيرهن وفي الوقت الذى كان يظهر حكمة بالغة بوقوفه إلى جوار المغاربة في حربهم ضد البرتغاليين إذا به يزج البلاد في حرب لا معنى لها ولا فائدة ترجي من ورائها مع الصفويين الشيعة وهكذا كانت حياته مليئة بالمتناقضات كما عرف عنه أنه لم يقد أى حملة عسكرية طيلة حياته وبقي خلال فترة حكمه في العاصمة إسطنبول كما أنه إمتنع لسنوات عن ترأس موكب صلاة الجمعة وظل مختبئا في قصره ومكتفيا بالصلاة في مسجد القصر خوفا من التعرض للإغتيال .
وكان ميلاد السلطان مراد الثالث في يوم 4 يوليو عام 1546م بمدينة مانيسا بغرب تركيا ويعتقد أنه أول حفيد ذكر لجده السلطان العظيم سليمان القانوني وهو من إختار له إسم مراد وعندما وصل لسن البلوغ تم ختانه في حفل كبير وعين واليا على سنجق آق شيهر طبقا للعادة العثمانية في إرسال الأمراء لإدارة سناجق الدولة لكي يتدربوا تدريبا عمليا علي كيفية تسيير أمور الحكم ثم نقل لاحقا لسنجق مانيسا وظل بها طوال المتبقي من عهد جده وعهد أبيه السلطان سليم الثاني وتزوج في مانيسا من جارية بندقية هي صفية سلطان والتي أحبها كثيرا وفضلها على كل قريناته وظل لسنوات طويلة وفيا لها و إمتنع عن معاشرة غيرها وأنجبت له أول أبنائه وأول حفيد للسلطان سليمان القانوني والذى سماه محمد ليصبح لاحقا السلطان محمد الثالث ولم تنجب له غيره وقد أثارت هذه العلاقة الأحادية سخط السلطانة الأم نوربانو وحاولت أن تقدم لإبنها الكثير من الجوارى غير انه إمتنع كليا عن معاشرتهن وفاءا لمحبوبته صفية إلى أن جاء يوم وقدمت له أخته أسمهان جاريتين غاية في الجمال والحسن فلم يستطع مقاومة إغراء الجاريتين ومنذ ذلك اليوم أصبح مراد الثالث مهووسا بالنساء وبالجنس فكان يقضي وقته في معاشرة الحريم وولد له عدد ضخم من الذكور والإناث وقد تقلد السلطان مراد الثالث السلطنة بعد وفاة أبيه السلطان سليم الثاني كما ذكرنا في السطور السابقة وللأسف الشديد فقد إستهل حكمه بجريمة بشعة غير مسبوقة في التاريخ العثماني كله ولم تتكرر مرة أخرى إلا في حياة إبنه وخليفته السلطان محمد الثالث وهي جريمة قتل جميع الأشقَّاء الأحياء بغية الحصول على حكم مستقر بلا إضطرابات أو صراع علي منصب السلطان وقد قتل السلطان مراد الثالث في يوم 22 ديسمبر عام 1574م بعد توليه السلطنة مباشرة خمسةً من أشقائه دفعةً واحدة وكان هذا الإجراء البشع لا يستند إلى قاعدة شرعية سليمة وقد دافع البعض عن هذه الجريمة الشنعاء بزعمهم وجود فتوى تبيح هذا القتل الجماعي لتحقيق الإستقرار ودرء فتنة تفكك الدولة عند تصارع الأشقاء علي السلطنة ويستندون في ذلك إلى الآية الكريمة في سورة البقرة والفتنة أشد من القتل وإلى القاعدة الفقهية المعروفة بأن درء المفاسد مقدم على جلب المنافع لكن كل هذا لا وزن له في الحقيقة في ميزان العلم الشرعي فالأشقاء هنا لم يفعلوا شيئا ضارا ولم يثيروا فتنة ولم يقاتلوا من أجل العرش إنما كانت كل جريرتهم أنهم أشقاء للسلطان الذى تولي السلطنة فكيف يفتي عالم بجواز قتلهم بلا ذنب أو جريرة ويدعي بعضهم كذلك أن السلطان مراد الثالث كان ينفذ القانون العثماني المعروف تاريخيا بإسم قانون نامه الذي وضعه السلطان محمد الفاتح فيما عرف بقانون قتل الأخوة وفي الحقيقة فإن هذا إفتراء على الحقيقة فالسلطان محمد الفاتح لم يأمر بقتل الأخوة عند إعتلاء العرش إنما ذكر في قانونه أن من حقِ السلطان الشرعي الذى تولي الحكم أن يقتل المتصارع معه على الحكم حتي ولو كان أخاه وكان قد حدث بالفعل قبل ذلك التقاتل بين أولاد السلطان بايزيد الأول وبين أولاد السلطان بايزيد الثاني حيث قتل بعضهم إخوته ولكنه كان قتلا في ساحة المعركة تنازعا على الحكم ولم يكن جريمة مباشرة إستباقيةً مثل هذه التي فعلها السلطان مراد الثالث أما في حال عدم التصارع علي الحكم فلا يجوز البتة التعرض لأخوة السلطان بظلم أو إيذاء .
