بقلم المهندس/ طارق بدراوى
tbadrawy@yahoo.com
موسوعة كنوز “أم الدنيا"
المؤرخ والإمام إبن حبان البستي هو الإمام العلامة الحافظ المحدث المؤرخ القاضي شيخ خراسان والذى يعد من من كبار أئمة علم الحديث والجرح والتعديل أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد بن حبان بن معاذ بن معبد وينتهي نسبه إلي إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن نبي الله إسماعيل عليه السلام ولقب بالبستي نسبة إلي مدينة بست وحاليا تسمي لشكر كاه وهي عاصمة ولاية هلمند إحدى ولايات إقليم سجستان بدولة أفغانستان حاليا ولشكر كاه تعني بالفارسية محل العسكر وهي مدينة كبيرة تقع بين مدينتي هراة وغزنة وهما من مدن أفعانستان اليوم أيضا وذلك كما جرت العادة بنسبة العلماء والفقهاء إلي المدن أو القرى التي ولدوا بها مثلما نسب الإمام محمد بن إسماعيل البخارى إلي مدينة بخارى وهي بدولة أوزباكستان حاليا والإمام أبو عيسي محمد الترمذى إلي مدينة ترمذ بمدينة أوزباكستان أيضا حاليا والإمام مسلم بن الحجاج النيسابورى إلي مدينة نيسابور وهي بدولة إيران حاليا وهكذا وإشتهر الإمام إبن حبان بإبداعه رحمه الله في كثير من العلوم والمعارف فإلى جانب تبحره في علم الحديث النبوى الشريف كانت له معرفة واسعة في علم الفقه مع القدرة الفائقة على إستنباط المسائل والأحكام من النصوص وأبدع أيضا في علم اللغة العربية وعلوم الطب والنجوم وغيرها ويظهر ذلك واضحا من خلال الثروة العلمية الهائلة من المصنفات التي خلفها لنا وقد سافر إلي الكثير من البلدان من أجل طلب الحديث وتصانيفه مشهورة كثيرة الفوائد في هذا المجال وكان ميلاد الإمام إبن حبان علي الأرجح ما بين عام 270 هجرية الموافق عام 883م وعام 273 هجرية الموافق عام 886م وأمضى طفولته وأوائل شبابه في بلدته بست وأخذ يجتهد ويعمل في طلب الحديث وبدا يتنقل بين كثير من الأقطار مثلما كان يفعل علماء الحديث في عصره لسماع العلم من الشيوخ والأئمة في شتى أرجاء العالم الإسلامي آنذاك فرحل إلى خراسان وزار نيسابور ومنها إنتقل إلي العراق فزار الموصل وبغداد والبصرة والجزيرة ثم إنتقل إلي بلاد الشام فزار دمشق ثم إنتقل إلي مصر كما زار بلاد الحجاز واليمن أيضا وتعلم على يد الكثير من المشايخ والأئمة منهم عالم الحديث الثقة أبي يعلى أحمد بن علي بالموصل والإمام المحدث الثقة أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي ببغداد والإمام والمحدث أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي بالبصرة والإمام والمحدث الثقة جعفر بن أحمد بدمشق والإمام الحافظ والمحدث أبي عبد الرحمن النسائي صاحب كتاب سنن النسائي أحد كتب الحديث الصحاح الستة بمصر وغيرهم من الأئمة والفقهاء حتى إنه قد حمل العلم والحديث عن أكثر من ألفي شيخ ومحدث فيا لها من همة عالية رفعته لمصاف علماء الأمة الكبار وحفاظها المعروفين وقد إستغرق إبن حبان في رحلاته قرابة أربعين عاما تولى خلالها قضاء سمرقند لمدة ثم عاد إلى نيسابور ومنها إلى بلدته بست وقد أشار الإمام إبن حبان إلى كثرة رحلاته وجمعه للعلوم قائلا لعلنا كتبنا عن أكثر من ألفي شيخ من مدينة إسبيجاب وكانت ثغرا من أشهر ثغور الإسلام والتي وصفت بأنها تقع أقصي حد ةد بلاد المشرق الإسلامي بالقرب من حدود الصين إلى مدينة الإسكندرية بمصر والتي كانت آخر مدينة يرحل إليها من جهة المغرب الإسلامي وقال عن ذلك الشيخ المحقق والمحدث السورى المعاصر شعيب بن محرم الأرناؤوطي في مقدمة تحقيقه لكتابه الخاص بالحديث النبوى الشريف المعروف باسم صحيح إبن حبان إنه كان يريد من قوله هذا أن يبين لنا أنه رحل إلى أقصى ما يمكن الإرتحال إليه من البلاد الخاضعة لدولة الإسلام لطلب العلم في عصره ولا يسعنا إزاء العدد الضخم من الشيوخ الذين أخذ عنهم وسمع منهم خلال ترحاله في تلك الرقعة الواسعة من أرض الدولة الإسلامية إلا أن نردد مع المؤرخ والإمام الحافظ شمس الدين الذهبي قوله هكذا فلتكن الهمم وجدير بالذكر أن الإمام إبن حبان قد ألف معجما لشيوخه الذين إلتقي بهم خلال رحلاته الطويلة في العالم الإسلامي وسماه المعجم على المدن وهو من الكتب المفقودة كما أنه ألف أيضا كتابا في آداب الرحلات وهو من الكتب المفقودة أيضا .
