بقلم المهندس/ طارق بدراوى
tbadrawy@yahoo.com
موسوعة كنوز “أم الدنيا"
ولنترك الحديث عن الفتن والثورات التي واجهت عبد الملك بن مروان وما تم في عهده من فتوحات ونتحدث عن ما قام به من أعمال في إدارة الدولة حيث نجد أن عبد الملك بن مروان قد إهتم إهتماما خاصا بشؤون الإدارة في الدولة وسار على نهج معاوية بن أبي سفيان في تطوير المؤسسات والإهتمام بالإصلاحات حيث قام عبد الملك بتطوير الجهاز الإدارى وتنشيطه وتعريب الإدارة والنقد المالي وهي ما عرفت في عهده بحركة التعريب وركز على تطوير ثلاثة أركان رئيسية في إدارة الدولة وهي دواوين الدولة والولاة والبريد وكان من الدواوين التي حظيت بإهتمام الخليفة عبد الملك بن مروان ديوان الرسائل وإزدهر بشكل كبير أثناء ولاية الحجاج بن يوسف للعراق نظرا للمستجدات السياسية والعسكرية ووجود الكثير من الثورات والخارجين عن الدولة فكان الخليفة يكتب للحجاج بن يوسف والذى كان هو الآخر يكتب إليه مما كان له دور كبير في إزدهار ديوان الرسائل والكتابة وكان الخليفة غالبا ما يلجأ إلى المكاتبات السياسية وكان يرسل التوجيهات والتعليمات الإدارية والعسكرية وقد وضحت هذه الرسائل جانب من سياسة الخليفة الإدارية فوقع يوما كتابا للحجاج كتب فيه جنبني دماء إبن عبد المطلب فليس فيها شفاء الطلب ولأهمية الديوان إستعان الخليفة عبد الملك بن مروان والحجاج بن يوسف بكتاب حاذقين يجمعون بين الخبرة الإدارية وكتابة الرسائل وإجادة أسلوب المخاطبة وكان من أشهر من إستخدمهم عبد الملك قبيصة بن ذؤيب وروح بن زنباع الجذامي كما قام عبد الملك ببناء الأميال في الطرقات كعلامات دلالة للطرق وتحديد مسافاتها وأنشأ طرقا عديدة أقيمت على طولها محطات للبريد والذى أصبح في عهده عصب الدولة لذلك أقام له المحطات وفتح له المسالك ونظم مواعيده أما ديوان العطاء فقد إرتبط بشكل كبير بالنواحي العسكرية والسياسية ففي عام 69 هجرية خرج عبد الملك لقتال مصعب بن الزبير في العراق فتخلف بعض أهل الشام عن الخروج معه فأخذ خمس أموالهم من عطاء عام 70 هجرية كما كان عبد الملك يضطر تحت ضغط الظروف إلى زيادة العطاء أو إدخال أناس جدد في الديوان كما فعل عندما كثرت هجمات المردة النصارى إذ أعلن قائده سحيم بن المهاجر على لسان الخليفة من أتانا من العبيد فهو حر ويثبت في الديوان كما إستخدم عبد الملك بن مروان سلاح زيادة العطاء ضد عبد الله بن الزبير حينما نادى الحجاج في جنده يا أهل الشام قاتلوا على أعطيات عبد الملك أما ديوان الجند فتطوره إرتبط لما بدأ الجند يتقاعسون عن الخروج لقتال الخوارج فعين عبد الملك الحجاج على العراق وأمره بأن يعيد تنظيم الجند وتنظيم العطاء فيه على أساس المقدرة والكفاءة وكان الحجاج يصرف العطاء بأكمله من ديوان الجند في أوقات الأزمات السياسية أو الإستعداد للقتال وكان من أشهر من تولى ديوان الجند والخراج سرجون بن منصور ومن بعده عين عبد الملك سليمان بن سعد الخشني وعلاوة علي ذلك فقد أصبح ديوان الخاتم في عهد عبد الملك بن مروان إدارة مستقلة كما أنشأ دارا للمحفوظات الحكومية في دمشق أما ديوان الطراز فأصله التطريز ثم أصبح يدل على ملابس الخليفة أو الأمير ورجال حاشيته ثم إتسع مدلول الطراز وأصبح يطلق على المصنع أو المكان الذى تصنع فيه المنسوجات وجدير بالذكر أنه في العصر الأموى إرتفع المستوى المعيشي للناس حيث زادت عنايتهم بالترف فأنشأ الأمويون عددا من المصانع عرفت بدور الطراز وأصبحت هذه الدور أساسا لما حدث من نهضة في صناعة النسيج .