ومن جانب آخر فأيضا بعد تولي السلطان مراد الثالث السلطنة إصطدم بوزيره الأعظم محمد باشا الصقلي الذي كان يدير كافة الأمور ويتحكم في أمور الدولة وذلك منذ أيام سلفه السلطان سليم الثاني وفي الحقيقة كان هذا الرجل سياسيا فذا ومحنكا وشديد الذكاء وأتاح قربه من السلطان سليمان القانوني الإستفادة من خبرات هذا الأخير خصوصا في السياسة الدولية ولذا فإن محمد باشا الصقلي يعود إليه الفضل في صيانة البلاد بعد وفاة السلطان سليمان القانوني وأيضا خلال عهد خليفته السلطان سليم الثاني ولذا فلم يكن السلطان مراد الثالث قادرا على عزله مع كراهيته الشديدة له وكان السر في هذه الكراهية هو أن قوة الصدر الأعظم صارت أكبر من قوة السلطان بوضوح بسبب إستناده على قوات الإنكشارية وتحكمه فيهم والذين كانوا لا يأبهون للسلطان كما يأبهون له ولذا فقد خشي السلطان من أن يؤدى عزله لتمرد القوات الإنكشارية والذين كانوا قد ثاروا عليه بالفعل في بداية توليه السلطنة عندما أمر بمنع شرب الخمر إلا أنهم أجبروه علي إلغاء هذا القرار وكانت تلك القوات قد بدأت تتدخل في شؤون الدولة والحكم بعدما كانوا لا يجرؤون علي ذلك في عهد السلاطين العثمانيين العشرة الأول الأقوياء وهو الأمر الذى تزايد تدريجيا بداية من عهد السلطان سليم الثاني ومن خلفوه حتي أنهم أصبحوا يقومون بعزل بعض السلاطين الذين يتصدون لهم وأحيانا قتلهم وأيضا في عزل الصدور العظام والوزراء وكبار رجال الدولة أو قتلهم أيضا وفضلا عن ذلك فقد صارت ثروة محمد باشا الصقلي المالية ضخمةً للغاية وكان بيده إختيار قادة الجيش وأمراء البحر والوزراء وزعماء الولايات وكبار موظفي الدولة وهو الذى كان يقرر الحرب أو السلام وهو الذى يحدد الصديق من العدو والخلاصة أنه كان يعد السلطان الفعلي للبلاد ولا شك أن هذا كان لا يرضي السلطان الضعيف لكنه لم يتمكن من فعل شئ ولكي يواجه السلطان مراد الثالث الصدر الأعظم القوى محمد باشا الصقلي وضع خطة دقيقة لتقليل نفوذه تستند أساسا على تقديم خصومه كوزراء ومسؤولين في الدولة وإبعاد حلفائه تدريجيا من السلطة وقد ساهمت بعض الأحداث في تنفيذ هذا المخطط كان منها إغتيال أحد أقربائه وهو القائد مصطفى بك الصقلي الذي كان واليا على بودين والتي تقع في الجزء الغربي من العاصمة المجرية بودابست على الضفة اليمنى من نهر الدانوب ومن ناحية السياسة الخارجية ففي بداية حكم السلطان مراد الثالث أدخل بولونيا وهي بولندا حاليا تحت حماية الدولة العثمانية في عام 983 هجرية الموافق عام 1575م وجدد لدولتي فرنسا والبندقية إمتيازاتهما التجارية وجعل سفير فرنسا مقدما على سائر السفراء الذين تكاثروا على باب السلطنة العثمانية طلبا للإمتيازات التجارية وعلاوة علي ذلك فقد تمكنت ملكة الإنجليز إيزابلا من إستخلاص إمتياز تجارى يسمح للسفن التجارية التي ترفع العلم الإنجليزى بالدخول في الموانئ العثمانية وقد كانت كل السفن الأوروبية ما عدا سفن جمهورية البندقية تمنع من دخول الموانئ العثمانية إلا في حال رفعت العلم الفرنسي .
