بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا”
رجاء بن حيوة هو التابعي والفقيه والخطاط والذى يكنى بأبي المقدام رجاء بن حيوة الكندى الشهير بإبن جرول وقيل إبن جزل وقيل إبن جندل أبو نصر الكندى الأزدى ويقال عنه أيضا الفلسطيني الفقيه وهو من جلة التابعين هو وجده جرول بن الأحنف وإشتهر بأنه أحد المهندسين الإثنين اللذين أشرفا على تفاصيل الزخارف والنقوش الإسلامية داخل مسجد قبة الصخرة في مدينة القدس الشريف الذى تم تشييده في عهد الخليفة الأموى الخامس عبد الملك بن مروان بن الحكم والذى يعد المؤسس الثاني للدولة الأموية بعد مؤسسها الأول الخليفة الأموى الأول معاوية بن أبي سفيان والذى عينه وزيرا ومستشارا له بعد أن ذاع صيته بين العلماء كما أنه كان من مستشارى الخليفة الأموى السادس الوليد بن عبد الملك وخليفته الخليفة الأموى السابع سليمان بن عبد الملك وممن أشار عليه بتولية إبن عمه عمر بن عبد العزيز بن مروان من بعده نظرا لأن أولاده كانوا صغارا ولا يصلحون للخلافة وهو الأمر الذى تحقق بالفعل ومع تولي هذا الأخير الخلافة ظل ملازما له ولم يصاحب خليفة بعد وفاته وكان مما قيل عنه ما قاله أبو نعيم الأصبهاني بأنه الفقيه المفهم المطعام مستشار الخلفاء والأمراء رجاء بن حيوة أبو المقدام وكان ميلاد رجاء بن حيوة علي الأرجح في عام 40 هجرية الموافق عام 660م في بيسان في فلسطين لعائلة كانت في الأصل مسيحية من نصارى فلسطين ثم دخلت في الإسلام وشهد أبوه حيوة فتح فلسطين وخطبة الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب في أهلها بعد تسلمه مفاتيح مدينة القدس الشريف وتتلمذ أبوه على يد الصحابي الجليل معاذ بن جبل الذى كان ضمن الجيوش التي فتحت الشام والتي كان يقودها الصحابة الأجلاء سيف الله المسلول الصحابي خالد بن الوليد وأمين الأمة الصحابي أبي عبيدة بن الجراح وداهية الحرب الصحابي عمرو بن العاص والصحابيين الجليلين يزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة وعلاوة علي ذلك فقد كان جده جرول بن الأحنف الكندى من الصحابة الذين أدركوا النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وروى عنه حديثا وأقبل رجاء علي العلم منذ نعومة أظافره وتعلم على يد ثلة من الصحابة الأخيار وعلى يد أمهات المؤمنين حيث تعلم في البداية القرآن الكريم وتفسيره وبلغ من العلم مكانة كبيرة دفعت مكحول أحد أئمة التابعين عندما تعرض له مسألة يقول سلوا شيخنا يريد رجاء بن حيوة وبعدما تعلم رجاء القرآن الكريم وحفظه في بيت المقدس بدأ يتعلم علومَ الفقه والشريعة والحديث النبوى الشريف على يد العديد من الصحابة الأجلاء الكبار مثل عبادة بن الصامت الأنصارى وأبي أمامة وأبي سعيد الخدرى وأبي الدرداء الأنصارى ومعاوية بن أبي سفيان وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهم فكان هؤلاء الصحابة العلماء الأجلاء مصابيح بمثابة هداية ومشاعل عرفان له وشيئا فشيئا ذاع صيت رجاء حتى أصبح واحدا من أعلم فقهاء ومشاهير فلسطين والشام قاطبة وكان بعض كبار أئمة وعلماء الأمة في عصره يقول عنه رأيتُ ثلاثة ما رأيت مثلهم محمد بن سيرين ببلاد العراق والقاسم بن محمد بالحجاز ورجاء بن حيوة بالشام وكان من اللافت للنظر أن رجاء لم يكن يرى كما كان يرى بقية علماء الشام وزهادهم آنذاك أن الزهد يقتصر على القيام بالفرائض والنوافل وقمع الشهوات والإعراض عن الملذات والترغيب في الآخرة بل كان يرى أنه إلي جانب ذلك عمل وإجتهاد ومشاركة في الحياة العامة والإشراف عليها والعمل على وحدة الأمة ولهذا السبب إنخرط رجاء في جهاد الروم البيزنطيين والعمل في دواوين الأمويين مثل ديوان الرسائل والذى يعد بمثابة وزارة الخارجية في عصرنا الحالي ومن ثم كان إقتراب رجاء بن حيوة من الخلفاء الأمويين منذ زمن الخليفة الأول معاوية بن أبي سفيان ويبدو أن هذه العلاقة كنت قد بدأت منذ ما قبل خلافة معاوية حين كان واليا على الشام ففي الطبقات الكبرى لإبن سعد البصرى نرى رجاء يأخذ الحديث النبوى الشريف مِن معاوية بن أبي سفيان في حديث مَن يُردِ اللهُ به خيرا يُفقِّهه في الدين .
