بقلم المهندس/ طارق بدراوى
tbadrawy@yahoo.com
موسوعة كنوز “أم الدنيا"
المؤرخ والإمام أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي والمعروف بإبن عساكر هو الإمام والعلامة الحافظ الكبير محدث الشام والرحالة صاحب كتاب تاريخ دمشق والكثير من المصنفات الأخرى ويعد من كبار علماء دمشق وقد عرف عنه الزهد وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وأنه كرس حياته في التصنيف والتأليف إلى أن لبى نداء ربه وكان ميلاد إبن عساكر في غرة شهر المحرم عام 499 هجرية الموافق يوم 13 سبتمبر عام 1105م ونشأ رحمه الله في كنف عائلة فقهية نابغة محبة للعلم وكانت أسرته هي أول من تولى تعليمه وتهذيبه فقد نبت في بيت قضاء وفقه وحديث حيث كان أبوه الحسن بن هبة الله تقيا ورعا محبا للعلم ومجالسة العلماء ومصاحبتهم وكانت أمه من بيت علم وفضل فأبوها أبو الفضل يحيى بن علي كان قاضيا وكذلك كان أخوها أبو المعالي محمد بن يحيى قاضيا وقد رزق الوالدان الكريمان قبل إبنهما علي إبن عساكر بولد كان له شأن هو أبو الحسين الصائن هبة الله بن الحسن والذى كان من حفاظ الحديث ورحل في طلبه إلى العاصمة العباسية بغداد وعني بعلوم القرآن واللغة والنحو وجلس للتدريس والإفتاء ومن ثم فقد سمع علي إبن عساكر الحديث من أبيه وأخيه وهو في السادسة من عمره ثم تتلمذ على يد عدد كبير من شيوخ دمشق وعلمائها حيث تلقى على أيديهم عددا كبيرا من أمهات الكتب في الحديث والتاريخ وكانت دمشق آنذاك من حواضر العلم الكبرى في العالم الإسلامي ولم ينشغل إبن عساكر في فترة حياته الباكرة إلا بطلب العلم فإنصرفت همته إليه وإنشغلت نفسه به ولم يصرفه عنه صارف ولم يترك عالما ذا شأن في دمشق إلا إتصل به وقرأ عليه ولم تسنح له فرصة من وقت إلا شغلها بالقراءة والدرس حيث كان في سباق مع الزمن حتى يحصل ما تصبو إليه نفسه من العلوم والفنون وقرأ على المحدث وخطيب صور أبي الفرج غيث بن علي الصورى تاريخ صور وجزءا من كتاب تلخيص المتشابه للمؤرخ والمحدث الخطيب البغدادى وقرأ على الإمام والمحدث عبد الكريم بن حمزة السليم كتاب الإكمال للمؤرخ والإمام والمحدث الحافظ الأمير أبو نصر علي بن الوزير أبي القاسم هبة الله المعروف بإبن ماكولا ومشتبه النسبة للإمام والمحدث وراوى الحديث عبد الغني بن سعيد الأزدى وقرأ على شيخه الإمام والفقيه والمحدث أبي القاسم النبيه كتاب المجالسة وجواهر العلم للقاضي والمحدث الحافظ أحمد بن مروان الدينورى وتلخيص المتشابه الخطيب البغدادى وقرأ على الإمام والفقيه والمحدث أبي محمد بن الأكفاني كتاب المغازى للإمام والفقيه والمؤرخ والمحدث العالم بالسير والمغازى موسى بن عقبة وكتاب المغازي للمؤرخ المتخصص في التاريخ العسكرى والإمام والفقيه والمحدث محمد بن عائذ القرشي الدمشقي وأخبار الخلفاء للعالم والمؤرخ الحافظ أبي بكر عبد الله بن محمد والمعروف بإسم إبن أبي الدنيا .
