بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا”
السلطان سليمان الثاني هو سلطان الدولة العثمانية العشرين وهو إبن السلطان إبراهيم الأول بن أحمد الأول بن محمد الثالث بن مراد الثالث بن سليم الثاني بن سليمان القانوني بن سليم الأول بن بايزيد الثاني بن محمد الفاتح بن مراد الثاني بن محمد الأول جلبي بن بايزيد الأول بن مراد الأول بن أورخان غازي بن عثمان غازى بن أرطغرل مؤسس الدولة العثمانية وهو شقيق كل من السلطان محمد الرابع والسلطان أحمد الثاني وأعمامه هما السلطان عثمان الثاني والسلطان مراد الرابع وقد تولى الحكم خلفا لأخيه السلطان محمد الرابع في يوم 8 نوفمبر عام 1687م وقد عرف عن السلطان سليمان الثاني بأنه كان تقيا ورعا وكان يقضي معظم وقته في الصلاة وتفقد أحوال الرعية معتمدا على الصدر الأعظم في إدارة الشئون الخارجية والدفاع وقد حكم السلطان سليمان الثاني أربع سنوات قضى آخر سنتين منهم مريضا طريح الفراش وكان ميلاد السلطان سليمان الثاني في يوم 15 أبريل عام 1642م بالعاصمة العثمانية إسطنبول وكان هو الإبن الثاني للسلطان إبراهيم الأول وكانت أمه صالحة دل آشوب سلطان أكثر زوجات السلطان إبراهيم الأول المفضلات وبعد خلعه وقتله تولى السلطان محمد الرابع الحكم وهو لايزال صغيرا ونتيجة الخلاف بين جدتهما السلطانة كوسم وبين والدة محمد خديجة تورهان سلطان فقد سعت السلطانة كوسم إلى قتل السلطان محمد الرابع وإستبداله بأخيه سليمان لعلمها بإرتباط أمه بها إلا أن المحاولة كشفت قبل أن تتم وعلى أثرها أقدمت خديجة تورهان سلطان على تنظيم مؤامرة لقتل السلطانة كوسم عن طريق خنقها وقد أثرت هذه الحادثة على السلطان محمد الرابع وجعلته يأمر بإبقاء إخوته سليمان وأحمد في القفص وهي غرفة مميزة في جناح الحرملك السلطاني يقيم فيها الأمراء ويمنعون من الخروج منها خوفا من قيامهم بأى محاولة للإستيلاء علي العرش وإنشغل سليمان طوال عمره فيها بالخط وحصل على إجازة فيه من طوقاتلى أحمد أفندى وبذلك نشأ سليمان وإفتقر أي خبرة في شئون السياسة والحكم فكان لا يعرف شأنا داخليا ولا خارجيا ولم يلتقِ بوزير ولا سفير ولم يأخذ قرارا في حق نفسه فضلا عن قرارات تخص الأمة وكنتيجة الهزائم العثمانية المتوالية على يد النمسا ثار الناس والجنود على شقيقه السلطان محمد الرابع وعزلوه وكان من المفترض أن يرتقي العرش إبنه مصطفى الثاني لكن سعى الوزير كوبرولو فاضل مصطفى باشا إلى تعيين سليمان بدلا منه إنتقاما من السلطان محمد الرابع لإبعاده عن السلطة وإعدامه لزوج شقيقته قرة مصطفى باشا بعد أن وردت أنباء الهزيمة الكارثية في فيينا للسلطان الذي فجع لهذه الكارثة وأرسل من يقوم بإعدام قرة مصطفى باشا فأعدم في بلجراد في يوم 25 ديسمبر عام 1683م بخيط من حرير وقال المؤرخون الأوروبيون إن أخر ما قاله لجلاده إحرص على شد الحبل جيدا وربما إدعوا هذا لشماتتهم فيه بينما في المقابل يرى مؤرخو المسلمين فيه ضحية لمؤامرات رجال البلاط والحريم للتخلص منه كصدر أعظم قوى ومن ثم نصب رجال الدولة سليمان سلطانا جديدا وبذلك ذهب الذي يعلم قليلا ولا يجادل إلا نادرا وجاء الذى لا يعلم شيئا ولا يجادل أبدا .
