بقلم المهندس/ طارق بدراوى
tbadrawy@yahoo.com
موسوعة كنوز “أم الدنيا"
قتيبة بن مسلم بن عمرو بن الحصَين الباهلي قائد إسلامي شهير قاد الفتوحات الإسلامية في أواخر القرن الأول الهجرى خلال عهد الدولة الأموية في بلاد ما وراء النهر وهي البلاد التي يفصلها نهر جيحون عن إقليم خراسان وهو الإقليم المتسع الممتد حاليا في شمال غرب دولة أفعانستان وبدولة تركمانستان وبإيران وتقع هذه البلاد وراء النهر المذكور من جهة الشرق والشمال وتعرف الآن بإسم آسيا الوسطى الإسلامية وتضم خمس جمهوريات إسلامية كانت خاضعة للإتحاد السوفيتى السابق ثم من الله عليها فإستقلت بعد إنهياره بداية من عام 1991م وهذه الجمهوريات هي أوزباكستان وطاجيكستان وكازاخستان وتركمانستان وقرغيزيستان وهذا النهر المذكور يمثل حاليا الحد الفاصل بين كل من دول أفغانستان وطاجيكستان وأوزباكستان ويصب في الساحل الجنوبي لبحر آرال وهو بحر داخلي يقع بين كازاخستان شمالا وأوزباكستان جنوبا وكان مولد هذا القائد العسكرى المسلم العظيم في بيت إمرة وقيادة وحكم في مدينة البصرة بجنوب بلاد العراق عام 49 هـجرية الموافق عام 669م لأسرة من قبيلة باهلة العربية وكان أبوه مسلم بن عمرو بن الحصين بن ربيعة من أصحاب مصعب بن الزبير بن العوام والي العراق من قبل أخيه أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير بن العوام الذى لم يبايع الخليفة الأموى الثاني يزيد بن معاوية بن أبي سفيان علي الخلافة بعد وفاة أبيه معاوية في عام 60 هجرية الموافق عام 680م ثم تصارع علي الخلافة والحكم مع عبد الملك بن مروان الخليفة الأموى الخامس بعد توليه الخلافة في عام 65 هجرية الموافق عام 685م وأعلن عن نفسه خليفة للمسلمين وبايعه أهل الحجاز والعراق بينما بايع عبد الملك بن مروان أهل الشام ومصر وقاتل معه مسلم بن عمرو في حربه ضد عبد الملك بن مروان عام 72 هجرية وإستمر الصراع بينهما حتي مقتله في مكة المكرمة في عام 73 هجرية الموافق عام 692م ولما تعدى قتيبة سن الطفولة بدأ يتعلم العلم والقرآن الكريم والفقه ثم لما أصبح فتي يافعا تعلم الفروسية وفنون الحرب والقتال ونشأ على ظهور الخيل رفيقاً للسيف والرمح محبا للفروسية وظهرت عليه علامات النبوغ والتفوق وهو شاب في مقتبل شبابه وأبدى شجاعة فائقة وموهبة قيادية فذة لفتت إليه الأنظار خاصة من القائد الأموى العظيم المهلب بن أبي صفرة والذى كان قد فرض سيطرة الدولة الأموية على أراض كثيرة في بلاد ما وراء النهر مما كان له أكبر الأثر في نشر الإسلام في هذه البلاد وإثراء الحضارة الإسلامية بها وكان هذا القائد العظيم خبيرا في معرفة الأبطال ومعادن الرجال فتفرس فيه أنه سيكون من أعظم أبطال الإسلام والفتوحات فأوصى به لوالى العراق الحجاج بن يوسف الثقفي الذى كان يحب الأبطال والشجعان ويعجب بهم فإنتدبه لبعض المهام ليختبره بها ويعلم مدى صحة ترشيح المهلب له وهل سيصلح للمهمة التي سيوكلها له بعد ذلك أم لا وهي إستكمال فتح بلاد ما وراء النهر خوارزم وبخارى وسمرقند وبلخ وكاشغر وهي ببلاد آسيا الوسطي حاليا أفغانستان وأوزبكستان وكازاخستان وتركمانستان الأن ومما يذكر أن هذه البلاد كانت قد فتح الكثير منها منذ أيام الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب والخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان والخليفة الأموى الأول معاوية بن أبي سفيان إلا أنها كانت تنقض عهودها مع المسلمين ومما يذكر أيضا أن بلاد العراق كانت حينذاك مشهورة بكثرة الفتن والدسائس والثورات وحركات التمرد لذلك عمل كل ولاة العراق على شغل أهلها بالغزوات والفتوحات لإستغلال طاقاتهم الثورية في خدمة الإسلام ونشر الدعوة في البلاد المجاورة لدولة الإسلام ولذلك كانت أرض بلاد العراق هى قاعدة الإنطلاق للحملات الحربية على الجبهة الشرقية للدولة الإسلامية .
