بقلم/ جهاد ناصر
دائمًا ما يأمل الفرد في كسب الحياة الدنيا ليفوز بنعيم الأخرة، وهو ما سعى إليه المصري القديم منذ أقدم العصور، إذ أدرك أن أعماله الدنيوية الصالحة ما هي إلا لبنة في سبيل خلود الأخرة. وعليها أتخذ من النصوص ما يعوله على عبور طرق العالم الآخر بسلام ليسعد بالخلود، ولكي يحصل عليها لابد من النجاح في قاعة المحكمة حيث توزن أعماله، ويحصل على ريشة الماعت رمز البراءة.
حمل المتوفى الفائز بالجنة وحصل على الخلود العديد من الألقاب ما بين: معبود إذ ساوى المصري بين المعبودات التي يقوم على عبادتها وبين الفرد الذي حصل على البراءة في قاعة المحكمة، والأتباع وهم التابعين للمعبودات السائرين على نهجهم، ولم يحيدوا عن دربهم، كذلك عرفوا بالنورانيين، وصادقي الصوت أي الذين يتكلمون كلام الحق، ولا ينتابهم أي سوء، بالإضافة إلى الغرقى أو ما يمكن أن نطلق عليهم مجازًا الشهداء، فكما كان الغريق في الإسلام من الشهداء- إذ ذكر الرسول ﷺ الشهداء سبعة من دون القتل، وكان من بينهم الغريق - هكذا أعتبرهم المصري القديم، فضلًا عن المبجلين ولكي يفوز بها المتوفى لابد من توافر شروط تشير إلى حالته الاجتماعية، وهي وظيفة تمكنه من مزاولة مهنة حرفية، وذرية لتولي أمور الطقس الجنزي، هكذا عُرف أبرار العالم الآخر.
سُطر على جدران المقابر والتوابيت بل والبرديات مناظر لنعيم الجنة، والذي فيها ساوى الفنان بينها وبين مصر، فكانت الحقول والأنهار والجزر والبحيرات ينعم فيها المتوفى. لم يعتمد المتوفى الاعتماد الكامل على قرابين الحياة الدنيا، بل اعتمد كذلك على حقول العالم الآخر التي يمنحها إياهم المعبود، فيقوموا على إنتاجها، أو من خلال هبات المعبود نفسه.
قد تنوعت الحقول التي مُنحت للمتوفى المبرأ فكانت حقول الإيارو غاية كل متوفى، واحدى أمانيه، فهو المكان الذي يعيش فيه أرواح الموتى مع الآلهة حياة أبدية خالدة، وهناك أيضًأ حقول الحتب والذي ظن القدماء أنها هي مركز جنة العامة على الأرض بالقرب من إيونو "هليوبوليس"، والذي رفعه رع للسماء بعدما تخلى عن عالمه الدنيوي، كذلك حقل ور- نس، وغيرها من الحقول، وفيهم لم يكن على المتوفى القيام بعملية الزراعة فحسب بل كان هناك مزارعين مكلفين بتوفير المؤن التي يهبها المعبود لأتباعه الأخيار، وقد ارتبطت الحقول بالقمح والشعير حيث تنمو بغزارة.
بالإضافة إلى الحقول كانت هناك الأنهار كالمياه الأزلية المعروفة باسم "نون" والتي فيها غرق الموتى المكرمين وقد أوضحت النصوص طرق النجاة من الغرق والوصول إلى الأمان. وأيضًا هناك بحيرة النار وهي حد فاصل بين الطريقين البري والمائي، وعلى المتوفى المبرر أن يعبر أحداهما، وعلى الرغم أن بحيرة النار كانت مكان لعقاب المذنبين إلا إنها مكان صور فيها الموتى الأبرار وأمامهم مؤنتهم من الشعير، وعليها كانت البحيرة للعقاب والثواب، وهناك أيضًا بحيرة الحياة والتي فيها يتطهر المتوفى من الذنوب والخطايا، وغيرها العديد من الأماكن التي مُنحت للمتوفى.
لم يتوقف الأمر على ذلك بل كان هناك مكرمين راقدين في توابيتهم ينعمون بالراحة والسكينة، لم يكن لديهم أي مهام مُوكلة، بل يمن عليهم رع بالعبور فيبعث فيهم الروح فيعودا للحياة، ويتنفسون أنفاس الحياة ويتشرفون بضوء شمسه. هذا هو الخلود في الفكر المصري القديم، وهكذا كان نعيم الجنة صورة مصوره لهبه الحياة مصر أم الدنيا، جنة الله على الأرض.
|