وفي عام 1578م حدثت ثورة في مراكش إقتتل فيها محمد المتوكل إبن حاكم المغرب المتوفي مع عمه الحاكم الشرعي الجديد للبلاد أبو مروان عبد الملك حيث كان يرى أنه هو الأحق بالملك من عمه وإنتهى الأمر بإستعانة محمد المتوكل وأنصاره الثوار بملك البرتغال الشاب سباستيان الأول والذى أراد محو ما وصم به عرش البرتغال خلال فترة حكم أبيه من الضعف كما أراد أن يعلي شأنه بين ملوك أوروبا بالقيام بمساعدة محمد المتوكل ربما مقابل أن يتنازل له عن جميع شواطئ الدولة المغربية وإستعان سباستيان بخاله فيليب الثاني ملك أسبانيا فوعده أن يمده بالمراكب والعساكر وأمده بعشرين ألفا من عسكر الأسبان وكان سباستيان قد عبأ معه إثني عشر ألفا من البرتغال كما أرسل إليه الإيطاليون ثلاثة آلاف ومثلها من الألمان وغيرهم وأسبغ البابا مباركته علي هذا الجمع وبعث إليه بأربعة آلاف أخرى وبألف وخمسمائة من الخيل وإثني عشر مدفعا وبذلك إتخذت هذه الحملة الصيغة الصليبية وجمع سباستيان ملك البرتغال نحو ألف مركب ليحمل هذه الجموع إلى أراضي الدولة المغربية وقد حذر ملك أسبانيا فيليب الثاني إبن أخته من عاقبة التوغل داخل أراضي المغرب ولكنه لم يلتفت لذلك وأمام هذا الموقف طلب سلطان مراكش الجديد أبو مروان عبد الملك المساعدة من السلطان العثماني مراد الثالث فإستجاب له وأرسل هذا الأخير العديد من الخبراء العسكريين لمعاونته بالإضافة إلي عدد خمسة آلاف جندى من بلاد الجزائر التي كانت تتبع الدولة العثمانية وفتح الباب أيضا للمتطوعين وإنضمت الجيوش العثمانية إلى الجيش المغربي وإلتقوا مع البرتغاليين والثوار في يوم 4 أغسطس عام 1578م في موقعة القصر الكبير أو وادي المخازن كما أنها تسمي أيضا معركة الملوك الثلاثة حيث مات خلالها ملك البرتغال سباستيان الأول وحاكم المغرب أبو مروان عبد الملك وإبن أخيه محمد المتوكل إبن حاكم المغرب السابق وعلى الرغم من قلة عدد المدفعية العثمانية وكان عددها 34 مدفع مقارنة بنظيرتها البرتغالية وكان عددها 40 مدفع إلا أن الخبراء العسكريين العثمانيين تمكنوا من أن يشكلوا فعالية من مدافعهم بحيث إنتصرت على البرتغاليين والثوار كما قام الجيش المغربي بتدمير الجسر الذى كان قد أقامه البرتغاليون علي نهر وادى المخازن وكان يشكل طريق الهروب للجيش الصليبي فغرق الكثير منهم في هذا النهر عند محاولتهم الفرار وقتل سباستيان ملك البرتغال وخيرة جنده وكان هذا الإنتصار الذى حققه جيش المغاربة علي البرتغاليين هو السبب الرئيسي في خسارة البرتغال موقعها العالمي كقوة عسكرية إستعمارية وتجارية إحتكرت طرق التجارة مع الهند وسيطرت على المضائق البحرية المهمة لفترة حيث ضمت البرتغال لأسبانيا التي كان يحكمها خال الملك القتيل وخسرت إستقلالها وعلاوة علي ذلك فقد كان من نتائج هذه المعركة أن كثرت الوفود الأوروبية في البلاط المغربي طلبا لود حكامها في تلك الفترة .