وبعد إنتقال الخلافة الأموية إلى البيت المرواني بداية من عام 64 هجرية الموافق عام 683م على يد الخليفة الأموى الرابع مروان بن الحكم أصبح رجاء بن حيوة من المقربين لهذه الأسرة لما رأوه فيه من نزاهة وعلم وإنخراط حكيم في شؤون الدولة الإدارية وسعيه الحثيث لتوحيد راية الأمة بعدما إنقسمت من جديد بين الصحابي عبد الله بن الزبير بن العوام رضي الله عنهما وعبد الملك بن مروان وقد إختار رجاء أن يكون في صف الأمويين وفق تقديره للظروف وقراءته للواقع آنذاك ومن اللافت للنظر أن عبد الملك بن مروان قبل خلافته كان من فقهاء وعلماء المدينة المنورة السبعة المشاهير من جيل التابعين الكبار وهو في هذا مثل رجاء وإن كان عبد الملك أصغر سنا وعلي الرغم من ذلك كان رجاء يحدث عن عبد الملك بن مروان لغزارة علمه كما يخبرنا الذهبي في سير أعلام النبلاء ومن هنا ندرك أن علاقة رجاء بن حيوة بالبيت المرواني كانت كعلاقته بالبيت السفياني سابقا حيث كانت هذه العلاقة تقوم أولا على الصلة العلمية قبل السياسية وذاك زمان كان العلم والدين والسياسة تتداخل بشكل أوثق من يومنا هذا ولهذا عمل رجاء بن حيوة وسيطا دبلوماسيا في حرب الأمويين والزبيريين فقد كان كل من عبد الله بن الزبير بن العوام وأخوه مصعب بن الزبير في بلاد الحجاز والعراق يعملون على التوسع على حساب عبد الملك بن مروان في بلاد الشام ومصر وظل الطرفان في حروب ومناوشات إستمرت قرابة 10 سنوات منذ عهد يزيد بن معاوية بن أبي سفيان في أوائل عام 64 هجرية الموافق منتصف عام 683م حتي منتصف عام 73 هجرية الموافق أواخر عام 692م وكان عبد الله مقيما بالحجاز بينما كان مصعب بالعراق وكان أحد التابعين الكبار المؤيدين لمصعب بن الزبير بن العوام في العراق وهو زفر بن الحارث الكلابي يقود بعض هذه المواجهات فأرسل عبد الملك بن مروان رجاء بن حيوة لزفر لكي يدعوه إلى طاعته وأن يدخل في حلفه فقبل زفر المسالمة ولكنه إشترط عليه في أن يترك له ولقومه الخيار في من يبايعون فقبل عبد الملك بذلك وسار إلى العراق لقتال مصعب بن الزبير وكاتب عبد الملك زعماء أهل العراق وهو في طريقه لقتال مصعب يدعوهم إلى نفسه ويمنيهم بالوعود ومن جانب آخر كاتبه بعض أهل العراق يدعونه إليهم ويناصرونه بل ودعا عبد الملك مصعبا نفسه أن يعتزل الأمر وأن يخلي بينه وبين أخيه عبد الله بن الزبير لما كان بين عبد الملك ومصعب من صداقة قديمة إلا أن مصعبا أبى وإشتبك الفريقان في شهر جمادى الآخرة عام 72 هجرية الموافق شهر نوفمبر عام 691م عند دير الجاثليق وسرعان ما إنخذل جانب من أهل العراق عن جيش مصعب لتكون الغلبة للجيش الأموى وإنتهت المعركة بمقتل مصعب وسيطرة عبد الملك على العراق .
