بقلم المهندس/ طارق بدراوى
tbadrawy@yahoo.com
موسوعة كنوز “أم الدنيا"
المؤرخ عز الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزرى الموصلي المعروف بإبن الأثير الجزرى من أبرز المؤرخين وعلماء السيرة والعقيدة المسلمين وقد عاصر دولة السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي مؤسس الدولة الأيوبية في مصر والشام ورصد كل أحداثها ويعد كتابه الكامل في التاريخ مرجعا لتلك الفترة من التاريخ الإسلامي وهو من بني شيبان الذين ينتمون إلي بكر بن وائل والذى ينتمي إلي ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان أحد أولاد نبي الله إسماعيل عليه السلام وبنو شيبان هم القوم الذين ينتمي إليهم القائد العسكرى المسلم الشهير المثني بن حارثة الشيباني الذى شارك في فتوحات بلاد العراق مع القائد العسكرى الصحابي سيف الله المسلول خالد بن الوليد وقاد العديد من المعارك ضد الفرس والعرب المناصرين لهم ومما يذكر أن مؤرخنا الكبير عز الدين إبن الأثير كان له أخوان أحدهما يكبره في السن والآخر يصغره سنا أى أنه كان الأخ الأوسط وقد برز الأخوة الثلاثة في علوم اللغة والأدب والتاريخ والحديث والفقه وإشتهر كل واحد منهم بإسم إبن الأثير وكان الأخ الأكبر هو الفقيه المحدث مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد والذى إشتغل بدراسة القرآن الكريم والحديث النبوى الشريف والنحو حتى صار علما بارزا يشار إليه بالبنان في هذا المجال وترك مؤلفات ومصنفات عظيمة من أشهرها كتاب جامع الأصول في أحاديث الرسول محمد صلي الله عليه وسلم جمع فيه كتب الحديث النبوى الصحاح الستة وهي صحيح البخارى وصحيح مسلم وسنن الترمذى وسنن أبي داود وسنن النسائي وسنن إبن ماجة وكتاب النهاية في غريب الحديث وكتاب منال الطالب في شرح طوال الغرائب وكتاب الإنصاف في الجمع بين الكشف والكشاف في التفسير وكتاب الشافي في شرح مسند الإمام الشافعي وكتاب تجريد أسماء الصحابة وكانت وفاته عام 606 هجرية الموافق عام 1209م وأما الأخ الأصغر فهو الكاتب الأديب ضياء الدين أبو الفتح نصر الله المعروف بضياء الدين بن الأثير والذى أتقن صنعة الكتابة وإشتهر بها نظرا لجودة أسلوبه وجمال بيانه وعرف عنه أنه كان قوى الحافظة وكان من محفوظاته شعر الشعراء العباسيين الكبار أبي تمام وأبي الطيب المتنبي وأبي عبادة البحترى ومن مؤلفاته كتاب المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر وكتاب الوشي المرقوم في حل المنظوم وكتاب الجامع الكبير في صناعة المنظوم والمنثور وقد إلتحق بخدمة السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي وأبنائه في حلب ودمشق حيث تولى أولا في عام 587 هجرية الموافق عام 1190م الوزارة للسلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي في مصر ثم إنتقل بعد ذلك إلى دمشق فتولي الوزارة لإبنه الملك أبي الحسن الأفضل بن صلاح الدين إلا أنه بعد مدة قصيرة غادرها مستخفيا بعد أن ساءت علاقته به وإنتقل إلى خدمة أخيه الملك الظاهر غياث الدين غازى صاحب حلب في عام 607 هجرية الموافق عام 1210م ولم تطل إقامته فيها حيث عاد إلى بلدته الموصل وإلتحق بخدمة صاحبها محمود بن عز الدين مسعود فبعثه رسولا في أواخر أيامه إلى الخليفة العباسي في بغداد فمات هناك وقد ترك لنا مصنفات أدبية قيمة أشهرها المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر وهو من أهم الكتب التي تعالج فن الكتابة وطرق التعبير وكانت وفاته في عام 637 هجرية الموافق عام 1239م وكان والد الأخوة الثلاثة محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزرى الموصلي والذى إشتهر بإسم أثير الدين الشيباني قد عمل رئيس ديوان وخازنا للمال في بلدته جزيرة إبن عمر وهي بلدة تتبع حاليا محافظة شرناق في منطقة جنوب شرق إقليم الأناضول في تركيا تقع في أعالي نهر دجلة على الحدود التركية السورية وعلى مقربة من الحدود العراقية التركية وقد سميت بجزيرة إبن عمر نظرا لإحاطة نهر دجلة بها من ثلاث إتجاهات الشمال والشرق والجنوب .