وعموما فقد إستلم السلطان سليمان الثاني الحكم في هذه الظروف الإستثنائية التي كانت تعصف آنذاك بالدولة العثمانية وكان قد بلغ من العمر 45 عاما وكما ذكرنا فإنه كان شخصا طيبا ولا يملك من الأمر شئ حيث لم تكن لديه السمات القيادية التي تميز بها سلاطين الدولة العثمانية الأوائل ويرجع ذلك لطول مدة حبسه في القفص وكانت الأمور كلها في يد صدوره العظام وكانت مدة حكمه أربعة سنوات والتي يمكن تقسيمها بسهولة إلى فترتين متباينتين وكأنهما لسلطانين مختلفين تماما وشملت الفترة الأولى أول سنتين وكانت هذه الفترة فترة إضطرابات وإنعدام وزن وشبه إنهيار في الدولة العثمانية وتناوب فيها على منصب الصدارة العظمى ثلاثة أما الفترة الثانية فكانت سنتان أيضا وكانت فترة صحوة وإنتفاضة وتولى فيها الصدارة العظمي رجل واحد فقط هو كوبرولو فاضل مصطفى باشا ومما يذكر أنه في بداية حكم السلطان سليمان الثاني لم يهدأ الحال بالطبع لخلع السلطان السابق محمد الرابع لأن الجميع كان يعلم أن الأوضاع لن تتغير بولاية السلطان الجديد حيث إستمرت الإضطرابات وخاصة من الفرق العسكرية وتحديدا الإنكشارية وأراد السلطان سليمان الثاني أن يهدئ من ثائرة الجنود عن طريق صرف إكرامية جلوس السلطان على الكرسي تلك الهبة الإجبارية التي أصبحت تقليدا متبعا مع تولية كل سلطان جديد وأصبحت تعد إتاوة علي السلطان الجديد أن يمنحها للإنكشارية نظير ولائهم له والتي إبتدعها السلطان العثماني الحادى عشر سليم الثاني قديما عندما تولي العرش العثماني في عام 1566م خلفا لأبيه العظيم السلطان العثماني العاشر سليمان القانوني وكانت خزينة الدولة مع بداية عهد السلطان سليمان الثاني تعاني من جراء الخسائر العسكرية المتتالية منذ كارثة ڤيينا عام 1683م ومع ذلك دفعت هذه الإتاوة ولكن على الرغم من هذا الإنفاق إستمرت الإضطرابات ووصل الأمر إلى الذروة في أوائل شهر مارس عام 1688م حين إقتحم المتمردون قصر الصدر الأعظم أباظة سياوش باشا وقتلوه ثم قتلوا مائة وخمسين من رجاله وتم تعيين إسماعيل باشا المرعشي صدرا أعظم بدلا منه ولكنه عزل بعد شهرين فقط في أوائل شهر مايو عام 1688م وتولى بعده بكرى مصطفى باشا تكيرداغلي وكان في السابق من قادة الإنكشارية والذين هدأت إضطراباتهم في ظل ولاية بكرى مصطفى باشا وكانت هذه الإضطرابات أساسا في العاصمة إسطنبول ومع ذلك قامت ثورات جديدة في الولايات المختلفة وفي ظل هذا التوتر كان من المؤكد أن النمسا ستستغل الموقف لتوسيع دائرة تمددها وإستيلاءها تدريجيا علي أملاك الدولة العثمانية .
وبالفعل ففي النصف الأول من عام 1688م وأثناء التقلبات والإضطرابات الداخلية الشديدة في العاصمة العثمانية إسطنبول إستغلت الميليشيات الصربية هذه الأوضاع وقامت بمساعدة دولة النمسا في إحتلال مدينتي ليبوڤا وإنيو وهما تقعان غرب رومانيا الآن وهكذا لم يعد باقيا في حوزة العثمانيين من الأراضي المجرية إلا إقليم تيميشوار أقصى غرب رومانيا بالإضافة إلى مدينة چيولا جنوب شرق المجر الآن وكانت أكبر مشكلة في إحتلال هاتين المدينتين أن الطريق صار ممهدا لأهم مدينة عثمانية في وسط إقليم البلقان وهي مدينة بلجراد وفي بدايات صيف عام 1688م إشتركت قوات متعددة من التحالف الصليبي المقدس في عملية غزو واسعة النطاق لمناطق صربيا والبوسنة وإقتحم شمال صربيا جيش صليبي بقيادة البافاري ماكسيميليان الثاني وبمساعدة قوات ألمانية وعدد محدود من القوات النمساوية بالإضافة إلى الميليشيات الصربية وكان مجموع الجيوش الصليبية يزيد على ثلاثة وخمسين ألفا وهو تقريبا ضعف الجيش العثماني في المنطقة وكانت خطوات الجيش الصليبي بطيئة فلم يصلوا إلى شمال بلجراد إلا في شهر أغسطس