بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا"
محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الشهير بالإمام أبو جعفر الطبرِى مفسر ومؤرخ وفقيه جمع بين علوم التفسير والفقه والتاريخ ولقب بإمام المفسرين وإتصف رحمه الله تعالى بمواهب فطرية متميزة جبله الله الكريم عليها وتفضل عليه بها كما حفلت حياته بمجموعة من الصفات الحميدة والأخلاق الفاضلة والسيرة المشرفة وقال عنه الخطيب البغدادى كان الطبرى عنه إنه أحد أئمة العلماء يحكم بقوله ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره وكان أيضا حافظًا لكتاب الله عارفًا بالقراءات كلها بصيرا بالمعاني فقيها في أحكام القرآن الكريم عالما بالسنن وطرقها صحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها عارفا بأقوال الصحابة الكرام والتابعين ومن بعدهم قل أن ترى العيون مثله عارفا بأيام الناس وأخبارهم ومسائل الحلال والحرام عرض عليه القضاء فإمتنع والمظالم فأبى وقال عنه أحمد بن خلكان صاحب وفيات الأعيان إنه كان العالم المجتهد عالم العصر صاحب التصانيف البديعة كان ثقة صادقا حافظا رأسا في التفسير إماما في الفقه والإجماع والاختلاف علامة في التاريخ وأيام الناس عارفا بالقراءات وباللغة وللطبرى العديد من التصانيف يقول عنها الأديب الموسوعي والخطاط ياقوت الحموى وجدنا في ميراثه من كتبه أكثر من ثمانين جزء بخطه الدقيق ومنها إختلاف علماء الأمصار وهو أول كتاب ألفه الطبرى وكان يقول عنه لي كتابان لا يستغني عنهما فقيه الإختلاف واللطيف وكان ميلاد الإمام الطبرى عام 224 هجرية الموافق عام 839م بمدينة آمل عاصمة إقليم طبرستان والذى يقع في شمال دولة إيران وفي جنوب غرب دولة تركمانستان اليوم ويمتد في معظمه على الساحل الجنوبي لبحر قزوين وهو متسع ممتد تشغل الجبال أكثر مساحته وتعد مدينة آمل عاصمته أكبر مدينة في هذا الإقليم وهي كثيرة المياه متهدلة الأشجار متنوعة الثمار وقد فتح هذا الإقليم في عهد الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه وفي هذه البيئة السهلة اللينة المتمردة العاصية التي تجمع بين الجبال الشاهقة والسهول المنبسطة نشأ الطبرى وتربى في أحضان والده والذى غمره برعايته وتفرس فيه النباهة والذكاء والرغبة في العلم فتولى العناية به ووجهه منذ الطفولة إلى حفظ القرآن الكريم كما هي عادة المسلمين في مناهج التربية الإسلامية وخاصةً أن والده رأى رؤيا تفاءل بها خيرا عند تأويلها فقد رأى أبوه رؤيا في منامه أن إبنه واقف بين يدى الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه مخلاة مملوءة بالأحجار وهو يرمي بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقص الأب على معبر رؤياه فقال له إن إبنك إن كبر نصح في دينه وذب عن شريعة ربه ويبدو أن الوالد أخبر ولده بهذه الرؤيا وقصها عليه عدة مرات فكانت حافزا له على طلب العلم والجد والإجتهاد فيه والإستزادة من معينه والإنكباب على تحصيله ثم العمل به والتأليف فيه ليدافع عن الحق والدين ومما يذكر أنه قد ظهرت على الطبرى في طفولته سمات النبوغ الفكرى وبدت عليه سمات التفتح الحاد والذكاء الخارق والعقل المتقد والملكات الممتازة وأدرك والده ذلك فعمل على تنميتها وحرص على الإفادة والإستفادة منها وكنتيجة لحرص والده على إعانته على طلب العلم منذ صباه ودفعه إلى تحصيله فما كاد الصبي الصغير يبلغ السن التي تؤهله للتعليم حتى قدمه والده إلى علماء مدينته آمل وشاهدته دروب المدينة ذاهبا آيبا يتأبط دواته وقرطاسه حيث وجهه أبوه إلى العلماء ومعاهد الدراسة وساعده على إستغلال كل هذه الطاقات دون أن يشغله بشئ من شئون الحياة ومطالبها وخصص له المال للإنفاق على العلم والتعلم وسرعان ما حقق الطبرى أحلام والده وزاد له في آماله وطموحاته وسرعان ما تفتح عقله وبدت عليه سمات وعلامات النبوغ والإجتهاد حتى قال عن نفسه حفظت القرآن الكريم ولي سبع سنين وصليت بالناس وأنا إبن ثماني سنين وكتبت الحديث وأنا في التاسعة من عمرى .
