الأحد, 8 ديسمبر 2024

abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
الرئيسية
بانوراما
فرعونيات
بلاد وشركات
الحدث السياحي
سحر الشرق
سياحة وإستشفاء
أم الدنيا
حج وعمرة
أعمدة ثابتة
درجات الحرارة
اسعار العملات
abou-alhool

عماد الدين زنكي

 عماد الدين زنكي
عدد : 09-2023
بقلم المهندس/ طارق بدراوى
tbadrawy@yahoo.com
موسوعة كنوز “أم الدنيا"

عماد الدين زنكي بن آق سنقر الحاجب بن عبد الله آل ترغان الملقب بأبي المظفر والأتابك والملك المنصور حاكم مسلم حكم أجزاء من بلاد الشام وقائد عسكرى مشهور وهو يعد من أهم الحكام والقادة العسكريين فى التاريخ الإسلامي والذى إستطاع حكم أجزاء من بلاد الشام وحارب الصليبيين وإنتصر عليهم وإستعاد أجزاء واسعة من مناطق بلاد الشام التى سيطرت عليها الجيوش الصليبية خلال الربع الثاني من القرن الثاني عشر الميلادى وكان ميلاد عماد الدين زنكي عام 477 هجرية الموافق عام 1084م في أسرة تنتمي إلى قبائل الساب يو التركمانية وكان والده آق سنقر الحاجب مملوكا للسلطان السلجوقي ملكشاه ثالث سلاطين الدولة السلجوقية والتي إمتدت أملاكها في عهده من كاشغر في أقصى المشرق على حدود الصين حيث توقفت الفتوح الإسلامية إلى بيت المقدس في الغرب وبهذا فقد كانت تشمل كامل الجزء الإسلامي من قارة آسيا عدا الجزيرة العربية ودول جنوب شرق آسيا ويقال عنه إنه كان من أفضل السلاطين سيرة وأن القوافل كانت تعبر من أقصى المشرق إلى الشام في عهده آمنة دون التعرض إلى هجوم أو أذى وهذه الدولة كان قد أسسها أبو طالب محمد طغرل بك الذى كان زعيما تركمانيا في عام 429 هجرية الموافق عام 1037م بعدما إستولى طغرل بك على مدينة مرو وهي بدولة تركمانستان حاليا وخطب له على منابرها وتسمى بملك الملوك وكان آق سنقر مقربا إلى ملكشاه وذا حظوة ومكانة لديه وقد إعتمد عليه في كثير من الأمور فلم يخذله قط وهو ما جعله ينال ثقته ورضاه وزاد من منزلته عنده ورفع من قدره لديه وإشترك آق سنقر الحاجب في كثير من معارك السلاجقة فولاه السلطان ملكشاه ولاية حلب وإستطاع آق سنقر الحاجب خلال ولايته على حلب أن ينشر الأمن في البلاد ويوقف أعمال السلب والنهب التي كانت قد إنتشرت في ذلك الوقت وألحقت ضررا بالغا بالزراعة والتجارة وذلك بعد أن تصدى لنشاط قطاع الطرق واللصوص وكتب إلى عماله يأمرهم بتتبع المفسدين وتوفير الأمن والحماية للمسافرين فلما توفى ملكشاه عام 485 هجرية الموافق عام 1092م تولى الحكم من بعده إبنه بريكا روق فثار عليه عمه تاج الدين تتش وتصدى له آق سنقر الحاجب بجيوشه ولكن تتش تمكن من هزيمة قواته في شهر جمادى الأولى عام 487 هجرية الموافق عام 1094م وأسره وما لبث أن قتله وهكذا بذل آق سنقر الحاجب حياته وفاءا لسلطانه ملكشاه وحفاظا على ولده بريكا روق من بعده ولم ينس السلطان بريكا روق تضحية آق سنقر الحاجب في سبيل ملكه ووفاءه له فوجه جل إهتمامه وعنايته نحو إبنه الوحيد عماد الدين زنكي الذى كان لم يتجاوز العاشرة من عمره آنذاك فأقام عماد الدين في حلب في رعاية مماليك أبيه فنشأ منذ نعومة أظافره على الفروسية والبطولة ومعالي الأمور ومخالطا للقادة والولاة والفرسان فلا عجب أن ينشأ مثلهم مع ما أوتي من مواهب فطرية في الذكاء والفطنة وحسن السياسة ثم ما لبث أن إنتقل عام 489 هجرية الموافق عام 1096م إلى الموصل ليحظى برعاية القائد السلجوقي كربوقا فظل ملازما ومرافقا له حتى توفاه الله عام 495 هجرية الموافق عام 1101م فخلفه عليها شمس الدين جكرمش الذي قربه وأحبه وإتخذه ولدا وظل عماد الدين ملازما له حتى توفي عام 500 هجرية الموافق عام 1106م فتولى الموصل من بعده جاولي سقاو وتوطدت علاقة عماد الدين بالوالي الجديد حتى خرج ذلك الوالي على السلطان فإنفصل عماد الدين عنه وإنضم إلى الوالي الجديد مودودو بك التونتكين الذى عينه السلطان على الموصل وكان ذلك مدعاة إلى إكبار السلطان له وثقته فيه وزيادة حظوته ومكانته عنده .


