بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا"
أم حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر المخزومية صحابية جليلة عفيفة وعابدة مجاهدة حملت سجلا حافلا بالعطاء والوفاء والإخلاص ومن ثم كانت سيرتها حميدة ومسيرتها مجيدة وقد عاشت بين أهل الوفاء والفداء وعلا مقامها بين المناضلين الشرفاء وأسهمت بنصيب وافر في التسامي بمكانة المرأة المسلمة وفضلا عن ذلك فقد أنعم الله عليها بأحمد الصفات وأفضل الخصال فأصبحت رمزا للتضحية والفداء ومثلا في الإخلاص والوفاء فنجدها في وقت المحن والملمات صابرة محتسبة وفي زمن الجهاد والغزوات فارسة منتصرة وكان ميلاد هذه الصحابية الجليلة بمكة المكرمة وغير معلوم لنا بالتحديد عام ميلادها لكنه كان بالتأكيد قبل هجرة النبي محمد صلي الله عليه وسلم إلي المدينة المنورة وقد يكون قبل بعثته وهي إبنة الحارث بن هشام بن المغيرة وأمها هي فاطمة بنت الوليد بن المغيرة شقيقة سيف الله المسلول خالد بن الوليد وأخوتها هم مالك بن الحارث وعبد الرحمن بن الحارث وعمها هو عمرو بن هشام بن المغيرة المعروف بإسم أبي جهل والذى كان من أعدى أعداء الإسلام والذى كان من سادات قبيلة قريش من بني مخزوم إحدى عشائرها الثرية والتي كان ينظر إليها على أنها من بين العشائر الثلاث الأقوى والأكثر نفوذًا في مكة المكرمة قبل ظهور الإسلام وكانت العشيرتان الأخريتان هما بني هاشم عشيرة النبي الكريم محمد صلي الله عليه وسلم وبني أمية عشيرة الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه وأبي سفيان بن حرب ولا تزال هذه القبائل والعوائل في المملكة العربية السعودية ومما يذكر أن عشيرة بني مخزوم تنتسب إلى مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر أى أنه يلتقي نسبه مع نسب الرسول صلي الله عليه وسلم في الجد السادس مرة بن كعب وتزوجت أم حكيم من إبن عمها عكرمة بن عمرو بن هشام بن المغيرة الذى كان كأبيه من أعدى أعداء الإسلام وطالما خاض الحروب الكبيرة ضد المسلمين وشارك بخيله ورجله في معاركَ وبكل غال ونفيس ودفع أموالا هائلة وأنفق نفقات طائلة في سبيل كسر وإضعاف شوكة المؤمنين وإستئصال شأْفة الموحدين فقد شارك في بدر وشاهد مقتل أبيه ثم شارك في أحد والخندق وكان ممن حاولوا عبور الخندق وباءت محاولتهم بالفشل وممن حاولوا الإتفاق مع يهود بن قريظة بأن يدخلوا المدينة المنورة من ناحية ديارهم وأن يباغتوا المسلمين ويقتلونهم وقد عاشت أم حكيم معه وفية مخلصة وكانت في البداية تؤازره في عدائه للإسلام وخرجت معه لتشهد غزوة أحد ولتقف مع النسوة وراء الصفوف وتضرب معهن على الدفوف لكي يحرضن كفار قريش على القتال ويشددن من أذرهم تثبيتا لفرسانهم إذا حدثتهم أنفسهم بالفرار وكان على ميسرة المشركين يومذاك زوجها عكرمة بن أبي جهل وعلى ميمنتهم خالد بن الوليد وفي يوم فتح مكة العشرين من شهر رمضان في العام الثامن للهجرة بعد أن نقضت قريش صلح الحديبية أسلمت أم حكيم وأسلم أيضا أبوها الحارث بن هشام بن المغيرة وبايعت رسول الله صلي الله عليه وسلم وكان عكرمة زوج أم حكيم قد حاول التصدى هو وصفوان بن أمية لمقدمة جيش المسلمين خلال فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة والتي كان علي رأسها إبن عمه وصديق شبابه القديم خالد بن الوليد رضي الله عنه وذلك في موضع يسمي الخندمة وإشتد القتال بينهما ولما شعر عكرمة بإقتراب الهزيمة وانه لا قبل له بخالد بن الوليد وجنوده فر هاربا وأهدر الرسول صلى الله عليه وسلم دمه .