ولما بلغ الطبرى سن الشباب إرتحل إلى مدينة الرى فأخذ عن محمد بن حميد الرازى ثم إنتقل إلي بلاد العراق حيث زار بغداد حيث كان بها إمام أهل السنة والجماعة والعالم الذي أطبقت شهرته الآفاق أحمد بن حنبل رحمه الله إلا أن الأقدار لم تحقق له أمنيته فقد مات العالم الجليل قبل أن يصل الطبرى إلى بغداد فإنصرف عنها وإتجه إلى البصرة وهي موطن العلم ومهبط القضاء آنذاك فجلس بين يدي علمائها وأخذ عن شيوخها ثم إنتقل إلى واسط ثم الكوفة ثم عاد إلى بغداد مرة أخرى وكان قد صلب عوده وإستقام فكره فأقام بها حينا من الزمان ثم إرتحل إلي الفسطاط بمصر في عام 253 هجرية الموافق عام 868م وأخذ عن علمائها الأئمة مالك والشافعي وإبن وهب ثم ترك مصر وتوجه إلي بلاد العراق مرة أخرى وإستوطن بالعاصمة العباسية بغداد وقبل أن نبحر مع الإمام الطبرى في سيرته ومؤلفاته علينا أن نذكر ما تمتع به من صفات وسمات شخصية وفي الحقيقة فإن كثيرا من صفات الإنسان تكون هبة من الله جل جلاله وعطاء مبارك من الخالق البارئ ولا دخل للإنسان فيها والله يختص برحمته من يشاء ويفضل بعض الناس على بعض ويرزق المواهب والملكات الخاصة لمن يشاء من عباده فكان الإمام الطبرى ممن وهبهم الله الكثير من المواهب فقد حباه الله تعالى بذكاء خارق وعقل متقد وذهن حاد وحافظة نادرة فجمع عدة علوم وحفظ موضوعاتها وأدلتها وشواهدها وكانت كتبه التي وصلتنا أكبر دليل على ذلك حتى قال عنه أبو الحسن عبد الله بن أحمد بن المفلس والله إني لأظن أبا جعفر الطبرى قد نسي مما حفظ إلى أن مات ما حفظه فلان طول عمره وفضلا عن ذلك فقد عرف الطبرى بورعه وزهده في الدنيا غير مكترث بمتاعها ومفاتنها وهاتان الصفتان من فضائل الأخلاق ومن أشد الصفات التي يجب أن يتحلى بها العالم والداعية والمربي والإمام كما كان الطبرى أيضا رحمه الله علي قدر كبير من الحذر من الحرام والبعد عن مواطن الشبهات وإجتناب محارم الله تعالى والخوف منه والإقتصار في المعيشة على ما يقوم به أوده فكان يمتنع عن قبول عطايا الملوك والحكام والأمراء ويكتفي بما يحصل عليه من ريع أرضه وبستانه الذي خلفه له والده وقال عنه المفسر والمحدث والفقيه المعروف عماد الدين إبن كثير في هذا الصدد وكان من العبادة والزهادة والورع والقيام في الحق لا تأخذه في ذلك لومة لائم وكان من كبار الصالحين وكان أيضا من أهم صفات الإمام الطبرى رحمه الله عفة اللسان فكان يحفظه عن كل إيذاء لأن فعل اللسان قد يتجاوز في بعض الأحيان السنان ولأن جرح السيف قد يشفى ويبرأ ولكن هيهات أن يشفى جرح اللسان وكان الإمام الطبرى كذلك مترفعا عن الأخلاق التي لا تليق بأهل العلم إلى أن مات وحينما كان يناظر ذات مرة داود بن علي الظاهرى في مسألة فوقف الكلام على داود فشق ذلك على أصحابه فقام رجل منهم وتكلم بكلمة مؤلمة وموجعة للإمام الطبرى فأعرض عنه ولم يرد عليه وترفع عن جوابه وقام من المجلس وصنف كتابا في هذه المسألة والمناظرة وعلاوة علي ذلك كان الطبرى عفيف النفس فهو مع زهده كان لا يسأل أحدا مهما ضاقت به النوائب ويعف عن أموال الناس ويترفع عن عطاياهم وعلاوة علي ذلك فقد كان الطبرى شديد التواضع لأصحابه وزواره