بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا"
الإمام القرطبي هو أحد العلماء والفقهاء الجهابذة الكبار الذين كانت لهم بصمةٌ واضحةٌ في علم التفسير كما أنه كان من كبار أئمة وفقهاء مذهب الإمام مالك بن أنس والمعروف بالمذهب المالكي نسبة إليه وإسمه بالكامل هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فَرح الأنصارى الخزرجي الأندلسي والملقب بإسم القرطبي نسبة إلي مدينة قرطبة الأندلسية التي شهدت مولده وإقامته بها في عصر الدولة الموحدية بالأندلس حتي سقوطها في يد الملوك القشتاليين الكاثوليك في يوم 23 من شهر شوال عام 633 هجرية الموافق يوم 29 يوليو عام 1236م وذلك بعد معركة العقاب التي وقعت في يوم 15 صفر عام 609 هجرية الموافق يوم 16 يوليو عام 1212م والتي شكلت نقطة تحول في تاريخ بلاد الأندلس وكانت إيذانا بإنهيارها تدريجيا بعد أن تجمعت قوات الملك المسيحي الكاثوليكي الفونسو الثامن ملك قشتالة وقوات منافسيه السياسيين الملوك سانشو السابع ملك نافارا والفونسو الثاني ملك البرتغال وبيدرو الثاني ملك أراجون ضد قوات دولة الموحدين المسلمين حكام الجزء الجنوبي من شبه الجزيرة الأيبيرية ومناطق واسعة من شمال وغرب القارة الأفريقية وكان يقود قوات الموحدين السلطان محمد الناصر الموحدى التي جاءت من شتى مناطق الدولة للمشاركة في المعركة المذكورة والتي إنتهت بإنتصار الملوك المسيحيين وبعد إنتهاء المعركة مباشرة تقدم المسيحيون تجاه حصن مدينة أوبيدا بمنطقة أندلوسيا بجنوب بلاد الأندلس وإستردوا الحصن والمدينة وقتلوا 60 ألفا من أهلها ومن مدينة أوبيدا إنطلق الملك المسيحي فرناندو الثالث بإتجاه قرطبة وتمكن من إسقاطها وإحتلالها في التاريخ المذكور في السطور السابقة وكان ميلاد الإمام القرطبي في أوائل القرن السابع الهجرى في مدينة قرطبة كما ذكرنا في السطور السابقة وغير معلوم بالتحديد سنة ميلاده حيث أفاد المؤرخون أن عام ميلاده ما بين عام 600 هجرية وعام 610 هجرية ومنذ صغره أقبل القرطبي على العلوم الدينية والعربية إقبال المحب لها الشغوف بها وفي قرطبة تعلم اللغة العربية والشعر إلى جانب تعلمه القرآن الكريم وعلومه المختلفة وتلقى بها ثقافة واسعة في الفقه والنحو والقراءات وغيرها على يد جماعة من العلماء المشهورين وقرأ القرطبي في بلده على شيخين مشهورين أولهما أبو جعفر أحمد بن أبي حجة وقال إبن عبد الملك المراكشي في الذيل والتكملة تلا القرطبي بالسبع قراءات في بلده على أبي جعفر بن أبي حجة أما الشيخ الثاني فهو أبو عامر يحيى بن ربيع القرطبي وقال إبن عبد الملك المراكشي أيضا في الذيل والتكملة روى القرطبي عن أبي عامر بن ربيع وأكثر عنه وكانت قرطبة في ذلك الوقت منتهى الغاية ومركز الراية وأم القرى وقرارة أولي الفضل والتقى ووطن أولي العلم والنهى وقلب إقليم الأندلس وينبوع العلوم ومن أفقها بزغت نجوم الأرض وأعلام العصر وفرسان النظم والنثر وبها ألفت التأليفات الرائعة وصنفت التصنيفات الفائقة وكانت أيضا أكثر بلاد الأندلس كتبا وأهلها أشد الناس إعتناءا بخزائن الكتب حتى قيل إنه إذا مات عالم بمدينة إِشبيلية فأريدَ بيع كتبه حملت إلى مدينة قرطبة حتى تباع فيها وكان القرطبي يعيش آنذاك في كنف أبيه ورعايته وكانت حياته متواضعة إذ كان من أسرة متوسطة الحال لكنها كانت ذات حسب ونسب كما أنه إستطاع أن يرفع من شأن أسرته وأعلى ذِكرها بما قدم من آثار ومؤلفات .