وكانت أم حكيم تتمتع بعقل ثاقب وحكمة نادرة وشعرت بحلاوة الإيمان تملأ كيانها فحسن إسلامها ولكنها كانت حزينة أشد الحزن على فرار زوجها عكرمة وكانت تتمنى ان يعود للعيش في مكة وأن يدخل في الإسلام ويتذوق حلاوة الايمان مثلما تذوقته هي لانه كان من أحب الناس إليها وأقربهم الى نفسها وبعد تفكير عميق منها قادتها حكمتها وعقلها فسعت الزوجة الوفية المخلصة إلى النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم تطلب منه العفو عن زوجها ومنحه الأمان قائلة يا رسول الله قد هرب عكرمة منك إلى اليمن وخاف أن تقتله فأمنه فقال الرسول صلي الله عليه وسلم هو آمن وعن ذلك يروى التابعي عروة بن الزبير بن العوام قائلا كانت أم حكيم بنت الحارث عند عكرمة وكانت فاختة بنت الوليد بن المغيرة عند صفوان بن أمية فأسلمتا وإستأمنت أم حكيم بنت الحارث لعكرمة فأمنه النبي صلى الله عليه وسلم وكانت هذه السيدة المؤمنة الصابرة لا تريده لنفسها ولا لبيتها ولا لأولادها إنها تريده لنفسه هو تريده لتنقذَه من النار تريده ليقذف الله بها نور الإيمان إلى قلبه وبدأت أم حكيم رحلة البحث عن زوجها وإصطحبت معها غلاما روميا كانت تملكه وبينما هما في الطريق إذ راودها هذا الغلام عن نفسها وكأن الشيطان قد إستغله ليفسد عليها رحلتها الدعوية وكأن إبليسَ اللعينَ قد جعل منه أداة رخيصة تصد عن سبيل الهداية وتقف حجر عثرة في طريق الرشاد ولكن هذه المرأة الطاهرة كانت قد قررت في نفسها أنه لن يصدها عن هدفها الرباني صاد شيطاني فجعلت تمني هذا الغلام حتى وصلت معه إلى حي قبيلة عك اليمانية فإنتهزت الفرصة وقررت الخلاص من غلام السوء الذى لم يدرك عظم هذه الرحلة ولم يستوعب الهدف العظيم منها فإستغاثت بأهل الحي عليه فأوثقوه رباطا وواصلت مسيرها نحو زوجها المشرك وقد تخلت هذه المرأة عن غلامها الذى كان يقوم على خدمتها خلال السفر لا لشئ وإنما لأنها مسلمة عفيفة فأخذت وحدها تتابع رحلتها الشاقة وسفرها المضني حيث عانت الكثير مما لا تطيقه أى إمرأة فعانت ما عانت من وحشه الطريق وقله الزاد ولكنها مع كل هذا لم تيأس ولم تضعف وأخذت تبحث عن زوجها في كل مكان وسألت عنه كل قريب أو صديق وعلمت أنه مضى إلى البحر في طريقه إلى اليمن وفي ذلك الوقت كان عكرمة قد إستقل إحدى السفن وأخذ يفكر وهو على متن السفينة وهو مهموم ونادم في أمره وأمر زوجته وأهله وأقاربه والوطن الذي غادره والدين الجديد الذي جاء به النبي محمد الصادق الأمين وكانت هذه الأفكار مقدمات الهداية الني كانت قد بدأت تشرق في نفسه ومضت السفينة تشق أمواج البحر وهبت الريح عاصفة قوية فتأرجحت السفينة وإقتربت من الغرق وأشرف ركابها جميعا على الهلاك وهنا طلب أصحاب السفينة من ركابها أن يخلصوا الدعاء لله عز وجل لأن الآلهة التي آمنوا بها ويعبدونها لا تغني عنهم من الله شيئا وقد وجدت كلمات أصحاب السفينة في هذا الموقف الصعب صداها في نفس عكرمة الذى تأهل للإيمان وبدأ يبحث عمن يساعده على ذلك حيث قال إن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص فلن ينجيني في البر غيره اللهم لك علي عهد إن عافيتني مما أنا فيه أى إن سلمتني من الغرق في السفينة أن آتي محمدا حتى أضع يدى في يده ولأجدنه عفوا كريما وشاءت إرادة السميع العليم أن تصل السفينة إلى بر الأمان وأن ينجو عكرمة من الغرق وعرفت الزوجة المحبة الوفية أين يوجد زوجها ولحقت به فى ساحل من سواحل تهامة ولما أدركته قالت له مبشرة جئتك من عند أوصل الناس وأكرمهم وقد أمنك أى أعطاك عهدا بالأمان فلا تهلك نفسك فرد عليها أنت فعلت ذلك فقالت نعم أنا كلمته فأمنك وهنا سر عكرمة الذى بدأ الإيمان يلمس قلبه رويدا رويدا وبعد شد وجذب وتقدير وتفكير وبعد إلحاح من الزوجة الصالحة قرر العودة بصحبتها إلي مكة المكرمة وأخبرته بما وجدته من غلامها الرومي الشقي فقتله وعاد مع زوجته إلى أرض الآباء والأجداد ولما دنا من مكة المكرمة طلب من إمرأته أن يجامعها فأبت وقالت له إنك كافر وأنا مسلمة وقد حرمني الله عليك من فوق سبع سماوات فقال لها إن أمرا منعك مني لهو أمر كبير .