وبذلك أصبحت العراق بالإضافة إلي الشام ومصر في قبضة عبد الملك وإنحصر ملك عبد الله بن الزبير في بلاد الحجاز وعند هذه النقطة أرسل عبد الملك حملة بقيادة طارق بن عمرو مولى عثمان بن عفان إستطاعت السيطرة على المدينة المنورة بعد أن فر منها طلحة بن عبد الله بن عوف عامل عبد الله بن الزبير عليها وأقام فيها ينتظر ما يأمره به عبد الملك والذى وجد أن الفرصة قد سنحت للإجهاز على عبد الله بن الزبير فأرسل له جيشا ضخما بقيادة الحجاج بن يوسف الثقفي فنزل الطائف وجعل يبعث السرايا إلى عرفة فتقتتل مع سرايا إبن الزبير وتهزمها ثم أرسل الحجاج يطلب المدد ويستأذن عبد الملك في دخول مكة المكرمة لمحاصرة إبن الزبير فكتب عبد الملك لطارق بن عمرو في المدينة أن يلحق بالحجاج فلحق طارق بالحجاج في شهر ذى الحجة عام 72 هجرية الموافق شهر مايو عام 692م فنصب الحجاج المنجنيق على جبل أبي قبيس وشدد الحصار على مكة المكرمة حتى أصابت الناس مجاعة شديدة إضطر فيها إبن الزبير لذبح فرسه ليطعم أصحابه وتخاذل عنه معظم أصحابه حتى ولداه حمزة وخبيب واللذين أمنهما الحجاج على أنفسهما ومع إشتداد الحصار على إبن الزبير دخل على أمه أسماء بنت أبي بكر يشكو لها تخاذل الناس عنه فقالت له أنت والله يا بني أعلم بنفسك إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فإمض له فقد قتل عليه أصحابك ولا تمكن من رقبتك يتلعب بها غلمان أمية وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت أهلكت نفسك وأهلكت من قتل معك وإن قلت كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين وكم خلودك في الدنيا القتل أحسن ولما تخوف من أن يمثل به إذا قتل قالت له قولتها الشهيرة إن الشاة لا يضيرها سلخها بعد ذبحها فقبل رأسها وسألها الدعاء له وإنصرف عازما على مواصلة القتال ولم تمض إلا أيام قليلة حتى هجم الجيش الأموى على مكة المكرمة وقتل الكثيرون من أهلها ومن أصحاب إبن الزبير الذى قاتل قتالا شديدا حتى قتل وقتل معه عبد الله بن مطيع العدوى وعبد الله بن صفوان الجمحي وهو متعلق بأستار الكعبة المشرفة وكان ذلك في يوم الثلاثاء 17 جمادى الآخرة عام 73 هجرية الموافق يوم 2 نوفمبر عام 692م بعد أن حوصر في مكة المكرمة لأكثر من 8 أشهر وتم حز رأس عبد الله بن الزبير وأُرسل إلى عبد الملك بن مروان وصلب الحجاج بدنه منكسا عند الحجون بمكة فما زال مصلوبا حتى مر به عبد الله بن عمر فقال رحمة الله عليك يا أبا خبيب أما والله لقد كنت صواما قواما ثم ارسل للحجاج قائلا أما آن لهذا الراكب أن ينزل فأُنزل ودفن هناك بعد أن صلى عليه أخوه الأصغر عروة بن الزبير وكانت أمه أسماء يؤمئذ حية ثم توفيت بعد ذلك بأشهر بالمدينة المنورة عن عمر يناهز 98 عاما وبذلك إستتب الأمر لعبد الملك بن مروان في الحجاز أيضا . وكان من أهم وأعظم ما قام به رجاء بن حيوة في عهد عبد الملك بن مروان قيامه بالإشراف على بناء مسجد قبة الصخرة في حرم المسجد الأقصى الشريف بتكليف من قبل هذا الأخير وقد أعطاه من الذهب أطنانا في سبيل ذلك وإستمر إشرافه وعمله على تحقيق هذا المشروع الكبير طوال ست سنوات كاملة ما بين عام 66 هجرية الموافق