وولي الخليفة عبد الملك بن مروان قتيبة علي ولاية الرى وهي بإيران حاليا وولاه أيضا ولاية إقليم خراسان وهو إقليم متسع كما ذكرنا وكان حينذاك من أعمال بلاد العراق والتي كانت تحت إمرة الحجاج بن يوسف الثقفي والذى رأى أن يدفع بدماء شابة جديدة في قيادة المجاهدين هناك فلم يجد أفضل من قتيبة بن مسلم لهذه المهمة والذى لم يعبأ بشئ سوى الجهاد في سبيل الله وسار على نفس الخطة التى سار عليها المهلب من قبل وهى خطة الضربات السريعة القوية المتلاحقة على الأعداء فلا يترك لهم وقت للتجمع أو التخطيط لرد الهجوم على المسلمين وقد إمتاز عن المهلب بأنه كان يضع لكل حملة خطة ثابتة لها هدف ووجهة محددة ثم يوجه كل قوته للوصول إلى هدفه غير عابئ بالمصاعب أو الأهوال التى ستواجهه معتمداً على بسالته النادرة وروح القيادة التى إمتاز بها وإيمانه العميق بالإسلام وقد وصل قتيبة إلي خراسان عام 86 هجرية الموافق عام 705م وعلي الفور علا بهمته إلى إستكمال فتح بلاد ما وراء النهر في إقليم آسيا الوسطي ونشر دين الإسلام فيها وظل مثابرا علي عمله في تلك البلاد حتي إستشهاده عام 96 هجرية الموافق عام 715م ويمكننا تقسيم أعمال القائد قتيبة بن مسلم في بلاد ما وراء النهر لأربع مراحل حقق في كل واحدة منها فتح ناحية واسعة من تلك البلاد فتحاً نهائيا وثبت فيها أقدام المسلمين للأبد وقد إمتدت المرحلة الأولي مابين عام 86 هجرية وعام 87 هجرية قام فيها قتيبة بحملته على طخارستان السفلى فإستعادها وثبت أقدام المسلمين فيها وهي الآن جزء من دولتي أفغانستان وباكستان ومما يذكر أن هذه البلاد كان قد تم فتحها قبل ذلك أكثر من مرة كما ذكرنا في السطور السابقة لكن الهيمنة الإسلامية على أغلب أنحاء بلاد ما وراء النهر ظلت دائما متزعزعةً بِفعل الفتن الداخلية التي كانت تقوم بين المسلمين وأهل البلاد المفتوحة حيث كانت المدن والبلدات تنتفض على الحكم الإسلامي وتنقض عهودها مع المسلمين بِمجرد عودة المسلمين إلى خراسان فرأى القائد قتيبة بن مسلم بعد توليه ولاية خراسان أن ينزل العِقاب بِهؤلاء الذين نقضوا العهود مع المسلمين أكثر من مرة أولا ثم يبدأ بعد ذلك في فتح بلاد جديدة فحشد جنده وحثهم على الجهاد وسار غازيا من مرو بإقليم خراسان بإتجاه الشرق مع أعالي نهر جيحون في بلاد طخارستان مارا بِمدن أندخوى وبلخ وخلم حتى إستقر في إقليم الطالقان وهو بدولة أفغانستان حاليا ولمَا كان هذا الإقليم المذكور قد أتاه دهاقين بلخ لِمساعدة أهله في عبور النهر والسير معهم إلى الحرب فقطع الجيشان النهر ليجدا الملك تيش ملك الصغانيان في الإنتظار وهو إقليم عظيم في بلاد ما وراء النهر يجري إليه عدة أفرع من نهر جيحون وأهم مدنها شومان ومدينةٌ أُخرى قريبة منها من جهة الشرق تسمي أخرون أو أجرون وكانتا مستقلتين عن مملكة الصغانيان وتلقى الملك تيش المسلمين بِالهدايا والترحاب ودعاهم إلى بلاده وسلمها لِقتيبة صلحا وتذكر المصادر أن ذلك كان بسبب سوء جيرة ملك شومان وأخرون إذ كانت ملوك تلك البلاد تهاجم مملكة الصغانيان بإستمرار والراجح أن قتيبة كان يراسل ملك الصغانيان منذ فترة وإتفق معهُ على تسليم بلاده دون قِتال وأمنه على نفسه وذريَته وشعبه ثم تقدم قتيبة نحو أخرون وشومان وقد إنضم إلى جيشه الملك تيش ملك الصغانيان إنتقاما من عدوه اللدود ملك شومان فإضطر الأخير إلى الإستسلام وقبول الصلح بِشروط قتيبة