بقلم المهندس/ طارق بدراوى
tbadrawy@yahoo.com
موسوعة كنوز “أم الدنيا"
محمد بن القاسم بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي هو أحد القادة العسكريين المسلمين خلال العصر الأموى وإشتهر في التاريخ بأنه فاتح بلاد السند وهي دولة باكستان حاليا وكان مولده عام 72 هجرية بمدينة الطائف بشبه الجزيرة العربية في أسرة معروفة حيث كان جده محمد بن الحكم من كبار الثقفيين وكانت بلاد الحجاز في ذلك الوقت إضافة إلي بلاد العراق تحت حكم عبد الله بن الزبير بن العوام رضي الله عنهما وكان حينذاك يخوض صراعا شرسا مع الخليفة الأموى الخامس عبد الملك بن مروان والذى إنتهي بمقتله عام 73 هجرية وتثبيت خلافة هذا الأخير علي بلاد الحجاز والعراق إضافة إلي بلاد الشام ومصر وفي عام 75 هجرية صار الحجاج بن يوسف الثقفي واليا عاما على العراق والولايات الشرقية التابعة للدولة الأموية فقام الحجاج بتعيين عمه القاسم واليا على مدينة البصرة فإنتقل معه إبنه الطفل محمد بن القاسم إليها حيث مقر عمل والده وكانت الدولة الأموية بعد أن إستتب الأمر للخليفة عبد الملك بن مروان بعد مقتل عبد الله بن الزبير معنية أشد الإعتناء بنشر دين الإسلام في ربوع المعمورة لذلك كان سوق الجهاد قائما في بنى أمية ومن ثم علت كلمة الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها وبرها وبحرها فأذل الله الكفر وأهله وإمتلأت قلوب المشركين من المسلمين رعبا فلا يتوجه المسلمون إلى بلد إلا فتحوه ولم تنكسر لهم راية أو يطهر عليهم عدو أو يخرج من أيديهم بلد فتحوه وفي ذك الوقت بنى الحجاج مدينة واسط بوسط بلاد العراق والتي صارت معسكرا لجنده الذين يعتمد عليهم في الحروب وإمتلأت بسكانها الجدد وقوم الحجاج وفي هذه المدينة وغيرها من العراق نشأ وترعرع محمد بن القاسم فنشأ بين الأمراء والقادة فوالده أمير وإبن عم أبيه الحجاج أمير وأكثر بني عقيل من قبيلة ثقيف قوم أبيه وإبن عمه الحجاج أمراء وقادة وكان لذلك الأثر الكبير في شخصية محمد فتدرب على الجندية والفروسية وفنون القتال وبدت عليه أمارات النجابة والشجاعة وحسن التدبير في الحرب منذ نعومة أظفاره وعلاوة علي ذلك كان محمد بن القاسم راجح الميزان في التفكير والتدبير وفي العدل والكرم إذا قورن بكثير من الأبطال والقادة وهم لا يكادون يبلغون مداه في الفروسية والبطولة ولقد شهد له بذلك الأصدقاء والأعداء علي حد سواء وإستطاع أن يصبح من القادة العسكريين المعروفين وهو لم يتجاوز بعد 17 عاما من العمر وإلتقطته عينا إبن عمه الحجاج فعينه أميرا علي الجيش الذى وجهه لفتح بلاد السند ومما يذكر أن غزوات المسلمين الأولى إلي تلك البلاد كانت أقرب إلى إختبار البلاد وأهلها بالسرايا ولم يتحقق فيها فتح مستدام وكانت كل الفتوحات تجرى برا ولم يركب المسلمون البحر نحو ثغور السند حينذاك نظرا لمنع الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب القادة وجنودهم من ركوب البحر لما في ذلك من مجازفة لا سيما وأنه لم يكن حتي عهده للمسلمين دراية بالغزوات البحرية وبدأ المسلمون فتوحاتهم المستدامة لبلاد السند في عام 89 هجرية الموافق عام 708م في عهد الخليفة الأموى السادس الوليد بن عبد الملك وإن كانت إهتماماتهم بفتح بلاد الستد والهند ترجع إلى عصر الخلفاء الراشدين ومما يذكر أيضا أن فتوحات كل من إقليم السند وأيضا إقليم ما وراء النهر قد تمت في ظل وحدة العالم الإسلامي التي كان قد حققها الخليفة الأموى الخامس عبد الملك بن مروان كما كانت القيادة العامة للحملات العسكرية الموجهة إلى كِلا الإقليمين موحدة حيث كان الحجاج بن يوسف الثقفي هو الذى وجه تلك الحملات فكلف قتيبة بن مسلم الباهلي بفتح بلاد ما وراء النهر كما كلف صهره وإبن عمه محمد بن القاسم الثقفي بفتح إقليم السند .