وبالإضافة إلى ما سبق كان للخليفة عبد الملك بن مروان دور كبير في تعريب الدواوين وكان جل هدفه هو صبغ الإدارة المالية للدولة الإسلامية بالصبغة العربية الإسلامية مع تمكين المسلمين من الإشراف على الإدارة المالية إشرافًا تاما حيث كان سير عمل الدواوين في بداية عهد عبد الملك هو أن الإشراف على الدواوين يقع بين أيدي أصحاب البلاد الأصليين الذين يكتب كل منهم بلغته الأصلية وذلك بعد أن إضطر المسلمون إلى إبقاء كتاب الدواوين في وظائفهم بعد أن فتحت البلاد الجديدة نظرا لإنشغال الفاتحين بما هو أهم من التنظيم ورصد عبد الملك أموالا جزيلة وجوائز عظيمة لمن قاموا بترجمة الدواوين ونقل مصطلحاتهم إلى العربية في إطار صبغ الدولة بالصبغة العربية الإسلامية وكان من أهم عوامل تعريب الدواوين هو إتجاه عبد الملك لتعريب الإقتصاد حيث ضربت العملة الإسلامية الخالصة لتحل محل العملات الأجنبية من الدينار البيزنطي والدرهم الفارسي كما كان لتعريب الدواوين أثر مزدوج من الناحيتين السياسية والأدبية على الدولة الإسلامية فمن الناحية السياسية صبغت الدولة الإسلامية بالصبغة العربية وأصبحت اللغة العربية هي لغة الكتابة الرسمية للدواوين وهذا ما ساعد على تقلص نفوذ أهل الذمة والمسلمين من غير العرب بعد أن إنتقلت مناصب هؤلاء إلى المسلمين العرب كما أصبح بإمكان الخليفة الإطلاع على الدواوين والإشراف عليه أما من الناحية الأدبية فأصبحت اللغة العربية هي لغة التدوين فنقل إليها كثير من الإصطلاحات الفارسية والرومية وبدأت تظهر طبقة من الكتاب المسلمين منذ ذلك الوقت إذ كان للكاتب صالح بن عبد الرحمن مهمة كبيرة في ذلك حيث يقول عبد الحميد الكاتب للخليفة مروان بن محمد لله در صالح ما أعظم متنه على الكتاب كما أدى تعريب الدواوين لظهور حركة الترجمة من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية حيث كانت حركة تعريب الدواوين أول عملية ترجمة منظمة أدت إلى نقل الكثير من المصطلحات الأجنبية للغة العربية وظهر من إهتم بالترجمة مثل خالد بن يزيد بن معاوية فهو أول من أمر بنقل بعض كتب الكيمياء والفيزياء والطب من اللغة اليونانية إلى اللغة العربية وجدير بالذكر أن الديوان كلمة فارسية الأصل معناها سجل أو دفتر وأطلق إسم ديوان من باب المجاز على المكان الذى يحفظ فيه الديوان وكان الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو أول من دون للناس في الإسلام وكان الخليفة الأموى عبد الملك بن مروان هو أول من نقل الدواوين من اللغة الفارسية للغة العربية وتم تعريب الدواوين من اللغة الرومية ومن اللغة الفارسية وكان من حولها من اللغة الرومية للغة العربية الكاتب سليمان بن سعد الخشني وكان من حولها من اللغة الفارسية للغة العربية الكاتب صالح بن عبد الرحمن السجستاني وكانت الدواوين التي أمر عبد الملك بتعريبها هي ديوان الجند والخراج والرسائل والخاتم والبريد وقد تم تعريب ديوان الخراج في بلاد العراق عام 83 هجرية حيث عهد والي العراق الحجاج بن يوسف إلى صالح بن عبد الرحمن بنقله إلى اللغة العربية ثم توالت عمليات تعريب الدواوين بعد وفاة عبد الملك بن مروان فديوان مصر نقل للعربية عام 87 هجرية في عهد الوالي عبد الله بن عبد الملك بأمر من الخليفة الوليد بن عبد الملك وقام بعملية التعريب إبن يربوع الفزازي أما ديوان المشرق فتم تعريبه عام 124 هجرية في عهد الخليفة الأموى العاشر هشام بن عبد الملك بعد أن أمر يوسف بن عمر الثقفي واليه في خراسان نصر بن سيار الكناني بإنجاز ذلك الأمر وقام بعملية التعريب السحق بن طليق من بني نهشل وهي إحدى القبائل العربية الشهيرة في الجاهلية وفي الإسلام .