وحمل إليه فدية وبعد ذلك إنصرف قتيبة مع قسم من جيشه عائدا إلى مرو وإستخلف أخاه صالح بن مسلم على باقي الجند ففتح بعد رجوع قتيبة عدة مدن هامة هي كاشان وأورشت وأخسيكث ويبدو أن متاعب قتيبة مع أُمراء هذا الإقليم لم تنته خاصَةً نيزك البرقشي صاحب باذغيس بشمال غرب أفعانستان حاليا الذى سبق وصالح المسلمين في عهد المهلب بن أبي صفرة حيث إستغل نيزك هذا خروج الجيش الإسلامي من المنطقة فنقض الصلح الذي أبرمهُ مع المسلمين وكون حلفا من أُمراء طخارستان ضد الوجود الإسلامي فإضطرَّ قتيبة إلى العودة إلى طُخارستان لِإخضاعه مجددا وبالفعل تمكَن من القضاء على الحلف الذى شكَله ثمَ قبض عليه وقتله وبِهذا إستهل قتيبة بن مسلم ولايته في خراسان وتمكَن بعد هذه السلسلة من الحملات العسكريَة الناجحة من تطويع جميع الذين إنتفضوا على الحكم الإسلامي وأعاد فتح أقاليم طخارستان والطالقان والصغانيان .
وكانت خطَة قتيبة هي الشروع بِالتحركات العسكرية في فصل الربيع والعودة قبل حلول فصل الشتاء إلى مرو لكي يجنب الجند برودة الشتاء القاسي في بلاد ما وراء النهر ولكي يعد العدة لِحملة جديدة ويريح الجنود ويعيد تنظيمهم وحشدهم وكانت مدينة بيكند وهي بدولة أوزباكستان حاليا وهي تقع على مسافة أربعين كيلومترا إلى الجنوب الغربي من مدينة بخارى أحد أهم مدن دولة أوزباكستان حاليا على نهر زرفشان وعلى الطريق التجارى المهم الذى يربط مدينة بخارى بِمرو عبر مدينة آمل على نهر جيحون وهي مدينة بدولة إيران حاليا وكانت بيكند من أهم المدن التجارية بين الصين وبحر قزوين وخراسان علاوة على أنها منطقة زراعية إذ تقع في سهل بخارى الغني بِمياه نهر زرفشان وكانت المدينة محاطة بِأسوار ضخمة وتحرسها حامية كبيرة فتقدم قتيبة بِقواته المسلمة معززة بجيوش من خراسان وطخارستان والصغانيان وكان فيها حاكم بلخ والملك تيش الصغانيائي فعبروا نهر جيحون من جهة مدينة زم في خراسان في ربيع عام 87 هجرية وإتجهوا ناحية شمال غرب جيحون قاصدين مدينة بيكند وكانت هذه بداية المرحلة الثانية من فتوحات قتيبة بن مسلم في بلاد ما وراء النهر والتي إستمرت ما بين عام 87 هجرية وعام 90 هجرية ولما بلغت أنباء مسير المسلمين وحلفائهم لِحصار بيكند إستعدت حاميتها وتجهزت بينما إستنجد حاكم المدينة بِمملكة الصغد وهي بلاد عريضة تمتد من مابين نهر جيحون إلى نهر سيحون وتحيط بِنهر زرفشان داخل بلاد ما وراء النهر وكانت عبارة عن قُرى ومدن متصلة بحيث إعتبرها المُسلمون من جنان الأرض وأكثرها عمارة فأتوه في جمعٍ كثيرٍ من إقليمي الشاش وأشروسنة وغيرهما وضرب المسلمون الحصار على المدينة وحاولوا إقتحام الأسوار لكنهم فشلوا لِمناعتها ونظرا لِمعرفة الأهالي بِطبيعة أراضيهم وتضاريسها فقد تمكنوا مع مملكة الصغد حليفتهم من تطويق الجيش الإسلامي المحاصر فقطعوا كافة خطوط مواصلاته وبات في وضع صعب وإنقطعت أخباره عن الحجاج بن يوسف الثقفي في بلاد العراق وحاول الصغديون حمل قتيبة على التراجع فأخذوا يهاجمون المسلمين يوميا وإتسمت هجماتهم بِالشدة الكبيرة وإستغلوا تفوقهم العددى على المسلمين لكن قتيبة كان يصدهم في كل مرة فحاولوا رده عبر بث الشائعات عن موت الحجاج فقتل قتيبة المدسوسين الذين قالوا إن الحجاج قد مات في محاولة لإضعاف وكسر همة المسلمين وأمر أصحابهُ بالإستبسال في ِالقتال فهاجموا الصغد وإلتحموا معهم وقاتلوهم قتالا شديدا