بقلم المهندس/ طارق بدراوى
tbadrawy@yahoo.com
موسوعة كنوز “أم الدنيا"
عتبة بن غزوان المازني بن جابر بن وهيب بن نسيب بن زيد بن مالك بن الحارث بن عوف بن الحارث بن مازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن نبي الله إسماعيل بن نبي الله إبراهيم عليهما السلام صحابي جليل من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم وكان كما يتضح من نسبه من بني مازن بن منصور أحد قبائل قيس عيلان وكان ميلاده على الأرجح قبل الهجرة بحوالي 40 عاما وكان في الجاهلية حليفا لبني عبد شمس بن عبد مناف وقيل بني نوفل بن عبد مناف وكان عتبة بن غزوان رضي الله عنه من السابقين إلى الإسلام حيث كان سابع سبعة أسلموا حيث كان الله قد شرح صدورهم للتوحيد والإيمان والدعوة في مهدها الأول فصبروا وصابروا ووقفوا في وجه الشرك وأهله دون إكتراث بكل ما يترتب على ذلك من تنكيل وتعذيب حيث تعرض هو وسائر المسلمين الأوائل في الأيام الأولى للدعوة أيام العسرة والهول مع إخوانه للأذى والتعذيب بشتى الأشكال ولكنهم صمدوا ذلك الصمود الجليل الذى صار فيما بعد زادا للضمير الإنساني يتغذى به وينمو على مر الأزمان ولما أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام أصحابه بالهجرة الى الحبشة خرج عتبة مع المهاجرين فرارا بدين الله تعالى ونشرا له في الأرض ما إستطاعوا إلى ذلك سبيلا بيد أن شوقه الى النبي صلى الله عليه وسلم لم يدعه يستقر هناك فسرعان ما طوى البر والبحر وتحمل وعثاء السفر حتى يعيش بجوار الهادى البشير محمد صلى الله عليه وسلم مهما كلفه ذلك من تضحيات ويبقى عتبة في مكة المكرمة مع ما فيها من صراع بين الحق والباطل حتى أذن الله تعالى للرسول صلوات الله وسلامه عليه وللمسلمين بالهجرة إلي المدينة المنورة بعد بيعة العقبة الثانية فكان من أوائل المهاجرين إليها حيث هاجر عتبة مع مولاه خباب والصحابي الجليل المقداد بن عمرو ونزل هو ومولاه خباب على الصحابي الأنصارى عبد الله بن سلمة العجلاني وقد آخى النبي محمد صلى الله عليه وسلم بينه وبين الصحابي سماك بن خرشة أبي دجانة الخزرجي الأنصارى وقد شهد عتبة المشاهد كلها مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصفوف الأولى من صفوف المجاهدين دفاعا عن عقيدة الحق وهدما لعقائد المشركين والمنافقين حاملا رماحه ونباله يرمي بها في أستاذية خارقة حيث كان من أمهر الرماة ويسهم مع إخوانه المؤمنين في هدم العالم الجاهلي القديم بكل أوثانه وبهتانه وضلاله وكان هو من أسس مدينة البصرة في عهد الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب وأصبح واليا عليها وفضلا عن ذلك فقد كان رضى الله عنه شديد الفرار من الدنيا وزخرفها حتى لا يفتتن بها ولما حاول بعضهم أن يقنعه بأن يأخذ حظه من الدنيا حتى يكون مظهره مناسبا خاصة بعد أن تولى ولاية البصرة فرد عليهم قائلا إني أعوذ بالله أن أكون في دنياكم عظيما وعند الله صغيرا وقد روى الصحابي الجليل عتبة بن غزوان رضي الله عنه عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم وروى عنه خالد بن عمير العدوى وقبيصة بن جابر وغنيم بن قيس المازني وشويس أبو الرقاد وحفيده عتبة بن إبراهيم بن عتبة بن غزوان وعلاوة على مشاركته في الغزوات وروايته للحديث كان عتبة رضي الله عنه من المغاوير الأبطال الذين لا يهابون الموت الذين كان يكلفهم النبي صلى الله عليه وسلم ببعض المهمات الإستطلاعية التي تتطلب جرأة وشجاعة وإقدام .