وعن الوضع الإقتصادى للدولة الإسلامية في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان فسنجد أن من أهم مصادر دخل الدولة الأموية الزكاة والخراج والجزية وخمس الغنائم وقد تفاوتت مساهمة القطاعات الإقتصادية في الدولة الأموية لكن كان إقتصاد الدولة يعتمد بصفة أساسية على قطاع الزراعة الذي إكتسب أهميته من إيراد الأراضي الخراجية والتي كان من أهمها أرض السواد بالعراق لما عرف عنها من خصوبة أرضها وغزارة إنتاجها حتى كان خراجها يشكل حوالي 26% من إجمالي خراج الدولة الأموية وقد تعرضت بعض هذه المصادر لإنحراف في طرق تحصيلها الشرعي من قبل القائمين عليها ومنها أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد صالح أهل نجران على 80 ألف درهم فلما تولى عثمان بن عفان الخلافة شكوا إليه قلة عددهم فخفضها إلى 72 ألف فلما تولى معاوية بن أبي سفيان شكوا إليه نفس الشكوى فخفضها إلى 64 ألف فلما تولى الحجاج العراق رفعها إلى 72 ألف درهم لإتهامه لهم بمعاونة خصوم الدولة ومنها أيضا ما قام به المهلب بن أبي صفرة عندما صالح أهل خوارزم على مايزيد على عشرين ألف ألف درهم أي عشرين مليون درهم فكان يأخذ بدل النقد سلعا عينية لعدم توفر السيولة النقدية لدى أهلها وكان يأخذ الشئ بنصف قيمته فبلغ ما أخذه منهم خمسين مليون درهم ولكن لم يكن لهذه الإنحرافات تأثير كبير في قوة الإقتصاد للدولة أما الخراج فقد تدنى كثيرا في عهد ولاية الحجاج على العراق وتتحدث الروايات التاريخية أن الخراج وصل في عهده بين مبلغ 18 ومبلغ 25 مليون درهم بعد أن كانت تصل في عهد معاوية بن أبي سفيان إلى 135 مليون درهم وقام عبد الملك بن مروان بمسح أرض الشام والجزيرة لتحديد قيمة خراجها وكان معياره في التقدير مدى البعد والقرب من الأسواق وكانت مسيرة اليوم واليومين فأكثر هي غاية البعد وما نقص عن اليوم فهو في القريب وبناءا على ذلك كان الخراج المفروض على الأراضي القريبة يزيد عن الأراضي البعيدة بمقدار الضعف أما نفقات الدولة فقد كان الحد الأقصى لرواتب الكتاب في عهد عبد الملك بن مروان هو 3600 درهم سنويا والحد الأدنى 720 درهم سنويا وكان مقدار متوسط الدخل المناسب للفرد في عصره وخلال عصور بقية الخلفاء الأمويين من بعده ما بين 250 إلى 300 درهم شهريا وفي عهد عبد الملك زادت عطاءات الجنود العرب حتى بلغت في العراق حدها الأدنى 1200 درهما وحدها الأوسط 1600 درهما وحدها الأعلى 1800 درهما وبخصوص تطور التجارة الداخلية في عهد عبد الملك فقد مر بمراحل ضعف بسبب كثرة الفتن والقلاقل والثورات لكن مع بداية عام 77 هجرية بدأت التجارة الداخلية في الإزدهار والنمو وذلك بسبب زيادة السيولة النقدية الداخلية وذلك بإصدار العملة الإسلامية الجديدة ولحدوث هدوء وإستقرار نسبي داخل الدولة الأموية بعد القضاء على الثورات الداخلية كما تمت عدة إصلاحات في هذه المرحلة تمثلت في توحيد الكيل والميزان من قبل الحجاج بإقليم العراق ووجود خدمات لراحة التجار كالفنادق والحمامات داخل الأسواق أما التجارة الخارجية في عهد عبد الملك بن مروان فقد كانت متعلقة بالدولة البيزنطية ومرت التجارة بين البلدين بمرحلتين من الإزدهار والنمو والتدهور والتراجع فكانت مرحلة النمو والإزدهار قد نشأت من كثرة الإضطرابات والحروب في المنطقة الشرقية للدولة الأموية مما خفض حجم المبادلات التجارية بينها وبين دول المشرق وبالتالي زادت أحجام المبادلات مع البيزنطيين وإعتماد الدولتين على بعضهما البعض فكان البيزنطيون يعتمدون كليا على أوراق البردى في حين كان الأمويون يعتمدون كليا على النقد الذهبي البيزنطي أما مرحلة تدهور وتراجع المبادلات التجارية بين البلدين فكانت بسبب تزايد إعتماد الدولة في تجارتها مع دول الشرق الأقصى عن طريق الخليج العربي بعد تطور صناعة السفن وقامت الدولة الأموية بتطوير نوعين من الخطوط التجارية لتعزيز تجارتها مع الشرق الأول عن طريق البر فبعد تحول بلاد الهند والسند لمظلة الدولة الإسلامية الأموية تحولت التجارة فيهما من تجارة خارجية إلى تجارة داخلية والثاني عن طريق البحر وذلك بعد تطور إنشاء السفن وبالإضافة إلي ذلك كان من أشهر الصناعات في عهد عبد الملك بن مروان صناعة المنسوجات فقد تطورت في عهده وأصبحت لها مصانع خاصة وسميت دور الطراز بالإضافة لتطور صناعة قطع الرخام وزخرفته كما تطورت صناعة البردى في مصر لأن أوراق البردى كانت تستخدم قبل ظهور صناعة الورق وكانت الدولة تشرف إشرافا مباشرا على الإنتاج كما توسعت الصناعات الحربية في عهد عبد الملك بن مروان بإفتتاح دار صناعة السفن في مدينة تونس وكانت نواة الدار ألف عامل متخصص في صناعة السفن تم نقلهم من دار الصناعة بمصر وقد تم وضع تنظيم لازم وطريقة إمداد الدار بالأخشاب من الغابات الأفريقية الداخلية وإختيار جماعات من البربر من سكان تلك المنطقة للقيام بهذه المهمة ثم قام والي تونس بتوسيع دار الصناعة فشق قناة بين الميناء والمدينة وشكلت ما يماثل اليوم أحواض بناء السفن أو الأحواض الجافة .