ولم يكن محمد بن القاسم الثقفي قد تجاوز العشرين من العمر لما عهد إليه الحجاج بفتح بلاد السند وضم إليه الجنود الشوام الستة آلاف الذين أرسلهم له الخليفة مددا له ومتطوعة العراق وجهزه بِكل ما إحتاج إليه من العتاد حتى الخيوط والمسال وأمره أن يقيم بمدينة شيراز بجنوب إيران حاليا حتى يجتمع إليه أصحابه ويوافيه بباقي ما يحتاجه في حملته ووقف الحجاج خطيبا في جيش محمد بن القاسم وحث الجنود علي الإستبسال في الحرب وعدم إعطاء الفرصة لعدوهم بالظهور عليهم ولما أنهى الحجاج خطبته أركب قائده محمد بن القاسم فرسه ووزع الصدقات والأعطيات على الفقراء والأموال على أتباعه وبارك لقائده الشاب غزوه وسفره وترحاله وسار محمد بن القاسم إلى مدينة شيراز وعسكر بها ريثما يصله المدد الذى وعده به الحجاج والذى أمر أن يجمع كل ما هو موجود من المجانيق والسهام والرماح ووضعها في السفن الحربية وعين خريم بن عمرو المرى علي رأس القوة البحرية وأوصاه إذا حدث خلل في السفن أن يجاهد ويجتهد في إصلاحها وعمد الحجاج إلى القطن المحلوج فنقعه في الخل الحاذق ثم جففه في الظل وقال إِذا صرتم إِلى السند فإن الخل بِها قليل فإنقعوا هذا القطن فِي الماء ثم إطبخوا به وإصطبغوا وأرسلت المؤن والعتاد والسلاح إلى شيراز بواسطة قافلة كبيرة من الجمال ذات السنامين وكتب الحجاج بن يوسف إلى قائد حامية ثغر السند محمد بن هرون بن ذراع النمرى أن يلتحق بالحملة مع جميع من كان معه من الرجال تحت إمرة القائد العام لها محمد بن القاسم وبناءا على ذلك تجمعت تحت إدارة هذا الأخير قوات تقدر بحوالي خمسة عشر إلى عشرين ألف رجل تقريبا ولا يفوتنا هنا أن نذكر أن محمد بن القاسم كان يتصف بالتواضع الرفيع وكان في جيشه من يكبر أباه سنا وقدرا لكن لم تجنح نفسه معهم إلى الزهو والمباهاة بل لم يكن يقطع أمرا إلا بمشورتهم وكان يبني المساجد في كل مكان يغزوه وعمل على نشر الثقافة الإسلامية مبسطة ميسرة فيما فتحه من بلاد وفي أواخر عام 92 هجرية الموافق عام 711م زحف محمد بن القاسم مع محمد بن هرون بحملتهما من شيراز متجهين من الشرق وسالكين الطريق نفسه الذى سلكه الإسكندر الأكبر أثناء رحلة العودة من حملته الشرقية المشهورة أى عبر الصحراء الكدروزية حيث سارت كما يبدو محاذيةً لمياه بحر العرب حتى لا تكون بعيدة عن السفن الإسلامية التي سلكت هي الأُخرى البحر بالقرب من اليابسة على مرأى من القوات البرية حتى وصلا بلدة فنزبور عاصمة إقليم مكران والذي يطل علي بحر العرب ويمتد في جنوب شرق إيران وغرب باكستان وكان قد فتح في عهد الخليفة عمر بن الخطاب بعد تسييره حملة إليه بقيادة سهيل بن عدى والذى توجه بجيشه من البصرة في عام 22 هجرية الموافق عام 643م فوصل في نهاية المطاف إلى مكران وكانت حينذاك أراضي تابعة للساسانيين لعدة قرون ولكن بعد ذلك أصبحت ضمن مملكة راى التي ضمتها إلي أملاكها وفي عهد الخليفة معاوية بن أبي سفيان حدث تطور كبير في غزو السند حيث أمر معاوية القائد الأموى الشهير المهلب بن أبي صفرة بغزو السند ثم غزاها بعده عبد الله بن سوار العبدى ثم سنان بن سلمة الهذلي ففتح مكران وأسكنها العرب ولما وصل محمد بن القاسم إلى فنزبور وجد أن أهلها قد جمعوا لهم فحاربوهم شهورا حتى إفتتتحت بلدتهم وغنم المسلمون منها وسبوا وتمركز محمد بن القاسم فيها وجعلها نقطة الإنطلاق وقاعدة الفتح ثم تابع محمد بن القاسم الزحف حتى وصل أرمائيل فحارب حاميتها العسكرية أياما حتى فتحها ويذكر إبن منظر البحرى أن محمد بن هرون لاقى مصاعب ومشقات كثيرة من عناء السفر وعناء الركوب فما أن وصل إلى أطراف أرمائيل حتى زهقت روحه فدفن هناك وحدد البلاذرى موضع دفنه حيث قال إنه دفن بقنبل بين أرمائيل والديبل وهي مدينة كراتشي بجنوب باكستان حاليا .
