بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا”
السلطان العثماني محمد الثالث هو السلطان العثماني الثالث عشر وهو إبن السلطان مراد الثالث بن سليم الثاني بن سليمان القانوني بن سليم الأول بن بايزيد الثاني بن محمد الفاتح بن مراد الثاني بن محمد الأول جلبي بن بايزيد الأول بن مراد الأول بن أورخان غازى بن عثمان بن أرطغرل مؤسس الدولة العثمانية وقد تولى الحكم بعد وفاة أبيه السلطان مراد الثالث بإثني عشر يوما في شهر يناير عام 1695م وكان شابا يافعا حيث كان يبلغ من العمر 29 عاما وهو والد السلطانين أحمد الأول ومصطفي الأول وكان ميلاد السلطان محمد الثالث في يوم 26 مايو عام 1666م بمدينة مانيسا بغرب تركيا والقريبة من مدينة إزمير والتي تقع جنوب غرب مانيسا علي بعد حوالي 65 كيلو متر منها وذلك خلال فترة سلطنة جد والده السلطان سليمان القانوني وقبل وفاته وتولي جده السلطان سليم الثاني عرش السلطنة بحوالي 4 شهور وكان إبنا لجارية بندقية الأصل إسمها بافو كان قد خطفها قراصنة البحر وبيعت للسراى السلطانية في العاصمة العثمانية إسطنبول حيث إشتراها السلطان مراد الثالث وإصطفاها لنفسه وأسماها صفية وكان مولعا بها لذا كان تدخلها وأثرها في شئون الحكم كبيرا ومن ثم فقد كانت ذات أثر كبير في السياسة وقد عاش السلطان محمد الثالث حياة طبيعية لكونه كان إبنا للسلطان مراد الثالث الذى كان بدوره إبنا للسلطان سليم الثاني ولذا لم يتم حبسه في قصره ولذلك تربى تربية طبيعية وألف الحياة السياسية وإطلع على المتغيرات التي حدثت في الدولة خلال عهد ابيه وعهد جده وفضلا عن ذلك فقد كان شاعرا متميزا وقد بلغت فترة حكم السلطان محمد الثالث تسع سنوات تقريبا حيث كانت وفاته في آخر عام 1603م وتولى بعده إبنه أحمد الأول السلطنة حتى أواخر عام 1617م ليتولى بعده أخوه مصطفى الأول لفترة قصيرة بلغت ثلاثة شهور فقط حتى بدايات عام 1618م ليعتلي العرش بعده ثلاثة سلاطين من أبناء السلطان أحمد الأول وكلهم كان لهم شأن خلال القرن السابع عشر الميلادى الذى يعد قرن الثبات في تاريخ الدولة العثمانية كان الأول منهم السلطان عثمان الثاني وحكم أربع سنوات فقط من عام 1618م إلى عام 1622م ثم السلطان القوى مراد الرابع وحكم فترة طويلة نسبيا من عام 1623م إلى عام 1640م ثم السلطان الضعيف إبراهيم الأول الذى حكم من عام 1640م إلى عام 1648م وقد تخلل هؤلاء فترة حكم ثانية قصيرة للسلطان مصطفى الأول الذى حكم لمدة عام وأربعة أشهر من شهر مايو عام 1622م وحتي شهر سبتمبر عام 1623م وكان السلطان الأخير في قرن الثبات هو أضعفهم وهو السلطان محمد الرابع إبن السلطان إبراهيم الأول الذي حكم على ضعفه فترة طويلة جدا بلغت تسع وثلاثين عاما من عام 1648م إلى عام 1687م وهي ثاني أطول فترة حكم لسلطان عثماني بعد فترة حكم السلطان العثماني العظيم سليمان القانوني والتي بلغت 46 عاما من عام 1520م وحتي عام 1566م .