وإشترك عماد الدين زنكي مع مودودو بك التونتكين في معاركه الكثيرة التي خاضها ضد الصليبيين في بلاد الشام والجزيرة الفراتية وقد لفت إليه الأنظار بشجاعته وبسالته الفائقة ومهارته القتالية العالية وعندما تولى السلطان السلجوقي الثامن محمود الثاني عام 511 هجرية الموافق عام 1117م حدثت عدة محاولات للثورة ضده ولكن عماد الدين ظل على ولائه للسلطان ولذا فقد إستطاع أن يحظى بثقته فيه وتقديره له كما أثبت جدارته في ولايته الجديدة بمدينة واسط وتمكن من صد هجمات الأعراب الدائمة عليها ونشر الأمن في ربوعها وقد دفعت مواقف عماد الدين زنكي الطيبة من أحداث تمرد والي الموصل السابق جاولي سقاو السلطان السلجوقي إلى أن يلحقه بالعمل في شحنة أي شرطة الحامية المدافعة عن العاصمة العباسية بغداد في عهد الخليفة المسترشد بالله العباسي والذى كان قد تولى الخلافة عام 513 هجرية الموافق عام 1119م وبالفعل إلتحق عماد الدين زنكي بها وترقى في سلك الجندية حتى صار مقدم عساكر مدينة واسط ثم ظهرت كفاءته القتالية في عام 517 هجرية الموافق عام 1123م في قتاله مع الخليفة العباسى المسترشد بالله ضد دبيس بن صدقة أحد الثوار الشيعة الذى كاد أن يسقط الخلافة العباسية وعندما تدهورت العلاقات بين الخليفة العباسي المسترشد والسلطان السلجوقي محمود الثاني في عام 519 هجرية الموافق عام 1125م كان لعماد الدين زنكي دور كبير في إنهاء الصراع بينهما وتجاوز الأزمة بأمان قبل أن يتفاقم الموقف وتحدث مواجهة وخيمة العواقب بين الطرفين مما جعل السلطان السلجوقى محمود الثاني يرقيه ليصبح قائد شحنة بغداد عام 521 هجرية الموافق عام 1127م ويعطيه لقب الأتابك أى مربى الأمير ذلك لأنه توسم فيه الخير والصلاح والنجابة والنبوغ فعهد إليه بتربية وتنشئة ولديه ألب أرسلان وفروخ شاه وبعد أن أصبح عماد الدين زنكى قائدا لشحنة بغداد حدث تغير كبير فى مجرى الأحداث فى منطقة الشام الملتهبة حيث توفي أمير الموصل عز الدين مسعود وحاول بعض المنتفعين تولية ولده الصغير مكانه ولكن قاضي الموصل بهاء الدين الشهرزورى ذهب إلى السلطان محمود الثاني وطلب منه تعيين أمير قوى وكفء للموصل الواقعة على الحدود بين العراق والشام حيث الوجود الصليبى الكثيف فى سواحل الشام منذ ثلاثين عاما بعد الحملة الصليبية الأولى والذى أسفر عن قيام أربع ممالك صليبية وهي الرها وأنطاكية وبيت المقدس وأرمينيا الصغرى وبعد تفكير سريع وإمعان نظر عميق قرر السلطان السلجوقي محمود الثاني أن يسند ولاية الموصل وأعمالها إلى بطلنا عماد الدين زنكي الذي لم يجد السلطان محمود الثاني أفضل منه لهذه المهمة وكانت هذه الولاية سنة 521 هجرية الموافق عام 1127م وذلك بعد شهور قليلة من قيادته لشحنة بغداد وكان هذا التاريخ إيذانا بعهد جديد فى الصراع ضد الصليبيين وفاتحة خير على الأمة الإسلامية كلها .