وفي عام 565 هجرية الموافق عام 1170م إنتقل أثير الدين الشيباني بأسرته إلي الموصل وأصبح نائب وزير الموصل في إمارة الزنكيين أو الأتابكة وهي إمارة إسلامية قام بتأسيسها القائد العسكرى الذى كان تابعا في البداية للدولة السلجوقية عماد الدين زنكي في الموصل وإمتدت لاحقا لتشمل كامل الجزيرة الفراتية والشام ثم بلغت مصر في عهد الملك العادل نور الدين محمود الذى ضمها على يد تابعه وربيبه يوسف بن نجم الدين الأيوبي الذى عرف بإسم الناصر صلاح الدين الأيوبي فيما بعد بعد وفاة آخر الخلفاء الفاطميين العاضد دون عقب وإشتغل أيضا أثير الدين الشيباني في التجارة ففتح الله عليه وإغتنى وتملك الأرض والدور وكان على حظ كبير من الفطنة والعلم فربى أولاده أفضل ما تكون التربية خاصة وأن الموصل كانت تزخر آنذاك بالعلماء والفقهاء والمدارس التي أقامها أتابكتها من آل مودود ثم الزنكيين فيما بعد بعد تأسيسهم لإمارتهم فنهل أبناؤه الثلاثة العلم والفقه منها وبخصوص الأخ الأوسط والمعروف بإسم عز الدين بن الأثير وهو موضوع هذا المقال فقد كان ميلاده في يوم 4 جمادى الآخرة عام 555 هجرية الموافق يوم 10 يونيو عام 1160م بجزيرة إبن عمر وقد عني أبوه بتعليمه حيث حفظ القرآن الكريم وتعلم مبادئ القراءة والكتابة ولما رحل إلى الموصل بعد أن إنتقلت إليها أسرته سمع الحديث النبوى الشريف من الإمام والفقيه والمحدث الملقب بخطيب الموصل أبي الفضل عبد الله بن أحمد والإمام والفقيه والعالم أبي الفرج يحيى الثقفي كما أنه إتجه إلي تعلم اللغة العربية واللغات وكذلك الشعر حتى أصبح بارزا في جميع الأدبيات وكان ينتهز فرصة خروجه إلى الحج فيعرج على بغداد ليسمع من شيوخها الكبار وأئمتها من أمثال الإمام والفقيه الشافعي أبي القاسم يعيش بن علي بن صدقة والإمام والفقيه الشافعي والمحدث أبي أحمد عبد الوهاب بن علي الصدمي ورحل أيضا إلى دمشق وتعلم من شيوخها وعلمائها وإستمع إلى كبار فقهاء الشام وإستمر فترة من الزمن ثم عاد إلى الموصل ولزم بيته منقطعا للعبادة وللتأليف والتصنيف وخلال رحلاته الطويلة لطلب العلم وملاقاة الشيوخ والأخذ منهم درس عز الدين إبن الأثير الحديث والفقه والأصول والفرائض والمنطق والقراءات حيث كانت هذه العلوم يجيدها الأساتذة المبرزون ممن لقيهم غير أنه إختار فرعين من العلوم وتعمق في دراستهما وهما الحديث النبوى الشريف والتاريخ حتى أصبح إماما في حفظ الحديث ومعرفته وما يتعلق به حافظا للتواريخ المتقدمة والمتأخرة خبيرا بأنساب العرب وأيامهم وأخبارهم عارفًا بالرجال وأنسابهم لا سيما الصحابة الكرام رضوان الله عليهم وعن طريق هذين العلمين بنى إبن الأثير شهرته في عصره وإن غلبت صفة المؤرخ عليه حتى كادت تحجب ما سواها وقد يكون السبب في ذلك المحيط السياسي الذي عاش فيه فقد عاش في زمن إحتدمت فيه الصراعات بين شعوب المشرق المختلفة كالسلاجقة والخوارزميين والغور والمغول والكرج وكان الخوارزميون قد تمكنوا من مد سلطانهم على الإمارات الصغيرة المتاخمة لهم في وسط قارة آسيا وأقاموا دولة ذات نفوذ لكنها لم تلبث أن إنهارت أمام جحافل المغول بقيادة جنكيز خان وعموما فإن العلاقة بين تخصص الحديث وتخصص التاريخ وثيقة جدا فمنذ أن بدأ تدوين الحديث والتاريخ ومعظم المحدثين العظام مؤرخون كبار في نفس الوقت مثل الإمام محمد بن جرير الطبرى الذى جمع بين التفسير والفقه والتاريخ والإمام شمس الدين الذهبي والذى كان حافظا متقنا وفي الوقت نفسه كان مؤرخا عظيما وكذلك كان الإمام الحافظ والمحدث أبو القاسم بن عساكر يجمع بين هاتين الصفتين وغيرهم الكثير .