إنتهى بِهزيمة الصغد هزيمة نكراء ففر قسم منهم فيما حاول قسم آخر اللجوء إلى بيكند فقتل منهم خلق كثير وحاول قتيبة بعد ذلك نقر الأسوار وثقبها فأمر الفَعَلة وهم فئة من الجند كانت مهمتهم إصلاح وتمهيد الطرق التي ستسلكها الجيوش وإزالة أى معوقات بها أن يقوموا بِفتح ثغرات في أسفل الأسوار إلَا أن حامية المدينة طلبت الصلح فوافق قتيبة وصالحهم بعد أن حاصر المدينة خمسين يوما وعين لها حاكما من قادة الجيش هو ورقة بن نصر وأخذ طريق العودة إلى قاعدته مرو وما أن إبتعد المسلمون عن بيكند بمسافة حوالي 30 كيلومترا حتي وصلتهم الأخبار تفيد بِنقض بيكند لِلصلح ومقتل ورقة بن نصر فإستدار قتيبة بِالجيش وعاد إلى المدينة فحاصرها شهرا كاملا ونصب عليها المجانيق هذه المرة وضرب أسوارها فحاولت حاميتها طلب الصلح مجددا لكن قتيبة رفض وأصر على فتح المدينة عنوة بعد أن نقضت المدينة الصلح في المرة الأولي وإستمر يضرب الأسوار حتى هدمها فإقتحم المسلمون المدينة وقبضوا على الحامية العسكرية وأعدموا كل أفرادها وكانت هذه الحامية مدججة بِالسلاح وبالمدينة مخازن ومستودعات كبيرة لِلأسلحة لِهذا قرر قتيبة مصادرة هذه الأسلحة لِتسليح الجنود المسلمين .
وبعد فتح بيكند إستقر قتيبة في مرو أيام الشتاء للراحة وإنجاز التحضيرات الإدارية لِجيشه وإعداد رجاله لِلقتال فلما حل ربيع عام 88 هجرية ندب الناس وإستعد لِلسير لفتح بلاد جديدة ونظرا لِلتجربة التي خاضها المسلمون في فتح بيكند ونظرا لِتفوق الصغد وحلفائهم من الترك والأشروشيين عدديا إتخذ قتيبة بن مسلم قرارين مهمين في سير الحركات العسكرية وهما أن يتقدم بِبطء وحذر وأن يعزل مدينة بخارى وذلك من أجل ِفتحها مستقبلا وتقدم الجيش الإسلامي من مرو وعبر نهر جيحون ففتح نومشكث وكرمينية صلحا وهما إلى الشرق من بخارى ثم تقدم قتيبة إلى رامتنة الكائنة شمال بخارى فإستسلمت دونما قتال وقبلت الصلح وعاد المسلمون أدراجهم وكان ملكُ الصغد الجديد وردان خذاه الذى خلع طغشاد بن خاتون عن العرش قد إستنجد بِجيرانه حكام الدول والدويلات الشرقية من الترك والفرغانيين والأشروشيين والأويغوريين فتقدم جيش عظيم من هؤلاء الحلفاء بلغ تعدادهم مائتي ألف بِقيادة قاپاغان خاقان الترك وهاجموا مؤخرة الجيش الإسلامي وأخذوا منهم الأسلحة والأدوات النحاسية التي حملوها معهم وكان على الساقة في مؤخرة المؤخرة عبد الرحمن بن مسلم شقيق قتيبة فقاتل العدو حتى كاد أن يهزم إلا أن ظهور قتيبة بنفسه في ميدان المعركة رفع من معنويات الجنود ودارت معركة طاحنة بين المسلمين وجيش الحلفاء المذكور إستمرت حتي الظهر وتلقى هؤلاء طعنات ساحقة فإضطروا إلى التراجع نحو الشرق فأعاد قتيبة تنظيم قطاعاته العسكرية وإستمر في إنسحابه نحو مرو وفي العام التالي 89 هجرية الموافق عام 707م كان قتيبة بن مسلم قد عزل بخارى بعد أن كان قد أخضع في العام السابق المناطق المحيطة بها فكتب إلى الحجاج بن يوسف الثقفي يخبره ويصف له المدينة وإقليمها وصفا دقيقا فأرسل له الحجاج توصياته بشأن التحركات العسكرية القادمة وأولها التقدم نحو قرية وردانة الكائنة إلى الشمال من بخارى ووردانة هذه كانت مقر حكم وردان خذاه الذى كان قد إغتصب ملك بخارى من طغشاد بن خاتون ثم نزح عنها إلى بخارى وتقدم قتيبة بِجيشه نحو وردانة وما أن عبر نهر جيحون حتى لقيه الصغد وأهل كش ونسف وقاتلوه فإنتصر عليهم ومضى