ولعل أكثر ما تميز به عماد الدين زنكى عن قادة زمانه هو فهمه لحقيقة المشكلات التي تعاني منها الأمة الإسلامية وإحساسه بالمسئولية تجاه أمته وإيثاره لمصلحتها على مصلحته الخاصة وعمله بمقتضى ما يجب عليه وقتها لذلك فاق قادة زمانه وعلا ذكره عنهم وكانت الصورة قاتمة في بلاد الشام إلى حد كبير فالصليبيون كانوا قد إحتلوا معظم سواحل الشام وأقاموا أربع إمارات صليبية كما أسلفنا أما المدن والحصون التى كانت تحت حكم المسلمين فكانت تعاني من الفرقة والإختلاف والتنافر والتقاتل أحيانا فيما بينها فكان كل وال على مدينة يتعامل فيها كأنه ملك مستقل عن سائر البلاد وأغلبهم بل كلهم كان يتقي شر الصليبيين ويتحاشى الصدام معهم خوفا على ضياع ملكه وكان هذا الخذلان من ولاة الأمصار قد سهل للصليبيين مهمتهم وجعل وجودهم فى الشام يترسخ شيئا فشيئا والجميع يتعامل مع الوجود الصليبي على أنه أمر حتمي لا مفر منه ولا يمكن تغييره وكان للقائد عماد الدين زنكي هدفا محددا وخطة معدة سلفا منذ أن كان مقيما في الموصل في طفولته ثم شبابه فإشتراكه في القتال ضد الصليبيين مع أمير الموصل مودودو بك التونتكين أكسبته خبرة كبيرة في التعامل مع الأحداث ومكنته من وضع يديه على نقاط القوة والضعف وأيضا على أسباب فشل المسلمين في مواجهة العدو الصليبي فقد وصل عماد الدين زنكي إلى قناعة مفادها أنه لا يمكن الإنتصار بصف ممزق وجبهة مفككة وكان ذلك بلا شك من البديهيات الأساسية في قتال أى عدو وطرد أى محتل وتحرير أى أرض حيث ينبغي أن تكون جبهة المقاومة والدفاع موحدة وصلبة ومجتمعة إذ كيف يجاهد المسلمون بصف مهترئ ممزق لذا فمن خلال النظر في هذه الأوضاع كلها قرر عماد الدين زنكى أخذ زمام المبادرة والقيام بعمل لم يسبقه فيه أحد ووضع نصب عينيه هدفا عظيماً طالما حلم المسلمون بتحقيقه ومن ثم قرر البطل تحرير بلاد الشام من الوجود الصليبى وكان أول ما سعى عماد الدين زنكي لتحقيقه هو تكوين وبناء القاعدة الصلبة للمسلمين بتوحيد الجبهة الداخلية للشام وربما كانت هذه المهمة هى أصعب مرحلة فى مراحل الإنتصار وبدأ عماد الدين زنكي رحلة توحيد الشام بمدينة حلب فضمها إلى الموصل في يوم 1 محرم عام 522 هجرية الموافق يوم 5 يناير عام 1128م أي بعد شهور قليلة من ولايته على الموصل مما يوضح أن هذا الرجل الفذ كان يملك خطة شاملة ورؤية واضحة معدة سلفاً لحركته بأرض الشام ثم قام بعدها بضم مدينة حماة بسوريا فى العام التالي 523 هجرية الموافق عام 1129م ثم ضم مدينتي سرجى ودارا ثم حصن الأثارب وكان بيد الصليبيين ثم إنشغل عماد الدين زنكي بالخلافات العنيفة بين الخليفة المسترشد والسلطان مسعود بل تورط فيها وذلك لعدة سنوات ثم عاد بعدها لهدفه الأسمى وضم عدة قلاع للأكراد الحميدية والهكارية وقلعة الصور بجنوب الأناضول وواصل سعيه حتى إستقامت له ديار بكر وإقليم الجبال عام 528 هجرية الموافق عام 1134م حتى إستقامت معظم بلاد الشام لعماد الدين زنكي عدا ما كان بيد الصليبيين ودمشق قلب الشام وحاضرته ومما يذكر أنه كان قد حاول ضم دمشق إلى سلطته عام 529 هجرية الموافق عام 1135م ولكن لم تنجح محاولته وبقيت خارج سلطته وبعد أن تم لعماد الدين زنكي معظم ما أراد من تكوين القاعدة الصلبة بدأ في العمل الحقيقي والجهاد الأصيل ضد أعداء الأمة الإسلامية المحتلين لمقدساتها وكان الصليبيون قبل مجئ عماد الدين زنكي يخططون للإستيلاء على أرض الشام وسوريا كلها ثم مصر بعدها فلما جاء أسد الشام الجديد صار غاية سعيهم الحفاظ على ما تحت أيديهم من إمارات .