وكان من هذه المهمات الإستطلاعية التي شارك فيها عتبة بن غزوان أنه كلف بأن يندس في صفوف المشركين لكي يستطلع أخبارهم في غزوة الأبواء وتسمى أيضا غزوة ودان نسبة إلى قرية ودان الواقعة على الطريق بين مكة المكرمة والمدينة المنورة وكانت هذه الغزوة قد وقعت في يوم 12 صفر في العام الثاني للهجرة وقد سميت بهذا الإسم لقربها من منطقة الأبواء التي كانت تبعد عن المدينة المنورة بحوالي 25 كيلو متر وكان هدف النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الغزوة هو إعتراض قافلة تجارية لقريش قادمة من الشام على الطريق التجارى بين مكة والشام والعمل على عقد تحالفات مع القبائل المسيطرة على هذا الطريق التجارى وإستخلف النبي صلى الله عليه وسلم عند خروجه من المدينة المنورة لهذه الغزوة الصحابي الجليل سيد الخزرج سعد بن عبادة رضي الله عنه وخرج النبي صلى الله عليه وسلم قائدا مع سبعين من الصحابة كانوا كلهم من المهاجرين وأما مشركو قريش فكانوا عبارة عن قافلة تجارية فيها أبو جهل ومعه ثلاثمائة راكب وكان الذى حمل لواء المسلمين في هذه الغزوة هو الصحابي الجليل عمّ الرسول حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وعندما وصل النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون منطقة ودان أو الأبواء منتظرين القافلة لإعتراضها كانت القافلة قد فاتتهم فلم يلتقوا بها ولم يحدث قتال أو معركة لعدم حدوث المواجهة وقبل أن يرجع النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون إلى المدينة المنورة عقد عليه الصلاة والسلام إتفاقا مع بني ضمرة الذين كانوا يسكنون المنطقة حيث كتب كتابا مع سيدهم مخشي بن عمرو الضمرى على النصرة والأمان وعدم الغزو فيما بينهم وعدم إعانة الأعداء من قريش وغيرهم ضدهم وكانت هذه المصالحة والمعاهدة أول معاهدة في الإسلام بعد وثيقة المدينة المنورة التي عقدها عليه الصلاة والسلام مع يهود المدينة ثم عادوا بعد ذلك إلى المدينة المنورة وكان من نتائج هذه الغزوة والتي لم يحدث فيها قتال إظهار النبي عليه الصلاة والسلام قوة الدولة الإسلامية الجديدة وقوة جيش المسلمين وبيان قدرتهم على المواجهة وتحقق منها أيضا تخويف العدو من قبيلة قريش وغيرهم وكان في هذا تهديد لقريش وإرباكها وإضعافها وضرب نشاطها التجارى بعقده التحالف مع القبائل المجاورة للطريق التجارى بين مكة والشام وإتضحت قدرة المسلمين على اعتراض القوافل المتجهة إلى أو القادمة من الشام والتصدى لها .