وبقي الإمام القرطبي في كنف أبيه حتى إستشهاده في يوم الثالث من شهر رمضان عام 627 هجرية الموافق يوم 15 يوليو عام 1230م علي أثر غارة شنها القشتاليون علي قرطبة ويفيدنا الإمام القرطبي حول حادث إستشهاد والده بمسائل فقهية بقوله وكان في جملة من قتل والدى رحمه الله علي أثر غارة القشتاليين فسألت شيخنا المقرئ الأستاذ أبا جعفر أحمد المعروف بأبي حجة فقال غسله وكفنه وصل عليه فإن أباك لم يقتل في المعترك بين الصفين ثم سألت شيخنا أبا عامر بن عبد الرحمن بن أحمد بن ربيع فقال إن حكمه حكم القتلى في المعترك ثم سألت قاضي الجماعة القرطبي أبا الحسن علي بن قطرال وحوله جماعة من الفقهاء فقالوا غسله وكفنه وصل عليه ففعلت ثم بعد ذلك وقفت على المسألة في التبصرة للفقيه المالكي أبي الحسن اللخمي وغيرها ولو كان ذلك قبل ذلك ما غسلته ولا كفنته وكنت دفنته بدمه في ثيابه وهكذا نرى كيف تعامل القرطبي مع حادث عاطفي متعلق بإستشهاد والده تعاملا علميا حيث لم يركن إلى أقوال فقهاء عصره بل تعمق في البحث حتى إطمأن إلى غير ما كان قام به إزاء تجهيز والده الشهيد عليه رحمة الله وبعد إستشهاد أبيه وكان القرطبي في ريعان الشباب إضطر إلى جانب تلقيه العلم أن يعمل في بعض المهن المتواضعة وقد ذكر ذلك في كتاب التذكرة فقال ولقد كنت في زمن الشباب أنا وغيرى ننقل التراب على الدواب من مقبرة عندنا تسمى بمقبرة اليهود خارج مدينة قرطبة وذلك لزوم صنع الخزف لكي يتحصل علي قوت يومه وكانت صناعة الخزف والفخار من الصناعات التقليدية التي إنتشرت في قرطبة آنذاك وكانت للإمام القرطبي منذ بداية حياته العلمية مواقف واضحة من الفساد السياسي والإجتماعي الذى ظهرت بعض ملامحه في عصره ولم يحل تفانيه في التصنيف والتأليف بينه وبين إعلان موقفه السياسي بروح إصلاحية واضحة المعالم ويقول في التذكرة هذا هو الزمان الذي إستولى فيه الباطل على الحق وتغلب فيه العبيد على الأحرار من الخلق فباعوا الأحكام ورضي بذلك منهم الحكام فصار الحكم مكس والحق عكس لا يوصل إليه ولا يقدر عليه بدلوا دين الله وغيروا حكم الله سماعون للكذب أكالون للسحت وقال في التذكرة أيضا وكنت ببلاد الأندلس قد قرأت أكثر كتب الإمام والمقرئ الفاضل أبي عمرو عثمان بن سعيد المتوفى 444 هجرية كما كان قارئا نهما لكتب العلامة والمحدث والفقيه المالكي والمؤرخ أبو عمر يوسف بن عبد الله الدمرى المعروف بإبن عبد البر والعلامة المالكي الشيخ أبو بكر إبن العربي المعافري الإشبيلي وقد نقل عنهما الكثير ولا سيما التمهيد للأول والأحكام للثاني ونذكر هنا من شيوخ الإمام القرطبي الإمام المحدث الشيخ عبد الوهاب بن رواج الإسكندرانى المالكي المتوفى عام 648 هجرية والإمام والعلامة المصرى بهاء الدين بن الجميزى الشافعي المتوفى عام 649 هجرية والإمام الفقيه المحدث أبو عباس أحمد بن عمر المالكي القرطبي المتوفى عام 656 هجرية صاحب المفهم في شرح صحيح مسلم والإمام الشيخ المحدث الحسن البكري النيسابورى الدمشقي المتوفى عام 656 هجرية أيضا .