وكما عرب عبد الملك بن مروان الدواوين قام أيضا بتعريب النقود حيث كانت النقود المستعملة في عصر صدر الإسلام وبدايات الدولة الأموية هي النقود البيزنطية والساسانية وكانت النقود البيزنطية تتمثل بصفة عامة في الدينار وكان يصنع من الذهب وفي الفلس وهو عملة كانت تصنع من النحاس وكان على الوجه في كل منها رسم للإمبراطور البيزنطي وأما النقود الساسانية فكانت تتمثل في الدراخمة أو الدرهم وكان يصنع من الفضة وعندما إتسعت الفتوحات الإسلامية خلال القرنين الأول والثاني للهجرة بشكل كبير ولم تعد معه النقود العربية المستنسخة من النقود الفارسية والساسانية قادرة على مواكبة التطور والإتساع والنمو المطرد بدأ التفكير في سك النقود العربية الخالصة التي تبرز الشخصية الإسلامية وكان لقرار عبد الملك بتعريب العملة عدة أسباب لكن كان السبب المباشر هو ما عرف تاريخيا بإسم مشكلة القراطيس أى ورق البردى وهي أن مصانع البردى في مصر إعتادت أن تبعث بالورق إلى بيزنطة وقد كتبت عليه بسملة التثليث الآب والإبن والروح القدس باللغة اليونانية وإستمر هذا التقليد قائما بعد فتح مصر على يد المسلمين فلما تنبه عبد الملك إلى هذا الأمر طلب من عامله على مصر بأن يلغي هذا التقليد وأن يكتب على البردى قل هو اللهُ أحد وعندما علم الإمبراطور البيزنطي جستنيان الثاني بذلك غضب وبعث إلى الخليفة أكثر من مرة يطلب منه سحب قراره وعندما أدرك أن عبد الملك مصمم على موقفه هدده بأن يصدر دنانير تحمل نقشا مهينا للإسلام والمسلمين فإستشار الخليفة أصحابه وإتخذ في ضوء ذلك قراره التاريخي بسك الدينار الذهبي الإسلامي وتحريم تداول الدنانير البيزنطية تحريما كاملا وأصدر عام 76 هجرية دينارا عربيا متحررا من الصور الساسانية والبيزنطية ويحمل كتابات عربية بالخط الكوفي وكان وزن الدينار الإسلامي 4.25 جرام وقطره القائم 20 ملم وقطره بالعرض 19 ملم وسماكته 1 ملم ونسبة الذهب فيه كانت 96% ويظهر فيه الخليفة عبد الملك بن مروان واضعا يده على سيفه وتم كتابة لا إله إلا الله وحده لا شريك له على الوجه وكتابة سورة الإخلاص على الظهر وتم سكه في دمشق وقد أخذ الدينار الإسلامي بالإنتشار التدريجي وغدا العملة الذهبية الوحيدة في العالم الإسلامي من حدود الصين شرقا إلى الأندلس غربا ووضعت الدولة الإسلامية النظم والقواعد لدعمه وحمايته وكانت النقود التي سكها عبد الملك بن مروان حينئذ ثلاثة أنواع هي: الدينار وأجزاؤه كالنصف والثلث وكانت كلها من الذهب بينما كان الدرهم من الفضة والفلس من النحاس كما وحد عبد الملك وزن الدراهم فجعلها ستة دوانيق والدونق هو ما كان يزن ثماني حبات من الشعير لأن الدراهم السابقة التي كانت متداولة في الدولة الإسلامية قبل ذلك منها الكبير يساوي ثمانية دوانيق ومنها الصغير الذي يساوى أربعة دوانيق ويقول إبن الجزرى في أحداث عام 76 هجرية وفي هذه السنة ضرب الخليفة عبد الملك بن مروان الدنانير والدراهم وهو أول من أحدث ضربها في الإسلام فإنتفع الناس بذلك وكان سبب ضربها أنه كتب في صدور الكتب إلى الروم قل هو الله أحد وذكر النبي صلى الله عليه وسلم مع التاريخ فكتب إليه ملك الروم إنكم قد أحدثتم كذا وكذا فإتركوه وإلا أتاكم في دنانيرنا من ذكر نبيكم ما تكرهون فعظم ذلك عليه فأحضر خالد بن يزيد بن معاوية فإستشاره في هذا الأمر فقال له حرم دنانيرهم وإضرب للناس سكة فيها ذكر الله تعالى فضرب الدنانير والدراهم وكانت دراهم الأعاجم مختلفة كبارا وصغارا وكانوا يضربون مثقالا وهو وزن عشرين قيراطا ومنها وزن إثني عشر قيراطا ومنها وزن عشرة قراريط وهي أصناف المثاقيل فلما ضرب الدراهم في الإسلام أخذوا عشرين قيراطا وإثني عشر قيراطا وعشرة قراريط فوجدوا ذلك إثنين وأربعين قيراطا فضربوا على الثلث من ذلك وهو أربعة عشر قيراطا فكان وزن الدرهم العربي أربعة عشر قيراطا فصار وزن كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل .
وبخصوص القضاء في عهد عبد الملك بن مروان فكان إستمرارا لما كان عليه في زمن من سبقوه من الخلفاء حيث تخلى خلفاء بني أمية عن ممارسة القضاء كما كان في العهدين النبوي والراشدى وسعوا إلى الفصل بين السلطات إلا في ثلاثة أشياء أبقاها الأمويون هي تعيين القضاة بطريقة مباشرة في عاصمة الخلافة دمشق والإشراف على أعمال القضاة وأحكامهم ومتابعة شؤونهم الخاصة في التعيين والعزل والإشراف على إلتزام القضاة بالسلوك القضائي القويم ثم ممارسة الخلفاء الأمويين لقضاء المظالم وقضاء الحسبة وفي واقع الأمر فقد قام عبد الملك بإسهامات تنظيمية في النظام القضائي فهو أول من أفرد للمظالم يوما وأوجب أن تقرأ عهود القضاء أي أن تقرأ أوامر تعيينهم في المساجد الجامعة أولا ثم يتوجهون إلى دار الأمير ليتلى أمامه عهد توليهم القضاء وكان من أشهر قضاة عبد الملك أبو إدريس الخولاني وكان له المظالم حتى أعفى نفسه من منصبه ثم ولى عامر الأشعرى ثم عبد الله بن عامر اليحصبي ثم عبد الله بن قيس ثم سليمان المحاربي وكان مما ثبته عبد الملك في نظامه القضائي إقراره بقضاء من سبقه من القضاة والخلفاء وإن كان قد عاداهم وقد روى أن أبان بن عثمان والي المدينة أرسل لعبد الملك قائلا إن عبد الله بن الزبير قضى بين الناس بأقضية فما يرى أمير المؤمنين أمضيها أم أردها فكتب عبد الملك بن مروان إنا والله ما عبنا على إبن الزبير أقضيته ولكن عبنا عليه ماتناول في الأمر فإذا أتاك كتابي هذا فأنفذ أقضيته فإن ترداد الأقضية عندما يتعسر وقام عبد الملك أيضا بتحديد المهور وجعلها أربعمئة دينار حدا أعلى وكان يجلس في يوم محدد يتصفح فيه قصص المتظلمين وجدير بالذكر أن القضاء في عصر خلفا بني أمية قد تميز عامةً وعهد الخليفة عبد الملك بن مروان خاصةً بميزتين الأولى أن القاضي كان يحكم بما يوجه إليه إجتهاده إذ لم تكن هناك المذاهب الأربعة التي يعود إليها القضاة في إصدار أحكامهم فكان القاضي يرجع إلى الكتاب والسنة للفصل في الخصومات والثانية أن القضاء تميز بتدوين الأحكام التي يصدرها القاضي وهي ميزة لم تكن معروفة في عهد الخلفاء الراشدين ولعل السبب في ذلك هو عودة المتخاصمين لإستئناف الحكم بإعادة النظر في القضية أو إنكار أحد الخصمين للحكم الصادر كما تميز النظام القضائي والإداري في عهد عبد الملك بن مروان بوجود المحتسب على رأس جهة إدارية رقابية نظامية وهي إستمرارية لما كان عليه الوضع في عصر صدر الإسلام وكان المحتسب يتولى مهمة مراقبة الأسواق وكانت من واجباته في السوق مراقبة الأوزان والمكاييل والمقاييس نظرا لتعددها في الأقاليم الإسلامية وقد إجتهد الخليفة عبد الملك بن مروان في مسألة تطبيق الحدود فيروى أنه أراد أن يقطع يد طهمان بن عمرو لأنه قطع يد لص لكن تدخلت أم طهمان لدى الخليفة لكي يعفو عنه فدفعه ذلك للتراجع عن حكمه إكراما لأمه العجوز وبجانب جهاز القضاء إهتم عبد الملك بن مروان بجهاز الشرطة وعين على شرطته عبد الله بن هاني الأودى ثم إستبدله بيزيد بن كبشة السكسكي ثم عزل الكثير من هذا المنصب وكان آخر من تولى الشرطة في عهده كعب بن حامد العنسي ولم تكن مهمة الشرطة الإمساك بالجناة واللصوص فحسب بل كانت تمارس أيضا عملا آخر وهو عملية تنظيم وضبط نزول جيوش الخلافة ورحيلها أثناء الحملات العسكرية .
وفي مجال العمارة والبناء فعندما قتل جيش بني أمية عبد الله بن الزبير عام 73 هجرية كانت الكعبة قد تصدعت جدرانها نتيجة سقوط أحجار المجانيق عليها والتي نصبها الحجاج بن يوسف الثقفي علي الجبال المحيطة بمكة المكرمة وأمطر بها البلد الحرام فكتب الحجاج إلى الخليفة عبد الملك بن مروان يخبره بذلك ويعلمه بما فعل إبن الزبير في بناء الكعبة فكتب إليه عبد الملك أن يقر طول الكعبة على ما فعله إبن الزبير وأن يعيد حجر إسماعيل كما كان في عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم فنقض الحجاج الكعبة وأعاد بناءها كما طلب منه عبد الملك بن مروان وروى مسلم عن حديث عطاء قال فلما قتل إبن الزبير كتب الحجاج إلى عبد الملك بن مروان يخبره بذلك ويخبره