وعن الصفات الشخصية لإبن حبان فقد كان ثقة نبيلا فهما ويعد من أوعية العلم في الفقه واللغة وكان أيضا مكثرا من الحديث والوعظ والإرشاد ومن حفاظ الآثار وإلي جانب أنه كان عالما بالطب والنجوم وفنون العلم كما ذكرنا في السطور السابقة ويظهر أنه بلغ فيهما رتبة أمكن معها القول فيه كان عالما بالطب والنجوم فقد كان أيضا عالما بالمتون والأسانيد وأخرج من علوم الحديث ما عجز عنه غيره وأدرك الأئمة والعلماء والأسانيد العالية وبرع أيضا في علم اللغة العربية حتى عرف أسرارها وحقيقتها ومجازها وتمثيلها وإستعاراتها مما مكنه من أن يستنبط الأحكام الشرعية من نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة وكثيرا ما كان يمهد لإستنباطه بذكر القاعدة اللغوية المتعارف عليها عند العرب كقوله العرب تذكر الشئ في لغتها بعدد معلوم ولا تريد بذكرها ذلك العدد نفيا عما وراءه وقوله العرب في لغتها تطلق إسم البداءة على النهاية وإسم النهاية على البداءة وغير ذلك مما نثره وبسطه في كتبه مما يكشف عن مدى تعمقه في فهم اللغة العربية وإدراكه لمقاصد ألفاظها وأسرار تراكيبها وعلاوة علي ذلك فقد نَضج الإمام إبن حبان في علم الكلام حتى تأثرت به عقليته وتلون به فكره فذهب إلى تقسيم الشئ إلى كلي وجزئي وتفريق الشيئين المتضادين والمتهاترين على حد تعبيره إلى غير ذلك مما هو واضح في تعليقاته وتفسيراته وإستنتاجاته في كتابه الهام المسند الصحيح في الحديث وما طريقة ترتيب كتابه هذا حسب التقاسيم والأنواع إلا ثمرة من ثمار تأثره بعلم الكلام وقد ذكر ذلك الإمام والمؤرخ جلال الدين السيوطي في تدريب الراوى وما محنته التي تعرض إليها والتي سيأتي ذكرها في السطور القادمة إلا نتيجة لإستيلاء مصطلحات هذا الفن على ألفاظه وعباراته مما يشير إلى أن نسيج فكره قد شد من خيوط هذا الفن ولم يكن علمه به مجرد إلمام واطلاع وهذه الفنون والعلوم الكثيرة التي تمكن منها الإمام إبن حبان جعلت المؤرخ والإمام الحافظ إبن حجر العسقلاني يقول عنه كان صاحب فنون وذكاء مفرط وحفظ واسع إلى الغاية رحمه الله وفضلا عن ذلك فقد كان الإمام إبن حبان أحد العلماء البارزين المكثرين في التصنيف وله عدد كبير من المصنفات يغلب عليها التصنيف في الحديث والجرح والتعديل وقد أبدع فيهما وقال عنه المؤرخ والرحالة ياقوت الحموى ومن تأمل تصانيفه تأمل منصف علم أن الرجل كان بحرا في العلوم وكان من أهم مصنفاته المسند الصحيح في الحديث الذى ذكرناه في السطور السابقة وكتاب مشاهير علماء الأمصار وقد قامت شهرته عند أهل العلم على هذين الكتابين وكان له أيضا من التصانيف كتاب روضة العقلاء في الأدب وكتاب معرفة المجروحين من المحدثين وكتاب الثقات وكتاب علل أوهام أصحاب التواريخ وكتاب الصحابة وكتاب التابعين وكتاب أتباع التابعين وكتاب غرائب الأخبار وكتاب أسامي من يعرف بالكنى وكتاب المعجم على المدن وغيرهم .
