الخميس, 28 مارس 2024

abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
الرئيسية
بانوراما
فرعونيات
بلاد وشركات
الحدث السياحي
سحر الشرق
سياحة وإستشفاء
أم الدنيا
حج وعمرة
أعمدة ثابتة
درجات الحرارة
اسعار العملات
abou-alhool

محمود درويش.. الذي يقول: من أنا لأقول لكم ما أقول لكم؟...
من كتابي الجديد "زهرة البركان".

محمود درويش.. الذي يقول: من أنا لأقول لكم ما أقول لكم؟... 
من  كتابي الجديد -زهرة البركان-.
عدد : 02-2023
بقلم الدكتورة / .ريم عبدالغني

كان ذلك في منتصف التسعينيّات..
كنتُ وزوجي مدعوين إلى العشاء لدى د فواز طرابلسي (السياسي والكاتب اللبناني المثقف) وزوجته في منزلهما بباريس..
وكان من الحاضرين الشاعر محمود درويش والسيّدة ليلى شهيد مندوبة فلسطين في باريس واليونسكو.
أفرحتني فكرة اللقاء به.. أليس هو من كنتُ معجبة بشعره منذ حفظت:
يا دامي العينين والكفّين
إن الليل زائل
لا غرفة التحقيق باقية
ولا زرد السلاسل
نيرون مات ولم تمت روما
بعينيها تقاتل
وحبوب سنبلة تجفّ
ستملأ الوادي سنابل
اليوم -وربّما منذ ذلك الحين- لا أذكر تفاصيل مثل اللباس أو تفاصيل المكان أو أطباق الطعام أو غيرها مما زال...
لكن ما لا يمكن أن أنساه.. ولا يزول.. هو تلك العينان القويّتان في زرقتهما حزن البحر ووداعة جبروته الكامن..
ذكاء حاد.. ونزق طفل.. وحجب وراء حجب تحمي حساسيّة متعِبة ومتعَبة..
كان الحوار سياسيّاً طبعاً.. وكنت أُصغي ولا ألتقط الكثير..
كنتُ حديثة العهد في هذ المجال.. وسأبقى.. لكنّني في تلك الفترة وكنتُ قد تزوّجتُ قبل بضعة سنوات فقط- لم أكن أفقه في السياسة البتّة..البتّة..
فقبل زواجي بالرئيس علي ناصر محمّد (رئيس اليمن الأسبق) كنت أُسارع لإقفال التلفاز خلال نشرات الاخبار.. السياسة ارتبطتْ بالنسبة لي منذ طفولتي بالمتاعب والسجون.. وأنا منعائلة توازع أفرادها الاهتمامات بين التجارة والعلم.. لا يحبون السياسة ويبتعدون عنها..
وكنتُ مهتمّة بالأدب والشعر والفنون.. ولذلك اخترتُ دراسة الهندسة المعماريّة..
هذه المقدّمة لكي تتخيّلوا امرأة في العشرينات من عمرها، على طاولة عشاء مع مجموعة مثقّفين يساريين، ومن قبالتها منهم؟.. العملاق محمود درويش.. الذي يقول:
من أنا لأقول لكم ما أقول لكم؟...
من أنت؟.. يا إلهي..أنت دَروييييييش..
درويش الذي كان حلمي أن ألتقي به يوماً..
لذا.. لم أجرؤ على أن أتفوّه بحرف.. لا سيما وأن الحديث في مجال لا أحبّه أصلا ً وهو السياسة..
واظبتُ على الايماء برأسي طيلة الوقت..
تظاهرتُ أحياناً بمداعبة قطّة زوجة الدكتور فواز الصغيرة البيضاء.. شعرتُ بقاسم مشترك.. كلتانا كانتْ غريبة عمّا يدور..
لكن حظّها كان أفضل إذ لا تستطيع الكلام..
أما أنا فقد تولّتني للأسف شجاعة.. أو لنقل تهوّر..
ففي لحظة صمت قصيرة عمّت المكان.. قررتُ -وليتني لم أقرر- أن.. أتكلّم..
الموضوع الوحيد الذي توارد إلى أفكاري، كان الكتاب الملقي من أسابيع قرب سريري.. وكان الأوّل ضمن مجموعة كتب أتى بها زوجي إليّ لأقراها.. لتكوين فكرة ولو بسيطة عما يدور في العالم.. وكان عنوانه "الصراع على سوريّة"..
وهنا أودّ أن أذكر أن الكتب التي تناولتْ اليمن ضمن المجموعة المختارة انقسمتْ بين وثائقيّة تدّعي الحياد أو مناهضة للرئيس علي ناصر ومسيرته.. كان يريد أن أسمع وجهات النظر المعاكسة لكي أكوّن قناعات حقيقيّة.. وهذا زاد في احترامي لعقله..
وخلال العقود الماضيّة، شهدتُ أكثر من مرّة الطريقة المتسامحة والموضوعيّة التي يتعامل بها مع من يخالفه الرأي.. فبعد قراءته لروايّة "وردة" للكاتب المصري صنع الله إبراهيم، وخلال أحداثها التي تدور حول ثورة عُمان، انتقد الكاتب قيادة عدن، معتبراً أنها تخلّت عن ثورة ظفار لصالح السلطان قابوس بن سعيد. فأصرّ أبو جمال على اللقاء بصنع الله، وخلال استضافته على العشاء، ناقشه في التفاصيل التي أوردها في كتابه. وفي نهايّة اللقاء اعترف صنع الله أنه لم يزر عدن أبداً، واعتذر عن بعض المعلومات غير الدقيقة التي أوردها.. وأبدى استعداده للمراجعة والتعديل.. وكانت دهشتي كبيرة أن أبو جمال رفض بلطف مؤكداً أن هدفه كان فقط الإيضاح للتاريخ.