وكما كان معتادا في زمن إبن عساكر أن يرحل العلماء والفقهاء في ديار الإسلام المختلفة من أجل تحصيل العلم والإلتقاء بشيوخ وفقهاء البلاد الإسلامية المختلفة والسماع منهم وأخذ العلم عنهم فقد بدأ رحلاته عام 520 هجرية الموافق عام 1126م إلى العاصمة العباسية بغداد ثم إتجه منها إلى بلاد الحجاز فزار مكة المكرمة لأداء فريضة الحج ثم إنتقل إلي المدينة المنورة وزار مسجد النبي صلي الله عليه وسلم وخلال تلك الرحلات والتي إستغرقت خمس سنوات قابل في أثنائها عددا كبيرا من أئمة العلم والفقه والحديث والتاريخ وقرأ عليهم عشرات الكتب العظيمة ذات المجلدات الضخمة حيث إتصل بالشيخ والفقيه المقرئ أبي غالب بن البناء البغدادى وقرأ عليه كتاب نسب قريش للحافظ والعالم بالأنساب أبي عبد الله الزبير بن بكار القرشي المدني والذى كان من مشاهير العلماء والأدباء في العصر العباسي وكتاب التاريخ للإمام والفقيه وعالم الحديث ابي بكر بن أبي خيثمة وبعضا من كتاب الطبقات الكبرى للعالم والمحدث البصرى محمد بن سعد البغدادى وقرأ على الإمام والشيخ الجليل الثقة أبي القاسم هبة الله بن الحصين كتاب مسند الإمام أحمد بن حنبل في الحديث وكتاب الفوائد المعروف بإسم الغيلانيات للإمام والفقيه أبي بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي ودرس أيضا على العالم والمحدث الثقة البصرى أبي بكر محمد بن عبد الباقي الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد البغدادى والمغازي للمؤرخ والعالم والمحدث أبي عبد الله محمد بن عمر بن واقد السهمي المعروف بإسم الواقدى والذى يعد من أقدم المؤرخين الإسلالميين ولزم الإمام والمحدث أبا القاسم إسماعيل بن عمر بن أبي الأشعث السمرقندى وسمع منه كتبا كثيرة منها كتاب سيرة إبن إسحاق للعالم والفقيه المحدث محمد بن إسحاق بن يسار المدني وكتاب الفتوح للمؤرخ الذى يعد من أكبر مؤرخي الإسلام أبي عبد الله سيف بن عمر التميمي وتاريخ الخلفاء للإمام والفقيه والمحدث والمفسر أبي عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه صاحب كتاب سنن إبن ماجة ومعجم الصحابة للعالم والإمام وراوى الحديث أبي القاسم عبد الله محمد بن عبد العزيز البغوى والمعرفة والتاريخ للعالم والمؤرخ أبي يوسف يعقوب الفسوى والكامل في الضعفاء لراوى الحديث أبي أحمد بن عدى الجرجاني وفي عام 525 هجرية الموافق عام 1130م عاد الحافظ علي بن عساكر إلى دمشق وإستقر بها فترة عاود بعدها مواصلة رحلاته مرة أخرى بعد 4 سنوات أى في عام 529 هجر ية الموافق عام 1134م وكانت تلك الرحلات صوب بلاد الشرق الإسلامي حيث بلاد خراسان وأصبهان وهمدان وأبيورد وبيهق والرى ونيسابور وسرخس وطوس ومرو وهي مدن تقع بدولتي تركمانستان وإيران حاليا وسمع في أثناء رحلاته عددا كبيرا من الكتب على كبار الأئمة والشيوخ الحفاظ والمحدثين في بلاد المشرق الإسلامي مثل راوى الحديث الثقة سعيد بن أبي الرجاء محمد أبو الفرج الصيرفي والعالم والمحدث والفقيه زاهر بن طاهر بن محمد الشحامي .