عام 1688م ومع ذلك لم يستغل العثمانيون الفرصة للتجهز الجيد للدفاع عن المدينة وأكثر من هذا لم يبذل الجيش العثماني جهدا كبيرا في الدفاع عن بلجراد فأُخذَت تقريبا دون مقاومة بعد حصار شهر إقتحم الصليبيون المدينة في يوم 6 سبتمبر عام 1688م لتسقط في يد النصارى للمرة الأولى منذ عام 1521م وكان الكثير من أهل المدينة قد غادروها عند إقتراب الجيش الصليبي ومع ذلك كان عدد السكان المسلمين الذين قتلوا بعد سقوط مدينة بلجراد وقلعتها يزيد على سبعة آلاف من الجنود والمدنيين وكان سقوط بلجراد حدثا مدويا فأولا كانت هذه أحصن قلعة للعثمانيين في إقليم البلقان كله وسقوطها كان يعني سقوط القلاع الأقل حصانة بالتبعية وثانيا تعتبر بلجراد بموقعها الإستراتيجي أهم مدينة تتحكم في عدة محاور عسكرية في إقليم البلقان وشماله وثالثا هي من أكبر المراكز الإقتصادية في الدولة العثمانية وفي قارة أوروبا بشكل عام ورابعا هي مركز الصرب الرئيسي وسقوطها سيشجع الصرب على التمرد على الدولة العثمانية في كامل صربيا وخامسا كان سقوطها يعني تجاوز النمساويين والتحالف الصليبي نهر الدانوب إلى جنوبه وهذا بالنسبة إلى الدولة العثمانية خط أحمر لا يجوز عبوره لأنه يعني الإنسياح في أرض الدولة الأساسية ولئن كان سقوط مدينة بودا عاصمة المجر عام 1686م كان مؤثرا فإن سقوط مدينة بلجراد الآن سيكون أشد تأثيرا بعشرات المرات لكون الأولى شمال نهر الدانوب والأخيرة مفتاح جنوب نهر الدانوب وسادسا سيكون الوقع الإعلامي لسقوط بلجراد في يد الصليبيين بعد مائة وسبعة وستين عاما من الحكم الإسلامي كبيرا وسيكون هذا دافعا لملوك دول أوروبا للإنضمام إلى التحالف الصليبي لإكمال مهمة طرد العثمانيين من قارة أوروبا بالكامل ولقد كان الحدث مزلزِلا حقا وفي الوقت نفسه كانت قوات صليبية أخرى تقتحم شمال البوسنة حيث تمكنت في يوم 4 سبتمبر عام 1688م من إسقاط قلعة باني لوكا في وسط الشمال والتي تقع على بعد 40 كيلو متر من الحدود الكرواتية ثم سيطروا على مدينة زڤورنيك في يوم 4 أكتوبر عام 1688م على الحدود البوسنية الصربية ومن الجدير بالذكر أيضا أن جمهورية البندقية الإيطالية كانت تعمل بشكل مواز في هذه الخطة الشاملة للتحالف الصليبي حيث قامت بغزو جزيرة نيجروبونتي المهمة في بحر إيجة في التوقيت نفسه الذي كان التحالف يقتحم فيه البوسنة وصربيا ومع ذلك لم تتمكن جمهورية البندقية من تحقيق حلمها في إعادة السيطرة على مركزها القديم في الشرق والذى كان قد سقط في يد السلطان العثماني السابع محمد الفاتح في عام 1470م .
ومع حلول عام 1689م لم يتمكن العثمانيون من تعديل الأوضاع وحقا تمكنت الدولة من صد هجوم روسي شرس على شبه جزيرة القرم في شهر مايو عام 1689م ولكن هذا كان بجهد تتار القرم وحدهم ولم يتدخل الجيش العثماني في المسألة حيث كان التتار يقومون بعمل ممتاز لكن الضغط الروسي تسبب في إستحالة تركهم لمنطقة القرم وبالتالي حرمت الدولة من جهودهم في معاركها الأوروبية وحاولت الدولة العثمانية القيام من كبوتها في صيف هذا العام ومواجهة الحماسة الصليبية المتزايدة ولكنها كانت محاولات متواضعة وكان منها أن تحركت حملة في بداية الصيف برئاسة السلطان سليمان الثاني نفسه في إتجاه صربيا ولكنها توقَّفت في يوم 25 يونيو عام 1689م في صوفيا ببلغاريا ولم تكمل طريقها إلى بلجراد المحتلة حيث وجد قادة الجيش أن الطريق غير آمن على حياة السلطان وإزاء هذا التردد كان من المؤكد أن التحالف الصليبي سيتقدم إنطلاقا من بلجراد كقاعدة عسكرية صلبة صارت في يد الصليبيين وإتجهت القوات الصليبية شرقا ناحية أهم مدن صربيا بعد بلجراد وهي سمندرية وإلتقى الجيش العثماني بقيادة عرب رجب