وبعد ذلك وفي شهر رجب من العام الثاني للهجرة أيضا شارك عتبة في مهمة إستطلاعية مع ثمانية رهط من المهاجرين فقط ليس منهم واحدا من الأنصار بقيادة عبد الله بن جحش وكتب النبي صلى الله عليه وسلم معه كتابا فدفعه إليه وأمره أن يسير ليلتين ثم يقرأ الكتاب فيتبع ما فيه وكان الستة الآخرون معه هم أبو حذيفة بن عتبة وعامر بن ربيعة وسعد بن أبي وقاص وواقد بن عبد الله وصفوان بن بيضاء وعمرو بن سراقة وتوجهوا إلى موضع يسمى بطن نخلة على بعد ليلة من مكة المكرمة بغرض رصد حركة قوافل قريش بين مكة والطائف فلما سار عبد الله بن جحش بهم مسيرة يومين نظر في الكتاب فإذا فيه إذا نظرت في كتابي هذا فإمض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشا وتعلم لنا أخبارهم ثم أخبر أصحابه بوجهتهم وخيرهم كما أوصاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لأصحابه أما أنا فسأمضي لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف منهم أحد حتى إذا كان بمنطقة بحران أضل سعد وعتبة بعيرا لهما كانا يتناوبان ركوبه فتخلفا عليه وهم في طلبه ومضى عبد الله حتى نزل بنخلة فمرت عير لقريش تحمل زبيبا وأدما وجلود وتجارة من تجارة قريش وكان فيها عمرو بن الحضرمي فنزلوا قريبا منهم وتشاور عبد الله مع رهطه فيهم وقالوا إذا تأخرنا سيدخلون الحرم غدا ويمتنعون منكم ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام وقرروا مهاجمة القافلة والإستيلاء عليها فرمى واقد بن عبد الله عمرو الحضرمي بسهم فقتله وتم أسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان وأفلت منهم نوفل بن عبد الله وقال عبد الله بن جحش إن لرسول الله مما غنمنا الخمس وذلك قبل أن يفرض الله الخمس من المغانم فعزل لرسول الله خمس العير وقسم سائرها بين أصحابه وقدم هو وأصحابه إلى المدينة المنورة ومعهم الأسيران والغنائم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام وأبى أن يأخذ من الغنيمة شيئا وخاف عبد الله ومجموعته الهلكة لهذه المخالفة وعنفهم إخوانهم المسلمون لما صنعوا وقالت قريش قد إستحل محمد وأصحابه الشهر الحرام وسفكوا فيه الدم وأخذوا الأموال وأسروا الرجال وفرح اليهود بما حدث ورد المسلمون في مكة أن الذى حدث كان في شعبان وليس في رجب وأنزل الله تعالى قرآنا بهذه الحادثة حيث قال الله تعالى في سورة البقرة يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا والمعنى أنكم إذا كنتم قد قتلتم الكفار في الشهر الحرام فهم فعلوا أفظع من ذلك لقد أخرجوكم من المسجد الحرام وصدوكم عن الإيمان وأكرهوكم على الكفر وآذوكم وعذبوكم وفتنوكم عن دينكم والفتنة هذه أشد من القتل وهم يدعون للشهر حرمته ففعلهم يكذب دعواهم لقد خالفوا كل الأعراف والحرمات ولا يزالون حتى الآن يعدون لقتالكم وإطفاء نور الإيمان في قلوبكم ولو إستطاعوا لنفذوا فيكم كل قبيح من القتل والصد والتنكيل والتعذيب وقبل النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الخمس من الغنيمة وفادى الأسيرين حيث بعثت قريش بالفداء وإنتظر النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقبل الفداء حتى عاد الصحابيان الجليلان سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان فقبل الفداء هذا وقد أسلم الحكم بن كيسان أحد الأسيرين وعاد الآخر وهو عثمان بن عبد الله ومات مشركا فيما بعد وكانت هذه الغزوة باكورة الغزوات التي كان فيها من الكفار قتل وأسر وغنيمة .