وبعد هذه الرحلة عاد إبن عساكر إلى دمشق عام 533 هجرية الموافق عام 1138م وقد ذاع صيته وطبقت شهرته الآفاق وقصده طلاب العلم من كل مكان وإنصرف إلى التأليف والتصنيف وشغل نفسه بالعلم مذاكرة وتحصيلا وجعله هدفا لا يصرفه عنه شئ ولم يجعله وسيلة لتولي منصب أو طمعا في مال أو جاه وأعطاه نفسه ولم يبخل عليه بجهد فكافأه الله سعة في التأليف وصيتا لا يزال صداه يتردد حتى الآن ومكانة في العلم تبوأها في المقدمة بين رجالات العلم في تاريخ الإسلام وخلال هذه المرحلة من حياته وضع إبن عساكر مؤلفات كثيرة لكن مؤلفًا منها قد ملك عليه فؤاده وإنصرفت إليه همته الماضية منذ أن إتجه إلى طلب العلم فبدأ يضع مخططا لكتابه الكبير تاريخ دمشق الذى صار نموذجا للتأليف في تاريخ المدن يحتذيه المؤلفون في المنهج والتنظيم وقد إستغرق التفكير والتأليف في تاريخ دمشق وقتا طويلا من حياته منذ فترة مبكرة من حياته حيث كان الأمر قد بدأ معه كفكرة في الذهن ثم مخططا على الورق وشروعا في التنفيذ فهو لم يؤلفه في صباه وشبابه ولم ينجزه في كهولته وإنما شغل حياته كلها ولم يفرغ منه إلا بعد أن وهن جسده وكل بصره وكان هذا العمل بحق عملا ضخما يحتاج إنجازه إلى أعمار كثيرة وكاد المؤلف أن ينصرف عن إنجازه وإتمامه لولا أن خبر هذا الكتاب تناهى إلى أسماع السلطان نور الدين محمود ملك دمشق وحلب فبعث إليه يشحذ همته ويقوى من عزيمته فعاد إلى الكتاب وأتمه في عام 559 هجرية الموافق عام 1163م ثم قام ولده القاسم بتنقيحه وترتيبه في صورته النهائية تحت بصر أبيه وعنايته حتى إذا فرغ منه في عام 565 هجرية الموافق عام 1169م وقرأه على أبيه قراءة أخيرة فكان يضيف شيئا أو يستدرك أمرا فاته أو يصوب خلطا ويحذف ما يراه غير مناسب أو يقدم موضعا أو يؤخر مسألة حتى أصبح على الصورة التي نراها الآن بين أيدينا تحفة الكتب في تاريخ المدن وقد جاء هذا الكتاب في النهاية في ثمانين مجلدا تبلغ حوالي ستة عشر ألف صفحة مخطوطة وخصص المؤلف القسم الأول من كتابه لذكر فضائل مدينة دمشق ودراسة خططها ومساجدها وحماماتها وأبنيتها وكنائسها وكان هذا كالمقدمة لكتابه الكبير ثم أخذ في الترجمة لكل من نبغ من أبنائها أو سكن فيها أو دخلها وإجتازها من غير أبنائها من الخلفاء والعلماء والقضاة والقراء والنحاة والأدباء والكتاب والشعراء مما جعل لهذا الكتاب قيمة أدبية كبرى إلى جانب قيمته التاريخية لعنايته بتراجم الأدباء والكتاب والشعراء وذكر أخبارهم وكتبهم وأشعارهم وأحيانا نجد أنه قد تتسع حلقة دمشق في منهج إبن عساكر لتشمل بعض مدن بلاد الشام أحيانا فيترجم لمن كان في مدن صيدا أو حلب أو بعلبك أو الرقة أو الرملة وكما إتسعت لديه دائرة نطاق المكان إتسعت دائرة الزمان فإمتدت من زمن أقدم الأنبياء والمرسلين إلى عصر المصنف ومن ثم جاء هذا الكتاب مصنف على نسق كتاب تاريخ بغداد والذى ألّفه الخطيب البغدادى و قيل عنه إنه يقصر العمر عن أن يجمع الإنسان فيه مثل هذا الكتاب ومما يذكر أن المنهج الذى إتبعه إبن عساكر في هذا الكتاب هو منهج المحدثين فقد إعتمد في الرواية على السند مهما طال أو تعدد فلا يذكر خبرا إلا ويسبقه إسناده وقد يكرر الخبر الواحد ما دامت هناك فائدة من زيادة أو توضيح وإتبع في التراجم التنظيم الألفبائي المعروف مراعيا في ذلك أسماء الآباء بعد أسماء المترجمين لكنه بدأ التراجم بمن كان إسمه أحمد تيمنا بإسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد أن فرغ من التراجم المرتبة أسماؤها ترتيبا معجميا أورد من عرف من الرجال بكنيته فقط مراعيا في ذلك الترتيب الألفبائي أيضا ثم أعقب ذلك بالمجاهيل ممن عرفت لهم رواية ولم يعرف لهم إسم ثم ختم الكتاب بتراجم النساء ملتزما المنهج نفسه في الترتيب والتنظيم وقد خصهن بمجلد مستقل إتسع لمائة وست وتسعين ترجمة من شهيرات النساء في العلم والأدب والغناء .