ومضى عكرمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدم عند بابه وزوجته معه فإستأذنت على الرسول فسمح لها بالدخول عليه وأخبر عمر رسول الله بقدوم عكرمة وأنه قد جاء ليعلن إسلامه ورأى الرسول نور الإسلام في وجهه فقام إليه وعانقه وقال مرحبا بالراكب المهاجر فقال عكرمة يا محمد إن هذه يقصد زوجته أم حكيم أخبرتني أنك أمنتني فقال الرسول لقد صدقت فأنت آمن فقال عكرمة فإلامَ تدعو يا محمد قال أدعوك إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتفعل وتفعل حتى عد خصال الإسلام فقال عكرمة والله ما دعوت إلا إلى الحق وأمر حسن جميل قد كنت والله فينا قبل أن تدعو إلى ما دعوت إليه وأنت أصدقنا حديثا وأبرنا برا ثم قال عكرمة فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وسر بذلك الرسول ثم قال عكرمة يا رسول الله علمني خير شئ أقوله قال تقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله فقال عكرمة ثم ماذا قال رسول الله تقول أشهد الله وأُشهد من حضر أني مسلم مهاجر ومجاهد فقال عكرمة ذلك فقال رسول الله لا تسألني اليوم شيئاً أعطيه أحدا إلا أعطيتكه فقال عكرمة فإني أسألك أن تستغفر لي كل عداوة عاديتكها أو مسير وضعت فيه أو مقام لقيتك فيه أو كلام قلته في وجهك أو وأنت غائب عنه فقال الرسول اللهم إغفر له كل عداوة عادانيها وكل مسير سار فيه إلى موضع يريد بذلك المسير إطفاء نورك فإغفر له ما نال مني من عرض في وجهي أو وأنا غائب عنه فقال عكرمة رضيت يا رسول الله لا أدع نفقة كنت أنفقها في صد عن سبيل الإسلام إلا أنفقت ضعفها في سبيل الله ولا قتالا كنت أقاتل في صد عن سبيل الله إلا أبليت ضعفه في سبيل الله ثم أجتهد في القتال حتى أقُتل في سبيل الله وبعد أن أسلم رد الرسول إمرأته له ومما يروى عن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها زوجة النبي صلي الله عليه وسلم قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت لأبي جهل عزقا في الجنة فلما أسلم عكرمة قال يا أم سلمة هذا هو والعزق هو جزء من النخلة العرجون مع الشماريخ والمعني هو أن الأب الذى كفر في نار جهنم والإبن الذى أسلم في جنات الفردوس وبعد أن أسلم عكرمة حدث أن كناه بعض الناس بإبن عدو الله فحزن وتألم ألما شديدا وذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم شاكيا فنهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال لا تسبوا أباه فإن سب الميت يؤذى الحي ويروى المؤرخون المسلمون أنه بعد وفاة رسول الله صلي الله عليه وسلم قاتل عكرمة المرتدين حيث إستعمله الخليفة الراشد الأول أبو بكر الصديق على أحد الجيوش الأحد عشر التي سيرها الخليفة أبو بكر الصديق لحرب المرتدين حيث سيره إلى أهل عمان وكانوا قد إمتنعوا عن دفع الزكاة وظهر عليهم عكرمة وحقق النصر عليهم .