ولما فتحت أرمائيل وصلت محمد بن القاسم رسالة من الحجاج كانت تتضمن وصايا حربية هامة أشار فيها إلى أنه إذا وصل المسلمون منازل الديبل وسوادها أن يحذروا تلك المنازل ويحفروا الخنادق أينما وصلوا بعرض إثني عشر ذراعا وبعمق ستة أذرع لتكون ملاذا وحماية لهم وأن يكثروا من تلاوة القرآن الكريم والدعاء وطلب النصر من الله وأوصى الحجاج أيضا بأن يتريث المسلمون عند مقابلة العدو وإذا رفع أولئك عقيرتهم بالصياح والقول البذئ وخرجوا للقتال فلا يقابلهم المسلمون ولا يقاتلوهم حتى يصلهم أمر الحجاج فيتصرفون بما يمليه عليهم حتى تتكلل مهمتهم بالنجاح والتوفيق وعموما فبعد تمام فتح فنزبور وأرمائيل توجه محمد بن القاسم بجيشه الجرار إلى مدينة الديبل وهي هدفه الأكبر وكان آنذاك جيسيه بن داهر أميرا على النيرون وهي مدينة حيدر أباد حاليا بباكستان فكتب رسالة إلى أبيه يخبره بِقدوم المسلمين ويسأله السماح له بقتالهم وإستدعى داهر أعيان العلافيين العرب وإستشارهم في الأمر فقالوا له إن محمد بن القاسم هو إبن عم الحجاج وقد جاء بجيش قوامه الشجعان من أبناء الشام وقد جهِزوا بكل أنواع السلاح وإنهم قادمون لقتاله وأنهم أى العلافيين يفضلون ألا يتقابلون معهم فلما سمع داهر أقوال العلافيين منع إبنه جيسيه من مقاتلة محمد بن القاسم وأتباعه وبعد خروج هذا الأخير من أرمائيل في عام 93 هجرية الموافق عام 712م جعل محمد بن مصعب بن عبد الرحمن على مقدمة الجيش وجهم بن زحر الجعفي على المؤخرة وعطية بن سعد العوفي علي الميمنة وموسى بن سنان بن سلمة الهذلي على الميسرة ثم جلب باقي المقاتلين من الرماة والخواص والسيافين معه إلى قلب الجيش ويبدو أن محمد بن القاسم كان قد بقي في أرمائيل مدة طويلة لأنه قد وافته فيها إمدادات برية على رأسها جهم بن زحر الجعفي الذى جعله علي مؤخرة الجيش ِكما وصلته الإمدادات البحرية التي فيها الرجال والعتاد والسلاح وعلى رأسها خريم بن عمرو ومعه عدد من كبار الأشراف والأعيان منهم عبد الرحمن بن سليم الكلبي الذى عرف بشجاعته وبسالته ورجولته وتجاربه القتالية إذ كان قد تولى بيروت وإمارة ساحل الشام ورد غارة بيزنطية على مدينة طرابلس الشام كما أنه كان مع الحجاج في حربه مع إبن الأشعث في وقعة دير الجماجم عام 82 هجرية وهو مكان بين الكوفة والبصرة قضى فيه الحجاج على أعنف الثورات الني خرجت على بني أمية بقيادة عبد الرحمن بن الأشعث وكان منهم أيضا سفيان بن الأبرد الكلبي المشهور بالجلد وسداد الرأى والعفة وقطن بن مدرك الكلابي المعروف عنه المعاونة في الشدائد والمدلهمات وصدق القول والجراح بن عبد الله الحكمي صاحب الخبرة الواسعة في فنون القتال والحرب ومشاجع بن نوبة الأزدى ووصل المسلمون سواد الديبل خلال شهر رجب عام 93 هجرية الموافق شهر أبريل عام 712م فأمر محمد بن القاسم بحفر خندقٍ كما نصح الحجاج ورفع الرايات والأعلام وأنزل الناس على راياتهم وأخرج المجانيق ونصبها وكان منها منجنيقٌ ضخم خاص بِالخليفة يعرف بالعروس قيل إن نصبه إحتاج إلى خمسمائة رجل ومما يذكر أنه كان في وسط مدينة الديبل معبد بوذى كبير فيه تمثال هائل لبوذا والمعروف في المصادر الإسلامية بالبد كان إرنفاعه أربعين ذراعا وكان لهذا المعبد قبة عالية ترفرف عليها راية خضراء ترتفع أربعون ذراعا أيضا ولِلراية هذه أربعةُ ألسن تتطاير في الهواء.