وعندما لحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى لم تضعف عزائم الكثير من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين وكان من بينهم عتبة بن غزوان رضي الله عنه بل بقي ثابتا على دينه وجهاده في رحلة الحياة الدنيا حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا ولم تذكر لنا المصادر التاريخية عن سيرة الصحابي عتبة بن غزوان خلال عهد الخليفة الراشد الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه وإن كان من المؤكد أنه أيده في حروبه ضد المرتدين عن الإسلام وأنه قد شارك فيها بشكل أو بآخر فما كان مثل هذا الصحابي الجليل المجاهد أن يتخلف عن نصرة الإسلام والمسلمين وفي عهد الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب كلفه بفتح ميناء الأبلة بجنوب بلاد العراق عند إلتقاء نهرى دجلة والفرات المعروفة بشط العرب والتي كانت تعد الميناء الرئيسي للدولة الساسانية الذى يؤدى إلى الخليج العربي ومنه إلى بلاد الهند والصين ومن ثم كان لها أهمية إستراتيجية كبرى وكانت قد فتحت في عهد الخليفة الراشد الأول أبي بكر الصديق في أوائل عام 12 هجرية على يد خالد بن الوليد في بداية فتوحات بلاد العراق لكن بعد هزيمة المسلمين في موقعة الجسر أمام الفرس في شهر شعبان عام 13 هجرية وإنسحاب المسلمين إلى منطقة ذى قار قرب الكوفة تمهيدا لتجمعهم في منطقة القادسية التي تقع غرب مدينة الكوفة حاليا بمسافة حوالي 27 كم ومن ثم ترك المسلمون مناطق عديدة كان قد سبق فتحها كان منها الأبلة والتي دخلها الفرس من جديد وبعد إنتصار المسلمين في معركة القادسية في شهر شعبان عام 15 هجرية وتوجه المسلمين نحو كتسفون عاصمة الفرس التي تقع على نهر دجلة والتي يطلق عليها العرب المدائن كانت المؤن والإمدادات ترد إلى المدائن من الأبلة فطلب قائد المسلمين سعد بن أبي وقاص من الخليفة عمر بن الخطاب ضرورة الإستيلاء علي الأبلة من جديد ووقف وصول المؤن والإمدادات إلى المدائن لكي يضغط على الفرس ويتمكن من فتح العاصمة المدائن فعزم على أن يرسل جيشا لفتح الأبلة لكي يقطع إمداداتها عن الفرس لكنه إصطدم بقلة الرجال عنده في المدينة ذلك لأن شبان المسلمين وكهولهم وشيوخهم كانوا قد خرجوا يضربون في فجاج الأرض في بلاد العراق والشام غزاةً في سبيل الله حتى لم يبق لديه في المدينة إلَا النزر اليسير فعمد إلى طريقته التي عرف بها وهي التعويض عن قلة الجنود بقوة القائد فنثر كنانة رجاله بين يديه وأخذ يعجم عيدانهم واحدا بعد الآخر وأوى بعد صلاة العشاء إلى مضجعه فقد كان يريد أن يصيب حظا من الراحة ليستعين به على العس في الليل كعادته فما لبث أن هتف قائلا وجدته نعم وجدته ثم مضى إلى فراشه وهو يقول إنه مجاهد عرفته بدر وأحد والخندق وأخواتها وشهدت له اليمامة ومواقفها فما نبا له سيف ولا أخطأت له رميةٌ نعم إنه هاجر الهجرتين وكان سابع سبعة أسلموا على ظهر الأرض ولما أصبح الصبح قال إدعوا لي عتبة بن غزوان فإنتدبه لهذه المهمة وعقد له الراية على ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ووعده بأن يمده تباعا بما يتوافر له من الرجال ولما عزم هذا الجيش الصغير على الرحيل من المدينة المنورة وقف الخليفة الفاروق عمر يودع قائده عتبة ويوصيه فقال له يا عتبة إني قد وجهتك إلى أرض الأبلة وهي حصن من حصون الأعداء فأرجو الله أن يعينك عليها فإذا نزلت بها فإدع قومها إلى الله فمن أجابك فإقبل منه ومن أبى فخذ منه الجزية عن صغار وذلة وإلا فضع في رقابهم السيف في غير هوادة وقد كتبت إِلى العلاء بن الحضرمي بالبحرين أن يمدك بعرفجة بن هرثمة وهو ذو مجاهدة للعدو وذو مكايدة فشاوره وإتقِ الله يا عتبة فيما وليت عليه وإياك أن تنازعك نفسك إلى كبر يفسد عليك آخرتك وإعلم أنك صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعزك الله به بعد الذلة وقواك به بعد الضعف حتى صرت أميرا مسلطا وقائدا مطاعا تقول فيسمع منك وتأمر فيطاع أمرك فيا لها من نعمة إذا هي لم تبطرك وتخدعك وتهو بك إلى جهنم أعاذك الله وأعاذني منها .
