بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا”
السلطان أحمد الثالث هو السلطان العثماني الرابع والعشرون للدولة العثمانية وخليفة المسلمين التاسع والثمانون والسادس عشر من آل عثمان الذين حملوا لقب أمير المؤمنين وهو إبن السلطان محمد الرابع بن إبراهيم الأول بن أحمد الأول بن محمد الثالث بن مراد الثالث بن سليم الثاني بن سليمان القانوني بن سليم الأول بن بايزيد الثاني بن محمد الفاتح بن مراد الثاني بن محمد الأول جلبي بن بايزيد الأول بن مراد الأول بن أورخان غازي بن عثمان بن أرطغرل مؤسس الدولة العثمانية وهو شقيق السلطان مصطفي الثاني وإبن شقيق السلطانين سليمان الثاني وأحمد الثاني وقد تولي السلطنة في عام 1115 هجرية الموافق عام 1703م خلفا لأخيه السلطان مصطفي الثاني بعد خلعه والذى كان قد خلف عمهما السلطان أحمد الثاني وكانت خلفية خلع السلطان مصطفي الثاني أنه بعد أن إستقال حسين كوبريللى باشا من الصدارة العظمى عام 1114 هجرية الموافق عام 1702م بعد أن كان قد بذل كل جهده في إصلاح الداخلية والجندية والمالية بهدف إعادة بناء الدولة فكان أن ثارت القوات الإنكشارية على من خلفه فإستبدل برامي محمد باشا الذي سار على خطى كوبريللي باشا في الإصلاح وإبطال المنكر ومحاربة الرشوة والتضييق على المفسدين فثاروا عليه أيضا وطلبوا من السلطان مصطفي الثاني أن يعزله فرفض وفي نفس الوقت كان الغضب واسعا من السلطان ومن شيخ الإسلام فيض الله أفندى لأن الأخير كان قد إستأثر أقاربه بالمناصب العلمية والقضائية حتى لم يبق لغير عائلته مكانا يرتقوا إليه وعلاوة علي ذلك كان أهل العاصمة العثمانية إسطنبول متبرمين من قضاء السلطان مصطفى الثاني معظم أوقاته في مدينة إدرنه على نهج أبيه السلطان محمد الرابع وتركه للعاصمة وعلى إثر ذلك تمردت قوات الانكشارية وذهب فريق منهم بصحبة جمع غفير من الأهالي إلى إدرنه وقاموا بقتل شيخ الإسلام فيض الله أفندى ثم طالبوا بعزل السلطان مصطفي الثاني لعلمهم بأنه سيسعى للإنتقام منهم وبالفعل تمكنوا من عزل السلطان في عام 1115 هجرية الموافق عام 1703م وولوا أخاه أحمد الثالث مكانه وتوفي السلطان المعزول بعد أربعة أشهر وكان عند وفاته في التاسعة والثلاثين من عمره .