وطلابه دون أن يتكبر بمكانته أو يتعالى بعلمه أو يتعاظم على غيره فكان يدعى إلى الدعوة فيمضي إليها ويسأل في الوليمة فيجيب إليها وكان رحمه الله لا يحمل الحقد والضغينة لأحد وله نفس راضية يتجاوز عمن أخطأ في حقه ويعفو عمن أساء إليه وكان محمد بن داود الظاهرى قد إتهم الطبري بالأباطيل وشنع عليه وأخذ بالرد عليه لأن الطبري ناظر والده وفند حججه ورد آراءه فلما إلتقى الطبرى معه تجاوز عن كل ذلك وأثنى على علم أبيه حتى وقف الولد عن تجاوز الحد وإشاعة التهم على الطبرى ومع كل هذا التواضع وسماحة النفس والعفو والصفح كان الطبرى لا يسكت على باطل ولا يمالئ في حق ولا يساوم في عقيدة أو مبدأ فكان يقول الحق ولا تأخذه في الله لومة لائم ثابت الجنان شجاع القلب جريئا في إعلان الصواب مهما لحق به من أذى الجهال ومضايقة الحساد وتخرصات الحاقدين .
وقد ترك لنا الإمام الطبرى ثروة علمية تدل على غزارة علمه وسعة ثقافته ودقته في إختيار العلوم الشرعية والأحكام المتعلقة بها وكان له قلم سيال ونفس طويل وصبر في البحث والدرس فكان يعتكف على التصنيف وكتابة الموسوعات العلمية في صنوف العلوم مع ما من الله عليه من ذكاء خارق وعقل راجح متفتح وجَلَد على تحمل المشاق وكان من أهم هذه المؤلفات جامع البيان في تأويل القرآن الكريم المعروف بتفسير الطبرى وتاريخ الأمم والملوك المعروف بتاريخ الطبرى وتهذيب الآثار وذيل المذيل ولطيف القول في أحكام شرائع الإسلام وكتاب بسيط القول في أحكام شرائع الإسلام وكتاب القراءات وصريح السنة والتبصير في معالم الدين و كتابي مختصر مناسك الحج ومختصر الفرائض وجدير بالذكر هنا أن الإمام الطبرى في كتابه الشهير تفسير الطبرى كان له منهج خاص وواضح حيث يذكر الآية أو الآيات من القرآن الكريم ثم يعقبها بذكر أشهر الأقوال التي قال في تفسيرها الصحابة والتابعين من سلف الأمة ثم يورد بعد ذلك روايات أخرى متفاوتة الدرجة في الثقة والقوة في الآية كلها أو في بعض أجزائها بناءا على خلاف في القراءة أو إختلاف في التأويل ثم يعقب على كل ذلك بالترجيح بين الروايات وإختيار أولاها بالتقدمة وأحقها بالإيثار ثم ينتقل إلى آية أخرى فينهج نفس النهج عارضا ثم ناقدا ثم مرجحا وهو إذ ينقد أو يرجح يرد النقد أو الترجيح إلى مقاييس تاريخية من حال رجال السند في القوة والضعف أو إلى مقاييس علمية وفنية من الإحتكام إلى اللغة التي نزل بها الكتاب نصوصها وأقوال شعرائها ومن نقد القراءة وتوثيقها أو تضعيفها ومن رجوع إلى ما تقرر بين العلماء من أصول العقائد أو أصول الأحكام أو غيرهما من ضروب المعارف التي أحاط بها الإمام الطبرى وجمع فيها مادة لم تجتمع لكثير من غيره من كبار علماء عصره وبخلاف كتاب تفسير الطبرى كان أيضا من أهم كتبه كتاب تاريخ الأمم والملوك أو تاريخ الرسل والملوك المعروف بتاريخ الطبرى والذى يعتبر من الكتب المرجعية في مجاله وسابق في فكرته ويؤرخ للعالم من بدء الخليقة إلى نهاية عام 302 هجرية الموافق عام 915م أى من قصة أبي البشر آدم عليه السلام إلى الزمن الذي عاصره الطبرى ويقوم الكتاب على طريق الأخبار بالتسلسل وذكر الأسانيد ولم يقتصر هذا الكتاب على تاريخ الإسلام