باشا قائد الجيوش العثمانية في جبهة النمسا وجيش التحالف الصليبي في يوم 30 أغسطس عام 1689م عند مدينة باتوشينا والتي تقع على بعد خمسين كيلو متر جنوب سمندرية وعلي بعد خمسة وثمانين كيلو متر جنوب شرق بلجراد وحلت الهزيمة بالجيش العثماني وإحتلت باتوشينا وسقطت بعدها سمندرية نفسها وأكمل الصليبيون إقتحامهم لصربيا فوصلوا إلى مدينة نيش الإستراتيجية وهي المدينة المسيطرة على جنوب صربيا كله وهي قريبة جدا من حدود بلغاريا حيث تقع علي بعد أقل من ثمانين كيلو متر من الحدود البلغارية الصربية وعلى بعد مائة وثلاثين كيلو متر من صوفيا وكان سقوط نيش يعني إمكانية إقتحام عمق الأراضي العثمانية وقد يكون الوصول إلى مدينة إدرنه ممكنا وعند هذه المدينة وفي يوم 24 سبتمبر عام 1689م تعرض الجيش العثماني لهزيمة أفدح من تلك التي حدثت في باتوشينا وغنمت قوات التحالف الصليبي أكثر من مائتي مدفع عثماني وكان السلطان سليمان الثاني متواجدا حينذاك في صوفيا وذلك منذ أواخر شهر يونيو عام 1689م ومع ذلك لم يتقدم جيشه لنجدة نيش بل على العكس خاف الوزراء وقادة الجيش على حياته فإنسحبوا به من صوفيا إلى إدرنه وشجع هذا الصليبيين على إقتحام بلغاريا وإحتلال مدينة ڤيدين والتي تقع علي بعد مائة كيلو متر من نيش في يوم 14 أكتوبر عام 1689م وكذلك توغلت بعض القوات الصليبية بقيادة الإيطالي بيكولوميني في إتجاه الجنوب حتى وصلت إلى سكوبيه عاصمة مقدونيا والتي تقع علي بعد مائة وأربعين كيلو متر من نيش وكان الجيش العثماني قد أخلى المدينة المهمة من السكان عند علمه بقدوم الصليبيين ولم تكن له القدرة على مواجهتهم فإنسحب ووجد بيكولوميني المدينة خالية ولم يكن معه قوة كافية لإحتلالها فأمر بإحراقها بالكامل وإستمر الحريق يومين كاملين يوم 26 ويوم 27 أكتوبر عام 1689م وقد أتي هذا الحريق علي المدينة بأكملها فلم يترك الحريق بيتا ولا سوقا ولا مسجدا إلا قضى عليه ولم تنج إلا القلعة الحجرية وقد فقدت المدينة بعد هذا الحريق مكانتها التجارية في إقليم البلقان لعدة عقود وتناقص سكانها من ستين ألف نسمة قبل الحريق إلى عشرة آلاف نسمة فقط بعده وحقا فقد كانت تلك مصيبة كبرى وكارثة حقيقية .
وأمام هذه الهزائم والكوارث المتتالية التي حلت بالدولة العثمانية إستمرت مهزلة التخلص من القادة العسكريين العثمانيين المهزومين فأمر السلطان بإعدام عرب رجب باشا قائد الجيوش العثمانية في قارة أوروبا لهزيمته في المعارك السابقة وكان من الواضح أن هناك خللا بارزا في منهجية التفكير على الأقل في هذه المرحلة وكان الجيش الصليبي يقوم بهذا الغزو واسع النطاق على الرغم من إندلاع حرب كبيرة في جبهة النمسا الغربية حيث كانت قد بدأت حرب شرسة بين فرنسا من جهة وبين التحالف الأوروبي الكبير من جهة أخرى وكان هذا التحالف يضم إنجلترا وهولندا وأسبانيا وساڤوي بالإضافة إلى النمسا وهي الحرب التي عرفَت بعد ذلك بحرب السنوات التسع والتي إستمرت من عام 1688م وحتي عام 1697م وكان من المتوقع أن تضطرب النمسا بالحرب في جبهتين متباعدتين تماما ولكن الواقع كان غير ذلك وكان الضعف العثماني البارز مشجعا لهم على الإستمرار في الحرب وكان من الواضح أن الجيش العثماني يفتقد الروح التي يمكن أن تدفعه إلى القتال أو على الأقل المقاومة وكانت الدولة العثمانية تحتاج إلى معجزة لإيقاظ المارد الذى كان لابد من إيقاظه من غفوته وأن ينتفض بقوة وعزيمة من جديد أمام هذا الطموح الصليبي في إقصاء العثمانيين من قارة أوروبا قبل فوات الأوان وقد تحققت هذه الإنتفاضة فعلا بتولي كوبرولو فاضل مصطفى باشا منصب الصدارة العظمى وكان الذي أوصى بولايته هذا المنصب شيخ الإسلام دباغ زادة محمد