إلى الأمام ونزل قرية خرقانة السفلى على يمين وردان لِيكتشف أن ملك بخارى قد جمع له جمعا غفيرا من الصغديين وغيرهم فتقاتل الجمعان قتالا شديدا دام يومين وليلتين وكان النصر في النهاية إلى جانب المسلمين فدحروا الأعداء وطاردوا وردان خذاه حتى أجبروه على الإحتماء في قرية وردانة والتحصن بها ولم يتمكن قتيبة من الظفر بِالملك المهزوم فتركه وعاد إلى مرو لِإعادة تنظيم الجيش وكتب إلى الحجاج يخبره بما حدث فأتاه رد من الحجاج شديد اللهجة يأمره فيه بالتوبة عن إنصرافه عن ملك بخارى ثم أمره أن يصف له المدينة كأنه يراها ففعل قتيبة بن مسلم ما أمره به الحجاج .
وقد رد الحجاج بن يوسف علي قتيبة بن مسلم بِرسالة نصحه فيها بأن يبدأ التحركات العسكرية بِتطهير منطقة كش ثم مهاجمة مدينة نسف ثم مهاجمة قرية وردانة وأن يحرص على أن لا يطوق جيشه وأن يسرع نحو أهدافه بِخط مستقيم ويتجنب منعطفات الطرق وعرفه بِالموضع الذى يجب أن يدخل المدينة منه وفي عام 90 هجرية الموافق عام 708م تقدم قتيبة ببن مسلم ِجيشه فتمكن من تطويق بخارى وضرب الحصار عليها فأرسل ملكها وردان خذاه إلى الصغد والترك ومن حولهم يستنصرهم فأتوه في جموعٍ غفيرة وتشجعت حامية بخارى لما رأت الإمدادات فخرجوا إلى المسلمين لِيقاتلوهم فدار أعنف قتال شهدته المعركة بين الجيش الإسلامي وحلفاء بخارى وحاول قتيبة دحر الحلفاء بِهجمات متتالية دونما طائل لِذلك قرر أن يقدم الفرقة الأزدية في محاولة لِخرق صفوف الأعداء فقاتلت الفرقة الأزدية قتالا ضاريا بِهجماتٍ متتاليةٍ إلا أنها فشلت في تحقيق أهدافها فأوعز لها قتيبة بِمواصلة القتال ريثما دفع بِكتائب الخيالة الإسلامية بِحركة إحاطة وتطويق للترك من الجانبين فيما يعرف بتكتيك الكمَاشة فأثرت الإحاطة الراكبة هذه على الموقف وتراجع الحلفاء إلى مرتفعٍ عبر نهر زرفشان ثم أوعز قُتيبة إلى الفرقة التميمية بِالتقدم وعبور النهر وتأسيس رأس جسر وإزاحة المقاومة الصغدية على التل فتقدم قائد الفرقة وكيع بن حسان بن قيس التميمي وتمكن من دفع العدو إلى ما وراء النهر ثم أمر وكيع بِنصب جسر من خشب على نهر الزرفشان فعبر الفرسان المسلمون النهر ودارت بينهم وبين الصغديين والترك معركة عنيفة صمد فيها الصغديون والأتراك ولِإزالة المقاومة طلب وكيع بن حسان من قائد فرقة الخيالة هريم بن أبي طلحة القيام بِحركة إحاطة لِلموقع بغية شغل العدو وجذب إنتباهه لِحركة الإطاحة والتطويق فدار قتال عنيف على المرتفع تخلله مهاجمة وكيع لِلترك وهم غافلون فإنهزموا وتراجعوا بِغير إنتظام ولكي يضرب قتيبة ضربته الحاسمة أوعز بمطاردة شديدة لِلعدو وجرح في تلك المعركة قاپاغان خاقان وإبنه ولم يلبث ملك بخارى أن طلب الصلح إلا أن قتيبة رفض وأعد كمينا لِكي يهجم على باب المدينة فور فتحه وأخذ المدينة عنوة وبعد أن فتحت حامية بخارى الباب هاجمها الفرسان المسلمون وتغلبوا عليها فدخل المسلمون المدينة فاتحين وفي روايةٍ أُخرى أن قتيبة قبل الصلح ودخل المدينة دون قتال مع حاميتها ولما دخل بخارى أعاد طغشاد بن خاتون على عرشها فأسلم الأخير وصفا له الملك وبقي على عرش مدينته بعد ذلك ثلاثين عاما أما وردان خذاه فقد هرب إلى تركستان ومات هناك بعد فترة وبذلك أتم قتيبة فتح مدينة بخارى والتي تعد أهم مدن بلاد ما وراء النهر وما حولها وكانت هذه نهاية المرحلة الثانية من فتوحات قتيبة بن مسلم في تلك البلاد .