وفي عام 984 هجرية الموافق عام 1576م كانت وفاة الشاه الصفوى طهماسب الأول وتولي إبنه الشاه إسماعيل الثاني الحكم وفي يوم 24 نوفمبر عام 1577م قتل الشاه إسماعيل الثاني مسموما علي الأرجح وبعد ثلاثة شهور من الصراعات تولى بعده أخوه الأكبر الشاه محمد خدابنده وكان تقريبا فاقدا للبصر ويتسم بضعف شديد في الشخصية وهذا دفع البلاد إلى إضطرابات أكثر وإن ظل هذا الشاه في الحكم حتى عام 1587م وبلا شك في أن هذه الأحداث صبت بقوة في صالح الدولة العثمانية بل ستغري هذه الإضطرابات السلطان مراد الثالث إلى التفكير الجدى في غزو أراضي الدولة الصفوية في إيران الحالية والولايات التابعة لها وكانت الدولة العثمانية آنذاك مازالت من القوة في هذه المرحلة التاريخية بحيث تستطيع جيوشها أن تشترك في معارك كبرى في أقصى غربها وفي الوقت نفسه تحارب في معارك شديدة في أقصى الشرق وأن تحقق النصر هنا وهناك وبالفعل ففي شهر أغسطس عام 1578م وهو الشهر الذى حقق العثمانيون بالإشتراك مع المغاربة النصر على البرتغاليين في معركة وادي المخازن كانت جيوش العثمانيين تتقدم منتصرةً في چورچيا وأذربيچان وإيران في حروبها ضد الدولة الصفوية وكان هذا على الرغم من الضعف الظاهر على السلطان مراد الثالث مما يعكس لنا قوة الإدارة العثمانية في هذه الفترة وعظمة الميراث الذي تركه السلطان العثماني العظيم سليمان القانوني وأسلافه ويرى المؤرخون أنه بالقدر الذي مدحوا فيه الساسة العثمانيين على موقفهم في حرب البرتغاليين في بلاد المغرب وعلى رؤيتهم الواضحة في هذه المسألة فإنهم يلومون عليهم في الدخول في هذه الحرب الصفوية التي لم تكن تحمل رؤيةً مستقبلية جيدة أو واضحة أو محددة ومن ثم أغرقت الدولة العثمانية في مستنقعات خطرة على الرغم من تحقيق الإنتصار علي الصفويين حيث كانت الحروب مع الصفويين كحروب الكر والفر التي تتسبب في التعب والإنهاك لطرف دون الآخر لكن يبقى الوضع في معظم الأحوال على ما هو عليه وفي حقيقة الأمر فعلي الرغم من أنه بعد أكثر من قرنين من الحروب العنيفة المتواصلة بين العثمانيين والصفويين ظلت الدولة الصفوية بحدودها الجغرافية الغربية مع الدولة العثمانية كما ظلت مذاهبها العقائدية الشيعية كما هي دون تغيير تقريبا وظلت الدولة العثمانية بحدودها الجغرافية الشرقية مع الدولة الصفوية ومذاهبها العقائدية السنية كما هي كذلك .