وقد بدأ السلطان محمد الثالث حكمه بجريمة نكراء وكارثة إنسانية غير مسبوقة في التاريخ البشرى وهي كارثة قتل تسعة عشر أخا هم كل إخوته في يوم واحد وهو يوم 28 يناير عام 1595م بحجة أن يضمن إستقرار الحكم له ولا يوجد كلام يصف مثل هذه المذبحة المروعة والتي لا يقاربها في السوء إلا فعلة أبيه الراحل السلطان مراد الثالث عندما قتل إخوته الخمسة عند بداية حكمه أيضا في عام 1574م ولعل هذه القسوة المبالغ فيها كانت هي أهم ما ورثه هذا السلطان عن أبيه ولا ندرى أين كان العلماء ورجال الدولة وأمهات القتلى وأفراد الشعب وكيف تواطأ الجميع على قبول هذه الجريمة الشنعاء وكيف دارت الأمور بشكل طبيعي بعد ذلك في الدولة وكيف تعامل الناس مع هذا سلطان القاتل كحاكم وقائد للدولة بما يمثل في الواقع لغز محير لا نجد له تفسيرا منطقيا ونذكر هنا الحديث النبوى الشريف فعن إبن عمر رضي الله عنهما أن رسول اللهِ ﷺ قال لن يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دما حَرَامًا وقد وصف الله سبحانه وتعالي في سورة المائدة الذى يقتل أخا واحدا له بالخاسر فقد قال الله تعالى فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِين فكيف بمن قتل 19 أخا ومما يزيد من حجم المأساة أن نعلم أن معظم هؤلاء الضحايا الذين قتلهم السلطان محمد الثالث كانوا لم يصلوا إلى سن البلوغ كما تتعاظم الكارثة عندما نعلم أن الضحايا كانوا يعيشون في قصر واحد مع أخيهم السلطان ولم يكونوا متفرقين في الأمصار حتى يتم التعلل بأن عاطفة الأخوة غير موجودة للتباعد بينهم ولا يمكننا أن نتخيل حالة الذعر التي عاشها أهل القصر في هذا اليوم الكئيب وكيف دخل السلطان قصره بعد ذلك وقد وارى إخوته تحت التراب في يوم واحد ويقول المؤرخ الأميريكي جابريل بيتربيرج عن هذه الحادثة إنها قد سببت صدمةً للعثمانيين والأجانب على حد سواء وعندما وصل خبر هذه الفاجعة إلى إمبراطور المغول المسلمين في بلاد الهند المعاصر جلال الدين أكبر علق عليها بقوله إنه لمن العجب أن يستمر إزدهار الدولة العثمانية مع حدوث مثل هذا العمل البربرى وأحسب أنه لو إستمرت إمبراطوريتهم قوية فإن هذا سيكون عقابا من الله للبشرية والواقع أن الإمبراطورية العثمانية ظلت قوية ولكنها لم تكن عقابا إلهيا كما توقع الإمبراطور جلال الدين أكبر إذ لم ينتهج السلاطين العثمانيون بعد ذلك هذا النهج الإجرامي عند توليهم الحكم ولهذا لم يخسف الله بها على الرغم من بشاعة الجرم الذي رأيناه وقد مرت هذه الحادثة البشعة فيما يبدو بسلام وبدأ السلطان الجديد محمد الثالث في التعامل مع ملفات الدولة المفتوحة من عهد أبيه السلطان الراحل مراد الثالث وكأن شيئا لم يكن وعموما فبعيدا عن هذه الفاجعة يمكن لنا أن ندرس عهد هذا السلطان تحت ستة عناوين وهي طريقة قيادة الدولة والحرب العثمانية النمساوية وتمردات الأناضول وإعدام ولي العهد الشاهزادة محمود وإشتعال الحرب العثمانية الصفوية ثم أخيرا نظرة إجمالية على فترة حكم السلطان محمد الثالث .
وبخصوص العنوان الأول وهو طريقة قيادة الدولة فقد تأكدت في عهد السلطان محمد الثالث سلطنة النساء حيث كان السلطان الجديد واقعا بشكل مبالغٍ فيه تحت تأثير أمه صفية سلطان التي كانت تتحكم في سير كبير الأمور وصغيرها وكان لها دور مباشر في تعيين الوزراء والصدور العظام وكان من نتائج ذلك أن إنتشر الفساد في الدولة ووصل إلى القيادات والوظائف الكبرى عدد من غير المؤهلين كما ظهر الإنكشارية كقوة خطرة في الدولة يمكن أن تحدث قلاقل مؤثرة في ظل وجود سلطان ضعيف ومع ذلك لم تبد منهم تمردات كبرى في عهد السلطان محمد الثالث وكانت الحسنة التي تحسب له هي خروجه بنفسه على رأس حملة عسكرية