وجدير بالذكر أن إبن عساكر قد إعتمد في جمع مادة كتابه الشهير تاريخ دمشق الضخمة على ثلاثة أنواع من المصادر وهي السماع من شيوخه وهم يعدون بالمئات والذين روى عنهم وقرأ عليهم ثم المكاتبة والمراسلة معهم ثم الإعتماد على مؤلفات السابقين ويحتاج إحصاء هذه الموارد التي نهل منها إبن عساكر إلى جهد جهيد نظرا لضخامة الكتاب وحسبنا أن نعلم أن المجلد الأول من الكتاب أخذ إبن عساكر موارده عن مائة وستة وخمسين شيخا بالسماع وعن ستة عشر شيخا بالمكاتبة وأربعة عشر كتابا من بينها كتب المؤرخ والشاعر والراوية والنسابة أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البلاذرى والمؤرخ والعالم والمحدث الواقدى والإمام والفقيه وراوى الحديث المعروف محمد بن إسماعيل البخارى صاحب كتاب صحيح البخارى والمؤرخ والأديب والكاتب الكوفي أبي عبد الله محمد بن عبدوس بن عبد الله الجشهيارى ولعل من أهم ما صنعه إبن عساكر أنه حفظ لنا بكتابه تاريخ دمشق المؤلفات والمصادر المتفرقة التي كتبها الدماشقة وغيرهم حول تاريخ دمشق في القرون السابقة ثم أتى عليها الضياع كما رسم صورة لبلاد الشام وحركة السياسة بها وإزدهار الحضارة العربية والنشاط الثقافي الذى كانت تموج به دمشق منذ أن فتحها المسلمون في عام 15 هجرية في عهد الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب وكما ذكرنا في السطور السابقة فقد لقي كتاب تاريخ دمشق عناية وإهتمام كبيرين بداية من جهود القاسم إبن المؤلف الذى ذيله وإنتخب منه ثم قام بعد ذلك عدد من العلماء بإختصار الكتاب مثل الأديب والمؤرّخ والعالم العربي المتخصص في الفقه الإسلامي واللغة العربية محمد بن مكرم بن منظور الأنصارى المتوفى عام 711 هجرية الموافق عام 1311م الذى صنع مختصرا لتاريخ دمشق وعلى الرغم من كونه إختصارا فقد جاء في 29 مجلدا حين طبع أخيرا محققا في دمشق وفي العصر الحديث قام الفقيه الأصولي الحنبلي العارف بالأدب والتاريخ عبد القادر أحمد مصطفي بدران الدمشقي المتوفى عام 1346 هجرية الموافق عام 1927م بعمل تهذيب للكتاب لكنه لم يكمله هذا ولإبن عساكر مؤلفات أخرى كثيرة غير كتاب تاريخ دمشق منها كتاب تبيين كذب المفترى فيما نسب إلى أبي الحسن الأشعرى وهذا الكتاب مطبوع ومتداول حاليا وكتاب الأربعون البلدانية وقد تمت طباعته بتحقيق الباحث والمؤرخ السورى الدكتور محمد مطيع الحافظ في دمشق وكتاب الأربعون في مناقب أمهات المؤمنين وقد طبع محققا بعناية الدكتور محمد مطيع الحافظ أيضا في دمشق أيضا وكتاب الإشراف على معرفة الأطراف والكتاب لا يزال مخطوطا وكتاب ترتيب الصحابة في مسند الإمام أحمد بن حنبل والكتاب ما يزال مخطوطا لم يطبع بعد وغير الكتب المذكورة فلإبن عساكر عدة مجالس مخطوطة في ذم من لا يعمل بعلمه وفي التوبة وذم قرناء السوء وفي سعة رحمة الله وفي فضل الصحابي الجليل وأحد العشرة المبشرين بالجنة سعد بن أبي وقاص وفضل الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود وقد طبع مجلسان من هذه المجالس بتحقيق محمد مطيع الحافظ وهذه المجالس أشبه بالرسائل الصغيرة.