وقد تمتع عز الدين بن الأثير بمكانة رفيعة عند معاصريه ومن جاءوا بعده نبعت من علمه وشخصيته ومن مكانة أسرته الرفيعة ولمع إسمه في الشام لتردده عليها أكثر من مرة وعقده صداقات مع علمائها ورجالها البارزين من أبناء الأسرة الأيوبية وكبار رجال حكومتهم حيث كانت له صلات وثيقة بالطواشي شهاب الدين طغريل الخادم أتابك الملك العزيز إبن الملك الظاهر غياث الدين غازى صاحب حلب كما خرج مع السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي في غزو الفرنجة الصليبيين وكان من ذلك حضوره معركة فتح حصن برزية وغيره والتي وقعت في شهر جمادى الآخرة عام 584 هجرية الموافق شهر أغسطس عام 1188م وكان هذا الحصن حصنا منيعا يضرب المثل بحصانته ومنعته وقوته وكان يمثل خطرا داهما علي المسلمين من حيث الموقع والتحكم في الطرقات شمالي بلاد الشام حيث كان يقع في منطقة جبلية عالية في منطقة الغاب التابعة لمدية حماة السورية حاليا قريبا من قلعة أفاميا التي تقع إلى الشرق منها وعلى مسافة 60 كم شمال غرب مدينة حماة وتوجد بينهما بحيرة يشكلها نهر العاصي وعن سير معركة حصن برزية فقد زحف إليه السلطان صلاح الدين الأيوبي مع المقاتلة والمنجنيقات وآلات الحصار وضرب حصارا محكما علي الحصن وضرب أسواره بالمنجنيقات ليلا ونهارا وإستغل كثرة عدد جنوده وقلة عدد المدافعين في الحصن من الجنود الفرنجة فقسم جنوده ثلاثة أقسام كل قسم يقاتل شطرا من النهار ثم يستريح وفي البداية قام القسم الأول بالهجوم علي الحصن ثم تسلم النوبة الثانية القسم الثاني وكان علي رأسها السلطان صلاح الدين رحمه الله بنفسه فركب فرسه وتحرك خطوات عدة وصاح في الناس فحملوا علي الحصن حملة رجل واحد وصاحوا صيحة الرجل الواحد ثم إستدعي السلطان القسمين الأول والثالث من جنده تباعا وقصد الجند السور من كل جانب فلم يكن إلا بعض ساعة وقد رقى الناس على الأسوار وفتحوا أبواب الحصن ودخل الفاتحون مكبرين ومهللين وفقد الإفرنج زمامَ المبادرة ودبت الفوضى في صفوفهم ثم إن المسلمين الأسرى الذين كان جنود الحصن قد صعدوا بهم إلي سطح الحصن لما سمعوا تكبير المسلمين كبروا وهم في السطح ليعلموا الجنود المسلمين مكانهم فظن الإفرنج أن الجند المسلمين قد إرتقوا أيضا أعلى الحصن وأنه قد تم الإستيلاء عليه أيضا فخافوا وطلب من كان بالحصن الأمان وبذلك تم إفتتاحه والإستيلاء عليه وتم أسر جميع من كان داخل أسواره وكان قد أوى إليه خلق عظيم وبذلك وقي الله المسلمين شر ساكني هذا الحصن وفضلا عن ذلك فقد فتح السلطان صلاح الدين الأيوبي أكثر من عشرين قلعة وحصنا في المناطق الجبلية المحيطة بمدينة حماة بشمال الشام مثل حصن بكاس والشغر ودرب ساك وبغراس وسرمينية وصفد وكوكب وغيرهم والتي كانت بمثابة مخالب قاتلة موجهة من الصليبيين للمسلمين فلا تستقر لهم تجارة ولا زراعة ولا تنقل أو سفر بسببها في تلك المناطق وحضر معه إبن الأثير العديد من تلك الفتوحات ووصفها وصف الذى رآها بعينه .