ولما هجم القشتاليون علي قرطبة في عام 633 هجرية وتمكنوا من إحتلالها كاد الإمام القرطبي أن يقع في الأسر إلا أن الله قد نجاه وعن قصة نجاته من الأسر بعد سقوط قرطبة في يد القشتاليين يقول كنت أعرف حصنا ببلادنا الأندلس من أعمال قرطبة فلما هربت أمام العدو وإنزحت إلى ناحية من هذا الحصن فلم ألبث أن خرج في طلبي فارسان قشتاليان وأنا أقرأ آيات من أول سورة يس وغير ذلك من آيات القرآن الكريم فعبرا علي ثم رجعا من حيث جاءا وأحدهما يقول للآخر هذا ديبله أى شيطانا وأعمى الله عز وجل أبصارهما فلم يرياني والحمد لله حمدا كثيرا على ذلك ويستنتج العلامة والباحث المغربي الدكتور محمد بنشريفة في كتابه الإمام القرطبي المفسر من هذا الحادث الطريف أن الإمام القرطبي كان على إلمام ببعض مبادئ اللغة القشتالية التي لم تكن غريبة عنه تماما ولا أرى هذا غريبا في حق عالم أبدى منذ حداثة سنه همة عالية في تحصيل العلم والتعمق في مسائله وحدث أن خرج بعد ذلك الإمام القرطبي من بلدته قرطبة التي ولد وعاش وتعلم بها متوجها نحو مصر وغير معروف لنا بالتحديد تاريخ رحلته إلى مصر كما أننا لا نعرف الطريق الذي سلكه في رحلته وقد يكون قد رحل من قرطبة في رفقة شيخه الإمام والفقيه أبي العباس أحمد بن عمر والمعروف أن هذا خرج من قرطبة مهاجرا ومر بسبتة وفاس وتلمسان وتونس ثم نزل الإسكندرية وإستقر بها إلى أن مات فيها عام 656 هجرية وقد روى الإمام القرطبي كثيرا عن هذا الشيخ الجليل وقد ورد عند المؤرخ والأديب والشاعر المملوكي صلاح الدين الصفدى في الوافي بالوفيات أن الإمام القرطبي دخل مصر القديمة ولقي الإمام شهاب الدين القرافي شيخ علمائها يومئذ ولعله إستدعاه في وقت من أوقات الربيع إلى نزهة في أرض الفيوم كما جرت عادة أهل مصر وبعد ذلك إستقر الإمام القرطبي بمنية إبن خصيب بوسط صعيد مصر والتي كان قد حكمها الوالى العباسي إبن خصيب فنسبت اليه وسميت منية إبن خصيب أي بستان إبن خصيب ويقول العلامة الدكتور محمد بنشريفة لا ندرى سبب إختيار القرطبي المقام بقرية منية إبن خصيب في صعيد مصر والمطلة علي نهر النيل ولكننا نعرف أن عددا غير قليل من أهل بلاد الأندلس وبلاد المغرب إستقروا إختيارا أو إضطرارا بمختلف مدن صعيد مصر ولعل إختيار القرطبي منية إبن خصيب لكونها تذكره بمنية نصر التي ربما نشأ بمنطقتها ببلدته قرطبة ومهما يكن السبب فإن الإمام القرطبي كان زاهدا ميالا إلى الزهد والتقشف مطرحا للتكلف ونقرأ في كتاب نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب للمؤرخ الجزائرى الأصل أحمد المقرى التلمساني والذى يعد من أعلام الفكر العر بي أن الإمام القرطبي كان يمشي بثوب واحد وعلى رأسه طاقية ورجل هذه حاله يضيف فيما كتبه عنه الدكتور محمد بنشريفة ربما تكون بلاد الريف أنسب له وأليق به للعيش والإقامة بها من المدن الكبرى ويبدو أنه كان معجبا بنهر النيل يطيب له ركوبه والتنزه فيه والتدارس على ظهره .
