الجمعة, 6 ديسمبر 2024

abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
الرئيسية
بانوراما
فرعونيات
بلاد وشركات
الحدث السياحي
سحر الشرق
سياحة وإستشفاء
أم الدنيا
حج وعمرة
أعمدة ثابتة
درجات الحرارة
اسعار العملات
abou-alhool

الإمام أبو حامد الغزالي

الإمام أبو حامد الغزالي
عدد : 02-2023
بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا"

الإمام أبو حامد محمد الغزالي الطوسي النيسابورى الصوفي الشافعي الأشعرى أحد أعلام عصره وعالم نحرير قل نظيره في تاريخ الإسلام وجهبذ من جهابذة العلماء وأحد أشهر علماء المسلمين في النصف الثاني من القرن الخامس الهجرى الموافق للنصف الثاني من القرن الحادى عشر الميلادى وذلك في زمن دولة السلاجقة العظام وهي إحدى الدول الكبرى التي تأسست في تاريخ الإسلام في منطقة وسط آسيا وكانت قد تأسست عام 1037م بالتوازى مع الدولة العباسية التي كانت قائمة حينذاك وكانت الدولة السلجوقية تتبعها إسميا وظلت قائمة حتي عام 1194م وعاصر الحروب الصليبية التي بدأت في أواخر القرن الحادى عشر الميلادى وجانب من الصراع الإسلامي البيزنطي الذى ظل قائما من منتصف القرن السابع الميلادى وحتي منتصف القرن الخامس عشر الميلادى وفضلا عن ذلك فقد كان فقيها وأصوليا وفيلسوفا وكان له أثر كبير وبصمة واضحة في عدة علوم مثل الفلسفة والفقه الشافعي وعلم الكلام والتصوف والمنطق وترك عددا من الكتب في تلك المجالات وكان صوفي الطريقة شافعي الفقه إذ لم يكن للشافعية في آخر عصره مثله وكان له منهج إصلاحي متفرد من خلال تشخيصه لأمراض المجتمع ووضع منهاج للتربية والتعليم وبناء العقيدة الإسلامية ومحاربة التيارات الفكرية المنحرفة وإصلاح الفكر وكان على مذهب الأشاعرة في العقيدة نسبة إلى إمامها ومؤسسها أبي الحسن الأشعرى الذى ينتهي نسبه إلى الصحابي الجليل أبي موسى الأشعرى وهي مدرسة إسلامية سنية تبع منهجها في العقيدة عدد من العلماء أمثال حجة الإسلام أبي حامد الغزالي والقاضي الملقب بشيخ السنة أبي بكر الباقلاني البصرى وإمام الحرمين والفقيه ابي المعالي عبد الملك الجويني والإمام والفقيه والمحدث أحمد بن الحسين المعروف بإسم البيهقي الخراساني وإمام الصوفية العالم والفقيه والمفسر أبي القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيرى والإمام والفقيه الفخر الرازى الطبرستاني والإمام والفقيه والعالم والمحدث أبي زكريا يحيي النووى والإمام والفقيه والمؤرخ جلال الدين السيوطي والإمام والفقيه الملقب بسلطان العلماء وشيخ الإسلام العز بن عبد السلام والإمام والفقيه الحافظ والمفسر تقي الدين السبكي والإمام الحافظ أبي القاسم علي إبن عساكر وغيرهم ويعتبر أتباع هذه المدرسة أنفسهم منهجا بين دعاة العقل المطلق وبين الجامدين عند حدود النص وظاهره وعلي الرغم من أنهم قدموا النص على العقل إلا أنهم جعلوا العقل مدخلا في فهم النص كما أشارت إليه الآيات الكثيرة التي حثت على التفكير والتدبر وهم لا يخالفون إجماع الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ولا يكفرون أحدا من أهل القبلة وقد عرف الإمام الغزالي كأحد مؤسسي هذه المدرسة الأشعرية في علم الكلام وأحد أصولها الثلاثة بعد مؤسسها أبي الحسن الأشعرى وهم الأئمة الباقلاني والجويني والغزالي وقد لقب الإمام الغزالي بألقاب كثيرة في حياته أشهرها لقب حجة الإسلام وكان له أيضا ألقاب أخرى عديدة مثل زين الدين ومحجة الدين وإمام أئمة الدين ومفتي الأمة وبركة الأنام وشرف الأئمة والعالم الأوحد وكان ميلاد الإمام الغزالي عام 450 هجرية الموافق عام 1058م في بلدة الطابران التابعة لقصبة طوس وهي أحد قسمي طوس وهي مدينة تاريخية توجد في إيران حاليا تسمي مشهد والتي تعد ثاني أكبر مدن إيران بعد طهران العاصمة وتشتهر بوجود مرقد الإمام الثامن من أئمة الشيعة الإثني عشر الإمام علي بن موسى الرضا ومشهده بها والذى به سميت تلك المدينة وكانت أسرته فقيرة الحال إذ كان أباه يعمل في صناعة غزل الصوف وبيعه في طوس ولذا فقد عرف بالغزالي نسبة إلى مهنة والده وقيل أيضا إنه نسب إلي بلدة غزالة وهي إحدى قرى طوس ولم يكن له أبناء غير أبي حامد وأخيه الأصغر أحمد .