ولم تكن تحركات البطل الجديد عماد الدين زنكي لتخفى على أعدائه الصليبيين الذين تخوفوا من بعث جديد للصف المسلم بما يهدد وجودهم ونظراً لقوة عماد الدين زنكي وطاعة الناس له لذا فقد قرر الصليبيون تجرع السم من أجل مواجهته بطلب المساعدة من عدو لدود لهم وهو إمبراطور بيزنطة الذى كان دائما على خلاف دائم مع الكيانات الصليبية في الشام ورغم الاختلاف المذهبي بين الصليبيين وإمبراطور بيزنطة فهم كانوا كاثوليك وهو أرثوذكسي إلا إنهم في النهاية صليبيون فوافق الإمبراطور البيزنطي على نجدتهم وأصبحت بلاد الشام في موقف حرج بالغ الخطورة فإمبراطور بيزنطة حنا كمونتين جاءها بجيوش جرارة وإخترق آسيا الصغرى ولم يقدر أحد من حكام هذا الإقليم على إيقافه ودخل إلى سوريا بعد أن إستولى على مدينة بزاعة القريبة من حلب فغدر بأهلها بعد أن أعطاهم الأمان فقتلهم وسبى نساءهم وهنا وقعت المنطقة بين مطرقة إمبراطور بيزنطة وسندان الصليبيين الفرنجة بالشام ولمواجهة هذا الموقف الصعب لجأ عماد الدين زنكي إلي السلاح النبوى الذى إستخدم يوم الأحزاب بالوقيعة والتفريق بين الأعداء المتحالفين عليه فميزان القوة لم يكن في صالحه والهجوم المزدوج جعله تكتيكيا في وضع صعب وحرج ومن ثم ظهرت براعة عماد الدين زنكي والتي لم تكمن في شجاعته ومهارته العسكرية فحسب ولكنها كانت مزيجا من الصفات المثلى للقائد الناجح فعمد إلى الحيلة والخداع الحربي وإستغل الخلاف المذهبي بين الأرثوذكس والكاثوليك للتفريق بينهما فأرسل إلى إمبراطور بيزنطة يخوفه من نكصان الفرنجة للعهود وأنهم يتربصون به فإن فارق مكانه الذي فيه قلعة شيزر والتي تقع بالقرب من حماة سيتخلَّفُون عن نصرته ثم أرسل إلى الصليبيين الفرنجة يخَوفُهم من إمبراطور بيزنطة قائلا لهم إنه لو ملك بالشام حصنا واحدا ملك بلادكم جميعا ونجحت خطة عماد الدين زنكي ووقع الخلاف بين الطرفين وإنسحب الإمبراطور البيزنطي من الشام وترك المجانيق وأسلحة كثيرة بحالتها فغنمها جيش المسلمين بالشام وتم تحرير أسرى المسلمين وكان لذلك أثره البالغ في إرتفاع مكانة ومنزلة عماد الدين زنكي بين المسلمين وعظمت هيبته في صدور الصليبيين واصبحوا يعملون له ألف حساب وأثبت للجميع أنه رجل المهام الصعبة وقد حاول بعدها فتح دمشق للمرة الثانية ولكن لم تنجح هذه المحاولة أيضا بسبب حصانتها وقوة حاكمها ومن ثم لم يستطع تحقيق حلمه في ضم أهم مدن الشرق وكانت إمارة الرها والتي تقع في منطقة الجزيرة الفراتية وتشمل المنطقة الواسعة الواقعة بين العراق وسوريا بين نهرى دجلة والفرات لها خصوصية عند البيزنطيين لأنها إحدى المدن الدينية عندهم وكانت تنتشر بها الكنائس والصوامع وأيضا كان لها خصوصية عند المسلمين لكونها تقع على حدود الدولة الإسلامية المشتركة مع الدولة البيزنطية وكان المسلمون قد فتحوها عام 17 هجرية على يد القائد العسكرى المسلم الصحابي عياض بن غنم الفهرى في عهد الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب وكان الخلفاء دائمي الإهتمام بهذه المنطقة ولكن مع ضعف الخلافة العباسية والتدهور الذى حل بأوضاعها وخروج كثير من أجزائها عن سيطرتها تعرضت منطقة الرها للعدوان المتكرر من البيزنطيين وعندما