وبعد أهل عمان وجهه أبو بكر أيضا إلى اليمن فلما فرغ من قتال أهل الردة كلفه أبو بكر بالمسير إلي الشام علي رأس جيش من الجيوش التي سارت إلي الشام وكلفه بأن يكون خلف الجيوش الأربعة الأخرى التي كانت بقيادة أبي عبيدة بن الجراح وعمرو بن العاص ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة لكي يكون قوة إحتياطية لتلك الجيوش عند الحاجة أو إذا تحرج موقف أحدها وفي طريقه إلي الشام عسكر بجيشه بالجرف على بعد ميلين من المدينة المنورة وإستقبله الخليفة الراشد الأول العظيم أبو بكر الصديق هناك وسلم عليه وعرض عليه المعونة والمساعدة فقال له لا حاجة لي فيها فدعا له بالخير وبالتوفيق من الله وودعه ثم أكمل عكرمة مسيرته إلى الشام .
وفي الشام شارك عكرمة في معركة اليرموك والتي تعد المعركة الرئيسية في فتوحات الشام والتي فتحت أبواب الشام بعدها أمام المسلمين لإستكمال هذه الفتوحات والتي إستمرت 6 أيام وكان جيش المسلمين لا يزيد عن 40 ألف مقاتل علي الأرجح بينما كان جيش الروم تعداده حوالي 240 ألف مقاتل حيث كان هرقل إمبراطور الروم قد حشد جيشا كبيرا من مختلف أنحاء الإمبراطورية لقتال المسلمين بالشام وعندما تواجه الجمعان في سهل فسيح شمال نهر اليرموك وهو أحد روافد نهر الأردن يعرف بإسم الواقوصة أدرك خالد بن الوليد أهمية هذه المعركة الفاصلة في حروب الشام وأظهر حنكةً وفطنة وعبقرية عسكرية عبر محاولته توحيد ألوية المسلمين الأربعة التي كانت تحت قيادة القادة المذكورين في السطور السابقة تحت قيادة واحدة فخطب في الأُمراء داعيا إياههم إلى توحيد إمارة الجيش تحت قيادته لأن هذه المعركة إما أنها ستفتح على المسلمين أبواب الشام على مصراعيها أو لن يفلحوا بعدها أبدا إن هزموا لا قدر الله وهكذا ولى أُمراء الألوية الأربعة عليهم خالد بن الوليد في ذلك اليوم وهم يدركون أن المعركة ستستمر أياما وليالي حيث كان كل منهم يعرف قدره ومدى فطنته وعبقريته من الناحية العسكرية ولما تولي خالد القيادة أعاد تعبئة وتنظيم الجيش وبعد أن قام بإستطلاع تشكيلات الروم وميدان المعركة وجد أن أنسب تشكيل قتالي يمكنه أن يخوض به هذه المعركة هو الكراديس مع إنشاء وحدة خيالة متنقلة سريعة تكون مهمتها دعم أى قسم من الجيش يحدث به تراجع تحت ضغط جيش الروم مع تكوين وحدة خيالة إحتياطية للتدخل في القتال عند الحاجة ومن ثم جعل ربع جيش المسلمين من الخيالة وكانوا حوالي 10 آلاف فارس وقسم الجيش إلى كراديس أى كتائب من المشاة وزعت على 4 ألوية مشاة وكان قادة الأرباع أبو عبيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وكان على الميمنة معاذ بن جبل الخزرجي وعلى الميسرة نفاثة بن أسامة الكناني وعلى الرجالة هاشم بن عتبة بن أبي وقاص وتولي هو قيادة فرقة الخيالة المتحركة بنفسه وكان ضرار بن الأزور الأينوب عنه في قيادة هذه الوحدة المتنقلة في حال إنشغال خالد في الأعمال القتالية في المعركة كما كلف خالد قيس بن هبيرة بقيادة فرقة الخيالة التي تلعب دور الوحدات الإحتياطية للتدخل في حال أى تراجع ممكن للألوية الإسلامية وتشكل كل لواء منهم من تسعة سرايا كانت منظمة على أساس التجمع القبلي أو العشائرى بحيث يقاتل كل واحد إلى جانب أخيه المسلم من عشيرته أو قبيلته وكان من أمراء الكراديس يومئذ عكرمة بن أبي جهل المخزومي القرشي ومذعور بن عدى العجلي البكرى وعبد الله بن قيس وعياض بن غنم الفهرى القرشي وسهيل بن عمرو العامرى القرشي وسعيد بن خالد بن سعيد بن العاص الأموى القرشي وحبيب بن مسلمة الفهرى القرشي والزبير بن العوام الأسدي القرشي وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي القرشي وصفوان بن أمية الجمحي القرشي وجعل خالد لكل لواء مجموعة من الإستطلاع بحيث يتم مراقبة تحركات الروم و أرض المعركة كاملة .