أفندى وكان ذلك في يوم 10 نوفمبر عام 1689م وكان بالفعل فاضل مصطفى باشا من أعظم الإداريين الذين شهدتهم الدولة العثمانية في كل تاريخها وكأنه نهل علوم والده الشهير كوبرولو محمد باشا كلها وزاد عليها أنه فاق أباه كذلك في القدرات العسكرية فكان بارعا فيها براعته في إدارة الدولة وكان عمره يوم أن تولى الصدارة العظمي 52 عاما جامعا في هذا العمر بين حماسة الشباب وحكمة الشيوخ وعندما تولي فاضل مصطفي باشا منصب الصدر الأعظم أدرك أن مشكلة الدولة الأكبر هي مشكلة داخلية وأن العدو القليل إذا إنتصر على الأكثرية المسلمة فالعيب هو ضعف المسلمين وليس قوة عدوهم وإن الفساد الذى إستشرى في نظام الدولة وجيشها لا يصلح معه جهاد ولذلك لا بد من إصلاح الأساس قبل البداية في مواجهة العدو وكانت المشكلة التي سيواجهها فاضل مصطفي باشا في الوقت لأن الصليبيين لن يتركوا المسلمين يعملون في هدوء إلى أن يتم الإصلاح وعليه كان لا بد لفاضل مصطفى باشا أن يتم أعماله الإصلاحية قبل حلول فصل صيف العام القادم 1690م مستغلا الراحة الإجبارية التي تأخذها جيوش دول أوروبا في فصل الشتاء القارص البرودة .
وقد تولى الصدر الأعظم فاضل مصطفي باشا منصبه بالشرط نفسه الذي إشترطه أبوه من قبل على السلطان محمد الرابع وهو أن يمنح سلطات وصلاحيات مطلقة تعطيه الفرصة أن يعمل وسط المؤامرات والمكائد الكثيرة التي تحاك حوله ولما كان السلطان سليمان الثاني لا يدرى عن أمور الدولة والسياسة شيئا فقد كان قبول مثل هذا الشرط متوقعا وبدأ فاضل مصطفى باشا عمله بنشاط وهمة ولم ينل أى قسط من الراحة لعدة أشهر متتالية وكان همه وهدفه الأكبر إصلاح الدولة من الداخل وكان عمله السابق كنائب للصدر الأعظم كاشفا له كثيرا من خبايا وأسرار الدولة وأيضا سرعان ما إكتسب الأصدقاء والأنصار الأوفياء وإكتشف النبلاء الأمناء وبهذا وذاك بدأ الإصلاح فضرب على أيدي الفاسدين بقوة وطرد قيادات الدولة ذات الشبهات ووضع قوانين واضحة للثواب والعقاب دون محاباة أو مواربة وإهتم كثيرا بالجيش لكنه لم يهمل الشئون المالية ولا الإدارية إلى درجة أنه وعلى الرغم من إنشغاله الكبير بمسألة النمسا والتحالف الصليبي فقد كان مهتما بالقوانين الزراعية وحالة الفلاحين وعلاوة علي ذلك فقد إهتم بأوضاع الأكراد وقبائل اليورك وهي الشعوب التركية التي تعيش في جبال الأناضول وشجعهم على الإنخراط في الجيش فتمكن من زيادة عدده فعوض النقص الذى إعتراه بعد الشهداء الكثيرين الذين سقطوا في معارك السنين الأخيرة كما عدل فاضل مصطفي باشا من نظام الضرائب فحوله للنظام الفردي بدلا من نظام الإلتزام الذى كان بموجبه يتم التعامل مع القرية أو المنطقة بشكل جماعي مما خفف الأعباء عن الناس وقام بتوسيع حرية العبادة لرعايا الدولة من النصارى وقدم لهم تسهيلات خاصة بكنائسهم وتصاريح ترميمها أو بنائها ليكسب ودهم خاصة بعد ظهور ميليشيات الصرب النصرانية وإحتمال تكرار الأمر في ولايات الدولة الأخرى ومن جانب آخر فقد قلل فاضل مصطفى باشا من عدد الوزراء ليتجنب الصراعات الداخلية التي كانت تنشأ في الديوان وكون مجالس محلية من نبلاء كل ولاية أو مدينة كبرى تكون مهمتها مناقشة ومراقبة والي البلدة وذلك للحد من السلطات الواسعة التي كانت تفسد الولاة ولضمان سير العمل بأمانة وشفافية وفوق ذلك كان فاضل مصطفى باشا يملك الشخصية القوية ذات التأثير التي يمكن أن يغير بها قناعات الناس بسهولة فتسمع له وتطيع القيادات الكبرى والعقول الفاهمة دون تردد ولا إضطراب وقبل ذلك وبعده كان هذا الرجل يمتلك القدرة على بث الهمة في أجساد المتثاقلين وبعث الأمل في نفوس المحبطين فإذا بواقع الدولة العثمانية شئ آخر وكأننا عدنا إلى