وكان ميلاد السلطان أحمد الثالث في شهر رمضان عام 1084 هجرية الموافق شهر ديسمبر عام 1673م بمدينة دوبريتش بشمال شرق بلغاريا والتي تقع بإقليم دبروجة الذى كان تابعا للدولة العثمانية ويوجد حاليا في شمال شرق بلغاريا وجنوب شرق رومانيا ولما تعدى سن الطفولة درس على يد العديد من علماء عصره وكان ذكيا مرهف الإحساس يحب الشعر والخط وكان من حسن طالعه أنه إستمتع بشبابه ولم يتعرض مثل بعض أسلافه لقضائها في السجن أو حبيسا في القصور الملكية وهو الأمر الذى كان يتم بأوامر من السلطان الموجود في الحكم خوفا من طمع أشقائهم أو أبناء عمومتهم في تقلد منصب السلطان وتوضح لنا الصور الخاصة بالسلطان أحمد الثالث أنه كان يتمتع بقامة طويلة ووجه معبر عن نظرة حالمة ومتأملة وكانت تبدو من خلالها أناقته كسلطان بعمامته البيضاء الضخمة التي تنتهي بريشات وجواهر ثمينة ثم بلحيته المشذبة السوداء المتصلة بشارب أنيق ويبدو أيضا واضحا من صورته وهو جالس على العرش وإلى جواره على البعد أحد رجال الحاشية أن كرسي العرش كان يزدان برسوم زهرة اللالا أو التيوليب التي كانت محببة إليه كما توجد له بعض الصور وهو يستعرض بعض أرباب الحرف مثل باعة الفواكه والمهرجين والحواة وصناع الزجاج والمنسوجات وهناك أيضا صورة توضح رحلة بحرية قام بها السلطان أحمد الثالث في البوسفور مع حريمه ولعلها تكشف عن جانب مهم من شخصية السلطان أحمد الثالث وهو جانب الولع بالنساء كمظهر من مظاهر الترف التي عمت فترة حكمه وقد تولى أحمد الثالث مقاليد الدولة العثمانية خلفا لأخيه السلطان مصطفى الثاني وذلك في يوم 10 ربيع الثاني عام 1115هجرية الموافق يوم 21 أغسطس عام 1703م إثر تخلي هذا الأخير عن الحكم في أعقاب ثورة القوات الإنكشارية ومع أن السلطان أحمد الثالث قد تولى السلطنة رغما عنه تحت ضغط ثورة الإنكشارية إلا أن حياته المترفة لم تحل بينه وبين التفكير في الإنتقام من جنود الإنكشارية ففي بداية حكمه أنفق بسخاء عليهم حتى أمنوا جانبه ثم لما إستقرت الأحوال وعادت السكينة ما لبث أن إنقض عليهم وقتل معظم القادة الذين كانوا قد تورطوا في حادث إدرنه وعزل أخيه مصطفى الثاني فضلا عن عزله للصدر الأعظم نشانجي أحمد باشا الذى كان قد إنتخبه الثوار وذلك في يوم 6 رجب عام 1115هجرية الموافق يوم 15 نوفمبر عام 1703م وذلك بعد مرور حوالي 3 شهور من تنصيبه سلطانا .
وبعد أن قضي السلطان أحمد الثالث على زعماء الثورة ومعاقبة مؤيديهم قرر العودة إلى نظام الدفشرمة وهو نظام تجنيد الشبان من إقليم البلقان والذى كان قد تم التخلي عنه قبل ذلك علاوة علي تجنيد المسلمين الأحرار وكانت هذه هي المرة الأخيرة التي طبقت فيها الدفشرمة وعانى السلطان أحمد الثالث في السنوات الأولى من حكمه من خطر الفتن وعدم وجود صدر أعظم قوى لدرئها وإن كان قد إختار في هذا المنصب في البداية رجل مخلص وأمين ومحنك وهو زوج أخته وصهره داماد حسن باشا وعهد إليه بإجراء إصلاحات سياسية وعسكرية لدفع البلاد نحو التطور ولحماية حدودها من مخاطر الغزو