عام 685م وحتي عام 72 هجرية الموافق عام 691م ولما إنتهى من بنائها وتوفر من نفقاتها مائة ألف دينار ذهب بما يقارب 25 مليون دولار حاليا فكتب رجاء إلى الخليفة عبد الملك يخبره بذلك فطلب منه عبد الملك أن يأخذ هو ومساعده الفقيه يزيد بن سلام هذا المبلغ نظير جهدهما الكبير لإتمام هذا المشروع العظيم لكنهما رفضا قائلين نحن أولى أن نزيد من حلي نسائنا فضلا عن أموالنا فأمرهما عبد الملك بصهر هذا الذهب وسبكه على قبة الصخرة وبهذه العفة عن النظر والتطلع إلى الأموال العامة جنبا إلى جنب مع دبلوماسيته الناجحة كسب رجاء ثقة أكبر من عبد الملك بن مروان الذى عينه خازنا لبيوت المال أى بلغة العصر وزيرا لمالية الدولة وأسند إليه مع ذلك مهمة تربية إبنه سليمان بن عبد الملك ثم أرسله برفقه أخيه بشر بن مروان حين ولاه العراق مستشارا له وأمره أن يصلي بالناس فكان مستشارا مؤتمنا وفي الوقت ذاته كان يلتقي بعلماء العراق فيأخذ منهم ويأخذون منه كما عين مستشارا لعبد العزيز بن مروان والي مصر وشقيق عبد الملك بن مروان وعلت منزلته عند الأسرة الأموية الحاكمة فكان من رأيه عدم قتل المشاركين في ثورة عبد الرحمن بن الأشعث المسلحة وهي إحدى أخطر ثورات العراق ضد الدولة الأموية والتي كادت أن تعصف بها فأخذ عبد الملك برأيه وعفا عنهم وكان إبن الأشعث قد خرج علي الدولة الأموية بعدما تولي الحجاج بن يوسف أمر العراق وجمع حوله الكثير من المؤيدين والأنصار والذين نادوا بعزل الحجاج في البداية ثم نادوا بعد ذلك بخلع عبد الملك بن مروان أيضا وإستمرت هذه الفتنة من عام 81 هجرية حتي عام 83 هجرية وكانت الغلبة في الغالب لإبن الأشعث إلا أن الحجاج تمكن في النهاية من تسليط قوته على كتيبة القراء التي كانت سر قوة جيش إبن الأشعث فإستطاع أن يفرق هذه الكتيبة ومن ثم تفرق جيش إبن الأشعث فتمكن الحجاج من القضاء على هذه الفتنة وقتل وأسر الكثيرَ من أتباع إبن الأشعث والذى قيل إنه قد مات منتحرا وقيل بأنه مات بمرض السل في عام 85 هجرية وبهذا إنتهت هذه الفتنة التي كانت سببا في سفك دماء الكثير من المسلمين وأَخلت بالأمن في بلادهم وعموما فنظرا لهذه المنزلة الكبيرة لرجاء بن حيوة إتخذه الخليفتان الوليد وسليمان إبنا عبد الملك بن مروان بن الحكم بعد أبيهما وزيرا ومستشارا وقيما ومشرفا على عمالهما وأولادهما وكان من مواقفه التي تدل على عمق فقهه وفهمه ما ذكره القرطبي في تفسيره عن إدريس بن يحيى حيث قال كان الوليد بن عبد الملك يأمر جواسيس يتجسسون الخلق ليأتونه بالأخبار فجلس رجل منهم في حلقة رجاء بن حيوة فسمع بعضهم يقع في الوليد فرفع ذلك إليه فقال يا رجاء أذكر بالسوء في مجلسك ولم تغير فقال ما كان ذلك يا أمير المؤمنين فقال له الوليد قل آالله الذى لا إله إلا هو قال الله الذى لا إله إلا هو فأمر الوليد بالجاسوس فضربه سبعين سوطا فكان يلقى رجاء فيقول يا رجاء بك يستقى المطر وسبعون سوطا في ظهرى فيقول رجاء سبعون سوطا في ظهرك خير لك من أن يقتل رجل مسلم فهو هنا قد أخذ بحكم الرخصة فيمن حلفه سلطان ظالم على نفسه أو على أن يدله على رجل أو مال رجل وهذا يدل على مدى علمه وفقهه ولما دخل فيما