وحاصر المسلمون الديبل وأخذوا يقذفونها بالحجارة والنيران وقاتلوا حماتها بشدة فخرجوا إليهم ولكنهم إنهزموا فإرتدوا إلي المدينة وكان للمنجنيق المسمى بالعروس أثره البالغ في النيل من الروح المعنوية لِلمدافعين حيث كسرت إحدى قذائفه صاريا كبير الحجم كان يحمل راية حمراء ويروى أن محمد بن القاسم في اليوم التاسع من الحصار إستدعى أمير جند منجنيق العروس وهو جعونة بن عقبة السلمي وأعطاه الأوامر بضرب معبد البد وقال له إنه سيمنحه عشرة آلاف درهم إن كسر رأس المعبد وعمود الراية التي ترفرف فوقه كما أنه هيأ وجهز الجيش للقتال على أن يبدأ الرماة أولا ثم يتبعهم الفرسان وبدأ جعونة بضرب المعبد بالمنجنيق كما أمره محمد بن القاسم فرماه بالحجر الأول فطارت رايته وبعض قاعدته ثم رمى الحجر الثاني فأصاب قبة المعبد فإنهارت تماما و مع الحجر الثالث أصبح أنقاضا مع الأرض سواء ثم قرعت الطبول في الديبل وبدأ هجوم الجيش الإسلامي هجمةً واحدة وحطم المنجنيق جزء من سور الديبل فوصل المسلمون إلى أعلى السور وأبراجه ورفعوا راية التوحيد في أعلى قلعة المدينة مكان الراية الحمراء وبهذا أصبحت الديبل أول حلقة في سلسلة مدن وادى السند تمكن من فتحها المسلمون ويروى أن جاهين بن برسايد راوت والي الديبل قفز من فوق سور الحصن وفر هاربا وسارع أهل المدينة إلى طلب الأمان وتوجه محمد بن القاسم إلى السجن الذى كان يضم عدد من الأسرى المسلمين فحررهم ووضع بدلا منهم مجموعة من قراصنة الديبل ويقال إن سجان المسلمين كان شخصا يدعى قيلة بن مهترائج وكان رجلا عاقلا داهية وعرف بالأدب والكتابة البارعة وفعل الخير فلما حرر محمد بن القاسم الأسرى سألهم عن كيفية معاملته إياهم فقالوا إنه كان يعاملهم معاملة حسنة وكان يواسيهم دائما فإلتفت القائد المسلم إلى قيلة المذكور وعرض عليه الإسلام فقبل ونطق بالشهادتين وبعد ذلك أحصى محمد بن القاسم الغنائم والعبيد وأرسل خمسها إلى الخزانة العامة وبيت المال بالكوفة عند الحجاج ووزع ما بقي على المجاهدين والمقاتلين حيث أعطى كل فارس ضعف سهم راكب الجمل أو الماشي ثم رتب أُمور المدينة وأهلها وأنزل فيها 4 آلاف من المسلمين وبنى بها مسجدا فكان أول مسجد بني في هذه المنطقة وعين وداع بن حميد البحرى عاملا عليها وأوصاه بأن يترك قيلة بن مهترائج يقوم بأعمال الحسابات والنفقات والإمساك بسجلات الديوان وخرج يريد فتح مدينة النيرون .