في عام 1596م كما سنذكر في السطور التالية وكانت هذه هي المرة الأولى منذ عام 1566م في أواخر عهد السلطان سليمان القانوني التي يخرج فيها سلطان على رأس الجيش وفي الحقيقة فقد كان لخروج السلطان محمد الثالث في هذه الحملة أثر إيجابي ملموس على الجيش وإذا ما إنتقلنا إلي العنوان الثاني في عهد السلطان محمد الثالث وهي إستمرار الحرب العثمانية النمساوية والتي كانت قد بدأت في عام 1593م أي في عهد السلطان الراحل السابق مراد الثالث وكانت الأمور سجالا بين الدولة العثمانية والنمسا لولا تمرد أمراء الأفلاق وترانسلڤانيا والبغدان مما أدى إلى تأزم الموقف وحقق النصارى عدة إنتصارات على العثمانيين في الأفلاق والبغدان وكون البابا في نهاية عام 1594م تحالفا صليبيا يهدف إلى الضغط بصورة أكبر على الدولة العثمانية وكان السلطان محمد الثالث قد تسلم الحكم في بداية عام 1595م والكفة العسكرية في صالح الصليبيين وإستمر الضغط على العثمانيين خلال عام 1595م كله حيث إستطاع النمساويون أن يسقطوا قلعة إزترجوم المهمة في غرب المجر التي كان قد فتحها السلطان سليمان القانوني عام 1543م بل عبر أمير الأفلاق مايكل المعروف بالشجاع نهر الدانوب مقتحما عمق الأراضي العثمانية حتى وصل إلى مدينة إدرنه القريبة من العاصمة إسطنبول وكانت هذه هي المرة الأولى التي يصل فيها جيش نصراني إلى هذه المدينة منذ أن فتحها العثمانيون من بيزنطة عام 1362م وكان رد فعل العثمانيين قويا وإستطاعوا القيام بهجوم مضاد حققوا فيه نصرا أوليا ودخلوا مدينتي بوخارست وتارجوفيشت والأخيرة هي عاصمة الأفلاق وعلى الرغم من هذه الإستفاقة العثمانية إستطاع أمير الأفلاق بمساعدة قوات من ترانسلڤانيا القيام بهجمة معاكسة شاملة إستطاع فيها أن يسترد مدينة تارجوفيشت في يوم 18 أكتوبر عام 1595م ثم بوخارست بعدها بأربعة أيام وأخيرا چورچيو في يوم 26 أكتوبر عام 1595م وعلى هذا الوضع إنتهى عام 1595م وفي العام التالي 1596م أخذ السلطان محمد الثالث القرار الصحيح الوحيد تقريبا في حياته وقرر الخروج بنفسه على رأس حملة عسكرية لحرب النمسا في معركة فاصلة وكان الجيش العثماني مكونا من ثمانين ألف مقاتل وفي رواية أخرى مائة وأربعين ألف مقاتل وخرج الجيش العثماني من إسطنبول في يوم 23 يونيو عام 1596م ووصل إلى بلجراد في يوم 9 أغسطس عام 1596م وبعدها بعدة أيام إنطلق الجيش ناحية الشمال وكانت وجهته قلعة إيچر شمال شرق بودابست في المجر وهي قلعةٌ حصينةٌ لم ينجح السلطان سليمان القانوني نفسه في فتحها عام 1552م وكانت هذه القلعة إستراتيجيةً وتسيطر على عدة محاور في شمال المجر وبعد حصار لمدة ثلاثة أسابيع وفي يوم 12 أكتوبر عام 1596م سقطت القلعة في يد العثمانيين وبذلك تحقق نجاح كبير في أول صدامات الحملة بهذا الفتح المتميز والذى منح السلطان محمد الثالث في التاريخ العثماني لقب فاتح إيچر وبعد هذا النصر وصلت الأنباء بقدوم جيش صليبي كبير تفاوتت المصادر في تحديد حجمه فبينما تذكر المصادر الأوروبية أن عدده كان 40 ألف جندى بينما تذكر المصادر التركية أنه تجاوز 300 ألف جندى .
وكان هذا الجيش مكونا من جنود مرتزقة مجموعين من خمس عشرة دولةً أوروبية بأمر من البابا وكان تحت قيادة مشتركة لأرشيدوق النمسا ماكسيميليان الثالث وهو شقيق الإمبراطور النمساوى أدولف الثاني والأمير سيجيسموند باثوري أمير ترانسلڤانيا وتحرك الجيش العثماني حوالي 20 كيلو مترا شرق قلعة إيچر المفتوحة حديثا وعسكر في سهل ميزوكيريزتيس والذى يعرف في اللغة التركية بسهل هاجوڤا أى سهل الصليب ويبدو أن هذه التسمية كانت بسبب التجمع العالمي للجيوش الصليبية فيه ويقع هذا السهل على بعد 120 كيلو متر تقريبا شرقي