الجمعة, 6 ديسمبر 2024

abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
الرئيسية
بانوراما
فرعونيات
بلاد وشركات
الحدث السياحي
سحر الشرق
سياحة وإستشفاء
أم الدنيا
حج وعمرة
أعمدة ثابتة
درجات الحرارة
اسعار العملات
abou-alhool

القاضي شريح بن الحارث

القاضي شريح بن الحارث
عدد : 07-2023
بقلم المهندس/ طارق بدراوى
tbadrawy@yahoo.com
موسوعة كنوز “أم الدنيا"


القاضي شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم الكندى ويكني بأبي أمية يعود أصله إلي حضر موت ببلاد اليمن ثم إنتقل منها في عهد الخليفة الراشد الأول أبي بكر الصديق إلي المدينة المنورة وكان قد أدرك الجاهلية ثم بعثة النبي محمد صلي الله عليه وسلم ومع أنه أسلم في حياة النبي محمد صلي الله عليه وسلم وقبل وفاته بخمس سنوات إلا أنه لم يره ولذا فهو يعد تابعي حيث أنه كلما عزم أن يزوره في المدينة المنورة إنشغل حتى فاتت الخمس سنوات فبدأ الرحلة فجاءه خبر وفاة رسول الله محمد صلي الله عليه وسلم وقد فاتته رؤيته فقرر أن يجمع آيات القرآن الكريم المتعلقة بالعدل بينما تقول رواية أخرى أنه أسلم علي يد النبي محمد صلي الله عليه وسلم ومن ثم كانت له صحبة وتضيف هذه الرواية إنه وفد على النبي محمد صلي الله عليه وسلم وأنه قال عن ذلك أتيت النبي محمد صلي الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إن لي أهل بيت ذوى عدد باليمن فقال لي جئ بهِم وكان مما إشتهر به أنه كان مأمونا في القضاء كما كان له باع في الأدب والشعر وقال عنه الإمام علي بن أبي طالب شريح أقضى العرب وكان مولد شريح في العام الثلاثين قبل الهجرة بحضر موت أي قبل بعثة الرسول محمد صلي الله عليه وسلم بسبعة عشر عاما ونشأ في كنف أبيه وأمه وفي عمر الرابعة أو الخامسة إصطحبه أبوه في سفر وفي طريقهم مع القافلة رفض الأطفال المرافقين لهم اللعب معه فأعرض عنهم ليلعب وحيدا فرآه أبوه بعيدا عن القافلة فخاف أن يختطفه قطاع الطريق فنهره فسمعه الغلمان المرافقين له فضحكوا عليه ثم قالوا له لنلعب معك قف حيثما كنت وسنختبئ ثم نأتيك ثم ذهبوا إلى أبيه يخبرونه بأنه قد عصاه فضربه أبوه ولم يتمكن من أن يدافع عن نفسه وأخذ يقسم لأبيه أنه مظلوم ولا يجد الدليل الثابت الذى يبرأ ساحته فيستمر في ضربه وقد ترك فيه هذا الموقف أثرا كبيرا حيث أدرك في هذه السن المبكرة أن المظلوم يحتاج إلى الإنصاف عندما لا يجد شاهدا ولا دليلا وتأثر فيما بعد بقوله تعالى في سورة البقرة فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وحدث أن مات والده وهو في سن صغيرة وطبقا لتقاليد الجاهلية ورث عمه والدته فنشأ يتيما وكان إسلام شريح وهو في الثلاثين من عمره عندما بعث رسول الله محمد صلي الله عليه وسلم إبن عمه الإمام علي بن أبي طالب إلى أهل حضرموت لكي يدعوهم إلي الإسلام فأسلم أغلبهم ومنهم شريح والذى سأل الإمام علي بماذا يأمر دينك فأجابه بقوله تعالى في سورة النحل إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فبرقت عينا شريحٍ فسأله بماذا يدعو دينك أيضا فأجابه وقد أحس بتأثره بمقولة العدل بقوله تعالى في سورة النساء إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا فسأل ثالثةً إلام يدعو دينك أيضا فأجابه بقوله تعالى في سورة المائدة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ فسأله وماذا يقول نبيك فأجابه سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله أولهم إمام عادل فإستبشر شريح قائلا إنه دين يدعو للعدل ودخل في الإسلام فطلب من الإمام علي أن يعلمه سورة من القرآن الكريم فكان من فطنة وذكاء الإمام علي وقد رآه مهتما أشد الاهتمام بأمور القسط والعدل وكان قد سمع قصته وما حدث بأمه وما تعرضت له من ظلم أن إختار له سورة النساء التي تتحدث عن العدل مع ضعفاء القوم وعن حقوق النساء وبعد مرور عدة سنوات وفي عهد الخليفة الراشد الأول أبي بكر الصديق وفد شريح إلي المدينة المنورة وجمع من القرآن الكريم كل الآيات التي تتحدث عن العدل أو تشير إليه .