وقد إختلف الباحثون في أصل الإمام الغزالي أعربي أم فارسي فهناك من ذهب على أنه من سلالة العرب الذين دخلوا بلاد فارس منذ بداية الفتح الإسلامي ومن الباحثين من ذهب إلى أنه من أصل فارسي والحقيقة أنه منذ الفتح الإسلامي لبلاد فارس ودخول معظم أهلها في الإسلام إندمجت الشعوب الغير عربية مع الشعوب العربية وإختلطوا ببعضهم البعض وتزاوجوا من بعضهم البعض بحيث أصبح من الصعب معرفة من هم من أصل عربي من الذين هم من أصل غير عربي وكان والد الإمام الغزالي مائلا للصوفية لا يأكل إلا من كسب يده وكان يحضر مجالس الأئمة والفقهاء ويجالسهم ويقوم على خدمتهم وينفق ما يمكنه إنفاقه في سبيل ذلك وكان كثيرا يدعو الله أن يرزقه إبنا ويجعله إماما وفقيها مشهورا يشار إليه بالبنان فكان إبنه أبو حامد كما كان أيضا إبنه الأصغر أحمد واعظا مؤثرا في الناس ولما أحس الأب بدنو أجله وصى بهما إلى صديق له متصوف وقال له إِن لي لتأسفا عظيما على تعلم الخط وأشتهي إستدراك ما فاتني في ولدى هذين فعلمهما ولا عليك أن تنفذ في ذلك جميع ما أخلفه لهما فلما مات أقبل هذا الصديق الصوفي على تعليمهما حتى نفد ما خلفهما لهما أبوهما من الأموال ولم يستطع الصوفي الإنفاق عليهما وعند ذلك قال لهما إعلما أنّي قد أنفقت عليكما ما كان لكما وأنا رجل من الفقر والتجريد بحيث لا مال لي فأواسيكما به وأصلح ما أرى لكما أن تلتحقا بمدرسة كأنكما من طلبة العلم فَيحصل لكما قوت يعينكما على وقتكما ففعلا ذلك وكان هو السبب في علو درجتهما وكان الغزالي يَحكي هذا ويقول طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إِلا لله وإبتدأ طلب الإمام الغزالي للعلم في صباه وهو في سن 15 عاما في عام 465 هجرية الموافق عام 1073م فأخذ الفقه في طوس على يد الشيخ الفقيه الزاهد أحمد الراذكاني ثم رحل إلى مدينة جرجان بشمال إيران حاليا وطلب العلم على الأرجح علي يد الإمام الشافعي الشيخ أبي النصر الإسماعيلي بحسب الإمام تاج الدين السبكي وفي طريق عودته من جرجان إلى طوس واجهه قطاع طرق حيث يروى الإمام الغزالي قائلا قطع علينا الطريق وأخذ العيارون جميع ما معي ومضوا فتبعتهم فإلتفت إليّ مقدمهم وقال إرجع ويحك وإِلا هلكت فقلت له أسألك بالذى ترجو السلامة منه أن ترد علي تعليقتي فقط فما هي بشئ تنتفعون به فقال لي وما هي تعليقتك فقلت كتبي في تلك المخلاة هاجرت لسماعها وكتابتها ومعرفة علمها فضحك وقال كيف تدعي أنك عرفت علمها وقد أخذناها منك فتجردت من معرفتها وبقيت بلا علم ثم أمر بعض أصحابه فسلم إِلي المخلاة وبعد ذلك قرر الإمام الغزالي الإشتغال بهذه التعليقة وعكف عليها لمدة 3 سنوات من عام 470 هجرية إلى عام 473 هجرية وكان قد بلغ من العمر 23 عاما حتى حفظهاعن ظهر قلب وفي عام 473 هجرية رحل الإمام الغزالي إلى نيسابور