ومما يذكر أنه في كتابه المسند الصحيح في الحديث قد إلتزم الإمام إبن حبان بنظام دقيق قال هو عنه في مقدمته شرطنا في نقله ما أودعناه في كتابنا ألا نحتج إلا بأن يكون في كل شيخ فيه خمسة أشياء الأول العدالة في الدين بالستر الجميل والثاني الصدق في الحديث بالشهرة فيه والثالث العقل بما يحدث من الحديث والرابع العلم بما يحيل المعنى من معاني ما روى والخامس تحرى خبره من التدليس كما ذكر أنه مر على أكثر من الفي شيخ ولم يرو في صحيحه إلا عن مائة وخمسين شيخا فقط توفرت فيهم الخصال الخمسة المذكورة في السطور السابقة وقد رتب الإمام إبن حبان صحيحه على أساس طريقة إبتكرها سماها التقاسيم والأنواع وبقي الكتاب كذلك يصعب الوصول إلى أحاديثه حتى جاء الإمام الحافظ والفقيه الشامي محمد بن بدر الدين بن عبد القادر الخزرجي المعروف بإبن بلبان فرتبه حسب الكتب والأبواب وسماه الإحسان في تقريب صحيح إبن حبان وكان من هذه الأبواب علي سبيل المثال لا الحصر كتاب الوحي وكتاب الإسراء وكتاب العلم وكتاب الإيمان وكتاب البر والإحسان وكتاب الرقائق وكتاب الطهارة وكتاب الصلاة وكتاب الجنائز وما يتعلق بها وتتمة كتاب الصلاة وكتاب الزكاة وكتاب الصوم وكتاب الحج وكتاب النكاح وكتاب الرضاع وكتاب الطلاق وكتاب العتق وكتاب النذور وكتاب الحدود وقال الإمام إبن حبان عن كتابه هذا إن السبب الرئيسي الذى دفعه لتأليفه هو إعراض الناس عن الصحيح من السنة وأخذهم بالأحاديث الضعيفة والمنكرة ولجعل الناس يقبلون على حفظ السنن غيرة منه رحمه الله على سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولإرجاع الناس إلى المنهج الصحيح لأهل العلم والمحدثين في تلقي حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام وقد كانت هناك بعض الإنتقادات علي بعض رواة إبن حبان في صحيحه فكان رده عليها أروى في هذا الكتاب وأحتج بمشايخ قد قدح فيهم بعض أئمتنا ممن تنكب عن رواياتهم بعض أئمتنا وإحتج بهم البعض فمن صح عندى منهم بالبراهين الواضحة وصحة الإعتبار على سبيل الدين أنه ثقة إحتججت به ولم أعرج على قول من قدح فيه ومن صح عندى بالدلائل النيرة والإعتبار الواضح على سبيل الدين أنه غير عدل لم أحتج به وإذا ما إنتقلنا إلي كتابه الهام الثاني وهو كتاب مشاهير علماء الأمصار فسنجد أن الإمام إبن حبان قصد في هذا الكتاب المعجمي أن يجمع أسماء مشاهير الصحابة والتابعين وأتباع التابعين والعلماء في مدن الكوفة والبصرة وفي بلاد الشام ومصر وغيرها من المدن والبلاد التي زارها وقد بدأ بمشاهير الصحابة ثم التابعين ثم أتباع التابعين وكان يذكر إسم كل منهم ومحل إقامته ومكان وفاته وفي آخر الكتاب وضع فهارس بأسماء التراجم والكنى والطبعة المتوافرة حاليا من هذا الكتاب محققة وعليها حواشي وتعليقات هامة .
