بقلم المهندس/ طارق بدراوى
tbadrawy@yahoo.com
موسوعة كنوز “أم الدنيا"
حسان بن النعمان بن عدى بن بكر بن مغيث بن عمرو بن مزيقيا بن عامر بن الأزد الغساني والملقب بالشيخ الأمين نظرا لمكانته المرموقة بين المسلمين علاوة على أنه من كبار التابعين وأحد قادة الفتوحات في أفريقية وبلاد المغرب العربي حيث تعاقب على قيادة حركة الفتح الإسلامي في الشمال الأفريقي بداية من عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومرورا بعهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه وصولا لعهد الخليفة الأموى الخامس عبد الملك بن مروان أبطال عديدون كانوا على أعلى مستوى من الإيمان والتقوى والورع وبراعة وحسن القيادة والفكر الإستراتيجي الفذ كان أولهم الصحابي داهية الحرب عمرو بن العاص رضي الله عنه مرورا بعبد الله بن سعد بن أبي السرح وتبعه التابعي معاوية بن حديج النجيبي فعقبة بن نافع الفهرى فأبي المهاجر بن دينار فزهير بن قيس البلوى وكان لكل هؤلاء الأبطال أياد ناصعة في نشر الإسلام بالشمال الأفريقي لذلك فلا عجب أن إستشهد معظمهم في ساحات الجهاد المقدس وأخرجت لنا أمة الإسلام العديد من الأبطال واحدا وراء الآخر وكلما مضى بطل خرج بطل آخر وكان هذا ما حدث بالفعل على الجبهة المغربية ويعود أصل حسان بن النعمان الغساني إلي الغساسنة الذين كانوا يسكنون جنوب الشام في الأردن حاليا وكانوا موالين للروم البيزنطيين قبل الإسلام وكان مولد حسان بن النعمان ببلاد الشام في بيت عريق في القيادة والحكم مما رشحه دائما للمهام الجسيمة وجعله دائما مطاعا مهابا من الناس وهي صفات أساسيةٌ فيمن يتولى أى قيادة وغير معلوم لدينا تاريخ ميلاده بالتحديد وعلي الأرجح كان ميلاده في أوائل القرن السابع الميلادى وأسلم عند الفتح الإسلامي للشام مع أهله وحفظ القرآن الكريم والسنة النبوية وأتقن العلوم الفقهية وروى عن الخليفة عمر بن الخطاب وكان المسلمون قد إنشغلوا بأحداث داخلية خطيرة منذ مقتل الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه كان من نتائجها حدوث تأثيرات سلبية عنيفة علي إستقرار المسلمين مما أثر علي حركة الفتوحات الإسلامية في جبهة الشمال الأفريقي والجبهات الأخرى في المشرق الإسلامي وجبهة البيزنطيين شمالي الشام حيث توقفت تماما إلا من بعض الفتوحات المحدودة في عهد الخليفة الأموى الأول معاوية بن أبي سفيان فلما إستقرتِ الأوضاع وهدأت الثورات والإضطرابات والفتن التي كانت قد عمت الدولة الإسلامية وإستقر في الخلافة الخليفة الأموى الخامس عبد الملك بن مروان جعل أولى مهامه ندب الناس للجهاد من أجل مواصلة الفتوحات الإسلامية بالجبهات المختلفة ومنها بالطبع جبهة الشمال الأفريقي حيث خشي من إنعكاس نتائج التحالف البيزنطي البربرى ضد الوجود الإسلامي في الشمال الأفريقي وما يمكن أن يسببه من تهديد للحدود الغربية للدولة الإسلامية فعهد إلى أحد القادة الذين كانوا ضمن جيش عقبة بن نافع وهو زهير بن قيس البلوى ليقود الحملة العسكرية الجديدة والعمليات العسكرية بالشمال الأفريقي وأمره بالقضاء على قائد البربر كسيلة زعيم قبائل أوربة وصنهاجة الأمازيغية الذى إرتد عن الإسلام وإرتكب الفظائع ضد المسلمين وإستعادة الأراضي التي أخلاها المسلمون عقب مقتل القائد عقبة بن نافع الفهرى في عام 63 هجرية في عهد الخليفة الأموى الثاني يزيد بن معاوية وهو في طريق العودة إلي القيروان علي يد جيش حشده كسيلة من قبائل البربر الغير مسلمة والبيزنطيين .