وبعد وفاة الخليفة الراشد الأول العظيم أبي بكر الصديق وتولي الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب الخلافة حدث أن إشترى عمر فرس من بائع أعرابي ودفع ثمنه ووجد فيه بعدها بقليل عيب حيث وجده لا يستطيع أن يسير لوجود عيب فيه فأراد أن يرده للبائع الأعرابي الذى إشتراه منه قائلا له إنه معطوب فرد عليه البائع بأنه كان سليما فرد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أن إختر من شئت ليحكم في الأمر فإختار البائع الأعرابيّ شريحا والذى كان لا يعرفه عمر فدعاه إلى بيته ليحكم فرفض شريح وقال لعمر خذ ما إبتعت أو رد ما إشتريت فرد عمر والله هكذا القضاء قول فصل وحكم عدل وسأله من أين تعلمت العدل فأجابه من سورة ص فسأله وماذا فيها فأجابه بأن من آياتها ما يشير إلي أن نبي الله داود عليه السلام بعد أن تسور الخصمان محرابه لم يكن مستعدا للقضاء نظرا لكونه قد فزع منهما فلم يأت بالحكم الصحيح وطلب من عمر أنه لابد من دار متخصصة مستقلة للقضاء وكان قبلها القاضي يحكم من داره وبعد هذه الواقعة وما رآه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في شريح من عدل وحكمة ولاه قضاء الكوفة وإستقضاه عليها وقال له إذهب فقد وليتك قضاء الكوفة فوافق بشرط أن يجعل في الكوفة دار مستقلة للقضاء فجعل عمر ذلك في الكوفة وفي كل الأمصار والبلاد التي تحت حكمه وكتب إليه إذا أتاك أمر في كتاب الله فإقض به فإن لم يكن في كتاب الله وكان في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإض به فإن لم يكن فيهما فإقض بما قضى به أئمة الهدى فإن لم يكن فأنت بالخيار إن شئت تجتهد رأيك وإن شئت تؤامرني ولا أرى مؤامرتك إياى إلا أسلم لك ومكث شريح قاضيا بالكوفة أيام الخلفاء الراشدين الثاني والثالث والرابع عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم جميعا ثم عزله علي رضي الله عنه لكن لما تولي الخليفة الأموى الأول معاوية بن أبى سفيان رضي الله عنه الخلافة ولاه على القضاء مرة أخرى ولم يزل شريح في منصبه حتى تولى الحجاج بن يوسف الثقفي ولاية الكوفة فطلب منه شريح أن يعفيه من القضاء فأعفاه وإلي جانب قضاء الكوفة مكث شريح أيضا في قضاء البصرة سنة وقال جابر بن زيد عن ذلك أتانا زياد يعني زياد إبن أبيه بشريح بن الحارث قاضيا فقضى فينا سنة لم يقض فينا مثله قبله ولا بعده ولذلك كان يقال له قاضي المصرين أى الكوفة والبصرة .