مدينة بودابست وفيه جرت موقعةٌ من أشرس المواقع في التاريخ العثماني وبدأ القتال في يوم 25 أكتوبر عام 1596م وكانت الغلبة في هذا اليوم بشكل واضحٍ للجيوش الصليبية وفي نهاية اليوم كان الرأى العام لقادة الجيش العثماني بما فيهم السلطان محمد الثالث في إتجاه الإنسحاب منعا لكارثة عسكرية كبيرة ومع ذلك قام شيخ الإسلام والمؤرخ خوجة سعد الدين أفندى وكان مصاحبا للحملة بتحميس السلطان وذكر له أنه منصور وأن الجيش إذا رآه على صهوة جواده فإنه سيستعيد قوته ويقلب الهزيمة إلى نصر فتحمس السلطان وأصدر أوامره في اليوم التالي 26 أكتوبر عام 1596م بإستئناف القتال وكان الهجوم العثماني مفاجئا للقوات الصليبية التي إعتقدت أن المسألة قد حسمت في اليوم السابق وشارك في الهجوم العثماني كل رجال الحملة بما فيهم عمال النقل والطباخين وعمال نصب الخيام وكان الصدام مروعا وكان عمل المدفعية العثمانية في المعركة كبيرا وإنتهت المعركة في هذا اليوم بنصر كاسحٍ للعثمانيين وهزيمة فاضحة للصليبيين وقتل من الجيش الصليبي في هذه المعركة 23 ألف جندى وفي المقابل إستشهد من العثمانيين 20 ألف وقد أعاد هذا الإنتصار الكبير إلى الذاكرة إنتصار السلطان سليمان القانوني على المجريين في موقعة موهاكس عام 1526م ومع ذلك فهناك فرق دقيق بين المعركتين وهو القدرة على الإستفادة من الحدث وإستغلاله لتحقيق أفضل النتائج فبينما إستغل القائد المحنك السلطان سليمان القانوني الإنتصار الكبير في موهاكس أفضل إستغلال ففتح المجر ورسخ الوجود العثماني في هذه المنطقة لمدة قرن ونصف من الزمن بينما لم نجد هذا الإستغلال للنصر في موقعة ميزوكيريزتيس من السلطان محمد الثالث حيث أخذ جيشه والغنائم وإنسحب قافلا إلى إسطنبول دون السعي لترسيخ قدم العثمانيين في المنطقة أو لغلق ملف الحرب مع النمسا بشكل حاسم وكان السبب في ذلك هو غياب الرؤية الإستراتيجية لقادة الدولة العثمانية في هذه المرحلة التاريخية وعدم وضوح الهدف من وراء الحرب حيث كانت الحروب مجرد ردة فعل للهجوم الصليبي على الدولة العثمانية وليست فيها روح الفتح والجهاد التي كانت عند الجيوش الأولى في عمر الدولة العثمانية وهذا هو الذي حرم الدولة من الإستفادة من مثل هذه الإنتصارات الكبرى ويفيد بعض المؤرخين بأنه لو أمضت العساكر العثمانية شتاء ذلك العام بالحدود ثم تقدمت في الربيع لكان أمكن فتح مدينة ڤيينا هذا وفي العام التالي لإنتصار ميزوكيريزتيس أي خلال عام 1597م لم تحدث معارك عسكرية كبرى مباشرة بين الطرفين فكانت فرصة لدى النمساويين لإسترداد عافيتهم وقوتهم ومن ثم إستعادوا في يوم 29 مارس عام 1598م قلعة چايور المهمة في غرب المجر التي كانت قد سقطت في يد العثمانيين في عام 1594م وأيضا في خريف هذا العام 1598م حاصر الجيش النمساوى مدينة بودابست وقصفها بشدة مما أدى إلى إحتراق 8 آلاف بيت فيها ولكنه لم يستطع إختراق تحصيناتها وفي الفترة من عام 1599م إلى عام 1601م تمكن أمير الأفلاق مايكل الشجاع من السيطرة على أقاليم الأفلاق وترانسلڤانيا والبغدان مجتمعة ومع ذلك فقد إغتيل عام 1601م بأمر الإمبراطور النمساوى أدولف الثاني لأنه أراد هذه الولايات لنفسه وقد جاء هذا الإغتيال في مصلحة العثمانيين حيث قبلت البغدان من جديد الولاية العثمانية عليها وإن ظلت الأفلاق وترانسلڤانيا خارج السيطرة وفي الوقت نفسه حدثت عدة معارك بين الجيشين العثماني والنمساوى وإستولى كل فريق على عدد من القلاع دون غلبة واضحة لأحد الطرفين وإستمر الحال على هذه الصورة إلى آخر عهد السلطان محمد الثالث دون نتائج صريحة لأى من الفريقين وكانت الحروب بين الطرفين بمثابة إستنزاف موارد الدولتين دون أى فوائد حقيقية .