إنطلقت شرارة الحملات الصليبية إحتلها الصليبيون وأقاموا بها أول إمارة صليبية بأرض الإسلام وذلك عام 492 هجرية الموافق عام 1099م وكانت الرها قريبة من مدينة الموصل وكان أميرها داهية فرنسي إسمه جوسلين ففهم من تحركات وإستعدادات عماد الدين زنكي أنه يخطط لفتح الرها فعمد إلى تقوية دفاعاتها والمبالغة فى تحصينها وظل مقيما بها لا يفارقها أبدا وكان عماد الدين زنكي يعرف قدر جوسلين ودهائه وحنكته لذلك وضع خطة فى غاية الذكاء فكما يقال لا يفل الحديد إلا الحديد فلقد أظهر عماد الدين زنكي أنه مشغول بحربه مع القبائل الكردية التى تسيطر على قلاع كثيرة فى منطقة ديار بكر بجنوب شرق تركيا الآن وهي قبائل ذات نزعة إستقلالية ولم تقبل الإنضمام لصف عماد الدين زنكي لدواعى عصبية وقبلية وبالفعل إنطلت هذه الخدعة الماكرة على جوسلين الذى خفف من شدة التحصينات وتراخى فى دفاعاته وسافر إلى فرنسا لزيارة أهله و بعد عودته خرج بسرية من جنوده إلى تل باشر على الضفة الغربية لنهر الفرات ليستجم ويتفرغ لملذاته وكان عماد الدين زنكي قد بث العيون التى تنقل له أخبار وتحركات جوسلين ليل نهار فلما علم بمغادرة هذا الأخير الرها وتراخي دفاعاته نادى فى معسكر جيشه بالإستعداد الفوري للهجوم على الرها ومحاصرتها .

وكان عماد الدين زنكي من أشجع الناس وأقواهم وأجرؤهم فى القتال لايجاريه أحد من جنده فى ذلك وقبل القتال وضع مائدته للطعام وقال لا يأكل معي على هذه المائدة إلا من يطعن معي غدا باب الرها وهى كناية عن شدة القتال والشجاعة لأن طاعن الباب يكون أول فارس فى الجيش يصل لباب المدينة ولا يفعل ذلك إلا أشجع الناس فلم يجلس معه على المائدة إلا صبي صغير فقيل له إرجع مما أنت فى هذا المقام فقال له عماد الدين زنكي القائد المربى القدوة الذى يعرف كيف يحمس الشباب والنشء ويحفز طاقاتهم دعوه فوالله إنى أرى وجها لا يتخلف عني وبالفعل أثمرت هذه الكلمات عن طاقة جبارة عند الصبي فكان أول طاعن وأول بطل فى هذه المعركة وبعد مرور ثمانية وعشرين يوما من الحصار إنهارت بعض أجزاء الحصن ثم ما لبثت القلعة أن إستسلمت لقوات عماد الدين زنكي في يوم 28 من شهر جمادى الآخرة عام 539 هجرية الموافق يوم 27 من شهر نوفمبر عام 1144م فأصدر عماد الدين زنكي أوامره إلى الجند بإيقاف أى أعمال للقتل أو الأسر أو السلب وإعادة ما إستولوا عليه من غنائم وأسلاب فأعادوا كل ما أخذوه إلى أصحابه وبدأ من فوره عملية تجديد وإصلاحات شاملة للمدينة فأعاد بناء ما تهدم من أسوارها وتعمير ما تم تدميره في الحرب أثناء إقتحام المدينة وسار في أهلها بالعدل وحسن السيرة حتى ينعموا في ظله بالأمن والعدل وكان لفتح الرها صدى طيب فى العالمين الإسلامى فلقد كان أعظم إنتصار حققه المسلمون على الصليبيين منذ دخولهم للشام منذ خمسين عاما وأعاد ذاكرة الإنتصارات لهم وسرت روح جهادية كبيرة عند المسلمين بعدها وعادت لهم الثقة وتغلبوا على الهزيمة النفسية تجاه الصليبيين والتى أقعدتهم عن السعي لتحرير ما إستولى عليه الصليبيون من بلاد الشام لعشرات السنين وفي المقابل قرر الصليبيون شن حملة صليبية جديدة على الشام لإستعادة ما فقدوه ولإعادة الروح والحماسة إلى الوجود الصليبي هناك .


