بقلم المهندس/ طارق بدراوى
tbadrawy@yahoo.com
موسوعة كنوز “أم الدنيا"
وكانت ثالث المدن التي تم بناؤها في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان هي مدينة تونس والتي قام ببنائها حسان بن النعمان الغساني عام 82 هجرية لتكون قاعدة عسكرية بحرية ولتحول دون تكرار البيزنطيين الهجوم على قرطاجنة الذى حدث عام 78 هجرية وبذلك يتم وضع حد لإعتداءات الروم والمتمثلة بإغاراتهم على ساحل أفريقية وكان الحل المتاح أمام المسلمين هو إيجاد قاعدة بحرية وصناعة بحرية قادرة على إنشاء أسطول مهمته صد العدوان الرومي وقد تم بناء مدينة تونس على أنقاض قرية قديمة عرفت بإسم ترشيش القديمة وقد إختط حسان تونس غربي البحر المتوسط بنحو عشرة أميال فقام بحفر قناة تصل المدينة بالبحر لتكون ميناءا بحريا ومركزا للأسطول الإسلامي بعد أن أنشأ فيها صناعة المراكب وإستعان بخبراء في هذه الصناعة زوده بها والي مصر عبد العزيز بن مروان بناءا على توجيه شقيقه الخليفة عبد الملك حيث أوعز عبد الملك بن مروان لشقيقه والي مصر عبد العزيز بن مروان لإرسال ألفي قبطي من المهرة الصناع لإقامة صناعة مراكب بحرية وسعى حسان عند بنائه المدينة إلى إيجاد حياة إجتماعية قادرة على خدمة الأفراد فأقام في المدينة المسجد الجامع ودار الإمارة وثكنات للجند للمرابطة وأخذ يقوم بتدوين الدواوين وتنظيم الخراج والعناية بالدعوة الإسلامية بين البربر فقام بإرسال الفقهاء ليعلموهم اللغة العربية والدين الإسلامي وصارت المدينة معسكرا حربيا ومركز إستيطان وإدارة لدعم الفتوحات وخلال عهد الخلافة العباسية إزدهرت مدينة تونس وكانت عاصمة ومركزا لعدة دول إسلامية مستقلة تعاقبت على حكم المنطقة من أهمها الأغالبة والفاطميون والمرابطون والموحدون ثم أصبحت عاصمة للدولة الحفصية في القرن السابع الهجرى وكانت أيضا مركزا تجاريا مهما في ساحل البحر الأبيض المتوسط وفي عام 1591م حكم العثمانيون تونس ثم حكمها البايات بطريقة شبه مستقلة عن العثمانيين وفي تلك الفترة إزدهرت المدينة وشكلت ممرا تجاريا كبيرا ومركزا للتحكم في الملاحة البحرية وحماية سواحل شمال القارة الأفريقية التي بيد المسلمين أما عن قرطاجنة التي كان قد إستعادها الروم عام 78 هجرية بعد حملة حسان بن النعمان الأولى فقد سار إليها حسان وطرد منها الحامية الرومية التي إستقرت فيها بقيادة البطريق يوحنا وإستولى على المدينة عنوة وقام بتخريبها حتى صارت كأمس الغابر كما عبر المؤرخ إبن عذارى ولم يعد لها بعد ذلك أثر يذكر حتى إحتل الفرنسيون تونس فأحيوها من جديد في صورة ضاحية لمدينة تونس الحالية وعرفت بإسمها الفرنسي وهو قرطاج وقد أصبحت الآن جزءا من مدينة تونس العاصمة .