فقط بل تعرض لتاريخ الفرس والروم بدقة تدعو إلى العجب مع قلة المصادر حوله في هذا الموضوع وقد سار الطبرى في مصنفه هذا على منهج المحدثين وهو منهج غاية في الثقة والأمانة إذ يلتزم ذكر الحوادث المروية بالسند إلى ناقليها دون أن يبدي رأيه في أغلب الأحيان وكان الطبرى يقول عن ذلك فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارؤه أو يستشنعه سامعه من أجل أنه لم يعرف له وجها من الصحة ولا معني في الحقيقة فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا وإنما أوتي من بعض ناقليه إلينا وإنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدى إلينا وقد طبع هذا الكتاب مرات عديدة وإهتم به المستشرقون كثيرا لتفرد موضوعه وسابقيته وعلاوة علي ذلك كان للطبرى أيضا كتاب إسمه البصير في معالم الدين وهو رسالة في أصول الدين كتبها لأهل طبرستان فيما وقع بينهم من الخلاف في الإسم والمسمى وذكر مذاهب أهل البدع والرد عليهم .
وجدير بالذكر أن تفسير الطبرى قد إحتل سويداء القلب عند العلماء على مر العصور في القديم والحديث وحظي بالرعاية والعناية وأثنى عليه الأئمة والعلماء والمؤرخون والمفسرون وسطروا الجمل المذهبة حوله وعلقوا عليه أوسمة الفخار حيث قال عنه الإمام الفقيه واللغوى والمحدث يحيي بن شرف النووى لم يصنف أحد مثله وقال شيخ الإسلام الفقيه والمحدث والمفسر تقي الدين أبو العباس بن تيمية وتفسير محمد بن جرير الطبرى هو من أجل التفاسير وأعظمها قدرا وقال أيضا وأما التفاسير التي في أيدى الناس فأصحها تفسير الإمام الطبرى فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة وليس فيه بدعة ولا ينقل عن المتهمين كمقاتل بن بكير والكلبي وقال مؤرخ الإسلام المعروف شمس الدين الذهبي وللطبرى كتاب التفسير لم يصنف أحد مثله وقال عنه المؤرخ والطبيب جمال الدين القفطي وصنف التصانيف الكبار منها تفسير القرآن الكريم الذي لم ير أكبر منه ولا أكثر فوائد وقال الإمام والمفسر والمؤرخ والأديب والفقيه المصرى جلال الدين السيوطي في الإتقان وكتابه أجل التفاسير وأعظمها فإنه يتعرض لتوجيه الأقوال وترجيح بعضها على بعض والإعراب والإستنباط فهو يفوقها بذلك وقال الشيخ والعالم التونسي محمد الفاضل بن عاشور كان الإمام محمد بن جرير الطبرى جديرا بالتفسير حين تناول القرآن الكريم بتلك المشاركة الواسعة وذلك التفنن العجيب حتي بلغ به أوجه وأن يستقر على الصورة الكاملة التي تجلت فيها منهجيته وبرزت بها خصائصه التي سيطرت على كل ما ظهر من بعده من تآليف لا تحصى في تفسير القرآن الكريم وقال الفقيه الشافعي عالم الأدب والدين أبو حامد الإسفراييني الفقيه لو سافر رجل إلى بلاد الصين حتى يحصل تفسير محمد بن جرير الطبرى لم يكن كثيرا ولا يفوتنا هنا أن نذكر أيضا أن الإمام الطبرى كانت له بعض المؤلفات التي بدا في كتابها ولم يتمها كان منها كتاب فضائل أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما وكتاب فضائل العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وكتاب فضائل الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكتاب في عبارة الرؤيا في الحديث .