وبتعيين زهير بن قيس البلوى قائدا للجبهة الأفريقية بدأت المرحلة الخامسة من مراحل فتوحات شمالي القارة الأفريقية وكان قد إنسحب هذا الأخير بالمسلمين من القيروان بعد مقتل عقبة بن نافع وظل منتظرا في برقة إلى أن تأتيه الإمدادات من الشام لكي ينهض إلى أفريقية من جديد وأمده الخليفة عبد الملك بن مروان بالخيل والرجال والعتاد والمال والسلاح وسار زهير بن قيس بجيشه إلى القيروان عام 69 هجرية الموافق عام 688م وكان كسيلة قد تركها هو ومن معه من البربر والروم وإحتمى بجبل على مقربة منها فلما وصل زهير لم يدخل المدينة وإنما أقام بظاهرها ثلاثة أيام إلى أن إستراح الجيش إستعدادا للمعركة الكبرى وفي اليوم الرابع إلتقى الجمعان بالقرب من مدينة القيروان التونسية على مسيرة يوم منها في معركة كبيرة شرسة حقق المسلمون فيها نصرا كبيرا فإنهزم البربر والروم وقتل قائد البربر كسيلة وكثير من كبار أصحابه وطارد المسلمون فلول المنهزمين إلى مسافات بعيدة ورجع زهير إلى القيروان ليرتب أمورها ويصلح من أحوال المسلمين بها وبعد أن تم له ذلك وإطمأن إلى أنه لم يعد هناك خطورة لخلو البلاد من عدو أو ذى شوكة أعلن أنه عائد إلى المشرق قاصدا برقة ومن أراد من أصحابه وكان الروم البيزنطيون بالعاصمة البيزنطية القسطنطينية قد بلغهم مسير زهير ومعه الجيش كله من برقة إلى القيروان لقتال كسيلة فإغتنموا الفرصة وخرجوا من جزيرة صقلية بالبحر المتوسط في مراكب كثيرة وقوة عظيمة فأغاروا على برقة وأصابوا فيها غنائم وسبيا كثيرا وقتلوا ونهبوا الكثير وأقاموا بها مدة أربعين يوما ووافق ذلك رجوع زهير إلى المشرق فأُخبر بخبرهم فأمر الجند بالإسراع والجد في قتال الروم من أجل طردهم من برقة وعجل هو بالمسير ومعه سبعون من أصحابه أكثرهم من التابعين والجنود الأشداء وأشراف العرب المجاهدين وعندما علم الروم بقدومه أخذوا في الإستعداد للرحيل عن برقة قبل وصول جيش المسلمين إليها وفي الوقت الذى وصل زهير فيه إلى ساحل مدينة درنة بشمال شرق ليبيا حاليا والتي كان الروم قد إتخذوها مركزا لهم باشر القتال مع الروم على الفور وتكاثر الروم عليه وعلي أصحابه فقتلوا جميعا بما فيهم قائدهم زهير ولم ينج منهم أحد وعاد الروم بما غنموا إلى عاصمتهم القسطنطينية وعلى الفور تم إختيار حسان بن النعمان الغساني قائدا جديدا للجيش الإسلامي في أفريقية .