أن إبن الزبير قد وضع البناء على أساس ما أفاد به العدول من أهل مكة المكرمة فكتب إليه عبد الملك إنا لسنا من تلطيخ إبن الزبير في شئ أما ما زاد في طوله فأقره وأما ما زاد فيه من حجر إسماعيل فرده إلى بنائه وسد الباب الذي فتحه فنقضه وأعاده إلى بنائه ثم إن عبد الملك صح له حديث عائشة فندم على ما فعل فقد ورد في صحيح مسلم عن أبي قزعة أن عبد الملك بن مروان بينما هو يطوف بالبيت الحرام إذ قال قاتل الله إبن الزبير حيث يكذب على أم المؤمنين يقول سمعتها تقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عائشة لولا حدثان قومك بالكفر لنقضت البيت حتى أزيد فيه من حجر إسماعيل فإن قومك قصروا في البناء فقال الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة لا تقل هذا يا أمير المؤمنين فأنا سمعت أم المؤمنين تتحدث بهذا قال لو كنت سمعته قبل أن أهدمه لتركته على ما بنى إبن الزبير وبخلاف إعادة بناء الكعبة المشرفة قام عبد الملك بن مروان ببناء مسجد قبة الصخرة في ساحة المسجد الأقصى المبارك حيث بدأ العمل في البناء عام 66 هجرية الموافق عام 685م وتم إنتهاء البناء عام 72 هجرية الموافق عام 691م وقد أشرف على بنائها المهندسان العربيان رجاء بن حيوة وهو من بيسان بفلسطين وكان المسؤول عن التصميم والشكل العام للبناء ويزيد بن سلام مولى عبد الملك بن مروان وهو من القدس وكان هو المسؤول أيضا عن النواحي العملية في هندسة العمارة وفكر عبد الملك بن مروان أن يغطي الصخرة المقدسة بنوع من البناء يتناسب وقباب المدينة المرتفعة وقيل إن عبد الملك بن مروان حين فكر في بناء قبة عالية تغطي الصخرة التي عرج منها النبي صلى الله عليه وسلم إلي السماء ليلة الإسراء والمعراج رصد لبنائها خراج مصر لمدة سبع سنين وحين أنفقت هذه الأموال على البناء بقي منها مائة ألف دينار فأمر عبد الملك بن مراون بها جائزة للرجلين المشرفين على البناء وهما رجاء بن حيوة الكندي ويزيد بن سلام كما ذكرنا في السطور السابقة فرفضا قائلين نحن أولى أن نزيد من حلي نسائنا فضلا عن أموالنا فإصرفه في أحب الأشياء إليك فأمر عبد الملك بأن يصنع منها صفائح ذهبية تكسى بها القبة من الخارج وقد ذكر بعض المؤرخين أن عبد الملك لما أمر ببناء القبة أقاموا له قبة صغيرة لطيفة كنموذج لقبة الصخرة ولها أحد عشر ضلعا من الخارج وستة أضلاع تحمي القبة الصغيرة والمعروفة بقبة السلسلة قرب قبة الصخرة فلما إنتهت زارها وقال إبنوا قبة أكبر من هذه بإثني عشر ضعفا وإنقصوا من الأضلاع فتم تجهيز وإعداد الشكل لقبة الصخرة بأضلاعها الثمانية ثم بدأ العمل بها وقد كانت قبة السلسلة بعد بنائها هي المكان الرئيسي للإشراف على بناء قبة الصخرة والتي إتخذ تخطيطها شكلا مثمنا خارجيا به أربعة مداخل محورية يتقدم كل منها سقيفة محمولة على أعمدة يليها مثمن داخلي مكون من دعائم رئيسية وبين كل دعامتين عمودان يكونان ثلاثة عقود تكون في مجموعها أربعة وعشرين عقدا داخل التثمينة ودائرة من الأعمدة والأكتاف مكونة من أربعة دعائم كبيرة بين كل دعامة وأخرى ثلاثة أعمدة تحمل ستة عشر عقدا مدببا وقد صنعت القبة من الخشب وغطيت من الخارج بطبقة من الرصاص ويوجد برقبنها 16 نافذة وقد أحاطت الدائرة بالصخرة حتى يمكن الطواف حولها ويمكننا القول بأن بالجملة كانت قبة صخرة بيت المقدس لما إنتهى بناؤها لم يكن لها نظير على وجه الأرض بهجة ومنظرا في غاية الروعة وقد كان فيها من أنواع باهرة من الفصوص والجواهر والفسيفساء وغير ذلك الشئ الكثير .