وتتلخص قصة الحرب العثمانية الصفوية والتي بدأت في عام 1578م في أن الأوزبك الأتراك والذين كانوا يحكمون المناطق الآسيوية شرق إيران في أفغانستان وأوزبكستان وكان مركزهم الرئيسي في بخارى وسمرقند قد قرروا غزو الدولة الصفوية من شرقها لإحتلال إقليم خراسان الإيراني ومن ثم تواصل هؤلاء مع ساسة الدولة العثمانية لضرب الدولة الصفوية في وقت واحد من الشرق والغرب وتزامن هذا مع رغبة الصدر الأعظم محمد باشا الصقلي في القيام بحروب عسكرية تشغل القوات الإنكشارية الذين كانوا يطالبون بزيادة في رواتبهم ويرغبون في زيادة ثرواتهم عن طريق الغنائم ولم يكن هذا هدف شرعي مقبول يسوغ إحداث حرب كبرى لكنه كان الواقع المرير الذى كانت قد وصلت إليه الإنكشارية بعد مضيِ عقود على غزواتهم الجهادية الحقيقية وكان تغير أيديولوجية الدولة من الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمة الدين إلى الحرب من أجل الغنيمة والتوسع تغيرا كبيرا ستترتب عليه فيما بعد نتائج كبرى في مستقبل الدولة ومع رغبة الصدر الأعظم في شغل الإنكشارية بالحرب إلا أنه كان معارضا للحرب مع الصفويين تحديدا وذلك لكون البلاد واسعة وذات جغرافية وعرة والسيطرة عليها صعبة خاصة مع شيعية شعبها ومع ذلك صمم السلطان مراد الثالث على حرب الدولة الصفوية ويبدو أنه كان يريد مخالفة الصدر الأعظم الذي صار متحكما في الدولة بشكل لافت وفي النهاية تم إرسال جيش عثماني كبير بقيادة مصطفى لالا باشا لحرب الدولة الصفوية وكان هذا في شهر أغسطس عام 1578م أي في الشهر نفسه الذي دارت فيه موقعة وادى المخازن في المغرب كما ذكرنا وإختار الجيش العثماني أن يبدأ بإختراق چورچيا التابعة للدولة الصفوية وتقع في شمالها وتمكن مصطفى لالا باشا من هزيمة الجيش الصفوي الچورچي في معركة چلدير في يوم 9 أغسطس عام 1578م ومن ثم إستطاع دخول العاصمة الچورچية تبليس في يوم 24 أغسطس عام 1578م وبعد هذه الإنتصارات أعلن الكسندر أمير چورچيا قبوله لدفع الجزية إلى الدولة العثمانية بدلا من الصفوية ومن ثم دخلت چورچيا في التبعية للدولة العثمانية وتوجه مصطفى لالا باشا بعد ذلك إلى الجنوب حيث تمكن من ضم إقليم داغستان وهو في دولة روسيا الآن ومدينة شيروان المهمة في أذربيچان وطلب العثمانيون من خان القرم أن يساعدهم في محاربتهم للصفويين إلا أنه رفض فوجهوا جيوشهم لتأديبه إلا أنها أنهكت في المسير لوعورة الطريق فحاصرها خان القرم بجيش كبير فقام يوسف عثمان باشا قائد الجيش العثماني والذى كان من كبار القادة العسكريين العثمانيين بوعد شقيق الخان بالحكم إن هو ساعدهم فقام بقتل أخيه الخان بالسم فدخل يوسف عثمان باشا كافا وهي مدينة كييف العاصمة الأوكرانية حاليا عاصمة الخان وعند عودته إلى العاصمة العثمانية إسطنبول كوفئ بتعيينه صدرا أعظما وبذلك يكون العثمانيون قد ضموا معظم الأراضي الواقعة في غرب بحر قزوين قبل أن يقبل شتاء عام 1578م وكان هذا يعتبر نجاحا كبيرا لهذه الحملة العثمانية العسكرية السريعة.