ولازم إِمام الحرمين أبو المعالي الجويني إمام الشافعية في وقته ورئيس المدرسة النظامية وتتلمذ علي يديه فدرس عليه مختلف العلوم من فقه الشافعية وفقه الخلاف وأصول الفقه وعلم الكلام والمنطق والفلسفة وجد وإجتهد حتى برع وأحكم كل تلك العلوم ووصفه معلمه وشيخه الإمام أبو المعالي الجويني بأنه بحر مغدق وكان الإمام الجويني يظهر إعتزازه بتلميذه النجيب الغزالي حتى جعله مساعدا له في التدريس وعندما ألف الإمام الغزالي كتابه المنخول في علم الأصول قال له الجويني مازحا دفنتني وأنا حي هلا صبرت حتى أموت .


وعندما توفي أبو المعالي الجويني عام 478 هجرية الموافق عام 1085م خرج الإمام الغزالي إلى عسكر نيسابور قاصدا الوزير نظام الملك وزير الدولة السلجوقية وكان له مجلس يجمع العلماء فناظر الغزالي كبار العلماء في مجلسه وغلبهم وظهر كلامه عليهم وإعترفوا بفضله وتلقوه بالتعظيم والتبجيل والإحترام وكان الوزير نظام الملك زميلا للغزالي في دراسته وكان له الأثر الكبير في نشر المذهب الشافعي والعقيدة الأشعرية السنية وذلك عن طريق تأسيس المدارس النظامية المشهورة وقد قبل الغزالي عرض نظام الملك بالتدريس في المدرسة النظامية في العاصمة العباسية بغداد والتي وصلها في شهر جمادى الأولى عام 484 هجرية الموافق عام 1091م وكان لم يتجاوز الرابعة والثلاثين عاما من عمره في أيام الخليفة العباسي المقتدى بأمر الله وبدأ علي الفور يقوم بعمله في التدريس بالمدرسة النظامية وبدأ صيته في الإنتشار وأُعجب به الناس لحسن كلامه وفصاحة لسانه وكمال أخلاقه وأقام على التدريس وتدريس العلم ونشره بالتعليم والفتيا والتصنيف مدة أربعة سنوات حتى إتسعت شهرته وذاع صيته أكثر وأكثر وصار يشد له الرحال ولقب يومئذ بالإمام لمكانته العالية أثناء التدريس بالمدرسة النظامية في بغداد ولقبه الوزير نظام الملك بزين الدين وشرف الأئمة وكان يدرّس لأكثر من 300 من الطلاب في الفقه وعلم الكلام وأصول الفقه وحضر مجالسه الأئمة الكبار كالفقيه والمفسر والكاتب واللغوى عبد الله بن عبد الرحمن إبن عقيل وشيخ الحنابلة في عصره أبي الخطاب الكلوذاني والفقيه والشاعر والصوفي الملقب بسلطان الأولياء وقطب بغداد عبد القادر الجيلاني والفقيه والمفسر والمؤرخ أبي بكر بن العربي والذى كان يعد من تلاميذه والذى قال رأيت الإمام الغزالي ببغداد يحضر درسه أربعمائة عمامة من أكابر الناس وأفاضلهم يأخذون عنه العلم وفي هذه الفترة إنهمك الإمام الغزالي في البحث والإستقصاء والرد على الفرق المخالفة بجانب تدريسه في المدرسة النظامية فألف كتابه مقاصد الفلاسفة والذى يبين فيه منهج الفلاسفة ثم نقده بكتابه تهافت الفلاسفة مهاجما الفلسفة ومبينا تهافت منهجهم ثم تصدى الغزالي لفكر طائفة الباطنية الذى كان منتشرا في وقته وكان أساسه إن النصوص