وبإختيار حسان بن النعمان قائدا لجبهة الشمال الأفريقي بدأت المرحلة السادسة من مراحل فتوح شمالي القارة الأفريقية وإتبع حسان سياسة جديدة في آلية عمل الفتح الإسلامي في تلك الجبهة حيث أخذ في تقييم الوضع بصورة عامة في بلاد المغرب العربي ووضع المسلمين بصورة خاصة ومدى إنتشار الإسلام بين قبائل البربر وأسباب ردة الكثير منهم وعندما إجتمعت كافة المعلومات عند حسان بن النعمان قرر إتباع سياسة جديدة في تثبيت وضع الإسلام والمسلمين بالمغرب وكانت هذه السياسة قائمة على عدة نقاط منها ضرب القيادات الرومية والبربرية حتى لا يجتمع إليهم الأعداء والقضاء على نقاط القوة عند الروم وذلك بالإستيلاء على أهم مدنهم وحصونهم مع إستمالة قبائل البربر للإسلام بإسناد بعض المهام والقيادة لمسلمي البربر والقيام بإصلاحات إدارية لإعطاء الشكل الواضح لدولة الإسلام بالمغرب لأن الشكل القائم آنذاك كان يتسم بالكثير من العشوائية والثغرات الواضحة وبعدما أكمل حسان خطته وأتم إستعداده وحشد جنده وقوى جيشه والذى بلغ تعداده 40 ألف جندى وصب عبد الملك بن مروان أموالَ مصر لصالح الجهاد بالمغرب خرج حسان بن النعمان من مصر أوائل عام 74 هجرية على رأس جيشه ووصل به إلى مدينة طرابلس غربي ليبيا فإنضم إليه من كان هناك من المسلمين ثم سار إلى أفريقية ودخل القيروان حيث أعد نفسه للغزو ولم يلق في الطريق مقاومةً تذكر وجعل على قيادة أجنحة الجيش عدة أبطال منهم هلال بن ثروان اللواثي وهو أول بربرىٍ مسلم تسند إليه قيادة وما كاد ينجز حسان إستحضارات جيشه من كل الوجوه حتى سأل عن أقوى وأحصن مدينة بالمغرب فقيل له مدينة قرطاجنة وهي إحدى عجائب الدنيا ودرة روما والمدائن وهي عاصمة أفريقية القديمة ومصدر المقاومة الثابت وكانت شديدة التحصن وبها جموع ضخمة من القوات الرومية ولم يكن المسلمون قد حاربوها من قبل أو دخلوها ولم يكن أحد من القادة السابقين قد تمكن من فتحها وإتبع حسان خطة عسكرية جديدة أساسها مقابلة أعدائه من الروم والبربر كل على حدة حتى يسهل القضاء عليهم وبدأ بالروم فإتجه بكل قواته إلى قرطاجنة فضرب عليها الحصار وكان بها عدد كبير من الروم الذين إغتروا بكثرتهم وحصانة مدينتهم فخرجوا مع ملكهم وإشتبكوا مع المسلمين في معركة كبيرة وخذلهم شيطانهم الذى زين لهم القتال فذاقوا حر سيوف المسلمين وإنتصر حسان وقتل منهم خلقا كثيرا وفر الباقون في المراكب والسفن إلى جزائر البحر المتوسط وخاصة نحو صقلية وعلى الرغم من هزيمة القرطاجنيين أدرك القائد المحنك حسان بن النعمان أن الروم لا زالوا على شئٍ من القوة والكثرة في بقاع كثيرة حول قرطاجنة ولا تزال هناك نقاط حصينة صالحة لتجمع الروم مرة أخرى فقرر في خطوة تكتيكية شديدة الذكاء مواصلة القتال على البقاع الثانوية لتجمع الروم خاصة أن البربر كانوا قد أمدوهم بعسكر عظيم فهجم على مدينتي صفورة وبنزرت وأوقع بالروم هزيمة ثقيلة وأسفرت المعركة عن عدد كبير من قتلى التحالف البيزنطي البربرى ولم يترك حسان موضعا يصلح لتجمع الروم إلا وهجم عليه وفتحه وشتت قوات الروم وفرق فلولهم وهدم نقاطهم الحصينة وتراجع البربر إلى مدينة بونة وهي مدينة عنابة بشرق دولة الجزائر حاليا ثم قرر حسان العودة بجيشه إلى القيروان ليصلح شأنه ويداوى جراح جنوده ويستجم قليلا قبل أن يعاود الجهاد مرة أخرى .