وبعد هذا الإنتصار العالمى في الرها ضاقت السبل على أعداء الإسلام وأصبح كيانهم الصليبي بالشام والذى بنوه في خمسين عاما في خطر حقيقي في ظل وجود هذا الأسد الرابض عماد الدين زنكي وبعد أن أعيتهم الحيل في ميادين القتال وصار ينتصر الأسد عليهم في كل موطن فكروا في كيفية التخلص منه وقرروا اللجوء إلى سلاح الغدر والخيانة والأيدى القذرة التى لا تعمل إلا في الظلام وبعد تفكير وتقليب في من سيقوم بهذه المهمة قرروا إسناد مهمة الإغتيال لمجرمين محترفين مأجورين متخصصين في هذه الأمور وهم الحشاشون وهى فرقة الباطنية وهي إحدى الفرق الشيعية كان قد أسسها رجل إسمه الحسن الصباح بعد أن تعلم الزندقة والإلحاد في مصر أيام الخليفة المستنصر الفاطمي ولما عاد إلى الشام أسس هذه الفرقة التي تعتمد على الإغتيال والغدر مقابل الأموال والضياع وكان الباطنية أشد ضررا وخطرا على المسلمين من الصليبيين واليهود وقتلوا الكثير من قادة الإسلام من خلفاء وأمراء ووزراء وفقهاء وعلماء وخطباء خدمة للمشروع الصليبي في الشام ولم يمض عامان على ذلك النصر العظيم في الرها حتى تم إغتيال عماد الدين زنكي في يوم 6 ربيع الآخر عام 541 هجرية الموافق يوم 15 سبتمبر عام 1146م خلال حصاره لقلعة جعبر والتي تقع في منطقة الجزيرة السورية على الضفة اليسرى لنهر الفرات على بعد 53 كيلو مترا من مدينة الرقة في سوريا وذلك على يد يرنقش كبير حرسه الذي تسلل إلى مخدعه فذبحه وهو نائم ويرى عدد من المؤرخين أن إغتيال عماد الدين زنكي جاء لأسباب سياسية أكثر منها شخصية فقد كان في أوج إنتصاره على الصليبيين كما حقق إنتصارا آخر على المستوى الإسلامي بعد أن نجح في توحيد الصفوف وتكوين جبهة إسلامية قوية في مواجهة الصليبيين ومن ناحية أخرى فقد كانت قلعة جعبر على وشك السقوط بعد أن بلغ حصاره لها مداه فضلا عن أن قاتله يرنقش كان من الباطنية وقد إستطاع التستر والإنتظار طويلا على عادة الباطنية حتى حانت اللحظة المناسبة لتنفيذ جريمته فإغتال أميره عماد الدين زنكي وهو في قمة مجده وإنتصاره وهكذا إستشهد البطل وترجل الفارس وحط الراكب بعد حياة طويلة كلها جهاد وكفاح ونصرة للإسلام وأهله وبعد أن أحيا ما كان مندثرا وأعاد ما كان مفقودا ووضع الأساس المتين لمن جاء بعده وكان عمره عند إغتياله 62 عاما وكان مما قيل عنه ما قاله المؤرخ عز الدين بن الأثير الجزرى في وصفه حيث قال كان شديد الهيبة في عسكره ورعيته عظيم السياسة لا يعين القوى على ظلم الضعيف وكانت البلاد قبل أن يملكها قد أصبحت خرابا بسبب الظلم وتنقل الولاة ومجاورة الفرنجة فعمرها وإمتلأت أهلا وسكانا وكان أشجع خلق الله وقال عنه أيضا المؤرخ إسماعيل بن كثير الدمشقي كان عماد الدين زنكي من خيرة الملوك وأحسنهم سيرة وشكلا وكان شجاعا مقداما حازما خضعت له ملوك الأطراف وكان من أشد الناس غيرة على نساء الرعية وأجود الملوك معاملة وأرفقهم بالعامة .
 
 
الصور :