ومضى عتبة بن غزوان برجاله ومعه زوجته وخمس نسوة أخريات من زوجات الجند وأخواتهم وكان ذلك في شهر ذي القعدة عام 15 هجرية حتى نزلوا في أرض قصباء والتي لا تبعد كثيرا عن الأبلة ولم يكن معهم شئ يأكلونه فلما إشتد عليهم الجوع قال عتبة لنفر منهم إلتمسوا لنا في هذه الأرض شيئا نأكله فقاموا يبحثون عما يسد جوعتهم وكانت لهم مع الطعام قصة رواها أحدهم فقال بينما كن نبحث عن شئ نأكله دخلنا أجمةً أي منطقة قيها شجر كثيف فإذا فيها زنبيلان في أحدهما تمر وفي الآخر حب أبيض صغير مغطى بقشر أصفر فجذبناهما حتى أدنيناهما من العسكر فنظر أحدنا إلى الزنبيل الذى فيه الحب وقال هذا سم أعده لكم العدو فلا تقربنه فملنا إلى التمر وجعلنا نأكل منه وفيما نحن كذلك إذ بفرس قد قطع قياده وأقبل على زنبيل الحب وجعل يأكل منه فوالله لقد هممنا بأن نذبحه قبل أن يموت لننتفع بلحمه فقام إلينا صاحبه وقال دعوه وسأحرسه الليلة فإن أحسست بموته ذبحته ولما أصبحنا وجدنا الفرس معافى لا ضرر فيه فقالت أختي يا أخي إني سمعت أبي يقول إن السم لا يضر إذا وضع على النار وأنضج ثم أخذت شيئا من الحب ووضعته في القدر وأوقدت تحته ثم ما لبثت أن قالت تعالوا إنظروا كيف إحمر لونه ثم جعل يتشقّق قشره وتخرج منه حبوبه البيض فألقيناه في الجفنة لنأكله فقال لنا عتبة إذكروا إسم الله عليه وكلوه فأكلناه فإذا هو في غاية الطيب ثم عرفنا بعد ذلك أن إسمه الأرز وكانت الأبلة التي إتجه إليها عتبة بن غزوان بجيشه الصغير مدينةً حصينةً قائمةً على شط العرب كما أسلفنا وكان الفرس قد إتخذوها مخازن لأسلحتهم وجعلوا من أبراج حصونها مراصد لمراقبة أعدائهم لكن ذلك لم يمنع عتبة من غزوها على الرغم من قلة رجاله وضآلة سلاحه إذ لم يجتمع له من الرجال غير ستماثة مقاتل تصحبهم طائفةٌ قليلةٌ من النساء ولم يكن عنده من السلاح غير السيوف والرماح فكان لا بد له من أن يستعمل ذكاءه فأعد للنسوة رايات رفعها على أعواد الرماح وأمرهن أن يمشين بها خلف الجيش وقال لهن إذا نحن إقتربنا من المدينة فأثرنَ التراب وراءنا حتى تملأن به الجو فلما دنوا من الأبلة خرج إليهم جند الفرس فرأوا إقدامهم عليهم ونظروا إلى الرايات التي تخفق وراءهم ووجدوا الغبار يملأ الجو خلفهم فقال بعضهم لبعض إنهم طليعة العسكر وإن وراءهم جيشا جرارا يثير الغبار ونحن قلة ووقف عتبة في مقدمة جيشه حاملا رمحه وصاح في جنده قائلا الله أكبر صدق وعده وحقا لم يكن كلام قادة المسلمين مجرد حماسة أو شجاعة بل كان من الفراسة الصادقة التى تنطق بنور الله تعالى فنعم لقد صدق الله وعده وهكذا يعد المؤمنين وهو منجز لهم ما وعدهم به ما دام الإيمان يملأ قلوبهم ويقدمون علي قتال عدوهم وفي نيتهم تحقيق النصر في سبيل رفعة الإسلام أو الشهادة في سبيل الله وما هي إلا جولات يسيرة حتى سيطر الذعر والخوف في قلوب الفرس فطفقوا يحملون ما خف وزنه وغلا ثمنه ويتسابقون إلى ركوب السفن الراسية في شط العرب ويولون الأدبار فدخل عتبة الأبلة دون أن يفقد أحدا من رجاله ثم فتح ما حولها من المدن والقرى منها ميسان وأبزقباذ وهما على الحدود العراقية الإيرانية حاليا وغنم من ذلك غنائم فاقت كل تقدير حتى إن أحد رجاله عاد إلى المدينة فسأله الناس كيف المسلمون في الأبلَّة فقال عم تتساءلون والله لقد تركتهم وهم يكتالون الذهب والفضة إكتيالا فأخذ الناس يشدون الرحال إلى الأبلة .