وكان خط الجبهة يمتد على طول 18 كيلومترا بحيث يتجه المسلمون غربا في مواجهة الروم وكان إلى الجنوب إلى يمين الجيش الرومي يمر نهر اليرموك وشمالا على بعد أميال بإتجاه الجنوب الغربي هناك طرف وادى يسمي وادى الرقاد وفي الأربعة أيام الأولي تحرج موقف المسلمين في المعركة أمام جحافل الروم ولما رأى عكرمة هذا الموقف نزل من على ظهر جواده وكسر غمد سيفه وأوغل في صفوف الروم فبادر إليه قائده خالد بن الوليد قائلا له لا تفعل يا بن العم فإن قتلك سيكون على المسلمين شديد فما كان من عكرمة إلا ان قال تنحى عنى يا خالد والله لأثبتن لقد جاهدت بنفسى ضد رسول الله صلي الله عليه وسلم أفأستبقيها الآن عن الله ورسوله وأفر من أعداء الله والله لأثبتن ثم نادى في المسلمين من يبايع على الموت فبايعه عمه الحارث بن هشام بن المغيرة وإبنه عمرو وعياش بن أبي ربيعة في أربعمائة من أبطال المسلمين فقاتلوا دون فسطاط خالد أى مكان قيادة الجيش أشد القتال وذادوا عنه أكرم الذود وبالفعل أوقفوا زحف الروم حتى أثخنوا جميعا جراحا وأصيب عكرمة وإبنه عمرو إصابة مميتة في هذه الوقعة وإستشهدا هم والأربعمائة بطل جميعا ولكنهم كانوا قد قتلوا عددا أكبر بكثير من 400 مقاتل بيزنطي ومما يذكر أن لحظة إستشهاد عكرمة كانت مؤثرة للغاية فقد دعا الحارث بن هشام فنظر إليه عكرمة فقال إدفعوه إلى عكرمة فدفع إليه فنظر إليه عياش بن أبي ربيعة فقال عكرمة إدفعوه إلى عياش فما وصل إلى أحد منهم حتى ماتوا جميعا وما ذاقوه ووجدوا في جسد عكرمة بضعا وسبعين من بين ضربة سيف وطعنة رمح ورمية سهم وبذلك بر عكرمة بما قطعه للرسول الكريم محمد صلي الله عليه وسلم من عهد فما خاض المسلمون معركة بعد إسلامه إلا وخاضها معهم بكل شجاعة وإقدام ولا خرجوا في بعث إلا كان في طليعته وهو الذى كان حتي قبل 5 سنوات من اليرموك من أعدى أعداء الإسلام وكان مما أسعد عكرمة قبل إستشهاده أنه كان قد علم بنجاح المسلمين في صد هجوم جند الروم وحمد الله علي هذا الفضل من الله قبل أن يموت متأثرا بجراحه ليحل الظلام وينتهي ذلك اليوم من أيام القتال في اليرموك .