زمان السلطانين العظيمين محمد الفاتح وسليمان القانوني وكانت هذه الأعمال تحتاج إلى سنوات طويلة كي تنجز بحرفية ولكن الواقع أن الرجل أتمها في شهور قليلة وجاء صيف عام 1690م ومعظم هذه الأمور مطبقة على أرض الواقع وكانت هذه بحق معجزة تحمل دلالات ثلاثة الأولى أن الطاقات الفذة لا تنضب من هذه الأمة وعلينا فقط أن نبحث عنها بأمانة والدلالة الثانية أن البناء الأساسي الداخلي للدولة العثمانية كان قويا للغاية وأن الشعب فيه خير كثير وكذلك الجيش وهم فقط يحتاجون لمن يوقظ العملاق الذى بداخلهم ولو كان البناء ضعيفا أو الشعب فاسدا ما نجحت جهود الصدر الأعظم فاضل مصطفى باشا ولا عشرة من أمثاله أما الدلالة الثالثة والمهمة للغاية هي أن الله يدبر لهذه الدولة أمر رشد لنوايا صادقة كانت في نفوس أبنائها ولأعمال صالحة قدموها على مر القرون ولتضحيات مهولة بذلوها دون تردد فليس من فراغ أن توهب الدولة عندما يظن الجميع أنها علي وشك السقوط من يقيلها من عثرتها ويجدد لها نشاطها ودينها وأخيرا فقد كان من أروع إنجازات فاضل مصطفى باشا أنها ظل لها أثرها في الدولة العثمانية لعدة عقود ولم تنته بإنتهاء عهده وكان ذلك أحد الأسباب لإتصاف القرن السابع عشر الميلادى كله بصفة الثبات النسبي للدولة العثمانية . وفي صيف عام 1690م خرج جيشان عثمانيان من مدينة إدرنه الأول إلى ترانسلڤانيا في الشمال والثاني إلى صربيا في الغرب وكان الجيش الأول يهدف إلى تنصيب إمرى توكولي الحليف المجري للعثمانيين على ترانسلڤانيا وبذلك يعيد ولاء الولاية للدولة العثمانية وكان هذا هو الهدف الأساسي وإن كان هناك هدف آخر هو تشتيت الجيش النمساوى أو على الأقل إبقاء جيش النمسا المرابض في ترانسلڤانيا هناك وذلك لكي يعطي الفرصة إلى العمليات العسكرية أن تتم في صربيا في وجود أقل أعداد ممكنة لجيش النمسا وأيضا لو قدر لهذا الجيش النجاح في مهمته فإنه سيمنع ملك بولندا سوبايسكي من نجدة النمساويين في صربيا وذلك لقرب ترانسلڤانيا من بولندا وقد نجح الجيش الأول في مهمته تماما حيث إنتصر إنتصارا كاملا على الجيش المتحد للنمسا وترانسلڤانيا في موقعة زيرنست وذلك في يوم 11 أغسطس عام 1690م وقد كسر هذا الإنتصار الجيش النمساوى وتحقق هدف تنصيب توكولي على ترانسلڤانيا ولو مؤقتا أما الجيش الثاني فكان هو الجيش الرئيسي للدولة العثمانية وكان على رأسه الصدر الأعظم فاضل مصطفى باشا وقد خرج من إدرنه في يوم 13 يوليو عام 1690م متجها إلى صربيا وإستطاع أن يقتحمها بحماسة عجيبة متناسيا جراح الأعوام السبعة الماضية ووصل إلى أول قلعة يسيطر عليها النمساويون في شرق الإقليم وهي قلعة بايروت والتي تقع علي بعد 55 كيلو متر شرق مدينة نيش فأسقطها في سهولة في يوم 9 أغسطس عام 1690م وأتبعها بقلعة أخرى إسمها قلعة موسى باشا ففتحها في يوم 12 أغسطس عام 1690م ومنها توجه إلى المدينة الرئيسية في جنوب صربيا وهي نيش والتي وصلها الصدر الأعظم في منتصف شهر أغسطس عام 1690م وضرب الحصار حولها وكان يدافع عنها جيش صليبي يقدر بعشرة آلاف مقاتل معهم تسعون مدفعا كبيرا وإستمر الحصار ثلاثة وعشرين يوما ثم سقطت المدينة في يد الجيش العثماني في يوم 9 سبتمبر عام 1690م وغنم المسلمون المدافع كلها وكان هذا الإنتصار إنتصارا عظيما رفع معنويات الجيش بشكل رائع حيث كان هذا الإنتصار هو الإنتصار الحقيقي الأول منذ كارثة ڤيينا في عام 1683م ومن نيش أرسل فاضل مصطفى باشا الكتائب لإعادة فتح ڤيدين في بلغاريا وكذلك أورسوڤا وهي في رومانيا الآن ثم توجه هو إلى سمندرية المهمة وبعد حصار دام يومين فقط سقطت المدينة في يده يوم 27 سبتمبر عام 1690م وأكمل الجيش المنتصر طريقه متوجها إلى أهم