وما بين عام 90 هجرية وعام 93 هجرية كانت المرحلة الثالثة من فتوحات قتيبة بن مسلم في بلاد ما وراء النهر وفي البداية قضى قُتيبة بن مسلم عام 90 هجرية وعام 91 هجرية في توطيد الأمن ببعض أنحاء دولة أفغانستان الحالية وذلك بعد الفتن التي قامت فيها نتيجة مقتل نيزك البرقشي وفي أواخر عام 91 هجرية الموافق عام 709م سار قتيبة إلى مدينة شومان بعد أن طرد ملكها عامل قتيبة من عنده وأعلن عصيانه وإمتنع عن أداء الجزية فأرسل قتيبة فرقتين علي رأسهما رسولان أحدهما من العرب إسمه عياش بن عبد الله الغنوى والآخر خراساني يدعوان ملك شومان أن يؤدى ما كان قد صالح عليه فخرج أهلها ورموهما بِالنِبال فإنصرف الخراساني وقاتلهم عياش حتى قتل وبلغ قتيبة قتله فسار إلى شومان بِنفسه وأرسل صالح بن مسلم أخاه إلى ملكها وكان صديقا له يأمره بِالطَاعة ويضمن له رضا قتيبة إن عاد إلى الصلح فأبى وقال إنه أمنع الملوك حصنا وأنه لا يخشى حصار المسلمين لِدياره فأتاه قتيبة بن مسلم فوضع عليه المجانيق ورمى الحصن فهشمه تهشيما وخاف الملك أن يدخل إليه المسلمون ففتح القلعة وخرج لِقتالهم فقاتلهم حتى قتل وفتح قتيبة القلعة عنوة وسار المسلمون بعد ذلك إلى كش ونسف ففتحوهما صلحا وإمتنعت عليهم الفارياب فأحرقها قتيبة وسميت المحترقة وسير قتيبة من كش ونسف أخاه عبد الرحمٰن إلى الصغد وملكها طرخون فقبض عبد الرحمٰن من طرخون ما كان قد صالحه عليه قتيبة وعاد إلى قتيبة بِبخارى وعاد معه إلي مرو وفي عام 93 هجرية الموافق عام 711م تقدم قتيبة من مرو وعبر نهر جيحون متجها نحو مملكة خوارزم وهي تقع غرب دولة أوزباكستان حاليا بناءا على طلب ملكها وكان هذا الملك ضعيفا فغلبه أخوه خرزاد الأصغر منه سنا وسيطر على مقاليد الأُمور في البلاد وطغى وتجبر وعاث فسادا في خوارزم ولم يكن الملك قادرا على ردعه وإشتكى إليه الكثير من الناس حتى إمتلأ غيظا فراسل المسلمين يطلب المدد وإتفق مع قتيبة في السر أن يسلمه أرضه وبعث إليه بِمفاتيح مدائن خوارزم وإشترط عليه أن يسلمه شقيقه الطاغية كي يحكم فيه بنفسه وأن يساعده أيضا في القضاء على ملك مجاور له يدعى خام جرد كان من ألد أعداءه كان يغزو بلاده بإستمرار وفي مقابل ذلك يسمح الملك لِلمسلمين بِدخول خوارزم وينضم إليهم برجاله وعتاده كحليف مهم في بلاد ما وراء النهر وأشاع قتيبة بن مسلم قبل مسيره نحو خوارزم أنه يهدف التقدم نحو الصغد وقد ساعده في نشر ذلك ما تحدث به ملك خوارزم لِشعبه بأن قتيبة يريد الصغد وليس خوارزم وما هي إلا عدة أيام حتى إستدار قتيبة بِجيشه نحو الغرب فوصل إلى مدينة هزار أسپ التي تقع على ضفاف نهر جيحون والتي تعد من أهم مدن مملكة خوارزم من الناحية الإستراتيجية والسياسية والإقتصادية والتجارية وعند هذه النقطة فقط تنبه أهالي خوارزم لِلخطر فإجتمع أصحاب الملك لمناقشة الموقف وطالبوا بقتال المسلمين لكن الملك رفض وعلل رفضه بأن المسلمين هزموا من هم أقوى وأشد شوكةً من الخوارزميين وأن الجنوح إلى السلم أفضل فسار ملك