وعند ذلك رأى عتبة بن غزوان أن إقامة جنوده في المدن المفتوحة سوف تعودهم على لين العيش وتخلقهم بأخلاق أهل تلك البلاد وتفل من حدة عزائمهم على مواصلة القتال فكتب إلى الخليفة عمر بن الخطاب يستأذنه في بناء مدينة البصرة علي الضفة الغربية لشط العرب لتكون بديلا عن الأبلة في أقصي جنوب بلاد العراق ووصف له المكان الذي إختاره قائلا إني أرى أرضا كثيرة القضة في طرف البر إلى الريف ودونها مناقع فيها ماء وفيها قصباء فرد عليه عمر بن الخطاب هذه أرض بصرة قريبة من المشارب والمراعي والمحتطب ومن هنا سميت بالبصرة ومعنى البصرة في اللغة العربية الأرض الغليظة الصلبة ذات الحجارة الصلبة فأذن له عمر رضي الله عنه وبدأ عتبة يخطط المدينة الجديدة وكان أول ما بناه رضي الله عنه مسجدها العظيم ولا عجب فمن أجل المسجد خرج هو وأصحابه غزاةً في سبيل الله وبالمسجد إنتصر هو وأصحابه على أعداء الله ثم تسابق الجند بعد ذلك على إقتطاع الأرض وبناء البيوت لكن عتبة لم يبن لنفسه بيتا وإنما ظلَ يسكن خيمة في غاية البساطة وعينه الخليفة واليا على المدينة الجديدة وجدير بالذكر أنه إقتضت الضرورة التي فرضتها الفتوحات الإسلامية على العرب إنشاء مدن عسكرية أو معسكرات سكنية للجنود المحاربـين لتخدم عدة جوانب أهمها أنه أصبح من غير المنطقي على الجندى المقاتل أن يذهب لزيارة أهله في فترات معقولة لبعد المسافة فالمجاهد الذى قدم على سبيل المثال من اليمن أو عمان يحتاج إلى أشهر طويلة لكي يصل إلى موطنه ويحتاج إلى نفس ذلك الوقت للعودة وهذا يعني انهم سيضيعون نصف وقتهم وجهدهم في مثل هذه الأسفار الطويلة الشاقة مما يحرم جبهات القتال من فترات غيابهم الطويلة كذلك كان لا بد من إيجاد معسكرات ثابتة للتحرك منها لضرب قواعد العدو أو طرق وقوافل إمداداته أو شن الحملات السريعة المفاجئة عليه أو لصد هجمات العدو أو لنجدة بقية الجبهات عند الحاجة وكذلك حماية الثغور الإسلامية وإيجاد مقرات بعيدة على حافة الصحراء لا يجرأ العدو من الوصول إليها لمعالجة المصابين وقضاء فترة النقاهة بعيدا عن الخطوط الأمامية الخطرة والمتحركة دائما كما يستطيع أن يترك بها المقاتل زوجته أو ما يحصل عليه من الغنائم كي لا تعيق حركته أثناء القتال ولكل هذه الأسباب وغيرها فكر المسلمون في إنشاء مثل هذه المدن فبنيت ببلاد العراق البصرة والكوفة ويطلق عليهما المصران إذ أن كل منها كانتا تعتبران أعظم أمصار العالم الإسلامي بدون منازع قبل بناء العاصمة العباسية بغداد كما تجمع مع الكوفة أيضا ويطلق عليهما العراقيان أو البصرتان ثم بنيت مدينة واسط فيما بعد ببلاد العراق أيضا في العصر الأموى كما بنيت الفسطاط في مصر والقيروان في أفريقية في تونس الحالية .