وإذا ما إستعرضنا بعض مصنفات الإمام إبن حبان الأخرى والتي كان منها كتاب الثقات والذى يعد مرجعا من المراجع العلمية الهامة في علم الجرح والتعديل ومعرفة أحوال الرجال يرجع إليه أئمة الحديث والمجتهدون في الكشف عن أحوال الرجال ومعرفة الثقات من المجروحين وقد تميز هذا الكتاب بمزايا كثيرة من أهمها مكانته العلمية وتقدمه في هذا الشأن وما ذكره من الأدلة على وجوب بيان حال الرواة الضعفاء والرد على من أنكر ذلك وما ذكره أيضا من الأسباب العشرين التي يمكن أن يجرح بها الراوى وما ذكره من أجناس أحاديث الثقات التي لا يجوز الإحتجاج بها وبوجه عام يعتبر كتاب الثقات موسوعة ضخمة في أسماء رواة الحديث المتكلم فيهم سواء كان المتكلم مسلما أو غير مسلم وقد جمع الإمام إبن حبان في مصنفه هذا عددا كبيرا من رواة الحديث الثقات يزيد على عدد 4475 راويا من الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين وتابعي التابعين ومن روى عن أتباع التابعين ويذكر إسم الراوى وعمن روى ومن روى عنه إلا أنه أفرد في بداية الكتاب ما يزيد عن عدد 245 صفحة في أحداث السيرة النبوية المشرفة وأسماء من توالى على الخلافة بعد رسول الله صلي الله عليه وسلم من الخلفاء الراشدين الأربعة ثم خلفاء الدولة الأموية الأربعة عشر ثم خلفاء الدولة العباسية حتي عهد الخليفة العباسي الثالث والعشرين أبي القاسم الفضل بن المقتدر المعروف بإسم المطيع الذى تولي الخلافة من عام 334 هجرية الموافق عام 946م حتي عام 363 هجرية الموافق عام 974م والذى توفي خلاله ومما يذكر أن الإمام إبن حبان قال في مقدمة كتابه لقد كتبت كتاب الثقات لما رأيت أن معرفة السنن من أعظم أركان الدين وأن حفظها يجب على أكثر المسلمين وأنه لا سبيل إلى معرفة السقيم من الصحيح ولا صحة إخراج الدليل من الصريح إلا بمعرفة ضعفاء المحدثين وكيفية ما كانوا عليه من الحالات وأردت أن أملي أسامي أكثر المحدثين والفقهاء من أهل الفضل والصالحين ومن سلك سبيلهم من الماضين بحذف الأسانيد والإكثار ولزمت سلوك الإختصار ليسهل على الفقهاء حفظها ولا يصعب على الحافظ وعيها والله أسأل التوفيق لما أوصانا والعون على ما له قصدنا وكان أيضا من مصنفات الإمام إبن حبان كتاب روضة العقلاء ونزهة الفضلاء ويتناول هذا الكتاب سلوك الإنسان مع ربه ونفسه ومجتمعه وهو يقع في خمسين فصلا تتناول ما ينبغي للإنسان أن يلتزمه من سلوك تجاه نفسه وربه ومجتمعه منها خمسة عشر موضوعا في أدب النفس وسلوك الإنسان مع ربه كلزوم العقل والعلم ولزوم القناعة والرضا بالشدائد والصبر عليها أما بقية الموضوعات فهي تعنى بالآداب الإجتماعية وتنظيم سلوك الإنسان في المجتمع ويقول الإمام إبن حبان عن السبب الرئيسي الذى دفعه إلي تأليف كتابه هذا إنني لما رأيت الرعاع من العالم يغترون بأفعالهم والهمجَ من الناسِ يقتدون بأمثالهم دعاني ذلك إلى تصنيف كتاب خفيف يشتمل متضمنه على معنى لطيف مما يحتاج إليه العقلاء في أيامهم من أجل معرفة الأحوال في أوقاتهم ليكون كالتذكرة لذوى الحجى عند حضرتهم وكالمعين لأولى النهى عند غيبتهم يفوق العالم به أقرانه والحافظ له أترابه ويكون النديم الصادق للعاقل في الخلوات والمؤنس الحافظَ له في الفلوات إن خص به من يحب من إخوانه لم يفتقده من ديوانه وإن إستبد به دون أوليائه فاق به على نظرائه .