خوارزم بِجيشه إلى مدينة الفيل وهي من أحصن بلاده والمواجهة لِمدينة هزار أسپ التي فيها قتيبة وإتفقا على أن يدفع الخوارزميون جزية سنوية مقدارها عشرة آلاف رأس غنم على أن يعين قتيبة الملك الخوارزمي على مملكة خام جرد عدوه ولما كان خرزاد قد لجأ إلى خام جرد فقد أرسل قتيبة بن مسلم جيشا بِقيادة أخيه عبد الرحمٰن بن مسلم فقضى على جيش خام جرد وعاد بِعدد أربعة آلاف أسير بينهم شقيق ملك خوارزم وسلمهم له وولى قتيبة بن مسلم أخاه عبد الله بن مسلم حاكما على خوارزم ثم قفل وعاد إلى مدينة هزار أسپ .
وكانت مدينة سمرقند أيضا تشكِل أمنع حصون الصغد وأقوى المدن الحصينة في بلاد ما وراء النهر وكانت من أهم مدنها أيضا إلي جانب بخارى وكان ملكها غورك قد إستولى على الحكم بعد مقتل ملكها طرخون الذي سبق أن قبل بِالصلح مع المسلمين ولقب نفسه بِلقب قيصر الصغد ويبدو أن أهل الصغد ثاروا على طرخون بسبب قبوله الصلح مع المسلمين فإتهموه بالرضا بِالذُل وإستطياب الجزية رغم كِبر سنه فحبسوه وولوا غورك فقتل طرخون نفسه وفي نفس العام 93 هجرية الموافق عام 711م قام قتيبة بجمع الفرق العسكرية الإسلامية وألقى فيهم خطابا أوضح فيه أن بلاد الصغد شاغرة وأنَهم قد نقضوا العهد ونكلوا بِالحامية المسلمة وأنه قد عزم على فتح سمرقند فقال إِن الله قد فَتحَ لَكم هَذِهِ البَلدَة فِي وَقت الغَزو فِيهِ ممكن وهذِهِ سمرَقند شَاغِرَة برجلِهَا قَد نقضوا العهدَ الذِى كَانَ بيننا ومنعونَا مَا كنا صَالَحَنَا عَلَيهِ طَرَخونَ وَصنعوا بِه مَا بلغكم وقد قالَ الله فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ فَسَيروا عَلَى بركَة اللهِ فَإني أَرجو أَن يكونَ خوَارزم وَسمرَقَند كَالنضِيرِ وقرَيظَة وقَد قَالَ الله وَأُخْرَىٰ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وفي صباح اليوم التالي أرسل قتيبة أخاه عبد الرحمن إلى مرو على سبيل التمويه ثم كتب إليه في المساء يخبره بأن عليه أن يتوجه نحو سمرقند وأنه في أثره ثمَ تقدم قتيبة فوصل سمرقند بعد عبد الرحمٰن بِثلاثة أو أربعة أيام وقدم معه أهل بخارى وخوارزم فحاصر المدينة شهرا كاملا تخلله بعضُ القتال وإستنجد غورك ملك الصغد بعد خوفه من طول الحصار بملك الشاش وبِملك فرغانة وكتب إليهما يقول إِن العَرَبَ إِن ظفروا بنا عادوا عليكم بمثلِ ما أَتونا بِهِ فَإنظروا لأَنفسكم فأجمع ملك الشاش وفرغانة على نجدة الصغد وأرسلا يقولان لملكها أن يشاغل قتيبة ومن معه كي يفاجئونهم على حين غرة وحاول قتيبة إقتحام المدينة عدة مرات إلَا أنه كان يصطدم بِمقاومة عنيفة وقد بذل الطرفان جهدا جبارا في الصراع من أجل النصر لأن الطرفين كانا يعتبران معركة سمرقند حاسمة ولما طال حصار المسلمين لِلمدينة تمكنت النجدات التركية من الشاش وأشروسنة وفرغانة بشرق دولة أوزباكستان حاليا من الوصول إلى ميدان المعركة وإنتخب الفرغانيون والشاشيون خيرة جنودهم وفرسانهم وأبطالهم وكان من بينهم أبناء الخاقان والأُمراء وولوا قيادة جيش