والأن نأتي إلي خاتمة مقالنا عن الخليفة الأموى الخامس عبد الملك بن مروان بقصة ولاية العهد ثم وفاته فبعد أن إستقرت الأوضاع السياسية له وتم الإجماع على بيعته في الدولة الإسلامية سعى عبد الملك إلى خلع أخيه عبد العزيز بن مروان من ولاية العهد لتعيين إبنه الأكبر الوليد بن عبد الملك مكانه وقد تحدثت المصادر التاريخية عن عزم الخليفة عبد الملك بن مروان على نقض بيعة أبيه مروان بن الحكم لأخيه عبد العزيز وأن عبد الملك بن مروان كان يلقى الدعم والتأييد لهذه الخطوة من الشخصيات المقربة لديه أمثال روح بن زنباع والحجاج بن يوسف الثقفي اللذان كانا يشجعاه علي إتخاذ هذا القرار ويقول المؤرخ عز الدين بن الأثير كان عبد الملك بن مروان قد أراد أن يخلع أخاه عبد العزيز بن مروان بن الحكم من ولاية العهد ويبايع لإبنه الأكبر الوليد بن عبد الملك فنهاه عن ذلك التابعي قبيصة بن ذوئيب وقال لا تفعل فإنك تبعث على نفسك صوتا فدخل عليه روح بن زنباع وكان أجل الناس عند عبد الملك وقال يا أمير المؤمنين لو خلعته ما إنتطح فيه عنزان وأنا أول من يجيبك إلى ذلك قال نصبح إن شاء الله وقيل أيضا إن الحجاج كتب إلى عبد الملك بن مروان يزين له بيعة الوليد وأوفد في ذلك وفدا فلما أراد عبد الملك بن مروان خلع أخيه عبد العزيز والبيعة للوليد كتب إلى عبد العزيز إن رأيت أن يصير هذا الأمر لإبن أخيك فأبى فكتب إليه ليجعل الأمر له ويجعله له أيضا من بعده فكتب إليه عبد العزيز إني أرى في إبني أبي بكر ما ترى في الوليد فكتب إليه عبد الملك ليحمل خراج مصر فأجابه عبد العزيز إني وإياك يا أمير المؤمنين قد بلغنا سنا لم يبلغها أحد من أهل بيتك إلا كان بقاؤه قليلا وإنا لا ندرى أينا يأتيه الموت أولا فإن رأيت أن لا تفسد علي بقية عمرى فإفعل فرق له عبد الملك وتركه وقال للوليد وسليمان إن يرد الله أن يعطيكما الخلافة لا يقدر أحد من العباد على رد ذلك فقال عبد الملك حيث رده عبد العزيز اللهم إنه قطعني فإقطعه وقد ساهمت وفاة عبد العزيز بن مروان عام 86 هجرية قبل مدة قصيرة من وفاة أخيه عبد الملك بن مروان في فتح الطريق أمام هذا الأخير لتحقيق أهدافه وسهلت عليه مهمته فلجأ فور وفاة عبد العزيز بن مروان إلى أخذ البيعة لولديه الوليد بن عبد الملك وسليمان بن عبد الملك بولاية العهد من بعده وبذلك يكون عبد الملك بن مروان قد حصر الحكم في نسله وبالفعل كان جميع الخلفاء الذين جاءوا من بعده من نسله سواء من أبنائه أو من أحفاده فيما عدا الخليفة الأموى الثامن والملقب بالخليفة الراشد الخامس إبن أخيه عمر بن عبد العزيز بن مروان وقد تقلد الخلافة من بعده إبنان آخران من أبنائه غير الوليد وسليمان وهما يزيد وهشام ولذلك فقد أطلق عليه لقب أبو الملوك وقال المؤرخ عز الدين بن الأثير فلما مات عبد العزيز بن مروان قال أهل الشام رد على أمير المؤمنين أمره فلما أتى خبر موته إلى الخليفة عبد الملك بن مروان أمر الناس بالبيعة لإبنيه الوليد بن عبد الملك وسليمان بن عبد الملك فبايعوا وكتب بالبيعة لهما إلى البلدان وكان على المدينة المنورة هشام بن إسماعيل فدعا الناس إلى البيعة فأجابوا إلا التابعي سعيد بن المسيب فإنه أبى وقال لا أبايع ابدا وعبد الملك بن مروان حي فضربه هشام ضربا مبرحا وطاف به بالمدينة حتي وصل الموضع التي يقتلون ويصلبون عندها ثم ردوه وحبسوه وفي الأيام الأخيرة من حياة عبد الملك بن مروان داهمه المرض ودخل عليه شهر رمضان عام 86 هجرية وأحس بدنو أجله فقال ولدت في رمضان وفطمت في رمضان وختمت القرآن الكريم في رمضان وبلغت الحلم في رمضان ووليت في رمضان وأتتني الخلافة في رمضان وأخشى أن أموت أيضا في رمضان .