وقد تعرض الإمام الطبرى لمحنة شديدة في أواخر حياته حيث كانت قد وقعت ضغائن ومشاحنات بينه وبين رأس الحنابلة في بغداد أبي بكر بن داود أفضت إلى إضطهاد بعض الحنابلة له وتعصب العوام عليه ورموه بالتشيع وغالوا في ذلك حتى منعوا الناس من الإجتماع به وظل محاصرا في بيته حتى توفي وقيل في سبب هذا العداء من جانب بعض الحنابلة للطبرى أنه أغفل في كتابه إختلاف الفقهاء ذكر الإمام أحمد بن حنبل في حين أنه ذكر كثيرا من الفقهاء والأئمة أمثال أبي حنيفة النعمان والشافعي ومالك بن أنس والأوزاعي وغيرهم فلما سئل عن سبب إهماله أجاب سائليه لم يكن أحمد بن حنبل فقيها وإنما كان محدثا ومع ذلك فالطبرى لم يقلل من شأنه بل أعلي من شأنه كثيرا وتابعه في موقفه من محنة خلق القرآن التي إشتعلت في عصر الخليفة العباسي المأمون وفي كتاب للطبرى عنوانه صريح السنة قال فيه ما نصه وأما القول في ألفاظ العباد بالقرآن الكريم فلا أثر أو حديث فيه نعلمه عن صحابي مضى ولا تابعي قضى إلا ضمن في قوله الغناء والشفاء رحمة الله عليه ورضوانه وفي إتباعه الرشد والهدى ومن يقوم قوله لدينا مقام قول الأئمة الأولى أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه ولا قول في ذلك عندنا يجوز أن نقوله غير قوله إذ لم يكن لنا فيه إمام نأتم به سواه وفيه الكفاية والمقنع وهو الإمام المتبع رحمة الله عليه ورضوانه وبعد هذه المحنة حوصر الإمام الطبرى في داره وقيل إنه قد ألف كتابه المشهور في الإعتذار إلى الحنابلة وذكر فيه مذهب الإمام أحمد بن حنبل وصوب إعتقاده وجرح من ظنوا فيه غير ذلك وقرأ كتابه على الحنابلة فصالحوه وكفوا عنه وإستأنف طلابه التردد على مجالسه بعد أن كان الحنابلة يمنعون الناس من مجالسته والإستماع إليه فكان لا يخرج ولا يدخل عليه أحد وفضلا عن ذلك فقد تعرض الطبرى لغضب الكثير من الناس حيث كان البعض يذهبون في تفسير معنى آية سورة الإسراء وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا إلى أن الله يجلس النبي محمد صلي الله عليه وسلم على العرش جزاءا له على تهجده فقال الإمام الطبرى أما حديث الجلوس على العرش فمحال وأنشد سبحان من ليس له أنيس ولا له في عرشه جليس فلما سمعوا منه ذلك غضبوا وأهاجوا عليه عامة الناس وإتهموه بالرفض ورموا داره بالحجارة وقد أورد تفاصيل تلك المحن عدد من المؤرخين والمحدثين والعلماء منهم الأديب الموسوعي والخطاط المعروف ياقوت الحموى في معجم الأدباء وأبو القاسم علي إبن عساكر في تاريخ دمشق وعز الدين أبو الحسن بن الأثير في الكامل في التاريخ وعماد الدين بن كثير في البداية والنهاية وصلاح الدين الصفدى في الوافي بالوفيات والخطيب البغدادى في تاريخ بغداد والمؤرخ شمس الدين الذهبي في سير أعلام النبلاء وهذا الأخير قال عنه كان الإمام الطبرى هو الإمام الجليل المفسر صاحب التصانيف الباهرة وكان من كبار أئمة الإسلام المعتمدين وكان بحق ثقة حافظا صادقا رأسا في التفسير إماما في الفقه والإجماع والإختلاف علامةً في التاريخ وأيام الناس عارفا باللغة والقراءات وغير ذلك وأيضا قال عنه المؤرخ إبن كامل إن الإمام الطبرى قام بتقسيم ليله ونهاره في مصلحة نفسه ومصلحة دينه ومصلحة الخلق وقد وفقه الله عز وجل في ذلك كل التوفيق وأخيرا قال عنه المؤرخ المملوكي أبو المحاسن جمال الدين يوسف بن الأمير سيف الدين تغرى بردى الإمام الطبرى أحد أئمة العلم يحكم بقوله ويرجع إلى رأيه وكان متفننا في علوم كثيرة وكان واحدا من أجل وأعظم علماء عصره .