وكان تعيين شريح علي قضاء الكوفة وهو يبلغ من العمر 47 عاما ومكث في منصبه لمدة 60 عاما أي حتي بلغ عمره 107 أعوام وما تعطل فيها إلا ثلاث سنين أثناء صراع عبد الله بن الزبير بن العوام مع الخليفة الأموى الخامس عبد الملك بن مروان علي الخلافة ومبايعة أهل الحجاز والعراق لإبن الزبير خليفة للمسلمين وكان فريدا في أنه كتب فوق مجلسه عبارة نصها إن الظالم وإن حكمت له ينتظر العقاب وإن المظلوم وإن حكمت عليه ينتظر الإنصاف وتحت هذه العبارة كتب حديث نبوى شريف نصه إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع منكم فمن قضيت له من حق أخيه بشئ فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة وحقا كان شريح القاضي أعلم الناس بالقضاء وكان ذا عدل في حكمه وذا فطنة وذكاء ومعرفة وعقل ورصانة وورع وكان يحرص على أن يكون في مجلس قضائه مجموعةٌ من الفقهاء كما أنه كان حريصا علي أن يكون مجلسه محاطا بالهيبة والوقار فكان إذا جلس للحكم يجلس على رأسه سيفان وإلى جانبهما شرطي بيده سوط وكان إذا إكتمل مجلسه نادى مناد من جانبه يا معشر القوم إعلموا أن المظلوم ينتظر النصر وأن الظالم ينتظر العقوبة فتقدموا رحمكم الله وكان يسلم على الخصوم ثم يقرأ قول الله تعالى يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَإحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فيضلك عن سبيل الله وكان يسأل عن حال الشهود في السر ويقول لمن يرسله للسؤال عنهم إن قال الناس في الرجل الله أعلم فهم يعرفون أنه مريب ولا تجوز شهادة مريب وإن قالوا ما علمناه إلا عدلا مسلما فهو إن شاء الله كذلك وتجوز وتقبل شهادته ونظرا لكل ذلك فقد نال شريح القاضي مكانة خاصة في قضاء الكوفة فبالإضافة إلى مدة ولايته الطويلة فإن أحكامه وأقضيته كانت تتصف بالعدل والإنصاف وتدل على رصانة ورجاحة عقله فعن هبيرة بن مريم قال لما قدم الإمام علي بن أبي طالب على الكوفة أتاه فقهاء الناس وجعلوا يسألونه حتى نفد ما عندهم ولم يبق إلا شريح فجثا على ركبتيه وجعل يسأله فقال له علي رضي الله عنه إذهب فأنت أقضى العرب وقد شهد له بذلك أيضا من أدركه من التابعين حيث قال محمد بن سيرين قدمت الكوفة وبها أربعة آلاف يطلبون الحديث وسرج أهل الكوفة أربعة عبيدة السلماني والحارث الأعور وعلقمة بن قيس والقاضي شريح بن الحارث وبذلك صار شريح مثلا على الألسنة في قضائه وفي فطنته وذكائه حيث قال مجالد بن سعيد يقال في المثل إن شريحا أدهى من الثعلب وفي رواية عن شريح ذكر فيها أنه لما توجه الإمام علي بن أبي طالب إلى صفين إفتقد درعا له وبعد أن عاد من المعركة إلى الكوفة أصاب الدرع في يد رجل يهودى يبيعها في السوق فقال له علي يا يهودى هذه الدرع درعي لم أبع ولم أهب فقال اليهودى درعي وفي يدى فقال علي نصير إلى القاضي فتقدما إلى شريح فجلس علي إلى جنب شريح وجلس اليهودي بين يديه فقال علي لولا أن خصمي ذمي لإستويت معه في المجلس فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول صغروا بهم كما صغر الله بهم فقال شريح قل يا أمير المؤمنين فقال إن هذه الدرع التي في يد اليهودى درعي لم أبع ولم أهب سقطت عن جمل لي أورق وأنا في طريقي لصفين وإلتقطها هذا اليهودي فقال شريح ما تقول يا يهودى فقال درعي وفي يدى فقال شريح يا أمير المؤمنين هل من بينة قال نعم مولاى قنبر وإبني الحسن يشهدان أن الدرع درعي فقال شريح شهادة الإبن لا تجوز للأب فقال الإمام علي رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة فقال شريح إن هذا في الآخرة وليس في الدنيا فقال اليهودى أمير المؤمنين قدمني إلى قاضيه وقاضيه قضى عليه فرضي خذ الدرع صدقت والله يا أمير المؤمنين إنها لدرعك سقطت منك ليلا وأنت متوجه إلى صفين عن جمل لك فإلتقطها أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فوهبها له الإمام علي وأجازه بتسعمائة درهم وخرج الرجل يقاتل الخوارج مع الإمام علي بالنهروان ونال الشهادة يومها .