أعود إلى تلك الرغبة الحمقاء في مشاركة الحوار على مائدة عشاء في باريس .. في حضرة نخبة من المثقفين .. وعلى رأسهم من؟ .. محمود درويش بشحمه ولحمه..
فتحتُ فمي وسمعتني أقول بصوت غريب:
"أقرأ هذه الأيّام كتاب جيد"..
تابعتُ دون أن يسألني أحد:
"الصراع على سوريّة... ربّما اطلعتم عليه"..
امتد الصمت.. وإن بدا لي -بعد كلماتي- انه ازداد صمتاً..
مهلاً.. هل كانت تلك التقطيبة بين حاجبيّ درويش موجودة قبلاً؟.. هل يلوح طيف سخريّة عابثة في نظراته؟. لا.. لا بدّ أنّها تهيؤات.. تابعتُ:
"احم.. الكاتب بريطاني اسمه باتريك سيل.. كاتب ممتاز"...
أيقنتُ الآن أنّ التقطيبة موجودة..
بل وتزداد تشنّجاً..
تابعتُ وأنا أتمنّى أن أكون مخطئة:
"بريطاني.. لكنّه "صهرنا"، فهو متزوّج من الكاتبة رنا قباني ، ابنة اخ الشاعر الكبير نزار قباني.. محظوظ"..
هنا.. استطعتُ تمييز عضلات فكّيه تتحرك بعصبيّة..
والتفتُ باستغراب إلى علي الذي تكلّف السعال.. هل يريد لفت نظري إلى شيء ما؟..
الصمت مستمرّ.. لكنه الآن محرج.. مصحوب بنظرات استغراب وربما استياء..
لحسن الحظ أنّي استوعبتُ إشارة علي.. عيونه قالت: "أتوسّل إليك أن تغلقي فاك"..
طأطأتُ برأسي متظاهرة بمداعبة فرو شريكتي البيضاء الحكيمة.. ليتني حذوتُ حذوها..
بعد دقائق طويلة.. سمعتُ صوت درويش يخاطبني.. كان صوته-أو سوطه- عدائيّاً قاسياً:
" تحبّين القطط؟"..
أومأتُ بالإيجاب.. لأني قررتُ أن لا أفتح فمي مجدّداً..
قال:
"لأنكن -أنتن الشاميات- كالقطط.. مثلها تماماً"..
" أنتن الشاميات "؟ خرجتْ من بين شفتيه تحمل دلالات غير جغرافيّة.. "مثل القطط"؟.. لا تبدو مديحاً..
كمّ البرود والغضب المكبوت الذي وصلني بين حروفه.. جعلني-دون وعي- أدفع عني القطة فجأة.. كأنّني ادفع اتهامه..
وكنت لأردّ، ربّما، لولا تدخّل د فواز بلباقته، لتغيير اتجاه الحديث والجوّ..
بعد العشاء، خلال عودتنا تلك الليلة إلى المنزل كان علي كعادته صامتاً..
لكنّي كنتُ أريد أن أعرف أين أخطأتُ لكي يُستفزّ درويش إلى هذا الحد..
أجاب زوجي ببضعة كلمات كانت كافية لأموت خجلاً:
"يا ريم.. من بين كلّ الكتب والكتّاب، لم تختاري إلا كتاب باتريك سيل؟". أجبتُ بحدّة:
-"وما خطبه؟ أنتَ من قلت أنّه كاتب جيّد"..
-"ليست المشكلة هو أو كتابه.. بل زوجته"..
انخفض صوتي وأنا أسأل بقلق:
" لماذا؟.. ماذا بشأنها؟".
"سلامتك.. معلومة بسيطة.. رنا قبّاني هي طليقة محمود درويش.. قبل فترة وجيزة.. ولا أحد سيصدّق -ما عداي- أنّك لا تعرفين الأمر.. وأنّ حديثك عنها.. كان.. بالصدفة..
يا للخجل..
على كلِ..
يقولون ما من محبّة إلّا بعد عداوة..
وتلك، كانتْ فقط الجولة الأولى..
التقينا بسيّد شعر فلسطين مرّات بعدها..
حاولت إصلاح الموقف..
دعوناه للعشاء لدينا.. وزرناه في شقته الباريسيّة القريبة من برج ايفل...
و"رأيتُ" خلال لقاءاتنا الشاعر الرقيق والطفل النزق الذي كان يحتمي بأقنعته الساخرة.. رحمة الله عليه..
مات درويش رحمه الله في اغسطس ٢٠٠٨م... والله ليس بسببي.. بل قلبه..
كان يقول: "أنا أؤلّف الشعر وقلبي يؤلّف الكولسترول...فيسبقني"..
مات في غرفة عمليات بمشفى في أمريكا، والكثيرون مقتنعون أنّها كانت "عمليّة قتل" وليستْ "عمليّة قلب"..
قبلها بفترة وجيزة كان قد كتب:
حَلِمْتُ بأنّ لي حلماً
سيحملني وأحملُهُ
إلى أن أكتب السطر الأخيرَ
على رخام القبرِ:
نِمْتُ... لكي أطير..
 
 
الصور :