و كان الإمام القرطبي رحمه الله تعالى كثير المطالعة مجدا في التحصيل وكان يحب الكتب حبا جما ويحرص على جمعها وإقتنائها حتى لقد تجمع لديه منها مجموعات كثيرة ومتنوعة وبخصوص مؤلفاته فنجده كان دائما ملتزما بالقواعد المنهجية في تعاطيه مع صناعة التأليف وكان حريصا على إثبات الفضل لأهله وكان من هذه المؤلفات الجامع لأحكام القرآن وهو كتاب جمع تفسير القرآن الكريم كاملا وكتاب التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة وكتاب التذكار في أفضل الأذكار وكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وكتاب الإعلام بما في دين النصارى من المفاسد والأوهام وإظهار محاسن دين الإسلام وكتاب قمع الحرص بالزهد والقناعة وكتاب المقتبس في شرح موطأ الإمام مالك بن أنس وكتاب اللمع اللؤلؤية في شرح العشرينات النبوية وكان أهم وأشهر هذه المؤلفات والتي حملت إسم الإمام القرطبي عبر الزمان هو كتاب الجامع لأحكام القرآن المعروف بتفسير القرطبي وفي هذا الكتاب حرص علي إضافة الأقوال إلى قائليها والأحاديث إلى مصنفيها وكان يقول من بركة العلم أن يضاف إلى قائله وقد أشار القرطبي في تفسيره إلى مؤلفات له منها المقتبس في شرح موطأ مالك بن أنس واللمع اللؤلؤية في شرح العشرينات النبوية وإن المطلع على تفسير الإمام القرطبي الجامع لأحكام القرآن يجده قد إستوعب فيه علوم من سبقه من المفسرين كمحمد بن جرير الطبرى صاحب جامع البيان في تفسير القرآن المتوفى عام 310 هجرية والفقيه والقاضي أبو الحسن على بن محمد البصرى المارودي المتوفى عام 450 هجرية واللغوى وعالم النحو والحديث المصرى أبو جعفر النحاس صاحب كتابي إعراب القرآن ومعاني القرآن المتوفى عام 338 هجرية وقد نقل عنه الإمام القرطبي كثيرا والفقيه الأندلسي أبو محمد عبد الحق بن عطية المتوفي عام 541 هجرية صاحب المحرر الوجيز في التفسير وقد أفاد القرطبي منه كثيرا في القراءات واللغة والنحو والبلاغة والقاضي الإشبيلي المالكي أبو بكر بن العربي صاحب كتاب أحكام القرآن المتوفي عام 543 هجرية هذا ويجمل العلامة الدكتور محمد بنشريفة في كتابه عن القرطبي البيئة العلمية التي نشأ بها الإمام القرطبي بالأندلس مستنبطا من خلال كتابيه الجامع والتذكرة أن تكوينه العلمي المتين قد حدث في بلاد الأندلس قبل أن يرحل إلي مصر ويذكر أنه في هذين الكتابين أخذ عن العديد من علمائها الكبار كأبي بكر بن العربي والمؤرخ والفقيه أبي الفضل القاضي عياض والمفسر والمحدث أبي محمد بن عطية والمحدث والشاعر أبي الخطاب بن دحية وعالم الحديث المالكي أبي الحسن بن بطال والإمام الإشبيلي الأندلسي أبي بكر بن برجان والفقيه المالكي أبي الوليد الباجي والفقيه الأندلسي عبد الحق الإشبيلي والفقيه المالكي الأندلسي أبي بكر الطرطوشي والعالم والفقيه إمام المالكية في عصره أبي عبد الله المازرى والفقيه اللغوى الأندلسي أبو الحسن علي بن إسماعيل والمعروف بإبن سيدة والفقيه والمحدث والنحوى أبي القاسم السهيلي .