وفي اليوم الخامس للقتال رفض خالد بن الوليد قائد المسلمين عرضا لماهان قائد الروم بوقف القتال بضعة أيام وعرف خالد بن الوليد أن عزيمة الروم على القتال لم تعد كالسابق وكان المسلمون حتى الآن قد إتخذوا إستراتيجية دفاعية في الأعمال القتالية فقرر الآن خالد التحول إلى الهجوم وأجرى تغييرات على وحدة الخيالة فحولها إلي وحدة قتالية موحدة وجعل وحدته السريعة في قلبها وقرر إستخدام هذه الوحدة الجديدة لمهاجمة الفرسان الروم بغرض عزلهم عن مشاتهم بحيث يصبح المشاة الذين يشكلون نواة الجيوش البيزنطية دون أى حماية من الفرسان تقيهم من الهجمات الجانبية والخلفية وفي نفس الوقت خطط لشن هجوم على الميسرة البيزنطية لردها بإتجاه الجرف إلى الغرب وجاء اليوم السادس الحاسم وبدأت كفة الحرب تميل تدريجيا نحو جانب المسلمين وزاد ضعط جنود المسلمين علي جيش الروم وكان الفرسان المسلمون المسلحون بشكل خفيف مؤهلين أكثر بل متفوقين من حيث سرعة التحرك والمناورة حيث كانوا يستطيعون الهجوم والتراجع بسرعة والعودة للهجوم مرة أخرى وسارع الخيالة البيزنطيون إلى الهرب بإتجاه الشمال في حالة من الفوضى والعشوائية تاركين المشاة لمصيرهم وبعد تشتت فرق الخيالة البيزنطيين تحول خالد بن الوليد إلى نواة جيش الروم البيزنطيين الأرمن بقيادة ماهان لمهاجمتهم من الخلف وكان الأرمن من المقاتلين الأشداء الذين كانوا على وشك النصر على المسلمين قبل يومين عندما قاموا بإختراق جيش المسلمين ولكن تحت ضغط الهجمات من إتجاهات ثلاثة في آن واحد فرقة الخيالة بقيادة خالد بن الوليد من جهة الخلف وجنود عمرو بن العاص من اليسار وجنود شرحبيل بن حسنة من الأمام وبدون دعم من الفرسان الروم إضافة إلى الخلل الجسيم الذى أحدثته في صفوفهم جنود القائد الرومي قناطر المتراجعة فمن ثم لم يكن للأرمن أى فرصة بالصمود فهزموا شر هزيمة وتحقق النصر الكبير للمسلمين وجدير بالذكر أن أم حكيم زوجة عكرمة كانت في هذه المعركة ضمن صفوف النساء الذين كانوا يسقون العطشي ويعالجون الجرحي من جنود المسلمين كما كان خالد بن الوليد قد كلفهم أيضا بالوقوف خلف الجيش وضرب الفارين من المعركة وإعادتهم إلي القتال من جديد وقاموا بمهمتهم خير قيام ومما يذكر أنه كان من هؤلاء النسوة هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان بن حرب التي كانت هي الأخرى حتي قبل 5 سنوات من اليرموك من أعدى أعداء الإسلام هي وزوجها الذى شارك أيضا في اليرموك وكان خالد بن الوليد قد كلفه نظرا لأنه يتمتع بصوت عال بأن يحمس الجنود وينادى فيهم بالثبات والصمود في وجه جنود الروم وقد فقد إحدى عينيه في تلك المعركة وأخيرا لما جاء نبأ إستشهاد عكرمة إلي أم حكيم زوجته لم تجزع ولم تلتاع وإحتسبته شهيدا عند الله .
وبعد إستشهاد عكرمة في معركة اليرموك وبعد أن أوفت عدتها تقدم لها قائدان من قادة جيوش المسلمين هما يزيد بن أبي سفيان وخالد بن سعيد بن العاص والذى كان من السابقين إلي الإسلام حيث كان من الخمسة الأوائل الذين دخلوا في الإسلام وكان سبب إسلامه أنه رأى في النوم أنه وقف على شفير النار فذكر من سعتها ما الله أعلم به وكأن أباه يدفعه فيها ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذ بيديه حتي لا يقع فيها ففزع وقال أحلف إنها لرؤيا حق ولقي أبا بكر فذكر ذلك له فقال له أبو بكر أريد بك خير هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإتبعه فإنك ستتبعه في الإسلام الذى يحجزك من أن تقع في النار وأبوك واقع فيها وعندما علم والده بإسلامه إنهال عليه ضرباً وزجرا ثم أخرجه إلى شعب مكة وشمسها اللاهبة ثلاثة أيام لا يبلل شفتيه قطرة ماء حتى يرجع عن دينه ولما يئس منه طرده من بيته إلى غير رجعة ومنذ إسلامه كان خالد مرافقا للرسول صلى الله عليه وسلم لا يتركه لينهل من علمه الوفير وكان من أول المهاجرين الى الحبشة وبقي فيها بضع سنين ثم رجع في أوائل العام السابع من الهجرة مع جعفر بن أبي طالب إلي المدينة المنورة وقد شهد خالد رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة وغزوة تبوك وكان أيضا يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذى كتب كتاب أهل الطائف لوفد ثقيف وهو الذي مشى في الصلح بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان هو أول من كتب في كتب للنبي بسم الله الرحمن الرحيم وقبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إبتعثه عاملا له على صنعاء اليمن وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في اليمن فعاد إلي المدينة المنورة في أوائل عهد الخليفة الراشد الأول أبي بكر الصديق وليكون من قادة المسلمين في فتوحات الشام فلما إستشهد عكرمة تقدم خالد بن سعيد بن العاص لخطبة أرملته أم حكيم وذلك لأنه كان من العادة إكرام زوجات الشهداء بالزواج منهن بعد أن يستوفوا عدتهن فقبلت الزواج منه فتزوجها علي 400 دينار .