ولما وصل خبر فتح الديبل على يد جيش الإسلام إلى الراجا داهر وعلم أن والي المدينة فر إلى ولده جيسيه في النيرون وأن أهالي الديبل خضعوا للمسلمين الذين عاملوهم بالحسنى كتب إلى جيسيه يقول له أن يتوجه إلى مدينة برهمناباد والتي تقع علي نهر السند شمال شرق الديبل ويترك أمر مدينة النيرون إلى راهب بوذى يعينه واليا عليها ويوصيه بالحفاظ على المدينة بكل ما أوتي من قوة وفي الوقت نفسه كتب الراجا داهر إلى محمد بن القاسم يهدده ويتوعده وجيشه بالفناء فيما لو واصل التقدم لأن الديبل لم تكن سوى مدينة يعمل أهلها بالصناعة والتجارة وما يليها أشد بأسا وقوة ولما وصل القائد المسلم إلى تخوم النيرون وصلته رسالة داهر ولما وقع كتاب داهر بِيد محمد بن القاسم إستدعى مترجمه وأملى عليه رسالة ردا علي داهر جاء فيها أما بعد فلا بد لك من العِلم بِأن ما سطرته من الجهالة وغاية الحماقة وإفتتانك برأيك الركيك قد وصلنا وعلمنا مضمون أحوالك ومقالك وفهمنا كل ما سطرته من الحديث عن القوة والشوكة والعدة والآلة والأهبة بالأفيال والحشم والجيش ونحن بقوة الله وحوله قد وهبنا القوة والعدة والأهبة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وقال له أيضا في الرسالة إنه قد جاءه الأمر الإلٰهي من دار الخِلافة كي ينتقم من أفعاله وأن يتوجه لقتاله وأنه سوف يقهره ويهزمه أينما واجهه بعون الله تعالى وأنه سيبعث برأسه بمشيئة الله إلى العراق أو يضحي بروحه في سبيل الله وأنه يعتبر هذا الجهاد واجبا عليه لقوله تعالى جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وأنه قبل الجهاد في سبيل مرضاة الله تعالى وإنه يأمل الكثير من كرم وجود الله ونصرته لجنوده إن شاء الله تعالى ووصل محمد بن القاسم إلى سواد النيرون في اليوم السابع لمغادرته الديبل بعد أن قطع بالجيش مسافة خمسة وعشرين فرسخا ولما وصل المسلمون إلى منطقة ولهار العشبية الخضراء حيث يمر نهر السند فوجدوه جافا خاليا تماما من الماء وكان الجيش قد أنهكه التعب وأخذ منه العطش مأخذا كبيرا فوقف محمد بن القاسم وصلى ركعتين قائلا يا دليل المتحيرين ويا غياث المستغيثين أغثني بحق بسم الله الرحمن الرحيم وإستجاب الله لدعائه حيث إنهمرت الأمطار بعد ذلك حتى إمتلأت إلوديان بِالمياه الوفيرة كما إمتلأ حوض نهر السند بالماء أما أهل النيرون فقد أغلقوا الحصن على أنفسهم فحاصرهم محمد بن القاسم طيلة ستة أيام نقصت خلالها المؤن الغذائية للمسلمين وأعلاف حيواناتهم من الخيل والجمال فبعث الراهب البوذى الذى عين واليا على المدينة برسولين محملين بالغذاء والأعلاف إلى محمد بن القاسم ومعهما رسالةً يقول فيها إنه ومن معه من الخدم والحشم والرعية في خدمة دار الخلافة ثم فتح باب المدينة وسمح للمسلمين بدخولها وأخذ يبيع ويشترى البضائع معهم وأرسل أعيان المدينة كتاب صلحٍ إلى الحجاج بن يوسف يعلنون فيه دخولهم تحت جناح دولة الإسلام فكتب الحجاج إلى محمد بن القاسم يؤكد عليه ويعلمه بضرورة معاملة الأهالي بالحسنى وإكرامهم وتأمينهم وإحترام علية القوم منهم وفي واقع الأمر كان من دأب محمد بن القاسم أن يجنح إلى الصلح والسلم ما وسعه ذلك وكان عند خروجه إلي بلاد السند قد أوصاه بذلك الحجاج بن يوسف حيث قال له إذا أردت أن تحتفظ بالبلاد فكن رحيما بالناس ولتكن سخيا في معاملة من أحسنوا إليك وحاول أن تفهم عدوك وكن شفوقا مع من يعارضك وأفضل ما أوصيك به أن يعرف الناس شجاعتك وأنك لا تخاف الحرب والقتال وقد أجاب محمد بن القاسم الحجاج فأقر الصلح مع أهل النيرون ووزع العلف على جنود الجيش لزوم تغذية دوابهم ثم أمر ببناء مسجد في المدينة وعين لها حاكما وإماما ثم غادرها بعد عدة أيام وإتجه شمالا إلى حصن سيوستان الواقع على قمة جبل إلى الغرب من مجرى نهر السند وتمكن من فتحه .