وعن تمردات إقليم الأناضول فنتيجة لعوامل كثيرة منها الإقتصادية ومنها السياسية ومنها الدينية كانت تقوم على مدار القرن السادس عشر الميلادى وحتي منتصف القرن السابع عشر الميلادى عدة تمردات في إقليم الأناضول تحديدا وكانت هذه التمردات يتم دعمها في كثير من الأحيان من جانب الدولة الصفوية الشيعية كما كان يتم دعمها أحيانا من بعض رجال الجيش أو الإنكشارية الناقمين على الحكم لأى سبب فكان إقليم الأناضول مسرحا مناسبا لذلك لوجود العائلات التركية الكثيرة المنافسة للعثمانيين وكذلك للنشاط الشيعي للدولة الصفوية فضلا عن ثورات المرتزقة الفلاحين الذين كانوا يلتحقون بالجيش العثماني في أوقات المعارك فكانوا يثورون في أوقات هدوء الحرب لقلة الأجور وكان من هذه الثورات ما حدث في عهد السلطان محمد الثالث عام 1598م وإستمر حتي نهاية عهده في عام 1603م بعد أن أنهك الحكومة وسبب كثيرا من الخسائر وكان سببا في إنتشار الشائعات بحدوث مؤامرات خطرة لإزاحة السلطان عن العرش وكان من هذه التمردات ما أثاره جنود هاربون من معركة ميزوكيريزتيس كانت الدولة قد نفتهم إلى الأناضول وتلقبوا بالفرارين تحقيرا لهم وقد جاءت هذه الثورة في وقت حساس للغاية لإنشغال العساكر العثمانية بالحرب في أقاليم المجر إلا أن العثمانيين تمكنوا من محاصرتهم فإستسلم قائدهم مقابل أن يصبح واليا على أماسيا فوافق الخليفة إلا أنه عاد وقام بثورة جديدة فقتل رئيس المتمردين وتولى أخوه حسن المجنون أو دلي حسن من بعده قيادة الثورة وإستطاع هزيمة الجيش الذي أرسلته إسطنبول فإستمالته الحكومة بالأعطيات وأكثرت من الهدايا وعرضت عليه في عام 1603م ولاية البوسنة فقبل وبذلك تم إحتواء قائد التمرد وقد إستهدفت الدولة من ذلك إستعماله وجيشه الثائر على الثغور للإستفادة من قوته وجاء القدر في صف الخليفة حيث هلك جيش هذا المجنون في المناوشات المستمرة مع الجيوش المجرية والنمساوية وكان أيضا من الثورات التي حدثت في عهد السلطان محمد الثالث ثورة الخيالة في العاصمة إسطنبول وذلك لأن الدولة لم تستطع تعويضهم ماليا عما فقدوه من ريع إقطاعاتهم في إقليم الأناضول بسبب فتنة الفرارين فإستعانت الدولة بالإنكشارية لتقضي على الثورة وقضت عليها بالفعل بعد أن أفسدوا ونهبوا المساجد وغيرها مما وصلت أيديهم إليها وعموما فقد كانت هزائم العثمانيين في عهد السلطان محمد الثالث والثورات الهائلة التي حدثت في عصره قد أصبحت دليلا واضحا على ضعف النظام العسكري العثماني وعدم قدرته على حفظ الأمن الداخلي والسيادة على الأقاليم الخارجية .
وإذا ما إنتقلنا إلي مسألة إعدام ولي العهد الأمير محمود بن السلطان محمد الثالث فقد كان الباقي من أولاد هذا الأخير ثلاثة ذكور الأكبر وهو الأمير محمود وكان عمره 15 عاما وكان يعد هو ولي عهد أبيه والأوسط أحمد وكان عمره 13 عاما والأصغر مصطفى وكان عمره 12 عاما وكان قد مات للسلطان محمد الثالث الكثير من الأولاد خلال مدة حكمه وفي أوائل عام 1603م إنتشرت الشائعات في إسطنبول بأن هناك محاولات لدس السم للسلطان محمد الثالث بغية وصول الأمير محمود إلى الحكم والذى كان محبوبا على الرغم من صغر سنه عند الإنكشارية لميوله الجهادية وحبه للفروسية وكان يحاول أن يقنع والده بإعطائه إمارةً في الأناضول ليحكمها كنوعٍ من التدريب على القيادة كعادة الأمراء في الدولة العثمانية لكن كان والده السلطان يرفض دوما لكثرة التمردات في الأناضول كما أسلفنا وخطورة ذلك على الأمراء وقد دفعت هذه الميول القيادية عند الأمير محمود والده السلطان لتصديق الشائعات الزاعمة بإقتراب حدوث إنقلاب من الإنكشارية على السلطان لتنصيب ولي العهد وتم حبس الأمير وعذب للتأكد من الأمر وكانت ظلال تمردات الأناضول تخيم على الموقف آنذاك وتضاعفت المخاوف السلطانية من حدوث إنقلاب ضده وتضيف بعض المصادر أن والدة السلطان صفية لم تكن على وفاق مع أم الأمير محمود ولم تكن ترغب في وصوله للحكم أيا كان الأمر وأخيرا فقد صدق السلطان الشائعات وأصدر أمره المجنون بإعدام إبنه الذى لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره وتمت هذه الجريمة البشعة في يوم 7 يونيو عام 1603م وبعد تنفيذ الإعدام دخل الأب السلطان محمد الثالث غرفة الإبن القتيل ليطمئن على مفارقته للحياة وبعد الجريمة تم إلقاء من يعتقد أنهم مشاركون لولي العهد في محاولة الإنقلاب في البحر وهكذا بدأ السلطان حكمه بجريمة قتل تسعة عشر أخا وأنهاه بقتل إبنه وفلذة كبده ومن العجيب أن بعض المؤرخين وصفوا السلطان محمد الثالث بصفات النجابة والصلاح ويرى البعض الآخر أن هذه كانت شهادات مصطنعة يخرجها الديوان العثماني الحاكم لتحسين صورة غير حقيقية له فعلي سبيل المثال يصف البعض السلطان محمد الثالث بأنه كان عظيم القدر مهيبا جوادا عالي الهمة مظفرا في وقائعه وقورا أريبا وجيها صالحا عابدا ساعيا في إقامة الشعائر الدينية مراعيا لأحكام الشريعة الشريفة مطيعا لأوامر الله منقادا لما يقرب إليه وأنه كان يقوم من مقامه عندما يسمع إسم النبي محمد صلي الله عليه وسلم إجلالا وإحتراما لمقامه وفي الحقيقة فإن مثل هذه الشهادات هي التي تضيع على المؤرخين فعلا فرصة الإستفادة من دروس التاريخ حيث يرى البعض أنه من المؤكد أن من يصفونه بالوصف السابق يتحدثون عن رجل آخر غير هذا السلطان الذى أبسط ما يمكن وصفه به أنه كان مجرما أثيما قتل إخوته التسعة عشر دون جريرة ولا ذنب ثم أكمل جرمه بإعدام إبنه الأكبر لمجرد شكوك بدون أى دليل والذى أسلم قياده لأمه لكي تتحكم فيه وفي مسار الدولة كيفما شاءت وقد يكون تعاطف البعض مع هذا السلطان راجع لخروجه على رأس حملة عسكرية بعد إنقطاع السلاطين العثمانيين عن الجهاد لمدة ثلاثين عاما أو لتحقيقه النصر المجيد في معركة ميزوكيريزتيس ولكن هذان الأمران من المؤكد أنهما لا يكفيان لوصفه بهذه الأوصاف الكريمة وقد يكون المخرج الوحيد لهذا الرجل هو أن يكون مصابا بنوعٍ من الإختلال العقلي الحقيقي وهذا في الحقيقة محتمل من الناحية الطبية لأننا سنتبين من دراسة التاريخ اللاحق له أن إبنه مصطفى كان مريضا بمرض عقلي حقيقي وكذلك حفيده إبراهيم بن أحمد فلا يستبعد إذن أن يكون هو أيضا من المرضى ويكون الداء وراثيا في الأسرة لكن تبقى المشكلة في الحكومة والعائلة والوزراء والعلماء والفضلاء الذين قبلوا بولاية رجل مختل للحكم على هذه الصورة .
والآن نتجه إلي الجبهة الشرقية للدولة العثمانية ففي أواخر عهد السلطان محمد الثالث إشتعل من جديد الصراع العثماني الصفوى وبالعودة إلي الخلف قليلا فقد كانت الدولة الصفوية قد دخلت في عصر ضعف شديد في عهد الشاه محمد خدابنده مما أعطى الدولة العثمانية الفرصة في عهد السلطان مراد الثالث للسيطرة على مناطق كثيرة تابعة للدولة الصفوية في شرق إقليم الأناضول وچورچيا وداغستان وأذربيچان وأرمينيا وشمال غرب إيران كما أعطى هذا الضعف الفرصةَ إلى الأتراك الأوزبك في شرق إيران للسيطرة على إقليم خراسان وهكذا تقلصت مساحة الدولة الصفوية جدا شرقا وغربا وشمالا وفي عام 1588م صعد إلى الحكم الشاه عباس الأول وكان في السابعة عشرة من عمره ويعتبر هذا الشاه هو أقوى حكام الدولة الصفوية في كل تاريخها بل لعله أقوى ملوك إيران بعد الإسلام وقد حكم إحدى وأربعين عاما نقل فيها إيران نقلةً ضخمةً على المستوى العالمي وقد أدرك الشاه عباس الأول أن مشكلته الداخلية في ضعف نظام الدولة وسوء حالة الجيش الذى يقاتل بالطرق القديمة البدائية وكانت أكبر من مشاكله الخارجية مع الدولة العثمانية والأوزبك ولذلك بدأ بترتيب أوراقه الداخلية بحكمة فعقد في عهد السلطان مراد الثالث معاهدة إسطنبول مع الدولة العثمانية عام 1590م وهي معاهدة إشترى فيها السلام المؤقت مع العثمانيين في مقابل الإعتراف لهم بكل ما سيطروا عليه من أراض صفوية في الحروب السابقة وفعل الشئ نفسه مع الأوزبك وإلتفت بعد ذلك بسرعة إلى بنيان الدولة الداخلي وقلص الشاه عباس من صلاحيات القزلباش وهم الحرس القديم وكانوا في مقابل الإنكشارية عند العثمانيين وبدأ في تكوين نظام حديث يعتمد على دماء جديدة وكون نظام الغلمان