وبعدما إستراح حسان وجنوده من قتال الروم والبربر حلفاءهم بقرطاجنة سأل عمن يقود قبائل البربر الوثنية بعد مقتل كسيلة فقيل له إمرأة إسمها الكاهنة ديهيا وأنها لجأت إلي منطقة جبال الأوراس وهي في دولة الجزائر حاليا وسميت بهذا الإسم لأنها كانت تتكهن ويأتيها الجن ببعض الأخبار وكان لها ثلاثة أولاد ورثوا الرياسة في قبيلة جراوة البربرية وكانت قد أصبحت رمزا من رموز الذكاء والتضحية الوطنية وأصبحت أيضا مهابة ومطاعة من البربر جميعا وتمكنت من توحيد أهم القبائل البربرية حولها فإستبشر المسلمون بذلك حيث كان لديهم إيمان بأنه عندما يكون القائد إمرأة وأيضا كاهنة فلن يفلح أمرهم أبدا وقرر حسان التصدي للتجمع البربري الضخم والشرس الذى تقوده الكاهنة وكان حسان قد أدرك أن هذا التجمع له خطورة قصوى ولا بد من التصدى له ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان حيث وصلت أخبار حسان إلى الكاهنة فدعت قبائل البربر لقتال المسلمين فخرجت من جبال أوراس أعداد مهولة من البربر وإلتقى الطرفان عند نهر نيني عند مدينة واد مسكيانة بشرق دولة الجزائر والتي كانت الكاهنة قد إتخذت منها مقرا لقواعدها العسكرية ومركزا لمقاومة الفتوحات الإسلامية وإقتتلوا قتالا شديدا وإستغل البربر تفوقهم العددي الكبير ضد المسلمين فوقعت الهزيمة بالمسلمين ولم تكن هزيمة المسلمين في معركة نهر نيني لتخفى على الروم المتربصين بالمسلمين في الشمال الأفريقي خاصةً بعد سقوط درة تاجهم الأفريقي قرطاجنة وكان الإمبراطور الجديد للروم ليونتيوس قد أهمه وأحزنه هذا السقوط وبدأ منذ ولايته عام 74 هجرية في الإعداد لإستعادة قرطاجنة مرة أخرى وبالفعل كانت قد وصلت أخبار الهزيمة لروما فأرسل ليو في نفس العام 74 هجرية أسطولا كبيرا إلى قرطاجنة يقوده أمهر القادة الروم وهو يوحنا وهجم الأسطول على المدينة وإستولى عليها وبذلك إسترد الروم عاصمتهم قرطاجنة وإرتكب الروم فظائع شنيعةً بالمسلمين هناك حتى أن يوحنا هذا كان يقتل المسلمين بيده وإرتد المسلمون أولا إلى حدود مدينة قابس شرقي تونس حاليا لكن البربر تبعوا حسان وجيشه ولاحقوه حتى خرج من قابس فإنسحب المسلمون إلى القيروان وبهذا السقوط ومن قبلها الهزيمة عند جبال أوراس سيطرت الكاهنة على معظم أفريقية وشكلت مملكتها اليوم جزء من المغرب والجزائر وتونس ولكنها لم تواصل القتال حتى القيروان كما فعل كسيلة من قبل وبذلك تم إنتقاص أفريقية كلها من المسلمين وخرجت من يدهم جملةً ولم يبق في طاعتهم شبر واحد من الأرض مما يلي قابس غربا وإستخلف حسان أحد قواده ويسمى أبو صالح وعسكر هو وفرقة من جنوده عند منطقة متقدمة بين القيروان وأفريقية ليكون ردءا للمسلمين وخط دفاع متقدم لهم وتفاهم الروم والبربر فيما بينهما على أماكن النفوذ فسيطر الروم على السهول الساحلية وسيطر البربر على السهول الداخلية وكتب حسان إلى الخليفة عبد الملك بن مروان في دمشق بخبره بأمر الهزيمة ويشرح له أسبابها وما ترتب عليها وطالبا منه العون والمدد وقال في رسالته للخليفة إن أمم بلاد المغرب العربي ليس لها غاية ولا يقف أحد منها على نهاية كلما بادت أمة خلفتها أمم وهم من الجهل والكثرة كسائمة النعم فعاد الجواب يأمره بأن يقيم حيث هو حتى يأتيه المدد والعون من الخليفة الأموى عبد الملك بن مروان .