وفي ذلك الوقت وبعد معركة اليرموك بدأ المسلمون يستكملون فتح بلاد الشام حيث كانت حروب الشام مازالت لم تنته بعد وكان المسلمون يستهدفون دمشق عاصمة الشام ومن بعدها حمص وحماة وحلب وقنسرين في أقصي شمال الشام فلما نزل المسلمون مرج الصفر وهو سهل واسع إلى الجنوب من دمشق يحده من الشمال الضفة اليمنى من نهر الأعوج وهو نهر صغير طوله 70 كم يقع في سوريا حاليا ينبع من جبل الشيخ بهضبة الجولان ويمر بسهل غوطة دمشق الذى يحيطها من الشرق والغرب والجنوب أراد خالد أن يعرس بأم حكيم فجعلت تقول لو أخرت الدخول حتي يفض الله هذه الجموع فقال خالد لها إن نفسي تحدثني أني سأصاب في جموعهم فقالت فدونك فأعرس بها عند قنطرة بمرج الصفر سميت فيما بعد بقنطرة أم حكيم وأولم عليها ودعا أصحابه علي طعام فما فرغوا من الطعام حتي صفت الروم صفوفها صفوفا خلف صفوف وبرز رجل منهم يدعو إلي المبارزة فبرز إليه أبو جندل سهيل بن عمرو العامرى فنهاه أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه فبرز إليه حبيب بن مسلمة فقتله حبيب ورجع إلي موضعه وبدأت المعركة وقاتل خالد بن سعيد بن العاص رضى الله عنه حتي إستشهد في هذا اليوم وكانت هذه المعركة في شهر المحرم عام 14 هجرية في أوائل عهد الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب ولما علمت أم حكيم بنبأ إستشهاد زوجها الذى لم يمر يوم واحد علي زواجها منه شدت عليها ثيابها وخلعت عمود خيمتها التي بات فيها خالد بن سعيد بن العاص رضي الله عنه معرسا بها وقتلت به سبعة من جنود الروم ولذا فقد أصبحت فيما بعد تكنى بقاتلة السبعة وأدخلت بشجاعتها الرعب في قلوب الأعداء ورفعت معنويات فرسان الإسلام حتى أحرزوا النصر المبين علي الروم فيا له من عرس ويا لهأ من عروس تقاتل ليلة زفافها ويا لها من شجاعة وقوة جعلتها تقتل سبعة رجال بمفردها وهي المرأه الضعيفة بذاتها القوية بإيمانها بربها وما أروع تلك البطولة الفريدة التى سطرها لنا التاريخ عن أم حكيم وإكراما لها بعد ذلك تزوجها الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه لكنها لم تعمر معه طويلا حيث توفيت بعد ولادتها لإبنتها من عمر فاطمة بنت عمر بن الخطاب فإحتسبت من الشهداء نظرا لوفاتها في فترة النفاس وبعد ذلك لما قتل الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو إمام للمسلمين في صلاة الفجر علي يد عدو الله الشقي أبي لؤلؤة المجوسي فمات شهيدا لقبت أم حكيم بزوجة الشهداء الثلاثة عكرمة بن عمرو بن هشام وخالد بن سعيد بن العاص وعمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين وبعد كانت هذه قصة أم حكيم بنت الحارث التي دخلت في الإسلام وحسن إسلامها ولم تترك زوجها الأول في طريق الضلال بل كانت وفية مخلصة شاغلها الأول أن يدخل زوجها في دين الله فيدخل الجنة وينجو من النار ولتصدق رؤيا الرسول الكريم محمد صلي الله عليه وسلم فيه ثم كانت العروس التي تقاتل أعداء الله ليلة زفافها فكانت قاتلة السبعة بعمود خيمة عرسها لتبقي ذكراها خالدة أبد الدهر ومواقفها في الوفاء لأزواجها نبراسا ومصباحا مضيئا يضئ الطريق أمام كل زوجة تريد أن تسجل صفحات جديدة من الوفاء والإخلاص للزوج فاللهم إرزق نساء المسلمين قوة إيمانها وتمسكها بدينها ووفائها وإخلاصها .
|