وهو نظام إعتمد على أطفال وشباب من القوقاز وچورچيا وأرمينيا وإستخدمهم في دواوين الدولة الداخلية وكذلك في القوات العسكرية وقام أيضا بتحديث الجيش وزوده بالمدفعية المتطورة وإستعان في ذلك ببعض العسكريين الأوروبيين وخاصةً من إنجلترا وفضلا عن ذلك فقد إهنم الشاه بالإقتصاد والعلوم والمعمار وغير ذلك من أمور الدولة الداخلية وكان في كل ذلك مستعينا بالخبراء الأوروبيين وبعد عشر سنوات من العمل أدرك الشاه عباس الأول أن دولته صارت قادرة على إسترداد ما أخذه الأوزبك والعثمانيون من أرضها ولكنه رتب أولوياته فبدأ بالأوزبك الأضعف وأجل العثمانيين الأقوى وفي الفترة من عام 1598م إلى عام 1603م إستطاع الشاه عباس الأول أن يحقق إنتصارات كبرى على الأوزبك وأن يسترد إقليم خراسان الشرقي بل سيطر أيضا على مدن أفغانية في الشرق كان منها مدينتا هيرات وبلخ وبذلك تم تأمين الحدود الشرقية والشمالية الشرقية للدولة الصفوية تماما وبعدها نقل عاصمته من مدينة قزوين إلى مدينة أصفهان ليتفرغ بعدها للدولة العثمانية التي كانت منشغلةً تماما في الحرب النمساوية وكذلك في تمردات الأناضول .
وقامت الدولة الصفوية بإنتهاز الفرصة والظروف السيئة التي تمر بها الدولة العثمانية وفاجأ الصفويون الدولة العثمانية بهجوم مباغت في يوم 26 سبتمبر عام 1603م إستعادوا به مدينة نهاوند وقبل أن يفيق العثمانيون من الصدمة تمكن الشاه عباس الأول من إسترداد مدينة تبريز في يوم 21 أكتوبر عام 1603م ولم يتمكن العثمانيون من الفرار من المدينة وذبح الصفويون معظمهم وفي الشهر نفسه إستطاع الصفويون إسترداد مدينة نخشوان المهمة في أذربيچان وأخيرا ففي يوم 15 نوفمبر عام 1603م ضرب الشاه عباس الأول الحصار على مدينة أريڤان عاصمة أرمينيا وبهذه الإنتصارات عاد ولاء كل هذه المناطق إلى الصفويين مباشرة وكانت بذلك خسارة العثمانيين فادحة ولما وصلت إلي إسطنبول أنباء الهجوم الكاسح من الصفويين على الجبهة الشرقية للدولة الشرقية وماحققه الصفويون من إنتصارات بينما كانت الجيوش العثمانية ما زالت غارقة في مستنقع النمسا في الناحية الغربية من الدولة ويبدو أن السلطان محمد الثالث لم يتحمل هذه الضغوط مجتمعة فمات دون سبب واضحٍ في يوم 18 رجب عام 1011 هجرية الموافق يوم 22 ديسمبر عام 1603م وهو في السابعة والثلاثين فقط من عمره وتشير بعض المصادر إلى موته مسموما ولكن لم يكن هذا على وجه اليقين وقد ترك السلطان محمد الثالث دولته وهي في وضعٍ خطر حيث كانت الجبهتان الغربية والشرقية مشتعلتين الأولى بالحرب مع النمسا والثانية بالحرب مع الصفويين كما تركها في وضعٍ متأزم آخر نتيجة صغر سن ولي العهد الجديد وهو الأمير أحمد الذى كان لم يبلغ الرابعة عشرة من عمره بينما كان أخوه مصطفى في الثانية عشرة من العمر ولحسن الحظ وعلى الرغم من صغر سن السلطان الجديد الذى حمل إسم أحمد الأول عند ولايته فإنه كان جديرا بالحكم وكانت له بعض الإسهامات المهمة في التاريخ العثماني حيث كان يتميز بالحكمة والكفاية بحيث أنه أدرك في هذه السن المبكرة التي تولى فيها الحكم مدى التدهورَ الذى وصلت إليه مكانة السلطان الجالس علي عرش الدولة مما أثر بالسلب على إدارة الدولة ومن ثم سعي بكل طاقته لوضع حد لهذا التدهور وبالفعل فقد عقد معاهدة مع النمسا وأخرى مع الدولة الصفوية وقد تجعل هذه المعاهدات بعض المؤرخين يظن فيه الضعف وقلة الخبرة والحنكة السياسية بسبب ما كان فيها من تنازلات حدثت للمرة الأولى في تاريخ الدولة العثمانية ولكن على العكس من ذلك يرى آخرون إن ما وصل إليه السلطان أحمد الأول ورجال حكومته لم يكن هناك أفضل منه في تلك المعاهدات فليست الحكمة هي التحجر والتعنت في المواقف حتى تخسر الدولة كل شئ إنما الحكمة أن يدرك القائد والمفاوض إمكانات دولته وكذلك إمكانات عدوه ويخرج بأقل الخسائر إن كان لا بد من خسارة وهكذا نستطيع أن نقول إن السلطان أحمد الأول قد إستطاع أن يوقف نزيف الدولة وكان سببا مباشرا في ثبات مستوى الدولة العثمانية وعدم تراجعه خلال عهده .