وأحصن مدينة في وسط إقليم البلقان وهي بلجراد والتي وصل الجيش المسلم إلى أسوارها العالية في أوائل شهر أكتوبر عام 1690م وكان النمساويون قد أصلحوا هذه الأسوار بشكل عظيم خلال العامين اللذين حكموا فيهما المدينة كما زودوا القلاع بثلاثمائة وستة وتسعين مدفعا ألمانيا قويا وقام الصدر الأعظم بنصب تسعة وأربعين مدفعا حول المدينة ثم بدأ القصف فورا وكان تاريخ هذه المدينة في الحصار مشهور حيث لم ينجح السلطان العظيم محمد الفاتح نفسه في فتحها عام 1456م وإحتاج السلطان العظيم سليمان القانوني في عام 1521م إلى شهر ونصف ليحقق الفتح أما النمساويون فقد أسقطوها بعد شهر من الحصار عام 1688م والآن سيتمكن الصدر الأعظم فاضل مصطفى باشا من فتح المدينة يوم 8 أكتوبر عام 1690م بعد ستة أيام فقط من الحصار .
وما نستطيع قوله في هذا الشأن هو إن الترتيب الرباني الذى لا يقدر عليه بشر هو ما حقق ذلك حيث سقطت قذيفة عثمانية على مخزن الذخيرة الرئيسي للنمساويين في المدينة فإنفجر تماما وخسر الصليبيون ذخيرتهم كلها في لحظة فأعلنوا الإستسلام وفي الواقع لم يقصف العثمانيون هذا المخزن عن عمد ولكن التوفيق الذي صاحب الصدر الأعظم فاضل مصطفي باشا في خطواته الإدارية والإصلاحية كان مصاحبا له في هذه الحملة العسكرية أيضا وقد قال تعالى في سورة المدثر وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وقد سقط من النمساويين خمسة عشر ألف قتيل في هذا الفتح وأسر منهم أعداد غفيرة وإستشهد من العثمانيين خمسة آلاف ولكنهم غنموا غنائم كثيرة كان منها كل المدافع الثقيلة في بلجراد وكذلك إثنتي عشرة سفينةً حربية في نهر الدانوب وإستغل الصدر الأعظم الحكيم الشلل النمساوى الذي أصابهم بعد الضربات المتتالية وبسط سيطرته على كامل صربيا بل إخترق جنوده حدود البوسنة ليستردوا ما كان الصليبيون قد أخذوه من عامين وتعامل فاضل مصطفى باشا مع الشعب الصربي بحكمة توازى حكمته في القتال فبذل جهدا كبيرا لإسترضائهم وذلك عن طريق توزيع الحبوب الزراعية والأطعمة والحيوانات وخاصة في الأماكن المتضررة من القتال وكان الشعب الصربي يتوقَّع أذى كبيرا من العثمانيين بسبب تكوين الميليشيات الصربية التي تعاونت مع النمسا ضد الدولة العثمانية ولكن العكس هو الذى كان وقد أدت هذه السياسة السلمية إلى هدوء الصرب وعدم إنخراطهم في أعمال عنف ضد المسلمين وبذلك إنتهت هذه الحملة بنجاح باهر وتوقفت العمليات العسكرية لقدوم فصل الشتاء وعاد الصدر الأعظم إلى إسطنبول ليشهد مع الشعب إحتفالات النصر التي أقيمت للمرة الأولى منذ عام 1683م وكان الهدف التالي للصدر الأعظم فاضل مصطفي باشا وكان هو الحاكم الفعلي للبلاد في هذه الحقبة هو إسترداد المجر وهذا ما دعاه لإعداد جيش كبير لهذه المهمة مستغلا فترة الشتاء الهادئة وشهدت الدولة في هذه الفترة إستقرارا رائعا وعادت هيبة الدولة داخليا وخارجيا وأصيب التحالف الصليبي بالذعر والهلع من هذه النتائج وتوقعوا هجوما على المجر بل زادت مخاوفهم أن تكون إنطلاقة فاضل مصطفى باشا القادمة إلى ڤيينا ذاتها وقد دفعتهم هذه المخاوف إلي بذل مجهودات ضخمة من أجل زيادة تحصينات مدينتي بودا وڤيينا كما بدأوا في إعداد جيش مناسب لمواجهة الجيش المسلم المتوقع هذا على الرغم من إنشغال النمسا بحرب فرنسا على جبهتها الغربية عند نهر الراين وفي هذا التوقيت وقع السلطان سليمان الثاني فريسة المرض الشديد في أوائل عام 1691م وكان ملازما الفراش معظم الأوقات ولم يمنع ذلك من خروج الصدر الأعظم فاضل مصطفي باشا من العاصمة العثمانية إسطنبول بجيشه يوم 14 يونيو عام 1691م متجها لجبهة المجر وكان يخشى أن تطول العمليات العسكرية ويدخل فصل الشتاء .