ولما حضرت عبد الملك بن مروان الوفاة وكان قد دخل شهر شوال عام 86 هجرية جمع ولده وفيهم مسلمة بن عبد الملك وكان سيدهم وقال لهم أوصيكم بتقوى الله تعالى فإنها عصمة باقية وجنة واقية وهي أحصن كهف وأزين حلية وليعطف الكبير منكم على الصغير وليعرف الصغير منكم حق الكبير مع سلامة الصدور والأخذ بجميل الأمور وإياكم والفرقة والخلاف فبهما هلك الأولون وذل ذوو العزة المعظمون إنظروا مسلمة وخذوا برأيه فإنه نابكم الذى عنه تفترون ومجنكم الذى به تستجنون وأكرموا الحجاج فإنه وطأ لكم المنابر وأثبت لكم الملك وكونوا بني أم بررة وإلا دبت بينكم العقارب وكونوا في الحرب أحرارا وللمعروف منارا ولينوا في شدة وضعوا الذخائر عند ذوى الأحساب والألباب فإنه أصون لأحسابهم وأشكر لما يسدى إليهم ثم أقبل على إبنه الوليد فقال لا ألفينك إذا مت تجلس تعصر عينيك وتحن حنين الأمة ولكن شمر وإئتزر وإلبس جلدة نمر ودلني في حفرتي وخلني وشأني وعليك وشأنك ثم إدع الناس إلى البيعة فمن قال هكذا فقل بالسيف هكذا ثم أرسل إلى عبد الله بن يزيد بن معاوية وخالد بن أسيد قائلا لهما هل تدريان لم بعثت إليكما فقالا نعم لترينا أثر عافية الله تعالى إياك فقال لا ولكن قد حضر من الأمر ما تريان فهل في أنفسكما من بيعة الوليد شئ فقالا لا والله ما نرى أحدا أحق بها منه بعدك يا أمير المؤمنين قال أولى لكما أما والله ولو غير ذلك قلتما لضربت الذى فيه أعينكما ويروى أنه لما إشتد على عبد الملك بن مروان مرضه وقاربته الوفاة قال أصعدوني على شرف فأصعدوه إلى موضع عال فجعل يتنسم الهواء ثم قال يا دنيا ما أطيبك وإن طويلك لقصير وإن كثيرك لحقير وإن كنا منك لفي غرور وأخيرا كانت وفاة عبد الملك بن مروان يوم الخميس في منتصف شهر شوال عام 86 هجرية الموافق يوم 9 أكتوبر عام 705م بدمشق عن عمر بلغ الستين عاما وكانت مدة خلافته 21 عاما وشهرا ونصف من مستهل رمضان عام 65 هجرية إلى منتصف شهر شوال عام 86 هجرية وكانت خلافته منذ قتل عبد الله بن الزبير وإجتماع الكلمة حوله مدة 13 عاما وخمسة أشهر وفي النهاية نقول كلمة أخيرة عن عبد الملك بن مروان وهي أنه يعتبر من أعظم خلفاء الإسلام والعرب وهو بكل تأكيد كان هو المؤسس الثاني للدولة الأموية والتي كادت أن تسقط قبل أن يتولى الخلافة كما أنه يعد المؤسس الحقيقي للنظام الإداري والسياسي الإسلامي وقد إقتدى في تنظيم الدولة بأمير المؤمنين الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب وتميز عهده بالكثير من الإنجازات المتعلقة بالحكم والقضاء على الفتن وبناء الإقتصاد والتعريب وتوسيع العالم الإسلامي كما رأينا من خلال هذا المقال وعلي الرغم من الأحداث الجسام التي واجهها هذا الخليفة العظيم حيث أنه تولى الخلافة وقد عادت العصبية القبلية تمزق وحدة الأمة الإسلامية والمطامع الشخصية التي إستغلت الخلافات المذهبية والعواطف الشعبية وفرقت المسلمين إلي فئات وأحزاب متنافرة تطالب كلها بالحكم والخلافة لأنها ترى أنها أحق من الأمويين بها إلا أنه لم تربكه هذه الأحداث فأبعاد الحكم والسيطرة على الدولة كانت واضحة في ذهنه ومن ثم إستطاع بثاقب فكره وبعد نظره أن يرسم لنفسه أبعادا رئيسية ترتكز عليها الدولة العربية الإسلامية لا تكون متماسكة إلا بها أولها بعد سياسي حربي دعامته الجيش الذي كان عليه أن يتحرك بالكم العددى والإستعدادات الملائمة بحسب ما تمليه سياسة الدولة للحفاظ على كيان الأمة ووحدتها ولذلك نجد أنه تمكن بمقدرته وفطنته ومهارة قواده أن يقبض على زمام الموقف وأن يخمد تلك الحركات الداخلية الخطيرة لا على ملكه وملك بني أمية كما يقول كثير من المؤرخين وإنما على وحدة الأمة الإسلامية وكيان الدولة الواحدة كما أنه إستطاع كذلك أن يجعل الدولة تقف وحدة متراصة في وجه الحركات الخارجية التي إستغلت إنشغالاته العديدة لتمارس ضغوطها الحربية على غرار البيزنطيين والجراجمة أو المردة الذين قاموا بتحرك مسلح مؤيد من إمبراطور بيزنطة فهادنهم بعض الوقت وعندما صفا له الجو بعث إليهم بجيشه ففتك بهم .
|