الروسي وقام داماد حسن باشا بواجباته بإخلاص كبير فقام بالإهتمام بإنشاء القلاع والحصون وتجديد الترسانة البحرية كما أنشأ الكثير من المدارس لكن لم تحمه مصاهرته للسلطان ولا ما أتاه من الأعمال النافعة من أن يكون هدفًا لدسائس المفسدين أرباب الغايات الذين لا يروق في أعينهم وجود أعنة الأمور في قبضة رجل قوى وحازم يحول بينهم وبين ما يشتهون فأعملوا فكرهم وبذلوا جهدهم حتى تم عزله في يوم 28 جمادى الأولى عام 1116هجرية الموافق يوم 28 سبتمبر عام 1704م ومن بعده كثر تغيير الصدور العظام تبعا للأهواء وقام السلطان بإرسال السفراء والوفود إلى أرجاء الدول الأوروبية لجمع المعلومات عن مدى التطور والتقدم الذى أحرزته هذه الدول في مجالات الحياة المدنية والتنظيم والمنجزات الحضارية وأيضا في مجال تنظيم وتدريب وتسليح الجيوش ولكن تعنت ومعارضة القوات الإنكشارية وخشيتهم من ضياع إمتيازاتهم إذا ما أُعيد تنظيم الجيوش العثمانية على النمط الأوروبي الحديث حال دون رغبة السلطان أحمد الثالث في تحديث الجيش وجدير بالذكر أن معارضة الإنكشارية لتحديث الجيش قد ظلت بعد ذلك لمدة تزيد عن 120 عاما تعاقب خلالها علي السلطنة العديد من السلاطين الذين حاول البعض منهم تحقيق هذا الهدف دون جدوى حتي قضي عليهم السلطان محمود الثاني في عام 1826م وجدير بالذكر أنه كان من أهم الإنجازات التي تمت في عهد السلطان أحمد الثالث دخول الطباعة في الدولة العثمانية حيث قام السلطان أحمد الثالث بإصدار فرمان سلطاني في عام 1727م يجيز تأسيس مطبعة لكونها تؤدى إلى نشر المعارف والعلوم بين أفراد الأمة الإسلامية وقد سمح الفرمان بطباعة كافة الكتب عدا كتب الفقه والتفسير والحديث الشريف وكتب علم الكلام وذلك خوفا من حدوث تحريف بها وكان ذلك بموافقة وبموجب فتوى من شيخ الإسلام ينيشيهرلي عبد الله أفندى الذي أدرجت فتواه في نص فرمان السلطان ومن ثم تأسست أول دار للطباعة في إسطنبول وتم وضع خطة لطباعة مجموعة من العناوين بداية من عام 1729م ونتج عنها طباعة 17 عنوانا مختلفا في المعاجم والسياسة والتاريخ والجغرافيا وبعدد من 500 إلى 1000 نسخة لكل عنوان وكان باكورة الإنتاج متمثلا في معجم وان قولو والذى كان أول عمل يرى النور من المطبعة العثمانية في مجلدين وكان ذلك في عام 1141هجرية الموافق عام 1729م وهو الترجمة العثمانية لمعجم الصحاح اللغوي وفضلا عن حركة طباعة الكتب نشطت أيضا حركة ترجمة الكتب عن اللغتين العربية والفارسية إلي اللغة التركية وبنيت المكتبات العامة في العاصمة إسطنبول وفي المدن الكبرى وبرز العديد من الشعراء والأدباء كان منهم الشاعر التركي الشهير أحمد نديم ونشطت صناعة الخزف حيث تم إنشاء مصنع خزف في إسطنبول وأيضا مصنع نسيج ومصنع لصناعة الورق في بابوا جنوب بحر مرمرة وبنيت العديد من السفن الحربية كما طبق الحجر الصحي لأول مرة في الدولة العثمانية منعا لإنتشار الأوبئة والأمراض المعدية كما تم إنشاء وحدات لإطفاء الحرائق في العاصمة إسطنبول تابعة لفيلق القوات الإنكشارية .