وعلى الرغم من هذا النجاح المبكر للحملة العثمانية على الدولة الصفوية في عام 1578م فإن السنوات الخمس التالية لم تشهد إلا معارك صغيرة لم تنته بشكل حاسم لأحد الطرفين وإن كان الصفويون كانوا قد تمكنوا من قتل عدد كبير من السنة المدنيين في چورچيا وإيران كنوعٍ من الضغط على العثمانيين ومع ذلك فقد حقق العثمانيون نصرا كبيرا في عام 1583م في معركة بالقرب من مدينة دربِند الداغستانية عرفت بمعركة المشاعل حيث إستخدمت فيها المشاعل ليلا نظرا لإستمرار القتال بشكل متواصل لمدة ثلاثة أيام من يوم 9 إلى يوم 11 مايو عام 1583م وبعد هذه المعركة أحكم العثمانيون سيطرتهم على إقليم داغستان إلى آخر أيام الحرب بين العثمانيين والصفويين وفي عام 1585م حدث تطور مهم في الحرب العثمانية الصفوية عندما إستطاع العثمانيون دخول مدينة تبريز وهي العاصمة القديمة للصفويين وتعد من المدن المهمة في شمال غرب إيران وبعدها بثلاثة أعوام وفي عام 1588م إنقلب الأمير عباس إبن الشاه الصفوي محمد خدابنده على أبيه ليتولَّى العرش تحت إسم الشاه عباس الأول وهو في السابعة عشرة من عمره وقد أصبح فيما بعد من الشخصيات المهمة جدا في التاريخ الصفوي حيث كان سياسيا حكيما فأدرك أنه لن يستطيع أن يحارب الأوزبك في الشرق في وقت متزامن مع حربه للدولة العثمانية في الغرب فقرر قبول معاهدة يمكن أن توصف بأنها مخزية مع الدولة العثمانية ليتفرغ لحرب الأوزبك وفي الغالب إنه كان يضمر في نفسه أن يضرب بمعاهدته مع العثمانيين عرض الحائط عندما تتوفَر له القوة وحينها يستطيع أن يستعيد كل ما تنازل عنه وقد كان له في الواقع ما أراد فكانت البداية بمعاهدة إسطنبول عام 1590م وهي المعاهدة التي أنهت حرب الإثني عشر عاما بين الصفويين والعثمانيين بعد أن أُنهِكت تماما قوى الطرفين وفي هذه المعاهدة قبل الشاه عباس الأول الإتفاق السلمي غير المشروط مع الدولة العثمانية وبعد مباحثات سريعة وقعت المعاهدة بين الطرفين في إسطنبول في يوم 21 مارس عام 1590م وبموجب هذه المعاهدة وافق الصفويون على أن تمتلك الدولة العثمانية كل ما إستطاعت أن تحتله في الحرب الأخيرة ويشمل هذا كل مناطق جنوب القوقاز أي چورچيا وأذربيچان وإقليم داغستان الروسي وأرمينيا وبعض المدن في شمال غرب إيران منها تبريز وشمال العراق مع الإعتراف بملكية الدولة العثمانية لبغداد كذلك وجدير بالذكر أن هذا الإعتراف زاد من مساحة الدولة العثمانية بحوالي 590 ألف كيلو متر مربع وفضلا عن ذلك كان هناك بند هام في المعاهدة المشار إليها يقضي بتعهد الحكومة الصفوية بعدم سب الخلفاء الراشدين الثلاثة الأول في أرض الدولة الصفوية كما أُنها شملت بند آخر يقضي بإحترام الدولة الصفوية لقيادات وعلماء السنة في إيران وهكذا إنتهت الحرب بين العثمانيين والصفويين وقد إستمر السلام الذى حل بين الدولتين العثمانية والصفوية نتيجة هذه المعاهدة لمدة ثلاث عشرة عاما أى حتى عام 1603م وذلك خلال المتبقي من عهد السلطان مراد الثالث وعهد خليفته السلطان محمد الثالث وتجددت الحرب مرة أخرى في بداية عهد السلطان أحمد الأول في العام المذكور 1603م .