ومكث حسان بن النعمان وجنوده معسكرا في المنطقة المسماة بقصور حسان غرب تونس الآن منتظرا إمدادات أمير المؤمنين وقد تأخر هذا المدد مدة خمس سنوات ما بين عام 74 هجرية وعام 79 هجرية وكان السبب الرئيسي في هذا التأخير هو إنشغال المسلمين في العراق بالثورات والفتن الداخلية خاصة فتن فرق الخوارج ثم فتنة عبد الرحمن بن الأشعث التي إستمرت أربع سنوات والتي تعد إحدى أهم الحركات المناوئة للحكم الأموى حيث كان إبن الأشعث زعيم قبيلة كندة وهي من القبائل العربية ذات الأهمية وكان أيضا أحد زعماء وسادات الكوفة وإستطاع إستغلال العداء الكبير الذى كان يكنه أهل العراق للدولة الأموية وأشعل به حربا كانت إحدى أخطر الحروب التي واجهها عبد الملك بن مروان وإستهلكت كثيرا من قوى المسلمين التي من المفترض أن تكون لخدمة الإسلام وحركة الفتح الإسلامي وقد إستغلت الكاهنة إبطاء المسلمين عنها فقالت للبربر إن المسلمين إنما يطلبون من أفريقية المدائن والذهب والفضة ونحن إنما نريد منها المزارع والمراعي فلا أرى لكم إلا خراب إفريقية كلها حتى ييأس منها المسلمون فلا يكون لهم عودة إليها حتى آخر الدهر وبالطبع كان هذا رأى أحمق وخاطئ يكشف مدى جهل الكاهنة وأمثالها من أعداء الإسلام بحقيقة الجهاد الإسلامي وأهدافه وغاياته وأن الهدف الحقيقي هو إعلاء كلمة الله ونشر الإسلام والتوحيد بين العالمين وأن رسالة المجاهد لا تعرف دنيا ولا متاع وكيف ذلك وقد باع نفسه بداية ورضي بالغربة والبعد عن الوطن والأهل والعيش في ظل خيمة مستصحبا سيفه فهو قرينه ورفيقه ونعم القرين وإنطلق البربر كالإعصار المدمر في كل أنحاء أفريقية يقطعون الأشجار ويهدمون الحصون ويحرثون المزارع فخربوا أفريقية تخريبا تاما ولم يكن في ربوع الأرض مثلها في الخيرات والعمران حتى قيل إن أفريقية ظلا واحدا من طرابلس شرقا إلى طنجة غربا من إتصال العمران وتسببت هذه الخطوة الحمقاء من الكاهنة الخرقاء في ثورة كثير من أهل البلاد عليها وهرب الكثير منهم إلى بلاد الأندلس وجزائر البحر المتوسط وإستغاثت كثير من قبائل بربر الحضر بالمسلمين لرد عدوان الكاهنة وأتباعها من بربر الصحراء وبعدما قضى الخليفة الأموى عبد الملك بن مروان على الثورة الداخلية ببلاد العراق وجه كل إهتمامه للمغرب العربي فوجه أموالا وإمدادات كثيرة للقائد حسان بن النعمان فوافته هذه الإمدادات في نفس وقت قدوم الكثير من أهل المغرب يستغيثون من أفعال الكاهنة فرحل حسان وجنوده في أواخر عام 81 هجرية لقتال الكاهنة وأتباعها البربر الذين فقدوا معظم التعاطف والتأييد السابقين من أهل أفريقية ولما سمعت الكاهنة بقدوم المسلمين تحركت من قاعدتها بجبال الأوراس مغرورة بقوتها وكثرة من معها وسابق إنتصارها على المسلمين ولكن خاب ظنها وضل سعيها وذاقت وبال أمرها وإنتصر المسلمون إنتصارا عظيما وقتلت الكاهنة في المعركة وأرسل رأسها إلي الخليفة بدمشق وإنتهى شرها للأبد وبعدها أخلد البربر إلى الطاعة والسكون ودخلوا في دين الله أفواجا وعاد حسان بجيشة للقيروان ولكن ليس للسكون والراحة بل للإستعداد لمعركة أخرى مع الروم من أجل إستعادة قرطاجنة وكان القائد يوحنا قد أصلح أسوار المدينة المتهدمة وقوى تحصينها وإستعد لمنازلة المسلمين فبدأ حسان هجومه على المدينة بتطهير جبال زغوان القريبة من مدينة زغوان التي تقع شمال شرق تونس جنوبي العاصمة تونس على مسافة 55 كيلو متر منها من بعض القلاع والحصون التي يسيطر عليها الروم والبربر ثم حرك الأسطول الإسلامي للإنقضاض على الأسطول البيزنطي وأصبح يوحنا ورجاله محاصرين داخل المدينة وإشتبك مع المسلمين عدة مرات ولكنه فشل في كسر الحصار وتعرض لهزائم ثقيلة جعلته يجمع جنوده ويفر تحت جنح الظلام داخل سفنه ومراكبه إلى العاصمة البيزنطية القسطنطينية وبذلك إستعاد المسلمون قرطاجنة وخرج الروم منها إلى الأبد .