النجدة هذا لِلإبن الأصغر لِخاقان الترك وإسمه إينال خاقان تقديرًا منهم أن النصر واجب وضرورى في هذه المعركة المحورية الفاصلة وعندما بلغ قتيبة نبأ النجدات القادمة بإتجاه سمرقند لفك الحصار عنها إنصرف إلى دراسة الموقف العسكري مجددا وعلى ضوء الظروف الجديدة والقوى الكبيرة التي ستدخل ميدان الصراع لِذلك إنتخب ستمائة فارس من خيرة فُرسان المسلمين وشكل منهم كتيبة بِقيادة أخيه صالح بن مسلم وأمره أن يتقدم على الطريق ويكمن على مسافة فرسخين أي حوالي 12 كيلومترا وأن يقطع رتل النجدات بِهجوم ليلي مباغت وتحرك صالح وكتيبته وقرر بعد إستطلاع المنطقة الكائنة شرقي سمرقند تقسيم الكتيبة إلى قسمين أحدهما يمين الطريق والآخر يساره ولما وصل جيش الترك وجاز في منطقة الكمينين لِمدة مناسبة باشر الكمينان بِهجوم صاعقٍ ليلا فبوغت الترك مباغتةً تامة وإنتشرت الفوضى في صفوفهم وقتل منهم الكثير وكان قتيبة قد سحب أكثر فرقه العسكرية من وراء أسوار سمرقند بسرية تامة وشن هجوما صاعقا على جبهة رتل العدو لكي يخفف الضغط على كتيبة أخيه فدارت أشرس معارك ما وراء النهر في تلك الليلة وخرج منها المسلمون منتصرين وبعد هذا النصر عاد قتيبة مسرعا إلى أسوار سمرقند وقرر أن يدكها وأن يفتح المدينة فنصب عليها المجانيق ورمى أسوارها ليلا ونهارا حتى أحدث فيها ثغرة كبيرة ولما رأى أهل سمرقند أن لا سبيل لهم إلى زحزحة المسلمين عن هذه الثغرة أدركوا أن مدينتهم على وشك أن تؤخذ عنوة فأرسلوا وفدا إلى قتيبة يطلبون منه الصلح فصالحهم على مبلغٍ من المال يؤدونه لِلمسلمين كل عام وأن يخلوا المدينة من المقاتلين وأن يبني فيها مسجدا فيدخل ويصلي فيه ويخطب فيه كلما أراد وأن تهدم بيوت النيران المجوسية وتزال الأصنام فقبل الأهالي وقبل الملك غورك فإستسلم وفتح أبواب المدينة ودخلها المسلمون وقد حرص قتيبة على تحطيم هياكل المجوس بنفسه وبنى المسجد وصلى فيه وأبقى حاميةً مسلمةً كبيرةً داخل سمرقند وجعل عليها عاملا مسلما وأعلن قسم من الأهالي إسلامهم بعد ما رأوا أن أحدا لم يتعرض لهم في أنفسهم ولا لعائلاتهم ولا لأموالهم وأملاكهم وترك غورك حاكما عليها لِدرايته بِشؤونها إلا أن الأخير فضل الرحيل عنها بعد مدة ويبدو أنه لم يتحمل تدمير الأصنام المجوسية بِرمزيتها الكبيرة كما أن الكثير من تلك الأصنام كان يحلى ويطعم بِالذهب فأذابه قتيبة وجمعهُ فكان أكثر من خمسين ألف مثقال ضمها قتيبة إلي بيت مال المسلمين وبفتح سمرقند إنتهت المرحلة الثالثة من فتوحات قتيبة بن مسلم في بلاد ما وراء النهرهذا وتكمن أهمية فتح سمرقند في أن هذه المدينة كان بها مصنعا لِلورق وهي صناعةٌ صينيةٌ الأصل نقلتها جماعةٌ من الحرفيين الصينيين إلى هذه المدينة فحمل المسلمون هذه الصناعة إلى عاصمة الخلافة الأموية دمشق ثم إلى بغداد بعد ذلك في العصر العباسي وإلى باقي الأمصار الإسلامية في مصر وبلاد المغرب وجزيرة صقلية وبلاد الأندلس ومنها إنتقلت إلى بلاد قارة أوروبا في القرن الثاني عشر الميلادى . |