الدينية لها معنيان أحدهما ظاهر يفهمه الناس بواسطة اللغة وبمعرفة أساليب الكلام والثاني باطن لا يدركه إلا الذين إختصهم الله بهذه المعرفة وهم يَصلُون إلى إدراك هذه المعاني المحجوبة عن عامة الناس بتعليم الله لهم مباشرة وكان منهم عدة فرق كان أهمها الطائفة الإسماعيلية وفي هذا التوقيت كان الباطنيون قد أصبحوا ذوى قوة سياسية حتى أنهم قد إغتالوا الوزير نظام الملك عام 485 هجرية الموافق عام 1091م وتوفي بعده الخليفة العباسي أبو القاسم المقتدى بأمر الله ولما تولي الخلافة إبنه الخليفة العباسي أحمد المستظهر بالله عام 487 هجرية الموافق عام 1094م طلب من الإمام الغزالي أن يحارب الباطنية في أفكارهم فألف الغزالي في الرد عليهم ثلاثة هي كتب فضائح الباطنية وحجة الحق وقواصم الباطنية .


وبعد خوض الإمام الغزالي في علوم الفلسفة والباطنية عَكَف على قراءة ودراسة علوم الصوفية وصحب الشيخ الزاهد وشيخ الصوفية الواعظ الفضل بن محمد الفارمذي الخراساني الذى كان مقصدا للصوفية في عصره في نيسابور وهو تلميذ الإمام والفقيه والمفسر عالم الصوفية أبي القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيرى فتأثر الغزالي بذلك ولاحظ على نفسه بعده عن حقيقة الإخلاص لله وعن العلوم الحقيقية النافعة في طريق الآخرة وشعر أن تدريسه في النظامية ملئ بحب الشهرة والعجب والمفاسد وعند ذلك عقد العزم على الخروج من بغداد وكان خروجه منها في شهر ذى القعدة عام 488 هجرية الموافق عام 1094م وترك أخاه أحمد الغزالي مكانه في التدريس في المدرسة النظامية في بغداد وفي البداية خرج إلى بلاد الشام قاصدا الإقامة فيها مظهرا أنه متجه إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج حتي لا يعرف الخليفة فيمنعه من السفر إلى الشام فوصل دمشق في نفس العام ومكث فيها قرابة السنتين لا شغل له إلا العزلة والخلوة والمجاهدة مستهدفا تزكية النفس وتهذيب الأخلاق وكان يعتكف في مسجد دمشق فكان يصعد منارة المسجد طول النهار ويغلق على نفسه الباب كما كان يكثر الجلوس في زاوية الإمام والفقيه الشافعي والمحدث الشيخ نصر المقدسي في الجامع الأموى والمعروفة اليوم بالزاوية الغزالية نسبةً إليه وبعد ذلك رحل الإمام الغزالي إلى مدينة القدس الشريف وإعتكف في المسجد الأقصى الشريف وقبة الصخرة ثم إرتحل وزار مدينة الخليل في فلسطين وزار المقام الإبراهيمي هناك وما لبث الإمام الغزالي أن سافر إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة لأداء فريضة الحج ثم عاد إلى بغداد في شهر ذى القعدة عام 499 هجرية الموافق شهر يوليو عام 1106م بعد أن قضى 11 عاما في رحلته وقد إستقر أمره على الصوفية وذلك بعد أن مر بمراحل كثيرة في حياته الفكرية كما يرويها هو نفسه في كتابه المنقذ من الضلال حيث بدأ بمرحلة