وقد زار إبن الأثير العاصمة العباسية بغداد مرارا وهو في طريق ذهابه وعودته من الحج وقابل العديد من العلماء والأئمة والفقهاء بها كما ذكرنا في السطور السابقة وأخذ منهم الكثير كما زارها مرارا أيضا بصفته رسول لصاحب الموصل وقد كتب عز الدين بن الأثير في الموضوعات التاريخية المختلفة كالتاريخ العام وتاريخ الأسر الحاكمة والتراجم والأنساب ووضح في كتبه فوائد التاريخ والعبر التي يجنيها قراؤه من معرفة حوادث الأمم السالفة وأخبارها ويقول المؤرخ والأديب وقاضي القضاة شمس الدين بن خلكان كان بيت إبن الأثير بالموصل مجمع الفضلاء والعلماء وقد إجتمعت به بحلب فوجدته مكملا في الفضائل والتواضع وكرم الأخلاق فترددت عليه كثيرا وقد حدثنا عنه أيضا الفقيه والمحدث والمؤرخ أبو عبد الله محمد بن الدبيثي والمؤرخ مجد الدين ابن العديم وأبوه في تاريخ حلب وكانت لإبن الأثير العديد من المؤلفات والمصنفات التي أشاد بها الكثير من العلماء والمؤرخون وكانت قد توافرت لإبن الأثير المادة التاريخية التي إستعان بها في مصنفاته بفضل صلته الوثيقة بحكام الموصل وأسفاره العديدة في طلب العلم وقيامه ببعض المهام السياسية الرسمية من قبل صاحب الموصل ومصاحبته للسلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي في العديد من فتوحاته وغزواته وهو ما يسر له وصف المعارك كما شاهدها بعينيه كما ذكرنا في السطور السابقة ومدارسته الكتب وإفادته منها ودأبه على القراءة والتحصيل ثم عكف على تلك المادة الهائلة التي تجمعت لديه يصيغها ويهذبها ويرتب أحداثها حتى إنتظمت في عدة مؤلفات فجعلت منه أبرز المؤرخين المسلمين بعد الطبرى وكان من هذه المؤلفات كتاب الكامل في التاريخ وهو من أشهر كتبه وهو كتاب في التاريخ العام وكتاب أسد الغابة في معرفة الصحابة وهو في تراجم الصحابة وهو من أشهر كتبه أيضا وكتاب التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية وهو في تاريخ الدول ويقصد بالدولة الأتابكية الدولة الزنكية التي تحدثنا عنها في السطور السابقة وهو يتضمن تاريخ ملوك الموصل الزنكيين منذ أن أسس عماد الدين زنكي دولته عام 521 هجرية الموافق عام 1127م حتى عام 607 هجرية الموافق عام 1211م وذلك رغبة منه في إظهار مكانة الزنكيين الذين عاش المؤلف وأسرته في كنفهم وجهودهم في قتال الصليبيين وغير هذه الثلاث كتب كان لإبن الأثير مؤلفات عديدة أخرى منها كتاب البديع في علم اللغة العربية وكتاب المختار من مناقب الأخيار وكتاب اللباب في تهذيب الأنساب وتحدث من خلاله عن الأنساب وهذا الكتاب يعد تهذيب لكتاب الإمام والعالم بالأنساب أبي سعد عبد الكريم السمعاني في الأنساب وقد حظي هذا الكتاب بإهتمام كثير من العلماء والمؤرخين وإعتمد في كتابه هذا إضافة إلى كتاب الإمام أبي سعد عبد الكريم السمعاني على كتاب الإمام والمحدث الحافظ محمد بن فتوح بن عبد الله الحميدى تاريخ الأندلس وكتاب تاريخ دمشق لأبي القاسم علي بن عساكر وبذلك يكون المؤرخ عز الدين بن الأثير قد كتب في أربعة أنواع من الكتابة التاريخية .