وكان للسلطان أحمد الأول عند ولايته أخ واحد هو الأمير مصطفى الأول والذى كلن يصغره بسنتين كما أسلفنا ولم يفعل السلطان أحمد الأول مثلما فعل أبوه السلطان محمد الثالث أو جده السلطان مراد الثالث عندما قتلا إخوتهم عند توليهما العرش تأمينا لعرشيهما إنما أَرسل الأمير إلى القصر القديم ليعيش مع جدته صفية وجدير بالذكر أن كثير من المؤرخين يكرر مقولة إن السلطان أحمد الأول هو أول من أبطل عادة قتل السلاطين العثمانيين لأخوتهم عند ولاية العرش وفي الحقيقة إن هذه الجملة بها خطأ تاريخي يبدو متعمدا من بعضهم وهذا الخطأ في كلمة عادة حيث أنها تعطي الإنطباع بأن التاريخ العثماني قبل السلطان أحمد الأول كان يشهد بإستمرار قتل السلاطين لإخوتهم بطريقة منظمة بمجرد الصعود للعرش وهذا في الواقع إفتراء فهذه الجريمة المنظمة جريمة قتل الأخوة جميعا عند تولي الحكم لم يقم بها إلا سلطانان فقط هما مراد الثالث وإبنه محمد الثالث وليست هذه الجريمة عادة في التاريخ العثماني وبالفعل فقد تقاتل قبل ذلك إخوة السلطانين محمد الأول جلبي وسليم الأول على العرش لكن هذا القتل المنظم لم يحدث إلا مرتين فقط كما ذكرنا وكان هذا الإجراء البشع في هاتين المرتين لا يستند إلى أى قاعدة شرعية سليمة وقد دافع البعض عن هذه الجريمة الشنعاء بزعمهم وجود فتوى تبيح هذا القتل الجماعي لتحقيق الإستقرار ودرء فتنة تفكك الدولة عند تصارع الأشقاء علي السلطنة ويستندون في ذلك إلى الآية الكريمة في سورة البقرة والفتنة أشد من القتل وإلى القاعدة الفقهية المعروفة بأن درء المفاسد مقدم على جلب المنافع لكن كل هذا لا وزن له في الحقيقة في ميزان العلم الشرعي فالأشقاء هنا لم يفعلوا شيئا ضارا ولم يثيروا فتنة ولم يدبروا مؤامرة ولم يقاتلوا من أجل العرش إنما كانت كل جريرتهم أنهم أشقاء للسلطان الذى تولي السلطنة فكيف يفتي عالم بجواز قتلهم بلا ذنب أو جريرة ويدعي بعضهم كذلك أن كلا من السلطان مراد الثالث وإبنه السلطان محمد الثالث كانا ينفذان القانون العثماني المعروف تاريخيا بإسم قانون نامه الذى وضعه السلطان العثماني السابع العظيم محمد الفاتح فيما عرف بقانون قتل الأخوة وفي الحقيقة فإن هذا إفتراء على الحقيقة فالسلطان العظيم محمد الفاتح لم يأمر بقتل الأخوة عند إعتلاء العرش إنما ذكر في قانونه أن من حقِ السلطان الشرعي الذى تولي الحكم أن يقتل المتصارع معه على الحكم حتي ولو كان أخاه وشتان الفارق بين المقولتين .
|