الشك بشكل لا إرادى والتي شك خلالها في الحواس والعقل وفي قدرتهما على تحصيل العلم اليقيني ودخل في مرحلة من السفسطة غير المنطقية حتى شفي منها بعد مدة شهرين تقريبا ليتفرغ بعدها لدراسة الأفكار والمعتقدات السائدة في وقته وقال عن ذلك ولما شفاني الله من هذا المرض بفضله وسعة جوده أحضرت أصناف الطالبين عندى في أربع فرق المتكلمون وهم يدعون أنهم أهل الرأى والنظر والباطنية وهم يزعمون أنهم أصحاب التعليم والمخصوصون بالإقتباس من الإمام المعصوم والفلاسفة وهم يزعمون أنهم أهل المنطق والبرهان والصوفية وهم يدعون أنهم خواص الحضرة وأهل المشاهدة والمكاشفة ويتابع قائلا فإبتدرت لسلوك هذه الطرق وإستقصاء ما عند هذه الفرق مبتدئا بعلم الكلام ومثنيا بطريق الفلسفة ومثلثا بتعلم الباطنية ومربعا بطريق الصوفية وبعد ذلك عكف على دراسة علم الكلام حتى أتقنه وصار أحد كبار علمائه وصنف فيه عدة كتب والتي أصبحت مرجعا في علم الكلام فيما بعد مثل كتاب الإقتصاد في الإعتقاد إلا أنه لم يجد ضالته المنشودة في علم الكلام ورآه غير واف بمقصوده وقال عن ذلك فلم يكن علم الكلام في حقي كافيا ولا لدائي الذى كنت أشكوه شافيا ولذا فبعد ذلك توجه لعلم الفلسفة ودرسها وفهمها ثم نقدها بشدة بكتابه تهافت الفلاسفة ثم درس بعدها الباطنية فرد عليهم وهاجمهم ليستقر أمره على علم التصوف وبعد تلك المراحل بدأ اهتمام الإمام الغزالي يتجه نحو علوم التصوف فبدأ بمطالعة كتب كبار الصوفيين مثل قوت القلوب لأبي طالب المكي وكتب الحارث المحاسبي والمتفرقات المأثورة عن الجنيد وأبي بكر الشبلي وأبي يزيد البسطامي كما أنه كان يحضر مجالس الشيخ الفضل بن محمد الفارمذي الصوفي والذى أخذ عنه الطريقة فتأثر بهم تأثرا كبيرا حتى أدى به الأمر لتركه للتدريس في المدرسة النظامية في بغداد وإعتزاله الناس وسفره لمدة 11 سنة تنقل خلالها بين دمشق والقدس والخليل ومكة المكرمة والمدينة المنورة وكانت نتيجة رحلته الطويلة تلك أن قال لقد إنكشفت لي في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها وإستقصاؤها والقدر الذى أذكره لينتفع به أني علمت يقينا أن الصوفيين هم السالكون لطريق الله سبحانه وتعالي خاصة وأن سيرتهم أحسن السير وطريقهم أصوب الطرق وأخلاقهم أزكى الأخلاق .


وفي الفترة بين عام 489 هجرية الموافق عام 1096م وحتي عام 495 هجرية الموافق عام 1102م ألف الإمام الغزالي أعظم وأشهر كتبه إحياء علوم الدين والذى أخرجه بعد أن أدى فريضة الحج وإعتزل في خلوة عميقة وطويلة وعكف على البحث والدرس وكان السبب الأساسي في إقدام الإمام الغزالي علي إخراج مؤلفه الهام إحياء علوم الدين أنه قد وجد إنحرافا كبيرا في العلم والفقه الإسلامي في عصره ولذا فقد ذكر في مقدمة كتابه ولقد خيلوا إلى الخلق أن لا علم إلا فتوى حكومة