بعد في نفس هشام بن عبد الملك شيئا من قتله غيلان وصالح وكانا يتكلمان في القدر فقال له رجاء لقتلهما أحب إلي من قتل ألفين من الروم وذلك لأن ضررهما على الأمة كبير وذلك يدل على غزارة فقهه وعلمه وكان من فقهه أيضا إنكاره للبدع فقد ورد في كتاب الباعث علي إنكار البدع عن رجاء بن جميل قال شهدت رجاء بن حيوة في جنازة عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الملك بعسقلان فسمع رجلا يقول إستغفروا له غفر الله لكم فقال رجاء إسكت دق الله عنقك فقد جاء عن النبي الكريم محمد صلي الله عليه وسلم أنه كان إذا إتبع جنازة أكثر الصمت ورؤى عليه الكآبة وأكثر من حديث النفس .
وبعد وفاة الوليد بن عبد الملك بن مروان وتولي شقيقه سليمان بن عبد الملك بن مروان الخلافة في عام 96 هجرية الموافق عام 715م والذى كان رجاء بن حيوة شيخه وأستاذه ومعلمه في مرحلة الصبا والفتوة والشباب فجعله سليمان بن عبد الملك في منزلة عالية حتى غلب على الدولة كلها وفي ذلك يقول اليعقوبي المؤرخ كان رجاء بن حيوة غالبا على سليمان بن عبد الملك ووصفه العلامة الذهبي بأنه كان وزيرا لسليمان بن عبد الملك ويصفه الذهبي أيضا بالإمام القدوة والوزير العادل ومع عمله وزيرا ومستشارا مهيمنا على سياسة الخليفة سليمان بن عبد الملك كان رجاء بن حيوة يشير عليه بالرأى الذى يفيد الصالح العام ويسهل على الناس أمور دينهم ودنياهم فقد كان بينه وبين الفقيه عبد الله بن موهب عداوة بالغة ورغم ذلك زكاه وأيده في تولي منصب القضاء وقال عن ذلك لو خيرت بين أن أحملَ إلى حفرتي أى قبرى وبين ما ولي إبن موهب لإخترت أن أحمل إلى حفرتي فقال أحدهم إن الناس يزعمون أنك الذى أشرت به قال صدقوا إني إنما نظرت للعامة ولم أنظر له ونظرا لهذه المكانة البليغة والمنزلة العظيمة كان سليمان لا يخرج عن رأيه في السياسة العامة للدولة الأموية ولا يكاد يمضي قرارا إلا بمشورته وبلا شك فقد كان من أهم ما أشار به رجاء بن حيوة علي سليمان بن عبد الملك هو إستخلافه لإبن عمه عمر بن عبد العزيز وكان لذلك قصة يرويها رجاء حيث قال لما كان أول يوم جمعة من شهر صفر عام تسعة وتسعين بعد الهجرة كنا مع أمير المؤمنين سليمان بن عبدالملك بمرج دابق وكان قد أرسل جيشا من أجل فتح القسطنطينية بقيادة أخيه مسلمة بن عبدالملك ومعه إبنه داوود وطائفة كبيرة من آل بيته وقد نذر ألا يبرح مرج دابق حتى يفتح الله عليه القسطنطينية أو يموت فلما إقترب موعد صلاة الجمعة توضأ الخليفة فأحسن الوضوء ثم لبس عمامة خضراء ونظر في المرآة نظرة معجب بنفسه مزهو بشبابه وكان في نحو الأربعين من عمره ثم خرج ليصلي بالناس الجمعة فلم يرجع من المسجد إلا وهو موعوك وقد سألني أن أظل قريبا منه فدخلت عليه ذات يوم فوجدته يكتب كتابا فقلت ما يصنع أمير المؤمنين قال أكتب كتابا أعهد به إلى إبني أيوب بالخلافة من بعدى فقلت يا أمير المؤمنين إن مما يحفظ الخليفة في قبره ويبرئ ذمته عند ربه أن يستخلف على الناس الرجل الصالح وإن إبنك أيوب غلام لم يبلغ الحلم بعد ولم يتبين صلاحه من طلاحه فتراجع وقال إنه كتاب كتبته وأنا أريد أن أستخير الله فيه ولم أعزم عليه ثم مزق الكتاب .