وأخيرا كانت وفاة الإمام الطبرى وقت المغرب عشية يوم الأحد 26 من شهر شوال عام 310 هجرية الموافق عام 923م في عهد الخليفة العباسي المقتدر بالله كما نصت المصادر التاريخية وذلك بعد أن عاش راهبا متبتلا بدون زواج في محراب العلم والعمل حتى وفاته وقال إبن كثير عن وفاته إنه قد توفي ببغداد عن عمر ناهز الثمانين سنة بخمس سنين وفي شعر رأسه ولحيته سواد كثير ودفن في داره لأن بعض عوام الحنابلة ورعاعهم منعوا دفنه في مقابر المدينة ونسبوه إلى الرفض ومن الجهلة من رماه بالإلحاد وحاشاه من ذلك كله فقد كان أحد أئمة الإسلام الكبار علما وعملا بكتاب الله وسنة رسوله الكريم محمد صلي الله عليه وسلم وإنما تقلدوا ذلك عن أبي بكر محمد بن داود الظاهرى حيث كان يتكلم فيه ويرميه بالعظائم وبالرفض وقال عن جنازته إبن عساكر والخطيب البغدادى قد إجتمع فيها من لا يحصيهم عددا إلا الله وصلي على قبره عدة شهور ليلا ونهارا ودفن في داره الكائنة برحبة يعقوب بغداد ورثاه خلق كثير من أهل الدين والأدب والشعر فعندما سمع أبو بكر بن دريد بوفاته رثاه بقصيدة قال في أولها لن تستطيع لأمر الله تعقيبا فإستنجد الصبر أو فإتبع الخوبا وكذلك عندما سمع أبو سعيد بن الأعرابي بوفاته رثاه بأبيات منها قام ناعي العلوم أجمع لما قام ناعي محمد بن جرير وحاليا فإن رحبة يعقوب التي دفن فيها الطبرى هي حديقة تسمى حديقة الرحبي بعد أن هدمت وأزيلت المساكن القديمة حولها وتوسعت الحديقة وجدد مبنى قبر الإمام الطبرى في عام 2018م ويتضمن هذا المبنى مكتبة عامة بالاضافة إلى الضريح والذى أصبح حاليا ظاهر للعيان وموجود في وسط الحديقة في شارع عشرين في ناحية باب خراسان بالجانب الشرقي من الحديقة والتي تقع في حي الأعظمية في العاصمة العراقية بغداد ومما يذكر انه في عام 1987م أنتج إتحاد الإذاعة والتليفزيون المصرى مسلسل تليفزيوني درامي يتناول قصة نشأة وحياة المؤرخ والمفسر والفقيه الإمام محمد بن جرير الطبرى وقصته مع تفسير القرآن الكريم وإجتهاده في أحكام الدين تحت إسم الإمام الطبرى كان من إخراج مجدى أبو عميرة وبطولة الفنان عزت العلايلى الذى لعب دور الإمام محمد بن جرير الطبرى وشاركه البطولة عدد كبير من الفنانين والفنانات منهم عمر الحريرى وأشرف عبد الغفور ومحمد وفيق ومخلص البحيرى وسمير حستي وجمال إسماعيل وحمزة الشيمي ومحمود الحديني وخليل مرسي ومحمود العراقي وأمينة رزق وسمية الألفي وليلى فوزى وزوز نبيل ودينا عبد الله وبلغت عدد حلقات هذا المسلسل 28 حلقة وتم عرضه علي القناة الأولى المصرية ثم تم عرضه فيما بعد على بعض القنوات العربية .
|