ومما يذكر أن السلطان أحمد قد نشأ محبا للموسيقى والفن كما كان شاعرا وخطاطا كما ذكرنا وإن جاءت موهبته الأدبية دون موهبة السلطان مصطفى الثاني وفي عهده تطلع العثمانيون نحو قارة أوروبا الناهضة بإنبهار شديد وكان هو في طليعة النخبة العثمانية التي راحت تقلد مظاهر الحضارة الغربية فأنفق ببذخٍ هو والأغنياء والموسرين على تشييد القصور ذات الحدائق الغناء التي إقتبس تصميمها من العواصم الأوروبية الكبرى وعلى رأسها العاصمة النمساوية فيينا كما كان السلطان أحمد الثالث من أشد المغرمين بالزهور وخاصة زهرة اللالا أو التيوليب حتى أن البستانيين في عهده أنتجوا عشرات الأنواع منها حتى عرف عصره بإسم عصر اللالا أو التيوليب وقد إنعكس ذلك على الفنون التركية العثمانية خلال فترة سلطنته فظهر في اللوحات المرسومة له ممسكا بهذه الزهرة كما حفلت المنتجات الفنية المختلفة برسوم هذه الزهرة وخاصة في المنسوجات والخزف وإنتشر حبها أيضا بين الأغنياء والأعيان الذين أخذوا بالإستكثار من زراعتها وتهجين أنواع جديدة منها وعلاوة علي ذلك فقد شهدت السنوات الأخيرة من حكم السلطان أحمد الثالث تطورات ملحوظة في مجالات الأدب والشعر والموسيقى وفن العمارة المتأثرة بالغرب وعرفت هذه السنوات بالحقبة الزنبقية نسبةً إلى زهرة الزنبق التي راجت على نحو واسع جدا آنذاك بين الناس وكان من أهم المعالم المعمارية التي شيدت في عهد السلطان أحمد الثالث النافورة المنسوبة إليه وهي تقع على الطريق المؤدى إلى قصر طوب قابي على مقربة من البوابة الخارجية للقصر وبنيت في عام 1140 هجرية الموافق عام 1128م وكانت تعتبر مكان ومركز تجمع مهم بالمدينة ويعكس مبنى النافورة الفن المعماري العثماني التقليدى المميز وهي تتكون من عدد أربعة أبراج صغيرة في الزوايا وبرج كبير في المركز وقبة تغطيهم وعلاوة علي هذه النافورة كان من الآثار المعمارية للسلطان أحمد الثالث أيضا السبيل المعروف بإسمه وهو السبيل الأجمل في إسطنبول وهو يقع عند التقاطع بين شارع حاكميات ميلليا و شارع باشا ليماني واللذان يعتبرا من أكثر شوارع منطقة أسكودار التي تقع علي الضفة الشرقية للبوسفور إزدحاما وقد أنشئ هذا السبيل في عام 1140 هجرية الموافق عام 1728م أيضا من أجل سقيا العطشي من العابرين بالمنطقة وقد بني هذا السبيل بالرخام الصومي وكتبت عليه عبارات من قبل السلطان أحمد الثالث والصدر الأعظم داماد إبراهيم باشا النوشهرى وتمت كتابتها بخط الثلث وذلك بالإضافة إلي أبيات من الشعر لشعراء مشهورين آنذاك كالشاعر أحمد نديم والشاعر شاكر والشاعر رحمي كما أن جسم البناء كثير الأضلاع ويحتوى على الكثير من الأشكال التزيينية الملتوية على شكل حرف إس وحرف سي اللاتينيين وهو يتحول إلى شكل هرم مربع بعد إرتفاعٍ معين كما أن قطع البروش المثبتة على الجسم الهرمي المتعدد الأضلاع تضفي على البناء رونقا وجوا خاصا وتعتبر أزهار القرنفل والكريزانتم في المزهريات المستخدمة في التصميم الجبهي للسبيل من أجمل عينات العمل الفني المستخدم والتي يمكن الحديث عنها ومن ناحية أخرى فإن المقرنصات والجسور الرفيعة وأشكال أشجار النخيل المستخدمة في بناء السبيل تعد أيضا من الجماليات المعمارية التي تضفي روعة وجمالا لافتا للنظر لبناء السبيل .