وقد تأثر كثير من المفسرين الذين جاءوا بعد القرطبي بتفسيره منهم الحافظ بن كثير المتوفى عام 774 هجرية وأبو حيان الأندلسي الغرناطي المتوفى عام 754 هجرية وذلك في تفسيره البحر المحيط ومحمد علي الشوكاني أحد أبرز علماء أهل السنة والجماعة وفقهائها وأحد كبار علماء اليمن والمتوفى عام 1255هجرية والذى إستفاد من القرطبي كثيرا في تفسيره فتح القدير ولا شك أن تفسير القرطبي يعتبر موسوعة عظيمة حوت كثيرا من العلوم فهو من أجل التفاسير وأنفعها وقد أسقط منه القرطبي القصص والتواريخ وبين أحكام القرآن الكريم وإستنباط الأدلة وذكر القراءات والإعراب وعني بذكر أسباب النزول ويعد كتابه الجامع لأحكام القرآن الكريم من أوائل الكتب التي نهجت هذا النهج في إستخراج الأحكام من القرآن الكريم وقد ذكر القرطبي في مقدمة كتابه فلما كان كتاب الله هو الكفيل بجميع علوم الشرع الذى إستقل بالسنة والفرض ونزل به أمين السماء جبريل إلى أمين الأرض النبي محمد صلي الله عليه وسلم رأيت أن أشتغل به مدى عمرى وأستفرغ فيه قوتي بأن أكتب فيه تعليقا وجيزا يتضمن نكتا من التفسير واللغات والإعراب والقراءات وبيان غريب الألفاظ وتحديد أقوال الأئمة والفقهاء والرد على أهل الزيغ والضلالات وأحاديثنا كثيرة شاهدة لما نذكره من الأحكام ونزول الآيات جامعا بين معانيها ومبينا ما أشكل منهما بأقاويل السلف ومن تبعهم من الخلف وعملته تذكرة لنفسي وذخيرة ليوم رمسي وعملاً صالحا بعد موتي ومما يذكر أنه من مميزات تفسير الإمام القرطبي تضمنه لأحكام القرآن الكريم بتوسع وتخريجه الأحاديث وعزوها إلى من رووها غالبا وهذا عمل منهجي كبير وجدير بالملاحظة أن الإمام القرطبي تجنب ما إستطاع الإكثار من ذكر الإسرائيليات والأحاديث الموضوعة إلا من بعض مواطن كان يمر عليها دون تعقيب كما أنه كان إذا ذكر بعض الإسرائيليات فإنه كان يستفرغ جهده في إظهار ضعفها كما فعل في قصة هاروت وماروت وقصة النبيين داود وسليمان عليهما السلام وقصة الغرانيق وهي أمور تداولها المفسرون قبل وبعد القرطبي دون نقد أو تمحيص ثم أكثر من الإستشهاد بأشعار العرب ولذلك يمكن إعتبار كتاب الجامع لأحكام القرآن وثيقة ثمينة ضمت الفقه والأصول والأدب والرجال وشاهدة على الروح العلمية التي كانت سائدة في عصر الإمام القرطبي وعلى المادة العلمية المتداولة والعلاقات بين العلماء والفقهاء والمحدثين ومسارات إنتقال العلم من جيل لآخر عبر التلمذة والإجازة والرحلة وكم يعتبر هذا المبحث رائقا ومفيدا ذلك أنه شاهد موضوعي على الحياة الثقافية والفكرية وراصدا لتحولاتها قوة وضعفا .
ويمكننا أن نتبين منهج القرطبي في تفسيره للقرآن الكريم ما ذهب إليه في تفسيره لسورة الحاقة حيث يقول القرطبي قوله تعالى الحاقة ما الحاقة يريد القيامة وقد سميت بذلك لأن الأمور تحق فيها وقال ايضا سميت حاقة لأنها تكون من غير شك وقال أيضا سميت بذلك لأنها أحقت لأقوام الجنة وأحقت لأقوام النار وقال كذلك سميت بذلك لأن فيها يصير كل إنسان حقيقا بجزاء عمله وعلاوة علي كل ما ذكرناه عن منهج القرطبي في كتابه الجامع لأحكام القرآن فإننا نجده كان غير متعصب للمذهب المالكي ذلك أنه عند ذكره لمسائل الخلاف بين العلماء كان لا يتعصب لمذهبه المالكي بل يمضي مع الدليل حتى يصل إلى ما يراه أنه الحق ومن أمثلة ذلك ما ذكره القرطبي في آيات الصيام عند قوله تعالى ولِتُكْمِلوا العِدَّةَ في المسألة السابعة عشرة في حكم صلاة عيد الفطر في اليوم الثاني مع نقله عن إبن عبد