وحدث أنه لما ظفر الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص بالفرس وأزاح الأكاسرة في معركة القادسية والتي وقعت في شهر شعبان عام 15 هجرية وبعد الإنتصار العظيم الذى حققه المسلمون في هذه المعركة وزحفهم نحو المدائن أراد أمير البحرين العلاء بن الحضرمي أن يصنع بالفرس شيئا ويحرز النصر عليهم كنصر سعد على الفرس من دون أن يفكر في مغبة المعصية وأهمية الطاعة اذ كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد نهاه ونهى غيره عن الغزو في البحر إتباعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه خوفا من أخطار ركوب البحر بلا كفاية خاصة وتجربة وخبرة طويلة بركوبه ولكن العلاء ندب الناس إلى بلاد فارس فأجابوه وكان معه خليد بن المنذر بن ساوى والجارود بن المعلى وسوار بن همام فأمرهم على الجند وعبرت الجنود الخليج العربي من البحرين إلى بلاد فارس لكن أهل فارس تمكنوا من قطع خطوط رجعة المسلمين وبين سفنهم فقام خليد في الناس فخطبهم وهاجموا الفرس وقاتلوهم قتالا شديدا بمكان يدعي طاؤوس فقتل سوار والجارود وقتل من أهل فارس أعداد غفيرة ثم خرج المسلمون يريدون البصرة فلم يتمكنوا من الرجوع الى البحر وإضطروا بسبب تفوق الفرس الساحق أن يعسكروا ويتحصنوا ولما بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن صنيع العلاء بن الحضرمي من بعثة ذلك الجيش في البحر إشتد غضبه عليه وكتب إليه بعزله وكتب إلى عتبة بن غزوان والي البصرة أن العلاء بن الحضرمي خرج بجيش فأقطعهم أهل فارس وعصاني وأظنه لم يرد الله بذلك فخشيت عليهم أن لا ينصروا أن يغلبوا وينشبوا فأندب إليهم الناس وإضممهم إليك من قبل أن يجتاحوا فندب عتبة المسلمين وأخبرهم بكتاب عمر إليه في ذلك فإنتدب جماعة من الأمراء والفرسان الأبطال المغاوير منهم عاصم بن عمرو التميمي وهاشم بن عتبة بن أبي وقاص وعرفجة بن هرثمة وحذيفة بن محصن والأحنف بن قيس وغيرهم في إثني عشر ألفا وكان على الجميع أبو سبرة بن أبي رهم فخرجوا على البغال يجنبون الخيل سراعا فساروا على الساحل لا يلقون أحدا حتى إنتهوا إلى موضع الوقعة التي كانت بين المسلمين من أصحاب العلاء وبين أهل فارس بالمكان المسمى بطاؤوس وإذا خليد بن المنذر ومن معه من المسلمين محصورون قد أحاط بهم العدو من كل جانب وقد تداعت عليهم تلك الأمم من كل وجه وقد تكاملت أمداد المشركين ولم يبق إلا القتال فقدم المسلمون إليهم في وقت كانوا في أشد الحاجة إليهم فإلتقوا مع المشركين رأسا فكسر أبو سبرة المشركين كسرة عظيمة وقتل منهم مقتلة عظيمة جدا وأخذ منهم أموالا جزيلةً باهرة وإستنقذ خليدا ومن معه من المسلمين من بين أيديهم وأعز الله به الإسلام وأهله ودفع الشرك وذله ولله الحمد والمنة ثم عادوا إلى عتبة بن غزوان في البصرة .