وإتجه الجيش الإسلامي بعد ذلك إلى الإتجاه الشمالي الغربي وكان لا يمر بمدينة أو بلدة بوادى نهر السند إلا فتحها ومن الجدير بالذِكر أن أغلب البلدات والمدن الواقعة على طريق المسلمين تم فتحها سلما دون قتال في تلك المرحلة حيث إعترض كبار الكهنة البوذيين الجيش الإسلامي أثناء سيره وأعلنوا لمحمد بن القاسم إستسلام مدينة سربيدس ودخولها في طاعة دولة الخلافة فصالحهم ووظف عليهم الخِراج وسار عنهم إلى مدينة سبهان ففتحها ثم سار بمحاذاة نهر السند فنزل في وسطه وبعث جيشا إلى مدينة سدوستان وهي تسمى اليوم سيهون شريف فحاصرها أُسبوعا حتى طلب أهلها الأمان والصلح فأمنهم القائد المسلم ووظف عليهم الخِراج أيضا وكانت مدينة سدوستان تعتبر بمثابة مفتاح لبقية مدن وادى نهر السند خاصة وأن إستسلامها جاء على وجه سلمي وعن طواعية وإختيار من قبل الأهالي بعد أن هرب واليها الهندوسي لما صالح أهلها المسلمون بغرض التخلص من الحكم الجائر الذى كان يمارسه الهندوسيون عليهم وكان وفد أهالي المدينة قد أخبروا قائد المسلمين محمد بن القاسم بِأنهم لا يكنون أى ولاء لحاكمهم ويدعى بجهرا بن چندرا بن چچ وهو إبن أخ الراجا داهر وقد سبق لِهذا الحاكم بأن قرر الدفاع عن مدينته في أول الأمر فإجتمع الرهبان البوذيون وذهبوا إليه وقالوا له إنهم لا يرغبون بحرب وقتال المسلمين وأنهم يخشون أن يقتلون وتسلب أموالهم فيما لو إنتصر المسلمون ودخلوا المدينة على إعتبار أنهم أى الكهنة والعامة أتباع الحاكم المذكور وعرضوا عليه التوسط بينه وبين المسلمين كي لا يحدث قتال لا سيما وأن المدن التي أعلنت طاعتها أمنها المسلمون وتركوها على حالها كما أن أوامر الحجاج بن يوسف والخلافة الأموية في العاصمة دمشق كانت قد بلغت مسامع الناس ومفادها إعطاء الأمان الكامل لمن يطلبه لكن بجهرا بن چندرا لم يستمع إلى أقوال الكهنة وإستعد لقتال محمد بن القاسم وأعلن التعبئة والإستعداد لذلك أرسل محمد بن القاسم بعضا من أصحابه لإستطلاع الأحوال ومعرفة إن كان الأهالي والأعيان موافقين على الصلح والطاعة أم منافقين متعنتين وحينما علم أن جماعة بجهرا يستعدون للحرب إستعد هو الآخر لقتالهم فنصب المجانيق وهيأ الفرسان والرماة وبدأ بحصار سدوستان وبدأ الرماة بضرب المدينة بالمنجنيق والسهام والرماح وهنا توجه الرهبان البوذيون إلى بجهرا ونصحوه مجددا بأن يستسلم ولكنه لم يصغِ لهم فما كان منهم إلا أن بعثوا رسولا إلى محمد بن القاسم يحمل كتابا قالوا فيه إن أهل المدينة من الزراع والصناع والتجار لا يؤيدون بجهرا وأنه بجيشه وعدته لن يستطيع الوقوف أمام جيش المسلمين فأمر محمد بن القاسم بمواصلة القتال ليلا ونهارا ولما تأكد بجهرا من الهزيمة وتضييق الحصار عليه وعلى جيشه فر من الباب الشمالي للمدينة في ظلام الليل وعبر نهر السند متوجها إلى مدينة سيويس التي كان يحكمها آنذاك كاكه بن كوتك الجناني وبعد هروب بجهرا وإعلان الرهبان الطاعة والولاء لجيش المسلمين إستقرت الأوضاع وإستتب الأمن والأمان وبدأ العمال والنواب بأمر من محمد بن القاسم القيام بمهمة الولاية والنواحي ثم صادر الجيش الفاتح جميع الأموال والذهب والفضة والنقود والأملاك من المعاندين العصاة الذين وقفوا في وجه تقدم الجيش الإسلامي فيما عدا الرهبان الذين أعلنوا الولاء قبل وصول الجيش الفاتح ثم وزعت الغنائم على الجيش بعد إخراج الخمس وإرساله إلى بيت المال كما أرسل محمد بن القاسم الهدايا والعبيد والسبايا إلى الحجاج بن يوسف بالكوفة وإستقر في المدينة عدة أيام أُخرى ثم توجه بجيشه تجاه مدينة سيويس .