البر أنه لا خلاف عند مالك وأصحابه أنه لا تصلى صلاة العيد في غير يوم العيد ولا في يوم العيد بعد الزوال وحجتهم في ذلك أن صلاة العيد لو قضيت بعد خروج وقتها لأشبهت الفرائض وقد أجمعوا في سائر السنن أنها لا تقضى فهذه مثلها لكن صاحبنا يعلق بقوله قلت والقول بالخروج إن شاء الله أصح للسنة الثابتة في ذلك ولا يمتنع أن يستثني الشارع من السنن ما شاء فيأمر بقضائه بعد خروج وقته وقد روى الترمذى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يصل ركعتي الفجر فليصلهما بعد ما تطلع الشمس ومن أمثلة ذلك أيضاً مسألة تقديم الحلق على الذبح في يوم النحر فقد وضح أن ظاهر المذهب المنع من تقديم الحلق على الذبح إن كان عامدا قاصدا ثم قال والصحيح الجواز لحديث الصحابي عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال لكل من سأله إفعل ولا حرج ومع عدم التعصب للمذهب المالكي من جانب الإمام القرطبي وأقوال أئمته إلا أنه كان أيضا حريصا في تفسيره التحقيق التام للمذهب المالكي حيث يذكر روايات الإمام مالك في المسألة ومن وافق ومن خالف وذلك في كثير من المسائل ومع ذلك قد يرجح بين هذه الأقوال ومثال ذلك أنه لما ذكر قدر السفر الذي يترخص فيه المسافر بالرخص في آية الصيام قال وإختلف العلماء في قدر ذلك فقال مالك يوم وليلة ثم رجع فقال ثمانية وأربعون ميلا كما ذكر أن الفقيه المالكي إبن خويزمنداد قال مرة إثنان وأربعون ميلا وقال مرة ستة وثلاثون ميلا وقال مرة مسيرة يوم وليلة كما روى عنه في قول آخر يومان وهو قول الإمام الشافعي أيضا وفصل مرة بين البر والبحر فقال في البحر مسيرة يوم وليلة وفي البر ثمانية وأربعون ميلا .
وعن آراء بعض العلماء عن الإمام القرطبي فقد قال عنه القاضي والفقيه المالكي إبراهيم بن فرحون إنه كان من عباد الله الصالحين والعلماء العارفين الورعين الزاهدين في الدنيا المشغولين بما يعنيهم من أمور الآخرة أوقاته معمورة ما بين توجه وعبادة وتصنيف وقال عنه المؤرخ شمس الدين الذهبي كان القرطبي إمام متفنن متبحر في العلم وقال إبن العماد الحنبلي عنه إنه كان إماما علما من الغواصين على معاني الحديث وقال عنه المؤرخ والكاتب خير الدين الزركلي إنه كان من كبار المفسرين صالح متعبد أما آراء العلماء في مؤلفات الإمام القرطبي فقد قال شمس الدين الذهبي عن مؤلفاته إنه كانت له تصانيف مفيدة تدل على كثرة إطلاعه ووفرة فضله وقد سارت بتفسيره العظيم الشأن الركبان وهو كامل في معناه وله كتاب الأسنى في الأسماء الحسنى وكتاب التذكرة وأشياء تدل على إمامته وذكائه وكثرة إطلاعه وقال إبن فرحون عن كتابه جامع أحكام القرآن والمبين لما تضمن من السنة وآيات القرآن الكريم وهو من أجل التفاسير وأعظمها نفعا أسقط منه القصص والتواريخ وعرض فيه أحكام القرآن وإستنباط الأدلة وذكر القراءات والإعراب والناسخ والمنسوخ وقال إبن فرحون أيضا وكتاب التذكار في أفضل الأذكار وضعه على طريقة التبيان للإمام النووى لكن هذا أتم منه وأكثر علما وقال إبن فرحون أيضا عن كتابه قمع الحرص بالزهد والقناعة ورد ذل السؤال بالكتب والشفاعة لم أقف على تأليف أحسن منه في بابه وقال المؤرخ والفقيه عبد الحي بن احمد بن العماد الحنبلي عن مؤلفاته حسن التصنيف جيد النقل وأخيرا كانت وفاة الإمام القرطبي في منية إبن خصيب بصعيد مصر ليلة الإثنين التاسع من شهر شوال عام 671هجرية الموافق يوم 28 ابريل عام 1273م وقبره ما يزال موجودا بمدينة المنيا حتي الآن شرقي نهر النيل .
|