وعن الكتاب الأشهر لإبن الأثير وهو كتاب الكامل في التاريخ فكما ذكرنا هو كتاب تاريخ عام صنفه في عدد 12 مجلدا ويتحدث فيه المؤلف عن تاريخ البشرية منذ بدء الخليقة وحتى عصره حيث إنتهى عند آخر عام 628 هجرية الموافق عام 1231م أى إنه يعالج تاريخ العالم القديم حتى ظهور الإسلام ثم تاريخ العالم الإسلامي منذ ظهور الإسلام حتى عصره مرورا بعصر الخلفاء الراشدين وعصر الدولة الأموية ثم سقوطها وتأسيس الدولة العباسية والدولتين الطولونية والإخشيدية في مصر واللتين كانتا إسميا تابعتين للدولة العباسية ثم دخول الفاطميين مصر وتأسيسهم للدولة الفاطمية والمعروفة أيضا بالدولة العبيدية والتي كانت قد تأسست أولا في بلاد المغرب العربي في أوائل القرن العاشر الميلادى ثم توسعت شرقا وحكمت مصر والحجاز والشام ثم سقوطها وتأسيس الدولة الأيوبية في مصر والشام عام 1171م وإلتزم في كتابه بالمنهج الحولي في تسجيل الأحداث فهو يسجل أحداث كل سنة على حدة وأقام توازنا بين أخبار المشرق والمغرب وما بينهما على مدى سبعة قرون وربع قرن وهو ما أعطى كتابه طابع التاريخ العام أكثر من أى كتاب تاريخ عام لغيره من المؤلفين والمؤرخين وفي الوقت نفسه لم يهمل الحوادث المحلية في كل إقليم وأخبار الظواهر الجوية والأرضية من غلاء ورخص وقحط وأوبئة وزلازل ومن الملاحظ أن إبن الأثير لم يكن في كتابه ناقل أخبار أو مسجل أحداث فحسب وإنما كان محللا ممتازا وناقدا بصيرا حيث حرص على تعليل بعض الظواهر والأحداث التاريخية ونقد أبطالها وأصحابها وناقش كثيرا من أخبارهم ونجد لديه أن النقد السياسي والحربي والأخلاقي والعملي يأتي عفوا بين ثنايا الكتاب وهو ما جعل شخصيته التاريخية واضحة تماما في كتابه على الدوام وتعود أهمية هذا الكتاب إلى أنه إستكمل ما توقف عنده كتاب تاريخ الطبرى في عام 302 هجرية الموافق عام 915م وهو العام الذى إنتهى به كتابه حيث أن بعد الطبرى لم يظهر كتاب يغطي أخبار حقبة تمتد لأكثر من ثلاثة قرون كما أن كتاب إبن الأثير تضمن أخبار الحروب الصليبية كمجموعة متصلة من الحملات والحروب بلغت تسع حملات والتي قام بها أوروبيون من دول مختلفة منها إنجلترا وفرنسا والمانيا علي بلاد المشرق العربي بداية من عام 491 هجرية الموافق عام 1098م وحتى عام 628 هجرية الموافق عام 1231م كما أنها إستمرت بعد ذلك بعد وفاته حتي عام 670 هجرية الموافق عام 1272م والتي كانت بشكل رئيسي حروب فرسان وسميت بهذا الإسم نسبة إلى الذين شاركوا فيها وقد إتخذت هذه الحروب الدين ذريعة لها تحت شعار الصليب من أجل الدفاع عنه وذلك لتحقيق الهدف الرئيسي لتلك الحملات وهو السيطرة على الأراضي المقدسة في فلسطين حيث بيت المقدس وكنيسة المهد وكنيسة القيامة ولذلك كان أفراد الجيوش الصليبية يخيطون على ألبستهم على الصدر والكتف علامة الصليب من قماش أحمر كما تضمن كتاب الكامل في التاريخ أيضا أخبار الزحف التترى على المشرق الإسلامي منذ بدايته في عام 616 هجرية الموافق عام 1219م حينما بدأت إمبراطورية المغول بقيادة جنكيز خان تتوسع