ويستطرد رجاء بن حيوة قائلا مكث سليمان بعد ذلك يوما أو يومين ثم دعاني وقال يا رجاء ما رأيك في ولدى داوود فقلت هو غائب مع جيوش المسلمين في القسطنطينية وأنت لا تدرى الآن أحي هو أم ميت فقال فمن ترى يا رجاء قلت الرأى رأى أمير المؤمنين وكنت أريد أن أنظر في من يذكرهم لكي أستبعدهم واحدا واحدا حتى أصل إلى عمر بن عبد العزيز فقال كيف ترى عمر بن عبد العزيز قلت والله يا أمير المؤمنين ما علمته إلا فاضلا كاملا عاقلا بينا فقال صدقت إنه والله لكذلك ولكنني إن وليته وأغفلت أولاد عبد الملك يزيد وهشام وسعيد ومسلمة وغيرهم لتكونن فتنة ولن يتركونه يلي عليهم أبدا فقلت أشرك معه واحدا منهم وإجعله من بعده فقال والله لقد أصبت فإن ذلك مما يسكنهم ويجعلهم يرضونه ثم أخذ الكتاب وكتب بيده بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من عبد الله سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز إني وليته الخلافة من بعدى وجعلتها من بعده لشقيقي يزيد بن عبد الملك فإسمعوا له وأطيعوا وإتقوا الله ولا تختلفوا فيطمع بكم الطامعون ثم ختم الكتاب وناولني إياه ثم أرسل إلى كعب بن حازم صاحب الشرطة وقال إدع آل بيتي فليجتمعوا وأعلمهم أن الكتاب الذى في يد رجاء هو كتابي ومرهم أن يبايعوا لمن فيه ويقول رجاء فلما إجتمعوا قلت لهم هذا كتاب أمير المؤمنين قد عهد فيه للخليفة من بعده وقد أمرني أن آخذ منكم البيعة لمن ولاه فقالوا سمعا لأمر أمير المؤمنين وطاعة لخليفته من بعده وطلبوا أن أستأذن لهم علي أمير المؤمنين للسلام عليه فقلت نعم فلما دخلواعليه قال لهم إن هذا الكتاب الذى في يد رجاء هو كتابي وفيه عهدى للخليفة من بعدى فبايعوا لمن سميت في هذا الكتاب فطفقوا يبايعون ثم خرجت بالكتاب مختوما لا يعلم أحد من الخلق ما فيه غيرى وغير أمير المؤمنين ويحدثنا رجاء بن حيوة عما حدث بعد وفاة الخليفة سليمان فيقول أغلقت الباب عليه وخرجت فأرسلت إلى زوجته تسألني عنه وتطلب مني أن أخبرها عن حاله فقلت لرسولها إنظر إليه لقد نام الساعة بعد سهر طويل فدعوه لكي يستريح قليلا فرجع إليها فأخبرها ثم أحكمت إغلاق الباب وأجلست عنده حارسا أثق به وأوصيته ألا يتزحزح عن مكانه حتى أعود وألا يدخل على الخليفة أحدا أبدا كائنا من كان ثم أرسلت إلى كعب بن حازم صاحب الشرطة فجمع أهل بيت أمير المؤمنين جميعا في مسجد مرج دابق فقلت بايعوا لمن في كتاب أمير المؤمنين فقالوا قد بايعنا مرة أنبايع مرة أخرى فقلت هذا أمر أمير المؤمنين بايعوا على ما أمر به ولمن سمى في هذا الكتاب المختوم فبايعوا رجلا رجلا فلما رأيت أني قد أحكمت الأمر قلت إن صاحبَكم قد مات وإنا لله وإنا إليه راجعون وقرأت عليهم الكتاب فلما إنتهيت إلى ذكر إسم عمر بن عبد العزيز نادى هشام بن عبد الملك لا نبايعه أبدا