ومما قيل عن القاضي شريح ما رواه الإمام عامر الشعبي الفقيه والمحدث التابعي قائلا كنت جالسا عند شريح القاضي إذ دخلت عليه إمرأة تشتكي زوجها وهو غائب وتبكي بكاءا شديدا فقلت أصلحك الله ما أراها إلا مظلومة مأخوذا حقها قال وما علمك قلت لشدة بكائها وكثرة دموعها قال لا تفعل إلا بعد أن تتبين أمرها فإن إخوة نبي الله يوسف عليه السلام جاؤوا أباهم عشاءا يبكون وهم له ظالمون وعن الإمام الشعبي أيضا قال شريح إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله عليها أربع مرات أحمد الله إذ لم يكن أعظم منها وأحمد الله أيضا إذ رزقني الصبر عليها وأحمد الله كذلك إذ وفقني للإسترجاع لما أرجو من الثواب وأخيرا أحمد الله إذ لم يجعلها في ديني وفضلا عن ذلك كان شريح يمنع الذين يقضي بينهم من أن تكون بينه وبينهم أى تعاملات بأى طريقة طوال فترة الحكم وذات مرة كان يقيم رجل في بيته ضيفا فأراد أن يرفع إليه قضية فخيره بين ترك القضية أو ترك بيته وحدث أن جاءه إبنه
ذات مرة قائلا بيني وبين قوم خصومة وقص عليه قصته معهم وإستشاره هل يرفع عليهم قضية يعلم أنه سيكسبها أم الأحسن أن يصالحهم فأجابه أن ينطلق ويرفع القضية فرفع القضية أمام أبيه فأكسبهم القضية ضد إبنه فتعجب إبنه وقال له يا أبت لقد فضحتني وتساءل عن السبب خصوصا بعدما إستشاره فرد عليه قائلا إنك يا بني أعز علي من أمثالهم لكن العدل أعز علي منك وإني خشيت إن قلت لك أن تصالحهم أن تكون قد فوت عليهم شيئا من حقهم فقضيت لهم وفي موقف آخر كان ذات الإبن يكفل ويضمن رجلا في قضية نزاع علي مال فأخذ ذلك الرجل المال وهرب به فأصدر شريح حكما بحبس إبنه ثلاثين يوما وفي كل يوم كان يذهب إليه بالطعام قائلا تذكر حديث النبي محمد صلي الله عليه وسلم لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها وبالإضافة إلي كل ما سبق كان شريح يأخذ في الإعتبار الأبعاد النفسية للمتخاصمين وخاصة مع النساء في القضايا الزوجية وكان يجلس ذات مرة مع الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فجاءت سيدة وقالت يا أمير المؤمنين زوجي يصوم النهار ويقوم الليل وأنا أكره أن أشكوه وهو في طاعة الله فرد الإمام علي نعم الزوج زوجك فأعادت مقولتها مرة ثانية فلم يفهم الإمام علي فأعطاها ذات الإجابة ثانيةً فقال له القاضي شريح يا أمير المؤمنين المرأة تشكو زوجها أنه يتركها ويهجرها في الفراش فسأله كيف فهم ذلك وطلب منه أن يحكم بينهما فإستحضر القاضي شريح الزوج فسأله أنت تهجر زوجتك في الفراش فقال نعم فقال له يا رجل إن لها عليك حقا فلا يحل لك أن تهجرها فوق أربعة أيام وهكذا كان القاضي شريح رمز ومثل أعلي للقضاة ولذا يجب على كل قاضي ومحامي وكل من يختص بالقانون في كل زمان ومكان أن يرجع إلى سيرة القاضي شريح لأنه وضع منهجا في القضاء يحقق العدل الكامل حيث تميز وإشتهر بأنه كان يقيم العدل على كل الناس حتى علي أولاده وأقرب الناس إليه .