ولنعد الآن إلي إقالة الصدر الأعظم الكفء داماد حسن باشا وتعاقب عدد من الصدور العظام الضعفاء علي هذا المنصب الخطير حيث كان من نتائج ذلك أن الدولة العثمانية لم تلتفت لإجراءات القيصر بطرس الأكبر ملك روسيا ولم تدرك كنه سياسته الخارجية المبنية على إضعاف الأقوياء من مجاوريه أي السويد وبولونيا والدولة العثمانية وأنه قد بدأ في تنفيذ مشروعه هذا بأن حارب الملك السويدى شارل الثاني وإنتصر عليه نصرا عظيما في واقعة بولتافا وهي مدينة في دولة أوكرانيا حاليا في يوم 8 يوليو عام ١٧٠٩م وكانت القوات السويدية تهدف من خلال هذه المعركة الإستيلاء على قلعة بولتافا الروسية ويعتقد المؤرخون على نطاق واسع بأن هزيمة السويد في هذه المعركة كانت بداية التدهور بالنسبة للإمبراطورية السويدية كدولة عظمى أوروبية في حين إحتلت روسيا مكانتها كدولة رائدة في شمال شرق قارة أوروبا ولو كانت الدولة العثمانية قد فطنت آنذاك هي ووزراؤها إلى ما إنطوت عليه السياسة الروسية للزمها مساعدة السويد على روسيا حتى يكونا مع بولونيا حاجزا ضد الأطماع الروسية التي كانت تتزايد يوما بعد يوم لكنها لم تنتبه لهذه الحقيقة ولم تلق بالا للملك السويدى شارل الثاني عشر الذى كان قد إضطر إلى الهرب جنوبا إلى مدينة بندر التابعة للعثمانيين وهي تقع في إقليم مولدوفا بدولة رومانيا حاليا بعدما قطع عنه طريق العودة لبلاده ليلجأ إلى الدولة العثمانية طالبا حمايتها ودعمها في مواجهة عدوهما المشترك وأخذ في إستمالة الدولة العثمانية لمحاربة روسيا إلا أنه لم ينجح في مسعاه في البداية نظرا لمعارضة الصدر الأعظم نعمان باشا كوبريللي للحرب إلا أنه قد ترك منصبه في شهر أغسطس عام 1710م وحل محله محمد باشا البلطجي وكان ميالا لقتال الروس وفعلا أعلن الحرب عليهم وقاد الجيوش العثمانية بنفسه وكان تعداد جيشه حوالي 200 ألف مقاتل وبعد مجموعة من المناورات العسكرية إستطاع أن يحاصر الجيش الروسي الذى كان يقوده القيصر الروسي بطرس الأكبر بنفسه ولو كان الحصار قد إستمر لمدة أطول لكان القيصر بطرس الأكبر وقادته قد وقعوا في الأسر ولكان قد إنفرط عقد مملكته وإنمحت الدولة الروسية كليةً من العالم السياسي أو علي الأقل بقيت في التوحش والهمجية عدة أجيال ولكن توصل الطرفان إلي إتفاق للصلح ووقعا معاهدة فلكزن أو بروت في يوم 25 يوليو عام 1711م وبموجبها تنازلت روسيا عن منطقة بحر آزوف وهدمت القلاع التي أقامتها بهذه المنطقة وتعهدت بعدم التدخل في شئون القرم وبولونيا وبالكف عن التدخل في شئون الأرثوذكس .