ولنعد مرة أخرى إلي الصدر الأعظم محمد باشا الصقلي والذى عاصر عدد 4 من السلاطين العثمانيين كان أولهم السلطان سليم الأول ثم السلطان سليمان القانوني والذى شغل في عهده منصب قائد القوات البحرية ثم أصبح واليا علي إمارة الروميلي التي تعد من أهم الإمارات في الدولة العثمانية ثم أصبح وزيرا ثالثا فوزيرا ثانيا ثم صدرا أعظم في أواخر عهد السلطان سليمان القانوني وإستمر في هذا المنصب في عهد السلطان سليم الثاني ثم في عهد السلطان مراد الثالث وفي شهر أكتوبر عام 1579م وأثناء وجوده في قاعة الديوان بقصر الباب العالى طلب أحد الدراويش مقابلته فسمح له بالمقابلة وبالمثول في حضرته وأثناء حديث الدرويش مع محمد باشا الصقلي تقدم وطعنه بسكين فتوفي على إثر ذلك بعد ثلاث ساعات منهيا مسيرة طويلة من العمل في بلاط السلاطين العثمانيين ودفن في كليته الكائنة خلف جامع أيوب سلطان بإسطنبول وتاريخيا يعتقد العديد من المؤرخين أن حادث إغتيال محمد باشا الصقلي كان مدبرا وورائه السلطان مراد الثالث أو زوجته المفضلة صفية سلطان بينما قال البعض إن حادث الإغتيال ليس مدبرا لأن الدرويش كان به مس من الجنون وقد عرف محمد باشا الصقلي بكثرة أعماله الخيرية والمعمارية حيث أسس مسجدا في منطقة الفاتح في إسطنبول من بناء المهندس العثماني الشهير معمار سنان باشا كما أسس مساجد عديدة أخرى وأقام عددا من الأعمال الخيرية في كل من مكة المكرمة والمدينة المنورة وإسطنبول وإدرنة وحلب وغيرها ومن جانب آخر فقد كانت وفاة محمد باشا الصقلي إيذانا بتدخل الحريم بصورة أكبر في شئون الحكم حيث تزايد نفوذ كل من نوربانو سلطان أم السلطان مراد الثالث وزوجته الأثيرة صفية سلطان مما جعل العديد من الوزراء يتلقون أوامرهم من السلطانات أساسا عوضا عن الديوان وكان ذلك علامة على تراجع شأن الدولة وهيبتها وعلاوة علي ذلك فقد توالى بعد وفاة محمد الصقلي باشا تنصيب الصدور العظام وعزلهم ولم يتمكن القادة في البلاد من السيطرة على جنود الإنكشارية الذين لم تعجبهم الهدنة التي وقعت بين الدولتين العثمانية والصفوية حيث أنهم كانوا قد إعتادوا على السلب والنهب فقاموا بعدة ثورات في العديد من المدن ورأى القائد العسكرى ورجل السياسة العثماني الشهير والصدر الأعظم سنان باشا والذى تولي هذا المنصب بين عام 1580م وعام 1582م أن يشغلهم بالحرب مع النمسا فتم إرسال عدد كبير منهم إلى المجر وكانت الحرب سجالا بين الطرفين ولعل تغيب السلطان عن الخروج على رأس عساكره في المغازى هو ما جعل زمام الإنكشارية ينفلت خاصة بعد مقتل محمد باشا الصقلي حيث كان هذا الأخير مرهوب الجانب يدبر أغلب أمور البلاد ويشرف على المغازى بنفسه وقد أدت هذه الأحداث إلي حدوث ثورات تزعمها بعض أمراء ولايات الأفلاق والبغدان وترانسلفانيا وهي في صربيا ورومانيا والمجر حاليا وإنضموا إلى النمسا فسار إليهم الصدر الأعظم سنان باشا ودخل بوخارست عاصمة الأفلاق ولكن أمير الأفلاق إستطاع أن ينتصر في النهاية فإضطر العثمانيون إلي الإنسحاب إلي ما وراء نهر الدانوب وخسروا عدة مدن وكانت تلك الأحداث إيذانا ببداية إنهيار النظام العسكري العثماني فيما بعد فماذا يرجي من عساكر لا تتبع أوامر قادتها وتنشغل بالسلب والنهب وشرب الخمر بدلا من إعلاء راية دينها ودرء الأخطار عن ديارها وأخيرا كان من أعمال السلطان مراد الثالث صنع منبر من الرخام للمسجد النبوى الشريف وزخرف بأروع الزخارف وهو لا يزال موجودا داخل المسجد النبوى الشريف حتى الوقت الحاضر وكانت وفاة هذا السلطان في شهر يناير عام 1595م عن عمر يناهز 49 عاما وخلفه إبنه محمد الثالث .
|