وأثناء توجه المسلمين إلى حصار مدينة سيويس بلغوا موضعا يقال له بندهان يقع على ضفة بحيرة منچھر العظيمة إلى الشمال من سدوستان والتي تعد أكبر بحيرات جنوب قارة آسيا وعسكروا إستعدادا للهجوم وكان أهل المنطقة لما رأوا جيش الإسلام يتقدم في بلادهم تفرقوا في الأرياف والبوادى لتأليب الناس وحثِهم على القتال وجاء أعيان وأشراف المدينة إلى كاكه بن كوتك ليتدبروا الأمر وليطلبوا منه أن يقاتل المسلمين ويسفك دمائهم وبحسب رواية كتاب فتحنامه سند لمؤلفه علي بن حامد بن أبي بكر الكوفي فإن كاكه كان مدركا بأن لا جدوى من محاولة قتال الجيش الإسلامي لأن الرهبان والمنجمين قالوا بأن الجيش الإسلامي سيفتح كامل المنطقة ولن يتمكن أحد من إيقافه لكن الأعيان أصروا على مباغتة المسلمين ليلا وأخذهم على حين غرة فجمعوا جيشا وتسللوا تحت جنح الظلام لمقاتلة جيش الإسلام غير أنهم تاهوا في الطريق بسبب الظلام الدامس وإنقسموا إلى أربعة ألوية لم تتمكن من الإتصال ببعضها فإضطروا إلى التراجع نحو المدينة مع شروق الشمس وبعد ذلك عاد كاكه بن كوتك وتوجه على رأس وفد من كبار الأشراف والأعيان إلى جيش المسلمين لمقابلة قائده محمد بن القاسم حيث أعلن طاعته وخضوعه لدولة الخلافة فأعطاه محمد بن القاسم الأمان مع عشيرته وأتباعه وإنضم إلى فيلقٍ من المسلمين الأشداء بقيادة عبد الملك بن قيس العبدى لملاحقة فلول العصاة الفارين والقضاء عليهم وقد نال كاكه بن كوتك من الغنائم التي أفضت عنها تلك الملاحقة الشئ الكثير وبعد ذلك توجه محمد بن القاسم نحو مدينة سيويس وقاتل حاميتها لمدة يومين حتى هزمهم وفتح المدينة فهرب منها بجهرا بن چندرا ومعه عدد من القادة العسكريين فإلتحق بعضهم بِحصن بهطلور الواقع بين سالوج وقندابيل بحوض نهر السند السفلي ومن هناك أرسلوا يطلبون الأمان من جيش المسلمين وأعلنوا ولاءهم وطاعتهم لدولة الخلافة وتوالى بعد ذلك إعلان العديد من القرى والبلدات الواقعة بوادى نهر السند السفلى خضوعها للفتح الجديد ولم يقف دون خضوع ما تبقى منها سوى وجود الراجا داهر متحصنا في قلعة برهمناباد كما كانت هناك أخبار تصل إلى سكان تلك المنطقة وشائعات ترد هنا وهناك عن الإستعدادات التي بدأ يتخذها ذلك الملك الهندوسي لمنازلة المسلمين في معركة مفتوحة لطردهم من تلك الديار .
|