وقد تعرض الإمام إبن حبان لمحنة قاسية كادت تودى بحياته وتقضي على تراثه وعلمه وكانت من أعجب المحن والفتن التي يتعرض لها أحد من أهل العلم وتدل على مدى خطورة الجهل بمعاني الألفاظ ومدلولاتها وأيضا تدل على مدى خطورة تحميل الألفاظ والأقوال من أوجه الكلام ما لا تحتمله ولا يتفق مع دين وعقيدة ومكانة قائلها ويحضرنا عند الحديث عن محنة إبن حبان العجيبة مقولة الإمام مالك بن أنس الشهيرة إذا قال الرجل قولا يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجها والإيمان من وجه واحد حملناها على الإيمان لأنها تكاد تنطبق على هذه المحنة الغريبة وكان مفاد هذه المحنة أن الإمام إبن حبان أثناء إلقائه لأحد الدروس في مدينة نيسابور سئل عن النبوة فقال النبوة العلم والعمل وكان يحضر حينذاك مجلسه بعض الوعاظ فقام إليه أحدهم وإتهمه بالزندقة والقول بأن النبوة مكتسبة وإرتفعت الأصوات في المجلس وهاج الناس بين مؤيد للتهمة وناف لها وخاضوا في هذا الخبر على كل وجه حتى كتب خصوم إبن حبان محضرا بالواقعة وحكموا عليه بالزندقة ومنعوا الناس من الجلوس إليه وهجر الرجل بشدة وبالغ منتقدوه في إلحاق الأذى والضرر به وتمادوا في ذلك حتى كتبوا في أمر قتله وهدر دمه إلى الخليفة العباسي وقتها فكتب بالتحرى عن الأمر وقتله إن ثبتت عليه التهمة وبعد أخذ ورد إتضحت براءة الإمام إبن حبان ولكنهم أجبروه على الخروج من نيسابور إلى سجستان وهناك وجد أن الشائعات تطارده والتهمة ما زالت تلاحقه وتصدى له أحد الأئمة والمحدثين الوعاظ هناك وإسمه يحيى بن عمار والملقب بشيخ سجستان وظل يؤلب عليه الناس حتى خرج من سجستان وعاد إلى بلده بست وظل بها حتى مات رحمه الله مهموما محزونا من الأباطيل وتهم الزندقة والإلحاد ولكن هل مجرد كلمة واحدة تجلب على هذا العالم الفذ كل هذه المتاعب ونحن نقول إن هذه الكلمة وأمثالها قد تفعل مثل ذلك وزيادة إذا ألقيت على أسماع من لا يفهم اللغة ومدلولاتها وأيضا إذا ألقيت على أسماع الحاسدين والموتورين الذين يتربصون بأمثال هذا العالم العلامة الدوائر وينتظرون أية مناسبة وفرصة ولو بشطر كلمة للنيل منه فإن كلمة النبوة العلم والعمل يقولها المسلم ويقولها الزنديق يقولها المسلم ويقصد بها مهمة النبوة إذ من أكمل صفات النبي العلم والعمل فما من نبي قط إلا وهو على أكمل حال من العلم والعمل وليس كل من برز فيهما نبيا لأن النبوة محض إصطفاء من الله عز وجل لا حيلة للعبد في نيلها ولا إكتسابها ولم يرد إبن حبان حصر المبتدأ في الخبر وذلك نظير قوله صلى الله عليه وسلم الحَجُّ عَرَفَة ومعلوم أن عرفة هو ركن الحج الأعظم ولكن لا يكفي وحده حتى يصير العبد حاجا بل هناك أركان وفروض أخرى لشعيرة الحج ولكن الوقوف بعرفة هو ركن الحج الأعظم كما أن العلم والعمل مهم للنبوة وهذا ما قصده وأراده إبن حبان وهذا ما يجب أن يحمل كلامه عليه وهذا هو اللائق بمكانته وعلمه وأيضا اللائق بخلق المسلم الصادق الذى يحسن الظن بإخوانه المسلمين وأيضا وفي نفس الوقت فهذه الكلمة يقولها الفيلسوف الزنديق وهو يقصد بها أن النبوة مكتسبة ينتجها العلم والعمل وكثرة الرياضات والمجاهدات وهذا كفر مخالف للقرآن الكريم وللسنة النبوية المشرفة وإجماع المسلمين وهذا ما لا يريده ولا يقصده بأى حال من الأحوال الإمام إبن