وبعدما زال خطر الروم والبربر وإستقرت الأمور تقريبا بالشمال الأفريقي شرع حسان بن النعمان في تأسيس دولة إسلامية على أسس متينة وراسخة في تلك البلاد وهو كما ذكرنا في صدر هذا المقال كان ينتمي إلي بيت ملك ورئاسة ويجيد فن القيادة وتأسيس الدول فبدأ بتدوين الدواوين التي يكتب فيها أسماء الرعايا المسلمين وتعدادهم ووظائفهم وما يحصل عليه كل واحد منهم من بيت المال ونظم الخراج ووضع الجزية على نصارى أفريقية وأنشأ دارا لصناعة السفن والأسلحة اللازمة لمواصلة الجهاد وعلاوة علي ذلك كان من أهم أعماله عمل يدل علي منتهى الذكاء وهو بناء مدينة جديدة في الطريق بين القيروان وقرطاجنة لتكون قاعدة عسكرية برية ومعسكرا للجند الإسلامي وقت هجوم الأعداء من البحر وكانت المدينة الجديدة هي مدينة تونس عاصمة دولة تونس حاليا وقد إختطها حسان غربي البحر المتوسط بنحو عشرة أميال وحفر بها قناة تتصل بالبحر الأبيض المتوسط لتكون ميناءا بحريا ومركزا للأسطول الإسلامي بعد أن أنشأ فيها صناعة المراكب والسفن الحربية وإستعان بخبراء وفنيين وعمال متخصصين في هذه الصناعة زوده بها والي مصر آنذاك عبد العزيز بن مروان بناءا على توجيه شقيقه الخليفة عبد الملك بن مروان الذى أوعز لشقيقه والي مصر بإرسال ألفي قبطي من المهرة الصناع لإقامة صناعة مراكب بحرية وإلى جانب ذلك شيد حسان دار الإمارة وثكنات للجند للمرابطة وعمل على تجنيد البربر الذين إعتنقوا الإسلام بأعداد كبيرة في الجيش الإسلامي ليستفيد من طاقاتهم وحماستهم في خدمة الإسلام وليشعر البربر بدورهم وأهمية وجودهم في قيام دولة الإسلام بالمغرب العربي حتى أصبح في جيشه إثنا عشر ألفا من البربر الذين يدافعون عن الإسلام كما أنه إهتم ببناء المساجد في كل بقعة مفتوحة في بلاد المغرب العربي وأقام فيها القراء والفقهاء لتعليم البربر حديثي العهد بالإسلام القرآن الكريم والسنة ونشر اللغة العربية بينهم فقد كانت من عادة المسلمين إذا ما فتحوا منطقةً ما أن يبنوا فيها جامعا يؤدون به الصلوات وينشرون من خلاله تعاليم الدين الإسلامي ويعلمون أهل البلاد المفتوحة الراغبين في إعتناقه مبادئ وفروض وأصول وأحكام الإسلام وكان أشهرها جامع الزيتونة وجامع القصر وجامع المهراس ومسجد القبة ومسجد الحفصية ومسجد حمودة باشا الحسيني ومسجد الفال ومسجد الإشبيلي ومسجد لاز ومسجد سيدى عامر وغيرها ويعتبر أهم هذه الجوامع والمساجد جامع الزيتونة وهو يعد واحدا من أهم الجوامع على الإطلاق على مستوى العالمين العربي والإسلامي لكونه يعتبر منارة علم وهدى لكافة الناس على وجه العموم وللمسلمين على وجه الخصوص وتقوم على هذا الجامع حاليا هيئة تعرف بإسم مشيخةِ الجامع الأعظم وهو يحتل المرتبة الثالثة من حيث تاريخِ البناء في القارة الأفريقية بعد جامع الصحابي الجليل عمرو بن العاص في مصر وجامع عقبة بن نافع الفهرى في مدينة القيروان التونسية وما لبث جامع الزيتونة أن لعب دورا مهما وكبيرا في التعليم ونشر الديانة الإسلامية السمحة في منطقة الشمال الأفريقي ومما يذكر أنه بالنسبة لتسميته بجامع الزيتونة فيرجح أنها جاءت بسبب شجرة زيتون وحيدة كانت قد نبتت بالقرب من الجامع ومن المعلوم أن شجر الزيتون يعد شجرا مباركا ورد ذكره في كتاب الله مع وصفها وبذلك ومن هنا تم تسمية الجامع بإسمها وبعد 6 سنوات من بناء هذا المسجد قام القائد حسان بن النعمان الغساني بإجراء عملية توسعة له ويذكر له أيضا ترميمه وتجديده الشامل لمسجد عقبة بن نافع الفهرى في مدينة القيروان .