وغير مجال القضاء كان شريح القاضي ثقة في الحديث النبوى الشريف فحدث عن الخليفتين عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما وعن الصحابي عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما وحدث عنه أيضا قيس بن أبي حازم ومرة الطيب وتميم بن سلمة وعامر الشعبي وإبراهيم النخعي ومحمد بن سيرين وغيرهم كما روى له الإمام النسائي فعن شريح قال أَمرني عمر أَن أقضيَ للجار بالشفعة ِوبالإضافة إلى ذلك كان له علمه وحكمته وورعه وكان إذا إنخرط في صلاته لا يتحرك أبدا وكان له خلوة يوم الجمعة يذكر الله فيها كما كان لشريح القاضي باع في الأدب والشعر فكان شاعرا محسنا وله أشعار محفوظةٌ في الكثير من الأمور أغلبها كان قي صورة نصائح للناس حيث كان يعلمهم من خلالها معاني الإيمان ويروى عنه أحد أهل الكوفة ممن عاصروه سمعني شريح أشكو بعض ما أهمني وغمني لصديق لي فقال لي يا إبن أخي إياك والشكوى لغير الله عز وجل إن من تشكو إليه لا يخلو أن يكون صديقا أو عدوا أما الصديق فتحزنه وأما العدو فيشمت بك ثم قال يعلمني إنظر إلى عيني هذه وأشار إلى إحدى عينيه فقال والله ما أبصرت بها شخصا ولا طريقا منذ خمس عشرة سنة ولكني ما أخبرت أحدا بذلك إلا أنت في هذه الساعة ثم قال أما سمعت قول العبد الصالح نبي الله يعقوب عليه السلام الذي قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله فإجعل الله عز وجل مشكاك ومحزنك عند كل نائبة تنوبك فإنه أكرم مسؤول وأقرب مدعو وروى عنه أيضا أنه رأى ذات يوم رجلا يسأل آخر شيئا ويبدو أنه كان قد بدأ يطلب بإلحاح وتذلل فناداه وقال له يا إبن أخي من سأل إنسانا حاجة فقد عرض نفسه للرق أى صار رقيقا إن قضاها لك فقد إستعبدك بها وإن ردها عنك رجعت ذليلا ورجع هو بخيلا كلام عجيب إذا أعطاك إياها صرت عبدا له وإن لم يعطك إياها صار هو بخيلا وصرت أنت ذليلا فإذا سألت فلا تسأل الناس وإذا إستعنت فإستعن بالله وإعلم أنه لا حول ولا قوة ولا عون إلا بالله وكان شريح أيضا يعلم الناس معاني الإيمان الصحيح بالله والقضاء والقدر حيث كان يعيش في مدينة الكوفة ووقع فيها وباء الطاعون وبدأ الناس يسقطون بالعشرات من وراء هذا الوباء القاتل وهرب أحد أصدقائه من مدينة الكوفة حتى لا يصيبه الطاعون إلى مدينة النجف والنبي محمد صلى الله عليه وسلم كان قد أصدر قرارا في مسألة الطاعون وهو أنه إذا حل الطاعون في بلد وأنتم فيه فلا تخرجوا منه وإذا كنتم خارج البلد فلا تدخلوا إليه وهذا الخروج قد يؤدي إلى مشكلة لأن الخارج قد ينقل المرض إلى البلد الذي سيخرج إليه فلما هرب صديقه من الكوفة كتب إليه يذكره بهذا الحديث ويقول له أما بعد فإن الموضع الذي تركته لا يقرب منك حمامك ولا يسلبك أيامك وإن الموضع الذي صرت إليه في قبضة من لا يعجزه طلب ولا يفوته هرب وإنا وإياك لعلى بساط ملك واحد وإن النجف من ذي قدرة لقريب.