حبان وحاشاه فهو كان بحق من كبار علماء الأمة وأئمتها ولكن الجهل والحقد والحسد أعمى قلوب معارضيه حتى خاضوا فيه وأجبروه على الرحيل من مكان لآخر حتى إستقر في بلده وبها قضي باقي عمره حتي توفي بها وما أشبه هذه الحادثة بما جرى للإمام محمد بن إسماعيل البخارى الذى لما ورد نيسابور وإجتمع الناس عليه حسده بعض من كان في ذلك الوقت من الشيوخ لما رأى من إقبال الناس عليه فقال لأصحاب الحديث إن الإمام البخارى يقول اللفظ بالقرآن الكريم مخلوق فإمتحنوه فلما حضر الناس مجلس البخارى قام إليه رجل فقال يا أبا عبد الله ما تقول في اللفظ بالقرآن الكريم مخلوق هو أو غير مخلوق فأعرض عنه الإمام البخارى ولم يجبه ثلاثا ثم إلتفت إليه البخارى قائلا إن القرآن الكريم كلام الله غير مخلوق وأفعال العباد مخلوقة والإمتحان بدعة فشغب الرجل وشغب الناس وتفرقوا عنه فرحم الله الرجلين وأجزل لهما المثوبة وجعل من أبناء الأمة من يذودون عن أعراضهم ويدفعون عنهم الأباطيل والأكاذيب ويكشفون بطلان تهم خصومهم ويعرفون أبناء المسلمين حقيقة علماء هذا الدين العظيم .
ونظرا للمكانة الكبيرة للإمام إبن حبان والمنزلة العالية في سماء علم الحديث بحيث إنه كان ممن يشد إليهم الرحال لسماع كتبه وأسانيده فقد إعترف له معاصروه ومن جاء بعده بالعلم والفضل والتقدم فهذا تلميذه المؤرخ والمحدث أبو عبد الله الحاكم النيسابورى وهو من كبار علماء الحديث وصاحب كتاب المستدرك يقول عنه كان إبن حبان من أوعية العلم في الفقه واللغة والحديث والوعظ ومن عقلاء الرجال وقد أقام عندنا في نيسابور وبنى الخانقاة وقرئ عليه جملة من مصنفاته ثم خرج إلى وطنه سجستان عام 340 هجرية وكانت الرحلة إليه لسماع كتبه وقال عنه الحافظ ومحدث سمرقند أبو سعد الإدريسي كان الإمام إبن حبان من فقهاء الدين وحفاظ الآثار عالما بعلوم الطب والنجوم يقصد الفلك وقد صنف المسند الصحيح في الحديث وقد تولى قضاء سمرقند زمانا فنشر الفقه والعلم هناك بين الناس وقال عنه المؤرخ والمحدث أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت المعروف بإسم الخطيب البغدادى كان الإمام إبن حبان ثقة نبيلا فهما ولو أنه ما أقدم على توثيق المجاهيل في مسنده لإرتفع شأن هذا المسند إلى مصاف كتب الحديث الصحاح الستة وأيضا لزادت مكانته ودرجته في مصاف العلم والعلماء وقال المؤرخ والإمام الحافظ شمس الدين الذهبي عنه في مصنفه سير أعلام النبلاء الإمام إبن حبان الإمام العلامة الحافظ المجود شيخ خراسان صاحب الكتب المشهورة كان قد قال في كتاب الأنواع لعلنا قد كتبنا عن أكثر من ألفي شيخ فقلت هكذا فلتكن الهمم وذلك بالإضافة إلي ما كان عليه من الفقه وإتقان العربية والفضائل الباهرة وكثرة التصانيف وقال عنه الإمام الحافظ شيخ الإسلام إبن حجر العسقلاني كان الإمام إبن حبان من أئمة زمانه قد طلب الحديث على رأس سنة ثلاث مائة وقال أيضا عنه وكان عارفا بالطب والنجوم والكلام والفقه رأسا في معرفة الحديث ووصفه بأنه صاحب فنون وذكاء مفرط وحفظ واسع إلى الغاية وأخيرا كانت وفاة الإمام إبن حبان بعد أن خرج مكرها من نيسابور إلي سجستان ومنها عاد إلي بلدته ومسقط رأسه بست وظل بها حتى توفي عام 354 هجرية الموافق عام 965م عن عمر يناهز الثمانين عاما ودفن بقرب داره في مدينة بست .
|