وبالإضافة إلى ما سبق قام حسان بن النعمان ببناء دار لسك العملة وقام بضرب دنانير ونقود جديدة بدلا من دنانير الروم التي كان يتعامل بها البربر ليقطع ويمحو أى أثر أو علاقة للروم بهذه البلاد وقام بتقسيم الأراضي بين قبائل البربر فعين لكل قبيلة خطتها وألزم كل قبيلة زراعة أرضها ورد زكاة الزرع لبيت المال وأصبحت تونس بعد ذلك درة المغرب العربي وبإختصار فقد أنشأ حسان دولةً على الطراز الحديث القائم على الإهتمام بالبنية التحتية والرأسية على حد السواء لذلك فهو يعتبر بحق مؤسس دولة الإسلام بالمغرب العربي وبعد فقد مكث حسان بن النعمان أميرا على أفريقية قرابة 12 عاما قائدا ومجاهدا عبقريا وسياسيا ماهرا حتى تم عزله في عهد ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر في عام 85 هجرية الموافق عام 704م وكان قد شارف على الثمانين عاما من عمره فعاد إلي الشام وبعد وفاة الخليفة عبد الملك بن مروان عام 86 هجرية الموافق عام 705م وتولي إبنه الوليد بن عبد الملك الخلافة حاول الخليفة الجديد توليته مرة أخرى وكان قد شارف الثمانين عاما من عمره قائدا لجيش المسلمين في الشام لمواجهة الروم البيزنطيين وعلي الرغم من أنه قد خاض معارك طاحنة كثيرة ضد الأعداء ثم إستقرت الأمور وصار حاكما مستقرا على بلاد المغرب وأصبح بعيدا إلى حد ما عن مواطن الشهادة إلا أن حب الشهادة كان مغروسا في قلبه شأنه في ذلك شأن كل مجاهد صادق في سبيل الله لكنه كان قد حلف ألا يتولى قيادة أي جيش لبني أمية أبدا لكنه خرج مع الجيش الأموى مجاهدا في سبيل الله في أرض الروم وهناك نال أعز ما يطلب وما سعى له طوال عمره حيث نال الشهادة ومضى إلى ربه عز وجل راضيا مرضيا عنه بإذن الله وذلك في نفس العام الذى توفي فيه الخليفة عبد الملك بن مروان وتولي إبنه الوليد بن عبد الملك الخلافة أي عام 86 هجرية الموافق عام 705م في بدايات عهد الوليد بن عبد الملك وفي النهاية لا يفوتنا أن نذكر أنه من سيرة القائد الفذ حسان بن النعمان الغساني نستخلص العديد من العظات والعبر منها أن الإهتمام ببناء الكوادر والكفاءات تضمن للأمة مواصلة الإنتصارات والحفاظ علي الإنجازات وهذا نتبينه من تعاقب العديد من أبطال الإسلام على بلاد المغرب بداية من عمرو بن العاص حتى حسان بن النعمان ثم من جاءوا بعده وأن الجهاد الإسلامي منظومة متكاملة من الثوابت والغايات والوسائل يحكمها الإنضباط والطاعة الراشدة وليست منظومة عشوائية أو سلب ونهب وغارات بهدف التخريب والتدمير كما يدعي أعداء الأمة كما أن الجهاد في سبيل الله من أسمى غاياته بناء المجتمعات الإسلامية التي تنشر دين الله في الأرض وتحقق الإستخلاف وهذا ظاهر من سياسة القائد الفذ حسان بن النعمان الترتيبات التي إتبعها في بناء الدولة الإسلامية في بلاد المغرب والإهتمام بنشر دين الإسلام بين البربر وتقوية دفاعات الدولة الإسلامية الوليدة في تلك البلاد وعلاوة على ذلك فإن ترتيب الأولويات وفقه إدارة المعارك حسب الإستراتيجيات الموضوعة سلفا تحقق بإذن الله النصر على كل الأعداء كما فعل القائد حسان بن النعمان الغساني عندما إتبع خطة عسكرية أساسها مقابلة أعدائه من الروم والبربر كل على حدة حتى يسهل القضاء عليهم وبدأ بالروم ثم إتجه إلي البربر وكان من أهم الدروس والعبر المستفادة أيضا من سيرة القائد حسان بن النعمان أن فساد ذات البين والإختلاف والتفرق والصراع على السلطة من أهم أسباب تسلط الأعداء وتأخر النصر كما حدث من خروج أفريقية من يد المسلمين لعدة سنوات بسبب الإضطرابات والثورات والفتن التي قامت في بلاد العراق .
|