تستعين به القضاة على فصل الخصام عند تهاوش الطغام أو جدل يتدرع به طالب المباهاة إلى الغلبة والإفحام أو سجع مزخرف يتوسل به الواعظ إلى إستدراج العوام إذ لم يروا ما سوى هذه الثلاثة مصيدة للحرام وشبكة للحطام فأما علم طريق الآخرة وما درج عليه السلف الصالح مما سماه الله سبحانه في كتابه فقها وحكمة وعلما وضياءا ونورا وهداية ورشدا فقد أصبح من بين الخلق مطويا وصار نسيا منسيا ومن ثم فقد رأى أن من واجبه أن يبين وجه الصواب في هذه القضية وقد أوضح ذلك بقوله رأيت الإشتغال بتحرير هذا الكتاب مهما إحياءا لعلوم الدين وكشفا عن مناهج الأئمة المتقدمين وإيضاحا لمباهي العلوم النافعة عند التبيين والسلف الصالحين وإختار له عنوانا هو إحياء علوم الدين بما يحمله هذا العنوان من محاولة لوضع الأسس المنهجية والعلمية للمعرفة الإسلامية وكانت الغاية المطلوبة التي يسعى إليها هي الحث على قرن العلم بالعمل وتخليص العمل من الشوائب ليتحقق فيه الإخلاص الذى هو الغاية المطلوبة وسنجد أن الإمام الغزالي من خلال هذا الكتاب قد وضح أفكاره المتميزة في الفكر الأشعرى والفقه الشافعي والتوجهات الروحية الصوفية ولذا فهو يعد موسوعة صوفية سنية وينقسم هذا الكتاب إلى أربعة أرباع يضم كل منها عشرة كتب ويتناول الربع الأول العبادات والواجبات مع التركيز على أركان الإسلام الخمسة ويعالج الربع الثاني مجموعة كبيرة من المسائل الأخلاقية والإجتماعية مثل الزواج والطلاق وأخلاقيات العمل وآداب المائدة وغير ذلك أما الربع الثالث فهو يعالج موضوعات تتعلق بمناطق ضعف النفس البشرية مثل الشهوة والغضب والشح والحسد ويشمل الربع الأخير الفضائل المنجية من النار مثل الصبر والندم والخوف من الله والتوبة من الذنوب فهو إذن كتاب جامع في الفرائض والأخلاق والسلوك والمواعظ الإسلامية مما جعله متميزا على ما سواه كتبه الغزالي كموسوعة شاملة لكل ما يهم الفرد المسلم في أمور دينه من العقيدة والعبادة والمعاملة والأخلاق ويشمل مصالح الفرد والجماعة ومما يذكر أن الإمام الغزالي كتبه بطريقة عملية يهدف من وراءها إلى الإرتقاء من المستوى التعليمي إلى مستوى السلوك العملي الذي يدفع إلى الجمع بين العمل والعلم وقد إنتقد هذا الكتاب بعض معاصرى الإمام الغزالي فرد عليهم بكتاب الإملاء على مشكل الإحياء والذى لاقى منذ تأليفه إعجاب العلماء وقد إختار الإمام الغزالي في تأليفه لهذا الكتاب أسلوب الحوار بينه وبين تلميذ له يسأله وهو يجيب وكان هذا الأسلوب معروف لدى القدماء ويكاد يشبه ما نجده في كتابات الفيلسوف اليوناني أفلاطون عن محاورات أستاذه الفيلسوف سقراط لمريديه ولأهميته فقد إختصره بعض العلماء كالعالم والفقيه واللغوى والمحدث مرتضى الحسيني الزبيدى كما خرج آخرون أحاديثه كالإمام والفقيه الحافظ زين الدين العراقي.