وتم أيضا في عهد عبد الملك بن مروان بناء مدينة واسط بوسط بلاد العراق فعندما عين عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف الثقفي أميرا علي بلاد العراق عام 75 هجرية الموافق عام 694م إضطر الحجاج للتنقل كثيرا بين المصرين الكوفة والبصرة حاضرتي بلاد العراق حسبما تقتضيه الظروف الحربية والسياسية آنذاك وكان ذلك أحد الأسباب التي دعت الحجاج إلى التفكير في بناء مدينة تكون مقرا لإدارة ولايته الواسعة يطمئن بها على نفسه وأعوانه ويجمع فيها العناصر الموالية له وفي مقدمتها العناصر الشامية ليتمكن من إخماد كل ثورة تقوم عليه في المستقبل وقد ذكر المؤرخ والمحدث أبو الحسن بحشل الواسطي سبب بناء المدينة بقوله ولي عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف العراق فأقام بها سنة فقال أتخذ مدينة بين المصرين أكون بالقرب منهما أخاف أن يحدث في أحد المصرين حدث وأنا في المصر الآخر فمر بقرية تقع علي نهر دجلة يقال لها واسط القصب فأعجبته فقال هذا وسط المصرين وذكر الطبرى سببا آخر لبناء مدينة واسط يتمثل في رغبة الحجاج تجنب الإحتكاك بين جند الشام وسكان المدن العراقية البصرة والكوفة وقد جاء إختيار موقع مدينة واسط بعد بحث وتدقيق واسعين في الأرض الواقعة بين المصرين فهي تقع على نهر دجلة وتتوسط مدن الكوفة والبصرة والمدائن والأهواز على طرق التجارة النهرية والطرق البرية وذكر ياقوت الحموى إن الحجاج قال لرجل ممن يثق بعقله إمض وإبتغ لي موضعا في كرش من الأرض أبني فيها مدينة وليكن على نهر جار فأقبل ملتمسا ذلك حتى سار إلى قرية فوق واسط بقليل يقال لها واسط القصب فبات بها وإستطاب ليلها وإستعذب أنهارها وإستمرأ طعامها وشرابها فكتب إلى الحجاج بالخبر ومدح له الموضع فكتب إليه إشتر لي موضعا أبني فيه مدينة وبالفعل إشترى الحجاج موقع المدينة من صاحبها وهو أحد دهاقين الفرس من داوردان بعشرة آلاف درهم ووعد بأن يرعى جواره ويقضي ذمامه ويحسن إليه ويعود سبب تسمية هذه المدينة بهذا الإسم لأن الموضع الذى وقع عليه إختيار الحجاج لبنائها كان يسمى واسط القصب كما ذكرنا في السطور السابقة فسميت نسبة لذلك وهذا مايذكره إبن الأثير في كتابه الكامل في التاريخ كما ذكر أن أرضها كانت أرض قصب لذلك سميت واسط القصب وقد إختلفت المصادر في تحديد سنة بناء هذه المدينة إلا أن معظمها يجمع علي أن عملية البناء تمت بين عام 83 هجرية الموافق عام 702م وعام 86 هجرية الموافق عام 705م أى في أواخر أيام حكم عبد الملك بن مروان الذي إستأذنه الحجاج في إنشاء هذه المدينة ويرجح بعض الباحثين بناء مدينة واسط عام 83 هجرية الموافق عام 702م معززين رأيهم بما وصلهم من مسكوكات فضية مضروبة بمدينة واسط حيث تعد هذه المسكوكات وثائق أساسية ويحتفظ المتحف العراقي بدرهم فضي مضروب بواسط في العام المذكور كما أنه يحتفظ بدرهم آخر ضرب عام 84 هجرية وهذا أحد أدلة أن بناء المدينة كان علي الأرجح عام 83 هجرية وكانت هي خامس مدينة تمصرت في الإسلام بعد البصرة والكوفة بالعراق والفسطاط بمصر والقيروان بتونس وثالث مدينة في بلاد العراق بعد البصرة والكوفة وكانت واسط تقع على الجانب الغربي لنهر دجلة ويقابلها علي الجانب الشرقي مدينة فارسية قديمة تسمى كسكر وقد ربط المدينتين جسر على كل جانب من جانبي النهر وكان يحيط بالمدينة سور وخندقان وبنى الحجاج في داخل المدينة قصره الذى إشتهر بقبته الخضراء العالية وأقيم هذا القصر فوق مساحة من الأرض مربعة الشكل أبعادها 400 ذراع في 400 ذراع وكان له أربعة أبواب كل منها يفضي إلى طريق عرضه 80 ذراعا وإلى جانب القصر بني المسجد الجامع وكانت مساحته 200 ذراع في 200 ذراع وجعل على مقربة من القصر سوقا كبيرة وكان في الجانب الغربي سجن الحجاج المعروف بالديماس وقد بلغت تكاليف بناء مدينة واسط مبالغ كبيرة فقد ذكر المؤرخ بحشل إن ما أنفقه الحجاج قد بلغ خراج العراق لمدة خمس سنوات وإن كان التقدير مبالغا فيه إلا أنه يدل على أن بناء مدينة واسط قد تكلف أموالا كثيرة وبعد أن سكن الحجاج مدينته الجديدة أسكن إلى جانب جنده الشامي مجموعات أخرى من السكان العرب من وجوه أهل البصرة والكوفة وأصبحت واسط في عهد عبد الملك والحجاج مركزا لإدارة العراق والمشرق الإسلامي وقام الحجاج وخلفاؤه من بعده بإنشاء دار لضرب المسكوكات والنقود بها وظلت المدينة في توسع وإزدهار حتى هجرت وإنتهت بسبب تعرضها للغارات الخارجية وتحول مجرى نهر دجلة الغربي عنها إلى مجراه الشرقي الحالي في القرن الحادي عشر الهجرى الموافق للقرن السابع عشر الميلادى حيث هجرها سكانها وتحولت بعد ذلك إلى أنقاض وخرائب .