فقلت إذا والله تضرب عنقك فقام يجر رجليه فلما إنتهى إلى عمر بن عبد العزيز قال إنا لله وإنا إليه راجعون وهو يسترجع لذهاب الخلافة إلى عمر دونه ودون إخوته من أولاد عبد الملك وقال عمر بن عبد العزيز بن مروان إنا لله وإنا إليه راجعون وكان يسترجع لمصير الخلافة إليه علي كره منه ويقول إبن عبد الحكم المصري في سيرة الخليفة الأموى عمر بن عبد العزيز عن أمر إستخلافه فأشار رجاء بن حيوة عليه أى علي الخليفة سليمان بن عبد الملك بإستخلاف عمر بن عبد العزيز بن مروان إبن عمه وسدد له رأيه فيه فوافق ذلك رأى سليمان وقال لأعقدن عقدا لا يكون للشيطان فيه نصيب ومن ثم كتب سليمان بن عبد الملك وصيته فيمن يخلفه وختمها وأعطاها إلى رجاء بن حيوة ثم دعا أهل بيته وإخوته فبايعوا على كتاب الوصية وهو مختوم ثم لما مات سليمان بن عبد الملك أخذ رجاء بن حيوة الوصية المختومة وأعلن البيعة في مسجد مرج دابق ثم فتح الوصية وأعلن إستخلاف عمر بن عبد العزيز .
وكانت قد جمعت بين رجاء بن حيوة وعمر قبل الخلافة صداقة وصحبة في نسكهم وعبادتهم لذا جعله عمر على رأس المستشارين له وولاه رئاسة ديوان الرسائل وكان لا يخرج عن رأيه إذا إستشاره وكان عمر بن عبد العزيز يرى لرجاء بن حيوة الفضل والمكانة والمنزلة الكبرى وذات يوم بات رجاء بن حيوة عند عمر في منزله فهم السراج أن ينطفئ فقام إليه رجاء ليصلحه فأقسمَ عليه عمر ليقعدن وقام فأصلحه فقال له يا أمير المؤمنين أتقوم أنت فقال عمر قمت وأنا عمر ورجعت وأنا عمر ولعل هذه العلاقة المتينة والمتميزة بين رجاء وخلفاء البيت المرواني عبد الملك بن مروان وإبنيه الوليد وسليمان وإبن أخيه عمر بن عبد العزيز جعلت المؤرخين يصفونه بزاهد بني أمية والحاكم بأمره في دولتهم ووصفه إبن كثير بأنه كان وزير صدق لخلفاء بني أمية وهي صفات تؤكدها حوادث التاريخ التي إستعرضنا بعضها ولهذا السبب تحديدا نقم عليه المتأخرون من بعض خلفاء بني أمية وعلى رأسهم الخليفة الأموى التاسع يزيد بن عبد الملك بن مروان الذى تولي الخلافة بعد وفاة الخليفة الأموى الثامن عمر بن عبد العزيز مسموما عام 101 هجرية الموافق عام 719م على أرجح الآراء وعلي الرغم من ذلك فنظرا لمكانته ومنزلته فلما قدم يزيد بن عبد الملك بيت المقدس سأل رجاء بن حيوة أن يصحبه فأبى وإستعفاه فقال له عقبة بن وساج إن الله ينفع بمكانك فقال إن أولئك الذين تريد قد ذهبوا فقال له عقبة إن هؤلاء القوم قل ما باعدهم رجل بعد مقاربة إلا ركبوه قال إني أرجو أن يكفيهم الذى أدعوهم له وقال المحدث والمؤرخ إبن الجوزى عن ذلك إن رجاء بن حيوة كان يصحب خلفاء بني أمية ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويسدى لهم النصح فلما مات عمر بن عبد العزيز بن مروان إنقطع عن صحبة من خلفوه ويوافقه العلامة