وكان للقاضي شريح الكثير من الأقوال المأثورة منها أنه كان يقول للشاهدين إنما يقضي على هذا الرجل أنتما وإني لمتقٍ بكما فإتقيا وإن الخصم داؤك والشهود شفاؤك والقاضي لا يحكم بقناعاته ولا بعواطفه وإنما يحكم بالشهادة التي أمامه والأدلة التي أمامه ومن ثم كان إذا شك في شهادة شاهد شكا شديد كان ينصحه ويعظه إذا لم يجد وسيلة يرد بها شهادته وكان يقول للشهود قبل أن يدلوا بشهادتهم إسمعوا مني إنما يقضى على هذا الرجل بشهادتكم أنتم وأما أنا فإنني أتقي النار بكم فأنتم بإتقاء النار أولى وفي وسعكم الآن أن تدعوا الشهادة وتمضوا فإذا أصروا على الشهادة إلتفت إلى الذى يشهدون له ويقول له إعلم يا فلان أنني أحكم بشهادتهم وأنا أرى أنك ظالم لكنني لست أقضي بالظن وإنما أقضي بشهادة الشهود وإن قضائي قد يحل لك شيئا قد حرمه الله عليك فإتق الله فإذا أصر كان يردد شعارا قبل أن يحكم وهو غدا سيعلم الظالم ظلمه وغدا سيعلم الظالم من الخاسر إن الظالم ينتظر العقاب من الله تعالى وإن المظلوم ينتظر الإنصاف من الله عز وجل وإني أحلف بالله أنه ما من أحد ترك شيئا لله عز وجل وأحس بفقده أى هذه نصيحة لك إترك فإنك إذا تركت شيئا فإن الله سيعوضك وجاءه يوما فقيه فقال ما الذى أحدثت في القضاء قال إن الناس أحدثوا فأحدثت وإن عدل يوم أفضل من عبادة ستين سنة وفي عام 78 هجرية الموافق عام 697م كان شريح قد تعدى عمره 107 سنوات إلا أنه كان لا يزال عاقلاً وقاضي القضاة وسؤل كيف ذلك فأجاب حفظناها في الصغر فحفظها الله لنا في الكبر قاصدا الصحة ولما أصبح الحجاج بن يوسف والي الكوفة في عهد الخليفة الأموى الخامس عبد الملك بن مروان إستقال شريح وكانت أول مرة يفعلها بعد أن ظل في منصبه أكثر من 60 عاما عاصر خلالها الخلفاء الراشدين الثلاثة عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب والخلفاء الأمويين الخمسة الأوائل معاوية بن أبي سفيان ويزيد بن معاوية ومعاوية بن يزيد ومروان بن الحكم وعبد الملك بن مروان وقال حينذاك والله لا أستطيع أن أكون قاضيا والحجاج يحكم وكانت وفاته علي الأرجح بعد ذلك بحوالي شهر واحد في الكوفة ولما حضرته الوفاة كان يبكي بشدة فسئل لماذا فأجاب في مرة لم أسو بين متخاصمين قالوا كيف قال مال قلبي لأحدهم وكان من وصيته ألا تتبع جنازته صائحة وأن لا يجعل على قبره ثوب وأن يسرع به السير ليدفن وأن يصنع له في قبره لحد رحم الله شريحا الذي أقام العدل بين الناس ستين عاما ما أحد إشتكى عليه أنه ظلم أو جار أو ميز بين أمير وسوقي من الناس وحقا كان شريح القاضي رمز العدل والإيمان والقضاء والتربية رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته ورحم الله الفاروق عمر بن الخطاب الذى زين مفرق القضاء في الإسلام بلؤلؤة كريمة الأعراق صافية الجوهر حيث إختار بفراسته للمسلمين مصباحا منيرا ما زالوا حتى اليوم يستضيئون بسنا فقهه وفهمه لكيف يكون العدل ويهتدون بفهمه لسنة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ويباهون به الأمم في الدنيا ويوم تقوم الساعة وهكذا ففي القضاء فاق شريح كثيرا من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم في قضية القضاء ولو لم يفق الصحابة الكرام في القضاء لما ولاه الخلفاء الراشدون الثلاثة عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب ومن بعدهما الخليفة الأموى الأول معاوية بن أبي سفيان وغيرهم القضاء وكلمة أخيرة فالعدل يقوم به السماء والدول عندما تسقط فإنما تسقط بالظلم لا بالضعف وهكذا فإن الدولة الكافرة التي فيها عدل تستمر والدولة الإسلامية التي لا عدل فيها فإنها تسقط لأن الله تعالى لا يرضى أبدا لعباده الجور والظلم.
 
 
الصور :