وأما عن مجال العلم والأدب فقد كان عبد الملك بن مروان عاقلا لبيبا وعالما أديبا وكان خطيبا معدودا في بني أمية وكان خلفاء الدولة الأموية قد عرفوا عموما بالنقد الأدبي لكن كان من أبرزهم عبد الملك بن مروان الذى كان ذا خبرة ودراية بالنقد إلي جانب أنه كان شاعرا وخطيبا مفوها متمكن وكان من عادة عبد الملك أن يحمل خيزرانة في يده وكان يقول لو ألقيت الخيزرانة من يدى لذهب نصف كلامي وكان عبد الملك بن مروان من أكثر الناس علما وأبرعهم أدبا يطارح جلساءه حديث الشعر ويجول معهم في نقد الأبيات والقصائد الشعرية وقام برد الشاعر الأخطل إلى البلاط الأموى وجعله شاعر بني أمية فأدى عمله هذا إلى إتساع فن النقائض أو الهجاء القبلي بين الشعراء عامة والأخطل والفرزدق وجرير خاصة وفن النقائض فن قديم وجد منذ العصر الجاهلي وترعرع حتى وصل إلى عهد بني أمية وقد توافرت في هذا العهد الأسباب السياسية والإجتماعية والعقلية لرعاية هذا الفن والتي جذبت إليه الشعراء وكان عهد عبد الملك بن مروان يمثل الحاضنة الشرعية لهذا الفن وكخطيب مفوه كان من أمثلة خطابة عبد الملك أنه قام مرة في مكة فقال أيها الناس إني واللّه ما أنا بالخليفة المستضعف ولا بالخليفة المداهن ولا بالخليفة المأفون فمن قال لنا برأسه كذا قلنا له بسيفنا كذا وبعد مقتل مصعب بن الزبير دخل عبد الملك بن مروان الكوفة ثم خطب في أهلها فقال أيها الناس إن الحرب صعبة مرة وإن السلم أمن ومسرة ولقد زبنتنا الحرب وزبناها فعرفناها وألفناها فنحن بنوها وهي أمنا أيها الناس ألا فإستقيموا على سبل الهدى ودعوا الأهواء المردية وتجنبوا فراق جماعات المسلمين ولا تكلفونا أعمال المهاجرين والأنصار وأنتم لا تعملون أعمالهم ولا أظنكم تزدادون بعد الموعظة إلا شرا ولن نزداد بعد الإعذار إليكم والحجة عليكم إلا عقوبة فمن شاء أن يعود بعد لمثلها فليعد وخطب يوما خطبة فيها زهد فقال أيها الناس إعملوا للّه رغبة ورهبة فإنكم نبات نعمته وحصيد نقمته ولا تغرس لكم الآمال إلا ما تجتنيه الآجال وأقلوا الرغبة في ما يورث العطب فكل ما تزرعه العاجلة تقلعه الآجلة وإحذروا الجديدين فإنهما يكران عليكم إن عقبى من بقي لحوق بمن مضى وعلى أثر من سلف يمضي من خلف فتزودوا فإن خير الزاد التقوى ومما لا شك فيه كانت بادرة عبد الملك بن مروان بتعريب الدواوين هي النواة التي ساعدت على التوسع في حركة الترجمة والتي بلغت أوجها في العصر العباسي حتى وإن كانت حركة النقل والترجمة في العصر الأموي كانت قائمة على نطاق ضيق وكانت تعتمد على بعض الأفراد من الخاصة أو بعض الأطباء من الأعاجم وعلاوة علي ذلك كان لعبد الملك بن مروان دور كبير في تعميم الإعجام في المصاحف فعندما كتبت المصاحف في عهد عثمان بن عفان كتبت خالية من النقط والتشكيل حتى تحتمل قراءتها الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن الكريم وعندما أرسلها إلى الأمصار رضي بها الجميع وإستمروا على ذلك أكثر من أربعين سنة وخلال هذه الفترة توسعت الفتوح ودخلت أمم كثيرة لا تتكلم العربية في الإسلام فتفشت العجمة بين الناس وكثر اللحن وكان أول من إلتفت إلى نقط المصحف الشريف أبو الأسود الدؤلي وقال لكاتبه حين بدأ بإعراب القرآن الكريم إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فإنقط نقطة فوقه على أعلاه وإن ضممتُ فمي فإنقط نقطة بين يدي الحرف وإن كسرت فإجعل النقطة نقطتين وقيل إنه جعل للفتح نقطة فوق الحرف وللضم نقطة إلى جانبه وللكسر نقطة أسفله وللتنوين نقطتين أما نقط الإعجام فهو ما يدل على ذات الحرف ويميز المتشابه منه لمنع العجمة وقد دعت الحاجة إليه عندما كثر الداخلون في الإسلام من الأعاجم وكثر التصحيف في لغة العرب وقد إختلفت الآراء في أول من أخذ بهذه النقط وأرجحها في ذلك ما ذهب إلى أن أول من قام به هما نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر وذلك عندما أمر الخليفة الأموى عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق أن يضع علاجًا لمشكلة تفشي العجمة وكثرة التصحيف فإختار كلا من نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر لهذه المهمة وبعد البحث والتروى قررا إحياء نقط الإعجام وقررا الأخذ بالإهمال والإعجام مثلا الدال والذال تهمل الأولى وتعجم الثانية بنقطة واحدة فوقية وكذلك الراء والزاى والصاد والضاد والطاء والظاء والعين والغين أما السين والشين فأهملت الأولى وأعجمت الثانية بثلاث نقط فوقية لأنها ثلاث أسنان أما الباء والتاء والثاء والنون والياء فأعجمت كلها والجيم والحاء والخاء أعجمت الجيم والخاء وأهملت الحاء أما الفاء والقاف فإن القياس أن تهمل الأولى وتعجم الثانية إلا أن المشارقة نقطوا الفاء بواحدة فوقية والقاف بإثنتين فوقيتين أيضا أما المغاربة فذهبوا إلى نقط الفاء بواحدة تحتية والقاف بواحدة فوقية وكتب هذا النوع من النقط بلون مداد المصحف حتى لا يشتبه بنقط الإعراب وإستمر الوضع على ذلك حتى نهاية الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية حيث قام الخليل بن أحمد الفراهيدى بالإبقاء على الإعجام وتقنين التشكيل فوضع ثماني علامات الفتحة والضمة والكسرة والسكون والشدة والمدة والصلة والهمزة .
|