وقيل فيما بعد إن كاترينا خليلة بطرس الأكبر وزوجته فيما بعد قد قدمت رشوة إلى الصدر الأعظم العثماني محمد باشا البلطجي كانت عبارة عن مجوهراتها وحليها في سبيل فك الحصار عن القيصر ولقى هذا الرأى إنتشارا في الأوساط العثمانية ولذلك إحتدم شارل الثاني عشر السويدى نزيل مدينة بندر غيظا والذى كان يتمني إستمرار القتال ضد بطرس الأكبر والقضاء عليه ولذا فقد سعى لدى السلطان أحمد الثالث بمساعدة خان القرم دولت كراى حتى تم عزل الصدر الأعظم محمد باشا البلطجي وإبعاده إلى جزيرة لمنوس ببحر إيجة وتعيين أغا يوسف باشا بدلا منه في شهر نوفمبر عام 1711م صدرا أعظم وإستمرت الحرب الروسية العثمانية ما بين عام 1711م وعام 1713م حيث أن القيصر الروسي لم يف بتعهداته ومن ثم إستؤنفت الحرب بين الطرفين ثم مال الطرفان للسلم وتم توقيع معاهدة جديدة بين الدولة العثمانية ودولة روسيا في عام 1716م بتدخل من هولندا وبريطانيا اللتان تضررت تجارتهما بسبب الحرب الروسية العثمانية وعرفت تلك المعاهد بمعاهدة إدرنه والتي أكدت الإتفاقية السابقة وكانت مدتها خمسة وعشرين عاما وفيها تنازلت روسيا عن كل أراضيها على البحر الأسود مقابل إبطال الجزية السنوية التي تدفعها لأمراء القرم حتى لا يتعدوا على قوافلها التجارية وكان ذلك بفضل سياسة الصدر الأعظم سلحدار علي باشا وجدير بالذكر إن للمؤرخ الدكتور إحسان حقي رأى مغاير لما كتبه عدد من المؤرخين عن حادثة محمد باشا البلطجي حيث أنه لو كان بمقدوره أسر بطرس الأكبر لغنم مجوهرات خليلته لا بل كاترينا نفسها كسبية بعد النصر ومن ثم فإن موضوع تقديم رشوة له غير مستساغ أو منطقي ولذلك فإما أنه كان يرى أن وضعه العسكري الذى كان قد وصل إليه قد يتسبب في خسارته للفتوحات التي أحرزها إذا إستمر في حصاره للقيصر الروسي أو أنه إجتهد بميله إلي السلم فأخطأ كما أن الجند ما كانت لتتركه يهنأ برشوة من دون أن يثوروا عليه وكانت لهم اليد الطولى آنذاك في تعيين الصدور العظام والوزراء والتسلط على السلاطين وقد توالت الأحداث والمعاهدات بين الطرفين بعد ذلك حتى خرجت روسيا من كل الثغور والموانئ الموجودة على البحر الأسود كما صرح السلطان أحمد الثالث للتجار الروس بالمرور في أراضى الدولة العثمانية دون دفع أي ضرائب أو رسوم .
ومن ناحية الغرب فقد رأى العثمانيون ضرورة إسترداد ما حصلت عليه البندقية والنمسا وكان قد تولى منصب الصدارة العظمى في الدولة العثمانية علي داماد باشا في شهر ابريل عام 1713م والذي كان ميالا للحرب غيورا على مصالح الدولة وراغبا في إستعادة أملاكها خصوصا في إقليم المورة ببلاد اليونان لذلك أعلن العثمانيون الحرب أولا على الدولة الأضعف وهي البندقية في يوم 1 من شهر ذي الحجة عام 1126هجرية الموافق يوم 8 ديسمبر عام 1714م وسار علي داماد باشا بجيش كبير من إسطنبول برفقة الأسطول العثماني وإستولوا على بعض الجزر التي في حوزة جمهورية البندقية الإيطالية وإستطاع علي باشا دخول أراضي المورة والسيطرة على جميع قراها ومدنها بإستثناء جزيرة كورفو وهرب الأسطول البندقي من الأسطول العثماني وهكذا خرجت البندقية