وجدير بالذكر أن الفلسفة في عصر الإمام أبي حامد الغزالي كانت قد أثرت في تفكير الكثيرين من علماء ومفكرى عصره وسلوكهم وأدى ذلك إلى التشكيك في الدين الإسلامي وإنحلال الأخلاق والإضطراب في السياسة والفساد في المجتمع فكان ممن تصدوا لهم الإمام أبو حامد الغزالي وذلك بعد أن عكف على دراسة الفلسفة لأكثر من سنتين حتى إستوعبها وفهمها وأصبح واحدا من كبار رجالها وفي ذلك يقول عن نفسه لقد بدأت بعد الفراغ من علم الكلام بعلم الفلسفة وعلمت يقينا أنه لا يقف على فساد نوع من العلوم من لا يقف على منتهى ذلك العلم حتى يساوى أعلمهم في أصل ذلك العلم فشمرت عن ساق الجد في تحصيل ذلك العلم من الكتب ثم لم أزل أواظب على التفكر فيه بعد فهمه قريبا من سنة أعاوده وأردده وأتفقد غوائله وأغواره حتى إطَلعت على ما فيه من خداع وتلبيس وتحقيق وتخييل وإطلاعا لم أشك فيه وألف في ذلك كتابه مقاصد الفلاسفة مبينا منهجهم ثم بعد ذلك وصل إلى نتيجته قائلا فإني رأيتهم أصنافا ورأيت علومهم أقساما وهم على كثرة أصنافهم يلزمهم وصمة الكفر والإلحاد وإن كان بين القدماء منهم والأقدمين وبين الأواخر منهم والأوائل تفاوت عظيم في البعد عن الحق والقرب منه وقد تناول الإمام الغزالي الفلسفة بالتحليل التفصيلي وذكر أصنافهم وأقسامهم وما يستحقون به من التكفير بحسب رأيه وما ليس من الدين وبذلك إعتبر الإمام الغزالي أول عالم ديني يقوم بهذا التحليل العلمي للفلسفة وأول عالم ديني يصنّف في علومهم التجريبية النافعة ويعترف بصحة بعضها إذ قسم الإمام الغزالي علوم فلاسفة اليونان كسقراط وأفلاطون وأرسطو إلى العلوم الرياضية والمنطقيات والطبيعيات والإلهيات والسياسات والأخلاقيات وكان أكثر إنتقاد الإمام الغزالي وهجومه على الفلاسفة ما يتعلق بالإلهيات إذ كان فيها أكثر أغاليطهم بحسب الإمام الغزالي والذى كفر فلاسفة الإسلام المتأثرين بالفلسفة اليونانية القديمة في عدد 3 مسائل وبدعهم في عدد 17 عشر مسألة وألف كتابا مخصوصا للرد عليهم في هذه العشرين مسألة سماه تهافت الفلاسفة وفيه هاجم الفلاسفة بشكل عام والفلاسفة المسلمون بشكل خاص وخاصة إبن سينا والفارابي فقد هاجمهم هجوما شديدا ويقال إنه قضى على الفلسفة العقلانية في العالم العربي منذ ذلك الوقت ولعدة قرون متواصلة فجاء بعده الفيلسوف الأندلسي أبو الوليد إبن رشد فرد على الإمام الغزالي في كتابين أساسيين هما فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الإتصال ثم تهافت التهافت وبحسب الباحثين المعهاصرين أمثال يوسف القرضاوي وعباس محمود العقاد فإن الإمام الغزالي يعد في كثير من نظرياته النفسية والتربوية والإجتماعية صاحب فلسفة متميزة وهو في بعض كتبه أقرب إلى تمثيل فلسفة إسلامية وأنه فيلسوف بالرغم من عدم كونه يريد ذلك وهذا ما صرح به كثيرون من العرب والغربيين حتى قال الفيلسوف والمؤرخ والكاتب الفرنسي المشهور إرنست رينان لم تنتج الفلسفة العربية فكرا مبتكرا كالإمام الغزالي وقد رأى كثير من علماء المسلمين قديما أن الإمام الغزالي رغم حربه علي الفلسفة والفلاسفة إلا أنه قد ظل متأثرا بها حتى قال تلميذه الفقيه والمفسر والمؤرخ أبو بكر بن العربي شيخنا الإمام أبو حامد الغزالي بلع الفلاسفة وأراد أن يتقيأهم فما إستطاع .