وإذا ما إستعرضنا أحد المصنفات الهامة الأخرى لأبي القاسم علي بن عساكر غير كتابه الشهير تاريخ دمشق وهو كتاب تبيين كذب المفترى فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعرى الذى ينتهي نسبه إلى الصحابي الجليل أبي موسى الأشعرى ويعد هو المؤسس لمذهب الأشاعرة وهي مدرسة إسلامية سنية تبع منهجها في العقيدة عدد من العلماء أمثال حجة الإسلام أبي حامد الغزالي والقاضي الملقب بشيخ السنة أبي بكر الباقلاني البصرى وإمام الحرمين والفقيه ابي المعالي عبد الملك الجويني والإمام والفقيه والمحدث أحمد بن الحسين المعروف بإسم البيهقي الخراساني وإمام الصوفية العالم والفقيه والمفسر أبي القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيرى والإمام والفقيه الفخر الرازى الطبرستاني والإمام والفقيه والعالم والمحدث أبي زكريا يحيي النووى والإمام والفقيه والمؤرخ جلال الدين السيوطي والإمام والفقيه الملقب بسلطان العلماء وشيخ الإسلام العز بن عبد السلام والإمام والفقيه الحافظ والمفسر تقي الدين السبكي والإمام الحافظ أبي القاسم علي إبن عساكر وغيرهم ويعتبر أتباع هذه المدرسة أنفسهم منهجا بين دعاة العقل المطلق وبين الجامدين عند حدود النص وظاهره وعلي الرغم من أنهم قدموا النص على العقل إلا أنهم جعلوا العقل مدخلا في فهم النص كما أشارت إليه الآيات الكثيرة التي حثت على التفكير والتدبر وهم لا يخالفون إجماع الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ولا يكفرون أحدا من أهل القبلة وكان السبب الرئيسي لتأليف إبن عساكر هذا الكتاب هو الدفاع عن الإمام أبي الحسن الأشعرى بعد تحوله عن الإعتزال إلى عقائد أهل السنة والجماعة بعدما إقتنع بفساد مقالات طائفة المعتزلة التي إبتعدت كثيرا عن منطق الشرع ومقاصده وخاضت في مسائل تجريدية بحتة أفقدت عقيدةَ التوحيد جوهرها ولذلك فإن هذا الكتاب يعد مصنفا للرد على كل من ينتقص الإمام الأشعرى وينتقده ويشكك فيه وقد إفتتح إبن عساكر هذا الكتاب بمقدمة تناول فيها النهي عن كتمان العلم وساق أحاديث في تحريم الغيبة ثم عقد بابا في ذكر تسمية أبي الحسن الأشعرى ونسبه والأمر الذي فارق عقد أهل الإعتزال بسببه وإنتقل بعد ذلك فذكر الأحاديث النبوية المبشرة بقدوم الصحابي الجليل أبي موسى الأشعرى وأهل اليمن إلي المدينة المنورة وإشارته إلى ما يظهر من علم أبي الحسن وبين أنه مجدد القرن الثالث الهجرى وذكر في آخره وفاة أبي الحسن الأشعرى نقلا من تاريخ الخطيب البغدادى ورجح وفاته في عام 324 هجرية الموافق عام 936م ثم تناول فضائل الصحابي أبي موسى الأشعرى وإبنه أبي بردة وحفيده بلال بن أبي بردة ثم ساق فضائله وما إشتهر به من العلم والمعرفة والفهم وتطرق إلى مؤلفاته ثم إنتقل إلى بيان إجتهاده في العبادة ومجانبته لأهل البدع وجهاده في ذلك وما رؤى له من المنامات الطيبة وختم الترجمة بذكر ما مدح به من الأشعار أما بقية الكتاب ففي طبقات الأشاعرة المشهورين والرد على من ينتقص الأشاعرة عامة والرد على الشيخ المقرئ أبي علي الحسن بن علي الأهوازى الذى نزل دمشق وقد أقذع إبن عساكر في الرد عليه ووصفه بكل قبيح في كتابه تبيين كذب المفترى فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعرى فقال وكيف يتهم أولاد المجوس بالإلحاد والزندقة أبناء ذوى الهمة ولاشك أن الأهواز من جملة البلدان التي كان قد إفتتحها أبو موسى الأشعري جد هذا الإمام