ولما إستكمل عتبة فتح تلك الناحية كان قد أسر في نفسه أمرا فلقد رأى أن الدنيا أقبلت على المسلمين في البصرة إقبالا يذهل المرء عن نفسه وأن رجاله الذين كانوا منذ قليل لا يعرفون طعاماً أطيب من الأرزِّ المسلوق بقشره قد تذوقوا مآكل الفرس مما لذ وطاب وإستطابوها فخشي على دينه من دنياه وأشفق على الآجلة من العاجلة ومكث حينا من الدهر يصلي بهم ويفقههم في دينهم ويحكم بينهم بالعدل ويضرب المثل الأعلى في الورع والزهد والبساطة وإستمر محاربا للترف والإسراف والبذخ بكل قواه حتى أُصيب أصحاب الشهوات بالملل والسآمة فجمع الناس في مسجد الكوفة وخطبهم قائلا أيها الناس إن الدنيا قد آذنت بالإنقضاء وأنتم منتقلون عنها إلى دار لا زوال فيها فإنتقلوا إليها بخير أعمالكم ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لنا طعام غير ورق الشجر حتى قرحت منه أشداقنا وقد إلتقطت بردة ذات يوم فشققتها بيني وبين سعد بن أبي وقاص فإتزرت بنصفها وإئتزر سعد بنصفها الآخر فإذا نحن اليوم لم يبق منا واحد إلا وهو أمير على مصر من الأمصار وإني أعوذ بالله أن أكون عظيما عند نفسي صغيرا عند الله ولما لاحظ الضيق والتضجر من صرامته وحزمه في أمور الإمارة وأن حواشي السلطة لم يجدوا نفعا على حساب المسلمين قال لهم مبينا عذره غدا ترون الأمراء من بعدى ثم إستخلف عليهم أبا سبرة بن أبي رهم وودعهم وإستأذن عمر في الحج فأذن له وإجتمع بعمر في الموسم في عام 17 هجرية وسأله أن يقيله فلم يفعل وأقسم عليه عمر ليرجعن إلى عمله وما كان لعمر رضى الله عنه أن يعفيه من الإمارة والمسلمون في أمس الحاجة إلى أمثاله ومثل هؤلاء الزاهدين القانعين فكان يقول لهم تضعون أماناتكم فوق عنقي ثم تتركونني وحدى لا والله لا أعفيكم أبدا ولم يكن في وسع عتبة رضي الله عنه غير السمع والطاعة فأذعن لأمر عمر كارها وركب ناقته وهو يدعو الله قائلا اللهم لا تردني إليها فإستجاب الله دعاءه إذ لم يبعد عن المدينة المنورة كثيرا حتى عثرت ناقته فخر عنها صريعا وفاضت روحه إلى الرفيق الأعلى عز وجل ودفن في موضع قريب من المدينة المنورة فرضي الله عنه وعن أمثاله من الصحابة المجاهدين ورحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته وكان عمره حينذاك يناهز الستة وخمسين عاما وحزن عليه أمير المؤمنين الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه حزنا شديدا ونعاه قائلا إن لعتبة بن غزوان رضي الله عنه من الإسلام مكانا .
|