وبحسب ما ذكره كل من الإمام والفقيه الشافعي والمؤرخ وقاضي القضاة تاج الدين السبكي والإمام والفقيه الحنبلي والمحدث أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزى وغيرهما فإن الإمام الغزالي خرج أولا من بغداد إلى الحج ثم عاد منها إلى دمشق فدخلها فلبث فيها أياما ثم توجه إلى القدس فجاور فيها مدة ثم عاد وبقي في دمشق معتكفا في جامعها ثم رحل وزار مدينة الإسكندرية في مصر وإستمر يجول في البلدان ويزور المشَاهد ويطوف على المساجد لمدة 11 عاما حتى عاد إلى بغداد مرة أخرى للتدريس فيها وقبل أن نختم مقالنا عن الإمام الغزالي نورد ما قاله عنه بعض العلماء والفقهاء حيث قال عنه شيخه أبو المعالي الجويني الغزالي بحر مغدق وقال عنه الإمام والمؤرخ شمس الدين الذهبي الشيخ الإمام البحر حجة الإسلام أعجوبة الزمان أبو حامد الغزالي صاحب التصانيف والذكاء المفرط وقال إبن الجوزى الإمام الغزالي صنف الكتب الحسان في الأصول والفروع التي إنفرد بحسن وضعها وترتيبها وتحقيق الكلام فيها وقال تاج الدين السبكي الإمام الغزالي حجة الإسلام ومحجة الدين التي يتوصل بها إلى دار السلام جامع أشتات العلوم والمبرز في المنقول منها والمفهوم جرت الأئمة قبله بشأو ولم تقع منه بالغاية ولا وقف عند مطلب وراء مطلب لأصحاب النهاية والبداية وقال عنه الإمام والمؤرخ إبن كثير كان من أذكياء العالم في كل ما يتكلم فيه وقال عنه تلميذه أبو بكر إبن العربي كان أشهر من لقينا من العلماء في الآفاق ومن سارت بذكره الرفاق لطول باعه في العلم ورحب ذراعه الإمام أبو حامد بن محمد الطوسي الغزالي .


وبعد العودة إلي بغداد لم يمكث الإمام الغزالي بها طويلا وأكمل رحلته إلى نيسابور ومن ثم إلى بلده ومسقط رأسه طوس وهناك لم يلبث أن إستجاب مضطرا وعلي غير رغبته إلى رأى الوزير فخر الملك للتدريس في المدرسة النظامية بنيسابور فدرس فيها لفترة قصيرة حيث ما لبث أن قتل الوزير فخر الملك على يد الباطنية ومن ثم رحل الغزالي مرة أخرى إلى بلدته الطابران في طوس وسكن فيها متخذا بجوار بيته مدرسة للفقهاء وخانقاة أى مكان للتعبد والعزلة للصوفية ووزع وقته على ختم القرآن ومجالسة الصوفية والتدريس لطلبة العلم وإدامة الصلاة والصيام وسائر العبادات كما صحح قراءة أحاديث صحيح البخارى وصحيح مسلم على يد الإمام وراوى الحديث الشيخ عمر بن عبد الكريم بن سعدوية الرواسي ولم يعمر الإمام الغزالي بعد عودته إلي طوس طويلا حيث لبث فيها بضع سنين وما لبث أن توفي إلي رحمة الله يوم الإثنين 14 جمادى الآخرة عام 505 هجرية الموافق يوم 19 ديسمبر عام 1111م عن عمر يناهز 53 عاما في بلدة الطابران في مدينة طوس ولم يعقب إلا البنات وقد روى الفقيه أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزى في كتابه الثبات عند الممات عن أحمد الشقيق الأصغر للإمام الغزالي لما كان يوم الإثنين وقت الصبح توضأ أخي أبو حامد وصلى وقال علي بالكفن فأخذه وقبله ووضعه على عينيه وقال سمعا وطاعة للدخول على الملك ثم مد رجليه وإستقبل القبلة ومات قبل الإسفار وقد سأله قبيل الموت بعض أصحابه فقالوا له أوص فقال عليكم بالإخلاص فلم يزل يكررها حتى قبضت روحه وأما عن تعيين قبره فقد روى الإمام والفقيه تاج الدين السبكي بأن الإمام الغزالي دفن في مقبرة الطابران وقبره هناك ظاهر وبه مزار أما حاليا فلا يعرف قبر ظاهر للإمام الغزالي إلا أنه حديثا تم إكتشاف مكان في طوس قرب مدينة مشهد في إيران يعتقد بأنه قبر الإمام الغزالي والذى طلب الرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان بإعادة تأهيله وإعماره خلال زيارته إلى دولة إيران التي تمت في شهر ديسمبر عام 2009م وكان يشغل آنذاك منصب رئيس وزراء تركيا .
 
 
الصور :