الذهبي الذى قال كان رجاء بن حيوة كبير المنزلة عند سليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز وأجرى الله على يديه الخيرات ثم إنه بعد ذلك إعتزل صحبة الخلفاء وأقبل على شؤونه الخاصة وعلى رأسها العلم فظل حتى وفاته عام 112هجرية الموافق عام 730م في عهد الخليفة الأموى العاشر هشام بن عبد الملك واحدا من أشهر علماء ووعاظ بيت المقدس وفلسطين والشام قاطبة وأكثرهم صيتا وشأنا وبلا شك فقد كان وجوده إلي جوار الخلفاء الأمويين من الخامس وحتي الثامن ودوره السياسي مفصليا في الدولة الأموية حتى إننا يمكن أن نصفه بزعيم الدولة الأموية العميقة وموجه بوصلتها لعدة عقود ولا شك أن إبتعاده عن السياسة وشؤون الحكم في السنوات العشر الأخيرة من حياته كان له تأثيره السلبي على مسار هذه الدولة إذ لم يمر عشرون عاما على وفاته حتى سقطت دولة بني أمية في المشرق في عام 132 هجرية الموافق عام 750م إلي الأبد ونشأت بعدها الدولة العباسية وذلك بعد أن ساءت وإضطربت أحوال الدولة الأموية بشكل متسارع وبدأ الصراع بين الأمويين والعباسيين بعد وفاة الخليفة الأموى العاشر هشام بن عبد الملك بن مروان في عام 125 هجرية الموافق عام 743م والذى يعد أخر الخلفاء الأمويين الأقوياء والذى تولي الحكم والخلافة قرابة العشرين عاما وبلغت الدولة الأموية في عهده أوج قوتها وإتساعها وتعاقب علي الخلافة والحكم من بعده خلال المدة من أوائل عام 743م وحتي أواخر عام 744م عدد ثلاثة خلفاء أمويين هم الوليد بن يزيد بن عبد الملك ثم يزيد بن الوليد بن عبد الملك ثم شقيقه الأصغر إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك وخلال المدة من عام 744م وحتي عام 750م آخر الخلفاء الأمويين مروان بن محمد بن مروان بن الحكم وأخيرا نختم مقالنا عن التابعي والفقيه الكبير ومستشار ووزير الخلفاء رجاء بن حيوة ببعض أقواله والتي كان منها الحلم أرفع من العقل لأن الله تسمى به وما أكثر عبد ذكر الموت إلا ترك الحسد والفرح وقال أيضا يقال ما أحسن الإسلام يزينه الإيمان وما أحسن الإيمان يزينه التقى وما أحسن التقى يزينه العلم وما أحسن العلم يزينه الحلم وما أحسن الحلم يزينه الرفق ومن لم يؤاخ من الإخوان إلا من لا عيب فيه قل صديقه ومن لم يرض من صديقه إلا بإخلاصه له دام سخطه ومن عاتب إخوانه على كل ذنب كثر عدوه وفضلا عن ذلك فقد قال عنه الكثيرون عن صفاته الحميدة حيث قال مطر الوراق ما رأيت شاميا أفقه منه وقال مكحول رجاء بن حيوة سيد أهل الشام في أنفسهم وقال مسلمة الأمير برجاء بن حيوة وبأمثاله ننصر وقال إبن سعيد كان رجاء بن حيوة فاضلا ثقة كثير العلم وقال إبن عون لم أر مثل رجاء بن حيوة بالشام وذات يوم سأل الخليفة هشام بن عبد الملك بن مروان من سيد فلسطين فقيل له رجاء بن حيوة .
|