وبعد ثمانية أيام فقط من خروج الصدر الأعظم فاضل مصطفي باشا بالجيش وفي يوم 22 يونيو عام 1691م وفي مدينة إدرنه مات السلطان سليمان الثاني قبل أن يبلغ الخمسين عاما بعام واحد ودفن بمسجد السلطان سليمان القانوني بالعاصمة العثمانية إسطنبول وهكذا شاء الله أن يموت سعيدا على الرغم من أنه كان قد إستلم الحكم في واحدة من أشد لحظات الدولة العثمانية حزنا وألما وتعاسة وخلفه شقيقه السلطان أحمد الثاني ومما يذكر أن الصدر الأعظم فاضل مصطفي باشا قد لحق بالسلطان سليمان الثاني بعد حوالي شهرين حيث إستشهد في المعركة التي وقعت عند مدينة سلنكمان التي تقع علي الضفة الغربية لنهر الدانوب والتي تبعد عن شمال مدينة بلجراد حوالي 50 كيلو متر في نقطة متوسطة تمامًا بين بلجراد وحدود المجر والتي وقعت في يوم 19 أغسطس عام 1691م بين القوات العثمانية وقوات التحالف الصليبي وذلك بعد أن أصيب بطلقة مباشرة في جبهته فإستشهد علي الفور وبعد أن كانت المعركة تسير في صالح العثمانيين وإمتلك العثمانيون زمام المبادرة وإحتلوا أماكن إستراتيجية في ساحة القتال ومن ثم بدأوا القصف المدفعي والهجوم بسلاح الفرسان وصاحب هذه المعركة البرية أخرى بحرية في نهر الدانوب المجاور حقق فيها الأسطول العثماني إنتصارا بارزا وعلي الرغم من تفوق المدفعية الألمانية المصاحبة للجيش الصليبي فإن الجيش العثماني حقق تقدما ملحوظا على خصمه وزاد من ضغطه عليه إلى الدرجة التي جعلت لويس وليام يفكر في الإنسحاب إلا أنه مع إستشهاد فاضل مصطفي باشا مالت الكفة لصالح جيش التحالف الصليبي حيث فقد العثمانيون عزيمتهم فجأة فالفقيد لم يكن مجرد قائد عسكرى يمكن أن يحل غيره محله إنما كان هو رجل الدولة الأول ومستنهضها من سباتها وراسم سياستها في الداخل والخارج وكانت لحظة إستشهاده لحظة تسمر عندها الجنود بعد أن سمعوا الخبر الأليم وقد أدرك الجيش الصليبي ما حدث فتحرك لويس وليام قائد الجيش الصليبي بحركة مباغتة شملت جيشه كله ليضغط على الجيش العثماني وذلك تحت غطاء من القصف المدفعي الشديد ونجحت حملة لويس وتقهقر العثمانيون ولم يكن تراجعهم منظما مما زاد في الأزمة وبدأ الشهداء يتساقطون وقد إختلفت التقديرات في عدد القتلى في الجيش العثماني ما بين خمسة آلاف إلى خمسة وعشرين ألفا ولكن الجميع متفق أن النصر كان حاسما للصليبيين وفقد الجيش العثماني في المعركة أيضا معظم مدفعيته وبلا شك كانت الخسارة الأكبر في المعركة المذكورة مع كامل التقدير لكل الشهداء هي فقد الصدر الأعظم فاضل مصطفى باشا وهذا الإسم ينبغي أن يذكر في سجلات المجد والفخار حيث كان رجل من الصعب تعويضه خاصة في زمانه والذى عانى من قحط الرجال فكان فاضل مصطفى باشا هو القائد العطيم الذى حمل هموم دولته وقادها إلى الثبات في زمن زلت فيه الأقدام وقد بارك الله في كل خطوة من خطواته بطريقة عجيبة وغير متوقعة .
|