من صفوف الدول الكبرى في عام 1127هـجرية الموافق عام 1715م بعد فقدانها إقليم المورة ولذا فقد إستعان البنادقة بشارل الثالث ملك النمسا بعدما وضعت الحرب أوزارها بين النمسا وفرنسا بعد معاهدة أوترك فأسرع الإمبراطور النمساوي لنجدة البنادقة بعدما أدرك أن بلاده ستكون المرحلة التالية في الحرب مع الدولة العثمانية وأرسل إنذارا إلى السلطان العثماني يطلب منه إرجاع كل ما أخذه من البنادقة أو ما أعطي لهم في معاهدة فارلوجة التي تم توقيعها مع العثمانيين في عام 1699م وإلا فسيكون إمتناعه بمثابة إعلان الحرب بين الدولتين العثمانية والنمساوية فلم تقبل الدولة العثمانية هذا التهديد الصريح وفضلت إعلان الحرب علي النمسا وإستطاعت النمسا أن تنتصر في هذه الحرب وسقطت بلجراد عاصمة الصرب في أيدى النمساويين عام 1129هجرية الموافق عام 1717م ثم جرى الصلح بعد ذلك بين الدولتين في عام 1130هجرية الموافق عام 1718م وتوسطت بريطانيا وهولندا في هذا الصلح والذى عرف بصلح بساروفتز وبموجبه إنتزع النمساويون بلجراد وأكثر بلاد الصرب وجزء من بلاد الأفلاق وبقيت سواحل دالماسيا التي تقع شرق البحر الأدرياتيكي لجمهورية البندقية وعادت بلاد شبه جزيرة المورة للعثمانيين بعد أن كانت قد إحتلتها جمهورية البندقية عشرين عاما وبذلك ظهر عجز البندقية عن الإحتفاظ بسلطتها في البحر المتوسط وفي هذه المعاهدة أيضا إتفقت الدولة العثمانية مع روسيا على الحد من نفوذ ملك بولندا على نبلاء البلاد وعدم جعل منصبه وراثيا وإستهدف القيصر الروسي من هذا البند إيجاد شئ من العداء بين البولنديين والعثمانيين في سعي متواصل لتحقيق سياسته الكبرى بالتوسع على حساب بولندا والسويد والدولة العثمانية فتزيد قوته بنسبة تأخرهم وتقهقرهم وكان يحقق النجاح تلو النجاح مستغلا جهل بعض وزراء الدولة العثمانية بضروب السياسة وكان من مظاهر ذلك أن العثمانيين قد إختاروا الوقت الغير مناسب لدخولهم الحرب ضد النمسا وذلك لعدم إنشغال النمسا بأية حروب مع فرنسا في ذلك الوقت وبالتالي كانت قادرة على توجيه كامل جيوشها إلى المعارك ضد العثمانيين وذلك علاوة علي ضعف العلوم العسكرية العثمانية مقارنة بنظيرتها النمساوية وفضلا عن ذلك فقد أتاح الصلح بين العثمانيين والنمساويين لرجال الدين الكاثوليك في أن يستعيدوا مزاياهم القديمة في الأراضي العثمانية مما أتاح لهم وللنمسا التدخل في الشئون الداخلية للدولة العثمانية بإسم حمايتهم وقد نص أيضا إتفاق منفصل على حرية التجارة لصالح تجار الدول الموقعة على المعاهدة وهكذا حصلت النمسا على حقِ حماية التجار الأجانب داخل أراضي الدولة العثمانية ولكن العثمانيين وبدعم من فرنسا إستعادوا المناطق التي إحتلتها النمسا فيما بعد بموجب معاهدة بلجراد التي وقعت في عام 1152هجرية الموافق عام 1739م في عهد السلطان محمود الأول وبالتالي لم تعد النمسا مصدر خطر كبير علي العثمانيين حيث تنازلت النمسا عن بلاد الصرب وعن عاصمتها مدينة بلجراد وعن بلاد الأفلاق أيضا وتعهدت روسيا بعدم بناء سفن في البحر الأسود وهدم قلاع ميناء آزوف الواقع علي ساحل البحر الأسود .