أبو الحسن الأشعرى وذلك السبب عندى هو الموجب لهذه الجفوة والمورث للغلظة على ولده والقسوة والمؤثر في شدة النفوس عن معتقده والنبوة لأنه أدخل على أسلاف الأهوازي من المجوس بلية ومحنة وأورثت قلبه لنسله عداوة وإحنة فلهذا إستفرغ جهده في الإزدراء على أبي الحسن والتشنيع عليه ورماه بكل ما أمكنه ذكره من الأمر الشنيع لأن البغض يتوارث والود يتوارث وقال إبن عساكر عن ذلك أيضا وإعلم يا أخي وفقنا الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته أن لحوم العلماء رحمة الله عليهم مسمومة وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة لأن الوقيعة فيهم بما هم فيه براء أمر عظيم والتناول لأعراضهم بالزور والإفتراء والبهتان مرتع وخيم والإختلاف على من إختاره الله منهم ليعيش العلم خلق ذميم والإرتكاب لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الإغتياب وسب الأموات جسيم والله تعالي يقول في سورة النور فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم وفي رواية أخرى إعلم يا أخي وفقنا الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته أن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب إبتلاه الله تعالى قبل موته بموت القلب وقد قال الله سبحانه وتعالي في سورة النور فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم .
وكان مما قاله بعض الأئمة والمؤرخون عن هذا الكتاب ما قاله الإمام تاج الدين السبكي وإعلم إنا لو أردنا إستيعابَ مناقب الشيخ أبي الحسن الأشعرى لضاقت بنا الأوراق وكلت الأقلام ومن أراد معرفة قدره وأن يمتلئ قلبه من حبه فعليه بكتاب تبيين كذب المفترى فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعرى الذي صنفه الإمام الحافظ علي بن عساكر وهو من أجل الكتب وأعظمها فائدة وأحسنها فيقال كل سني لا يكون عنده كتاب التبيين لإبن عساكر فليس من أمر نفسه على بصيرة ويقال لا يكون الفقيه شافعيا على الحقيقة حتى يحصل كتاب التبيين لإبن عساكر ولذا فقد كان شيوخنا يأمرون الطلبة بالنظر فيه وكان بيت الحافظ إبن عساكر معمورا بالعلم حيث إمتد العلم إلى كل فرد من أفراده وإستطاع الإمام الحافظ بأخلاقه الكريمة وسماحه نفسه أن يقتدى به أفراد أسرته وأن يسيروا على خطاه ومنواله فإبنه القاسم كان حافظا من حفاظ الحديث وقد أتم عمل أبيه ونقحه وقرأه عليه كما كان لزوجة الإمام وأم أبنائه عائشة بنت علي بن الخضر شغف بالحديث فكان الزوج الكريم يحضر لها محدثات يسمعنها الحديث ثم يسمع منها أبناؤها ويتلقون عنها كما يتلقون عن أبيهم وشاء الله أن تتوفى هذه السيدة الكريمة قبل زوجها في عام 564 هجرية الموافق عام 1168م فتركت وفاتها في نفسه أسى وحسرة وقد ظل الإمام الحافظ محل تقدير الناس والولاة فكان يحضر مجالسه نور الدين محمود سلطان دمشق الذى قربه وبنى له دار السنة كما كان السلطان صلاح الدين الأيوبي يجله ويحضر مجالس تدريسه وقد مكث الإمام إبن عساكر يؤدى رسالته حتى لبى نداء ربه في يوم 11 من شهر رجب عام 571 هجرية الموافق يوم 26 من شهر يناير عام 1176م وصلى عليه صلاة الجنازة الإمام والفقيه والمفسر مسعود بن محمد بن مسعود الطريثيثي المعروف بإسم القطب النيسابورى وحضر الصلاة السلطان صلاح الدين الأيوبي ودفن إلي جوار أبيه بمقبرة باب الصغير الإسلامية التي تعد كبرى مقابر دمشق وأشهرها والتي ما تزال مستعملة حتي وقتنا الحاضر .
|