غربا إلى بلاد آسيا الوسطى ومد سيطرتها علي مناطق إيران وأفغانستان وجنوب روسيا الحالية ثم إسقاطه للدولة الخوارزمية في عام 1221م وتوسيع الإمبراطورية المغولية إلى أقصى حد تم التوصل إليه خلال حياة جنكيز خان وقد كتب عز الدين بن الأثير كتابه بأسلوب نثرى سهل ومرسل لا تكلف فيه مبتعدا عن الزخارف اللفظية كالسجع وخلافه والألفاظ الغريبة معتنيا بإيراد المادة الخبرية بعبارات موجزة واضحة ومباشرة وقد إختصر هذا الكتاب العديد من العلماء والفقهاء منهم الشيخ والفقيه الحنفي والواعظ بدر الدين محمد بن أبي زكريا يحيى القدسي وإختصره أيضا الشيخ والفقيه الحنفي سديد الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن الرشيد بن علي الكاشغري المتوفّى عام 1305م وإختصره أيضا الإمام والمؤرخ شمس الدين الذهبي المتوفي عام 1348م وكان إسم هذا المختصر تجريد أسماء الصحابة .
وإذا ما إنتقلنا إلي كتاب إبن الأثير الثاني الذى يعد أيضا من أهم كتبه وهو كتاب أسد الغابة في معرفة الصحابة فإن موضوع هذا الكتاب هو الترجمة لصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم الذين حملوا مشاعل الدعوة وساحوا في البلاد وفتحوا بسلوكهم الدول والممالك قبل أن يفتحوها بالطعن والضرب وقد رجع إبن الأثير في هذا الكتاب إلى مؤلفات كثيرة إعتمد منها أربعة كانت عمدا بالنسبة له هي كتاب معرفة الصحابة للإمام والمحدث الكبير ذى المعرفة بالشيوخ وأنسابهم وبعلم الرجال عامة عمرو بن حماد الملائي الكوفي أبي نعيم الأحول وكتاب الإستيعاب في معرفة الأصحاب للإمام والفقيه المالكي والمحدث والمؤرخ الأندلسي أبو عمر يوسف بن عبد البر القرطبي وكتابي معرفة الأصحاب والذيل على معرفة الأصحاب للعالم والمحدث أبي عبد الله محمد إبن منده الأصبهاني وقد إشتمل كتاب اسد الغابة على ترجمة لعدد 7554 صحابيا وصحابية تقريبا ورتبه إبن الأثير على حروف الهجاء وضبط بالحروف الأسماء المتشابهة في الرسم المختلفة في النطق ويتصدره توطئة لتحديد مفهوم الصحابي حتى يكون القارئ على بينة من أمره وإلتزم في إيراد أصحابه الترتيب الأبجدى ويبدأ ترجمته للصحابي بذكر المصادر التي إعتمد عليها ثم يشرع في ذكر إسمه ونسبه وهجرته إن كان من المهاجرين والمشاهد والغزوات التي شهدها مع الرسول صلى الله عليه وسلم إن وجدت ويذكر تاريخ وفاته وموضعها ومكان دفنه إن كان ذلك معلوما وقد طبع هذا الكتاب أكثر من مرة وأخيرا فقد ظل إبن الأثير بعد رحلاته كما ذكرنا في السطور السابقة مقيما في الموصل منصرفا إلى العبادة والتأليف عازفا عن المناصب الحكومية متمتعا بثروته التي جعلته يحيا حياة كريمة جاعلا من داره ملتقى للطلاب والزائرين حتى توفي في شهر شعبان عام 630 هجرية الموافق شهر مايو عام 1233م عن عمر يناهز 73 عاما وكان قبره موجودا في مدينة الموصل منفردا وذلك بعد أزيلت المقبرة التي كان قبره ضمنها وبقي قبره وسط الشارع في بلدة باب سنجار قرب الموصل ثم أزيلت معالم القبر وهدم في فترة حكم تنظيم داعش لمدينة الموصل وما حولها عام 2014م .
|