ولما رأى الروس ضعف العثمانيين وذلك من خلال قبولهم شروط مجحفة تم فرضها عليهم بموجب المعاهدات المشار إليها في السطور السابقة طلبوا منهم السماح للتجار وزوار بيت المقدس بالمرور في أراضي الدولة العثمانية دون دفع أية رسوم فوافق العثمانيون على ذلك ونظرا لحالة الهدوء التي سادت الجبهة الروسية والجبهة النمساوية في ذلك الوقت أراد العثمانيون تعويض ما خسروه من أراضي في قارة أوروبا فإتجهوا شرقا نحو أراضي الدولة الصفوية وتمكنوا من الإستيلاء علي أرمينيا وعلي جورجيا بينما إحتل القيصر الروسي بطرس الأكبر بلاد داغستان وسواحل بحر قزوين الغربية بسبب ضعف الدولة الصفوية وكادت الحرب أن تقع بين الدولة العثمانية وروسيا ونظرا لعدم إمكان الروس مقاومة الجيوش العثمانية وتحقق القيصر الروسي بطرس الأكبر من عدم إقتداره على محاربتها طلب من سفير فرنسا بإسطنبول المسيو دوبو أن يتوسط بينهما فقبل هذه المأمورية ووفق بين الطرفين وبقي كل فريق في المناطق التي دخلها دون معارضة الآخر ولم يقبل الصفويون التقسيم المزرى بشرفهم والقاضي بضياع جزء ليس بقليل من بلادهم ووقوعه في أيدى العثمانيين والروس وقاموا كرجل واحد لمحاربة الأجانب وإخراجهم من ديارهم لكن لم تكن شجاعتهم كافية لصد هجمات العثمانيين الذين فتحوا في عام ١٧٢٥م عدة مدن وقلاع أهمها مدائن همدان وأريفان وتبريز وساعد ذلك تسلط الفوضى داخل الدولة الصفوية وتنازع كل من الشاه أشرف الذي قتل مير محمد أمير أفغانستان والشاة طهماسب ملك ساسان وإنتهت هذه الحرب بالصلح مع الشاه أشرف في يوم ٢٥ صفر عام ١١٤٠ هجرية الموافق يوم ١٣ أكتوبر عام ١٧٢٧م ولما مات الشاه أشرف وإنفرد طهماسب بالملك طلب من الدولة العثمانية أن ترد إليه كل ما أخذته من بلاد أجداده فلم تجبه الدولة ولذا أغار على بلاده ولعدم ميل السلطان أحمد الثالث إلى الحرب ورغبته في الصلح ثار الجنود الإنكشارية وهيجوا الأهالي فأطاعوهم طلبا للسلب والنهب في يوم ١٥ ربيع الأول عام ١١٤٣م الموافق يوم ٢٨ سبتمبر عام ١٧٣٠م وطلب زعيم هذه الثورة المدعو بترونا خليل من السلطان أحمد الثالث قتل الصدر الأعظم والمفتي وقبودان باشا أي أميرال الأساطيل البحرية بحجة أنهم مائلون لمسالمة الصفويين فإمتنع السلطان عن إجابة طلبهم ولما رأى منهم التصميم على قتلهم طوعا أو كرها فخوفا من أن يتعدى أذاهم إلى شخصه سلم لهم بقتل الوزير والأميرال دون المفتي فقبلوا ذلك ونفذوه وألقوا بجثتيهم فى البحر لكن لم يمنعهم إنصياع السلطان أحمد الثالث لطلباتهم من التطاول عليه بل جرأهم تساهله معهم على العصيان عليه جهارا فأعلنوا إسقاطه في مساء اليوم المذكور عن سدة الحكم ونادوا بإبن أخيه السلطان محمود الأول سلطانا وخليفة للمسلمين وأميرا للمؤمنين فأذعن السلطان أحمد الثالث وتنازل عن الملك بدون معارضة أو مقاومة في يوم أول أكتوبر عام 1730م بعد أن إستمر حكمه مدة سبعة وعشرين عاما تقريبا وكانت وفاته بعد ذلك بحوالي ست سنوات في يوم 22 صفر عام 1149 هجرية الموافق يوم أول يوليو عام 1736م عن عمر يناهز 63 عاما .
|